ليبسيوس الأساس الألماني لعِلم المصريات

ليبسيوس الأساس الألماني لعِلم المصريات

احتلّ‭ ‬علماء‭ ‬المصريات‭ ‬الفرنسيون‭ ‬والإنجليز‭ ‬الصدارة‭ ‬في‭ ‬ضمائر‭ ‬واهتمام‭ ‬المشتغلين‭ ‬بعلم‭ ‬المصريات‭ ‬ومحبّيه‭ ‬والمثقفين‭ ‬من‭ ‬المصريين‭ ‬على‭ ‬الخصوص،‭ ‬وعزز‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬شامبليون‭ ‬من‭ ‬فكّ‭ ‬لرموز‭ ‬اللغة‭ ‬الهيروغليفية،‭ ‬وعلماءُ‭ ‬الحملة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬وماسبيرو‭ ‬مارييت‭ ‬باشا،‭ ‬والبريطانيون‭ ‬بتري‭ ‬ويلكنسون،‭ ‬وهوارد‭ ‬كارتر،‭ ‬وإيميليا‭ ‬دواردز‭ ‬مؤسِّسة‭ ‬صندوق‭ ‬استكشاف‭ ‬مصر،‭ ‬وغيرهم‭ ‬الكثير‭.‬

‭ ‬لكن‭ ‬ممّا‭ ‬لم‭ ‬نجد‭ ‬له‭ ‬صدى‭ ‬أو‭ ‬اهتمامًا‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬باحثي‭ ‬المصريات‭ ‬والإعلاميين‭ ‬والمثقفين‭ ‬المصريين‭ ‬والعرب‭ ‬عن‭ ‬علم‭ ‬المصريات،‭ ‬ذِكر‭ ‬جهود‭ ‬علماء‭ ‬المصريات‭ ‬الألمان،‭ ‬ورائدهم‭ ‬كارل‭ ‬ريتشارد‭ ‬ليبسيوس‭ ‬‭(‬1810‭ - ‬1884م‭)‬،‭ ‬وكتابه‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬دانكيميلر‮»‬‭ ‬عن‭ ‬آثار‭ ‬مصر‭ ‬والسودان‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬القديمة،‭ ‬والمعروف‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬بأنه‭ ‬أكبر‭ ‬عالم‭ ‬للمصريات‭ ‬بعد‭ ‬شامبليون،‭ ‬بل‭ ‬والوحيد‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬وضعه‭ ‬في‭ ‬مصاف‭ ‬شامبليون‭ ‬بما‭ ‬قدّمه‭ ‬لعلم‭ ‬المصريات‭ ‬من‭ ‬خدمات‭. ‬ولهذا،‭ ‬فإننا‭ ‬نتناول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬التعريف‭ ‬به‭ ‬للقراء‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬تُتح‭ ‬لهم‭ ‬الفرصة‭ ‬للاطلاع‭ ‬على‭ ‬الإسهامات‭ ‬الألمانية‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬المصريات‭.‬

وُلد‭ ‬كارل‭ ‬ريتشارد‭ ‬ليبسيوس‭ ‬بمدينة‭ ‬ناومبورج‭ ‬في‭ ‬23‭ ‬ديسمبر‭ ‬عام‭ ‬1810،‭ ‬والتحق‭ ‬بالجامعة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬لَيْبزيج‭ ‬عام‭ ‬1829،‭ ‬وبعدها‭ ‬بعام‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬جامعة‭ ‬جوتنجن،‭ ‬حيث‭ ‬تأثّر‭ ‬بأستاذه‭ ‬أوتفريد‭ ‬موللر،‭ ‬فقرر‭ ‬أن‭ ‬يركّز‭ ‬في‭ ‬دراساته‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬فقه‭ ‬اللغة‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة‭. ‬

انتقل‭ ‬ليبسيوس‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬جوتنجن‭ ‬إلى‭ ‬برلين،‭ ‬حيث‭ ‬تخرّج‭ ‬عام‭ ‬1833‭ ‬وحصل‭ ‬على‭ ‬الدكتوراه،‭ ‬وتحت‭ ‬تأثير‭ ‬صديقه‭ ‬يانسن‭ ‬وعالم‭ ‬التاريخ‭ ‬الطبيعي‭ ‬الشهير‭ ‬فون‭ ‬هُمبولت،‭ ‬شقّ‭ ‬طريقه‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬المصريات‭ ‬بكلّ‭ ‬حماس،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬العلم‭ ‬لم‭ ‬يشدّ‭ ‬إليه‭ ‬دارسين‭ ‬لهم‭ ‬شهرة‭ ‬أو‭ ‬وزن‭ ‬منذ‭ ‬وفاة‭ ‬عالِم‭ ‬المصريات‭ ‬الفرنسي‭ ‬شامبليون‭ ‬عام‭ ‬1832‭.  ‬وقد‭ ‬وجد‭ ‬ليبسيوس‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬حقلًا‭ ‬فسيحًا‭ ‬لإظهار‭ ‬قدراته،‭ ‬ففي‭ ‬خطابه‭ ‬الشهير‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الآثار‭ ‬روسيليني،‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬خطاب‭ ‬إلى‭ ‬السيد‭ ‬روسيليني‮»‬،‭ ‬بخصوص‭ ‬الأبجدية‭ ‬الهيروغليفية،‭ ‬وقد‭ ‬حدَّد‭ ‬نقطة‭ ‬التحول‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬الهيروغليفية،‭ ‬حيث‭ ‬أعلن‭ ‬فيه‭ ‬قبوله‭ ‬لنظام‭ ‬شامبليون،‭ ‬كما‭ ‬قام‭ ‬بالإضافة‭ ‬والحذف‭ ‬فيه‭ ‬حين‭ ‬اقتضت‭ ‬الضرورة،‭ ‬وشرح‭ ‬لأول‭ ‬مرّة‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الصور‭ ‬الهيروغليفية‭ ‬واللغة‭ ‬القبطية‭.‬

وبعد‭ ‬أربع‭ ‬سنوات‭ ‬قضاها‭ ‬في‭ ‬زيارة‭ ‬المتاحف‭ ‬ودور‭ ‬الآثار‭ ‬المصرية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬إيطاليا‭ ‬وهولندا‭ ‬وإنجلترا،‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬ألمانيا‭ ‬حيث‭ ‬أقنعه‭ ‬همبولت‭ ‬ويانسن‭ ‬بأن‭ ‬يزور‭ ‬مصر‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬بعثة‭ ‬علمية‭ ‬بمعونة‭ ‬من‭ ‬البلاط‭ ‬الملكي‭ ‬البروسي‭.‬

 

بعثة‭ ‬ليبسيوس‭ ‬وظهور‭ ‬الألمان‭ ‬في‭ ‬مصر

عندما‭ ‬اعتلى‭ ‬فردريش‭ ‬فيلهلم‭ ‬الرابع‭ ‬
‭(‬1840‭ - ‬1861م‭) ‬عرش‭ ‬بروسيا،‭ ‬نصحه‭ ‬صديقا‭ ‬ليبسيوس؛‭ ‬هومبولت،‭ ‬ويانسن،‭ ‬بأن‭ ‬يرسل‭ ‬ليبسيوس‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬بعثة‭ ‬أثرية‭ ‬أقوى‭ ‬وأفضل‭ ‬من‭ ‬البعثة‭ ‬المتواضعة‭ ‬التي‭ ‬أرسلها‭ ‬والده‭ ‬فيلهلم‭ ‬الثالث‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬برئاسة‭ ‬هنريش‭ ‬فون‭ ‬مينوتولي‭ ‬عام‭ ‬1820-1821‭ ‬للتنقيب‭ ‬عن‭ ‬الآثار‭ ‬في‭ ‬مصر‭.‬

وبالفعل،‭ ‬قام‭ ‬ليبسيوس‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬تلك‭ ‬البعثة‭ ‬عام‭ ‬1842،‭ ‬لعمل‭ ‬حفائر‭ ‬أثرية‭ ‬وتسجيلها،‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وبلاد‭ ‬النوبة‭ ‬والسودان‭. ‬وفاقت‭ ‬إمكانات‭ ‬البعثة‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬للبعثة‭ ‬الفرنسية‭ ‬التي‭ ‬قادها‭ ‬شامبليون‭ ‬عام‭ ‬1828،‭ ‬فقد‭ ‬أنفقت‭ ‬الحكومة‭ ‬البروسية‭ ‬بسخاء‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬البعثة‭ ‬للقيام‭ ‬بحملة‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬نسخ‭ ‬النقوش‭ ‬والتنقيب‭ ‬عن‭ ‬الآثار‭. ‬

ورحّب‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬باشا‭ ‬بالبروسيين،‭ ‬وقدّم‭ ‬لهم‭ ‬عونًا‭ ‬تمثّل‭ ‬في‭ ‬توفير‭ ‬وسيلة‭ ‬نقل‭ ‬مجانية‭ ‬لهم،‭ ‬وتقديم‭ ‬ما‭ ‬يلزمهم‭ ‬من‭ ‬العمّال‭ ‬المسخّرين‭. ‬أخذت‭ ‬البعثة‭ ‬تبحث‭ ‬لثلاثة‭ ‬أعوام،‭ ‬فاكتشفت‭ ‬معظم‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬تحوي‭ ‬الآثار‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة‭ ‬من‭ ‬جنوب‭ ‬الخرطوم‭ ‬بالسودان‭ ‬حتى‭ ‬سواحل‭ ‬سورية‭. ‬

وقد‭ ‬احتفلت‭ ‬البعثة‭ ‬بعيد‭ ‬جلوس‭ ‬ملك‭ ‬بروسيا،‭ ‬برفع‭ ‬علم‭ ‬بروسيا‭ ‬وإضرام‭ ‬شعلة‭ ‬على‭ ‬قمة‭ ‬الهرم‭ ‬الأكبر،‭ ‬ونقش‭ ‬ليبسيوس‭ ‬نص‭ ‬التهنئة‭ ‬للملك‭ ‬فيلهلم‭ ‬الرابع‭ ‬على‭ ‬مدخل‭ ‬الهرم‭ ‬الأكبر‭ ‬بحروف‭ ‬هيروغليفية‭. ‬

وقد‭ ‬قلّد‭ ‬ليبسيوس‭ ‬الأسلوب‭ ‬الفرعوني‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬اسم‭ ‬الملك،‭ ‬فسمّى‭ ‬ملك‭ ‬بروسيا‭ ‬‮«‬ملك‭ ‬الشمال‭ ‬والجنوب‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬اكتشف‭ ‬موقع‭ ‬متاهة‭ ‬الفيوم،‭ ‬اللابيرنث،‭ ‬وقسم‭ ‬الموقع‭ ‬إلى‭ ‬أقسام،‭ ‬ثم‭ ‬زار‭ ‬فلسطين‭ ‬وشبه‭ ‬جزيرة‭ ‬سيناء،‭ ‬وكانت‭ ‬بعثته‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬التنظيم،‭ ‬حتى‭ ‬أنها‭ ‬أخذت‭ ‬معها‭ ‬قسًّا‭ ‬لوثريًا‭ ‬لتوفير‭ ‬الخدمة‭ ‬الدينية‭ ‬للفريق‭. ‬

وفي‭ ‬نهاية‭ ‬عام‭ ‬1845‭ ‬عادت‭ ‬البعثة‭ ‬إلى‭ ‬ألمانيا‭ ‬ومعها‭ ‬15‭ ‬ألفًا‭ ‬من‭ ‬القوالب‭ ‬الجصية‭ ‬وورق‭ ‬البردي،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬الرسوم‭ ‬والنقوش‭ ‬والخرائط‭ ‬والخطط‭ ‬التي‭ ‬جمعتها‭ ‬بمنتهى‭ ‬الدقة‭ ‬والعناية،‭ ‬وعادت‭ ‬بنتائج‭ ‬فاقت‭ ‬كل‭ ‬التوقعات‭.‬

وقد‭ ‬أضافت‭ ‬البعثة‭ ‬ما‭ ‬عادت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬تحف‭ ‬وبحوث‭ ‬إلى‭ ‬القسم‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬متحف‭ ‬برلين،‭ ‬فأضفت‭ ‬عليه‭ ‬الطابع‭ ‬النهائي،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬أحضره‭ ‬ليبسيوس‭ ‬يعتبر‭ ‬كنزًا‭ ‬أحسن‭ ‬اختيارَ‭ ‬قِطعه‭. ‬وبدأ‭ ‬ليبسيوس‭ ‬في‭ ‬ترتيب‭ ‬الجناح‭ ‬المصري‭ ‬بمبنى‭ ‬المتحف‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬برلين‭ ‬1850،‭ ‬فصارت‭ ‬طريقة‭ ‬ترتيبه‭ ‬فيه‭ ‬مثلًا‭ ‬احتذته‭ ‬المتاحف‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬أقسامها‭ ‬المصرية،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المتحف‭ ‬المصري‭ ‬بالقاهرة‭.‬

وتولى‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬نفسه‭ ‬منصب‭ ‬مساعد‭ ‬مدير‭ ‬المتحف‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬برلين،‭ ‬ثم‭ ‬مديرًا‭ ‬له‭ ‬منذ‭ ‬1865‭ ‬حتى‭ ‬وفاته‭ ‬عام‭ ‬1884‭. ‬

 

تنافس‭ ‬ألماني‭ - ‬فرنسي‭ ‬

‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتناول‭ ‬سيرة‭ ‬حياة‭ ‬ليبسيوس‭ ‬وأثره‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬المصريات،‭ ‬ونتغافل‭ ‬عن‭ ‬ذكر‭ ‬هذه‭ ‬الواقعة‭ ‬الطريفة‭ ‬عن‭ ‬التنافس‭ ‬الأوربي‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬المصريات،‭ ‬بسلبياته‭ ‬وإيجابياته،‭ ‬خاصة‭ ‬أنّها‭ ‬تبيّن‭ ‬مدى‭ ‬اهتمام‭ ‬فرنسا‭ ‬وسبْقها‭ ‬في‭ ‬السيطرة‭ ‬الأدبية‭ ‬على‭ ‬عالم‭ ‬الفراعنة‭.‬

كان‭ ‬عالم‭ ‬المصريات‭ ‬الفرنسي‭ ‬الشهير‭ ‬بريس‭ ‬دافن‭ (‬1807‭ - ‬1879‭) ‬يعمل‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1838‭ ‬في‭ ‬تسجيل‭ ‬ودراسة‭ ‬آثار‭ ‬الأقصر،‭ ‬وكانت‭ ‬السنوات‭ ‬منذ‭ ‬1839‭ ‬إلى‭ ‬1843‭ ‬من‭ ‬أسعد‭ ‬سنواته‭ ‬كعالِم‭ ‬مصريات‭ ‬لما‭ ‬سجّله‭ ‬من‭ ‬المباني‭ ‬والنقوش‭ ‬الفرعونية،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتدخل‭ ‬قوات‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬باشا،‭ ‬والي‭ ‬مصر،‭ ‬لتشويهها‭ ‬بحُجّة‭ ‬بناء‭ ‬مستشفى‭ ‬من‭ ‬أحجار‭ ‬تلك‭ ‬الصروح‭. ‬

وكان‭ ‬هناك‭ ‬ركام‭ ‬يحتوي‭ ‬على‭ ‬نقوش‭ ‬وأفاريز‭ ‬أثرية‭ ‬من‭ ‬معبد‭ ‬خونس‭ ‬بالأقصر،‭ ‬وجاءته‭ ‬الأخبار‭ ‬بقرب‭ ‬مجيء‭ ‬ليبسيوس‭ ‬إلى‭ ‬المعبد‭ ‬لدراسته‭ ‬لحساب‭ ‬بعثته‭ ‬البروسية،‭ ‬وفكّر‭ ‬أن‭ ‬ليبسيوس‭ ‬سيعمل‭ ‬على‭ ‬نقل‭ ‬غرفة‭ ‬الملوك‭ ‬بالمعبد‭ ‬إلى‭ ‬برلين‭ ‬إن‭ ‬عاجلًا‭ ‬أو‭ ‬آجلًا،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الإمكانات‭ ‬الضخمة‭ ‬المتاحة‭ ‬له‭.‬

  ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فكّر‭ ‬دافن‭ ‬أن‭ ‬ينقلها‭ ‬هو‭ ‬إلى‭ ‬باريس،‭ ‬فقام‭ ‬بتلك‭ ‬المهمة‭ ‬الشاقة‭ ‬والدقيقة‭ ‬بمساعدة‭ ‬عشرين‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الأقصر،‭ ‬وكان‭ ‬يعمل‭ ‬ليلًا‭ ‬حين‭ ‬يغيب‭ ‬القمر‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الظهيرة،‭ ‬حيث‭ ‬تُبعد‭ ‬الشمس‭ ‬الحارقة‭ ‬الفضوليين‭.‬

‭ ‬وبعد‭ ‬ثماني‭ ‬عشرة‭ ‬ليلة‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬الدؤوب،‭ ‬نقل‭ ‬محتويات‭ ‬الغرفة‭ ‬من‭ ‬النقوش‭ ‬والأحجار‭ ‬والتماثيل‭ ‬في‭ ‬27‭ ‬صندوقًا‭ ‬على‭ ‬مَتن‭ ‬مركبه،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬غادر‭ ‬الأقصر‭ ‬متجها‭ ‬شمالًا‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة،‭ ‬حاملًا‭ ‬كنزه‭ ‬الثمين،‭ ‬وعند‭ ‬مقابر‭ ‬بني‭ ‬حسن‭ ‬بمحافظة‭ ‬المنيا،‭ ‬قابل‭ ‬دافن‭ ‬ليبسيوس،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬متجهًا‭ ‬جنوبًا‭ ‬إلى‭ ‬الأقصر،‭ ‬ودعاه‭ ‬لشرب‭ ‬القهوة‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬مركبه‭. ‬وأسرَّ‭ ‬ليبسيوس‭ ‬إلى‭ ‬دافن‭ ‬أنّه‭ ‬جاء‭ ‬ليحمل‭ ‬قاعة‭ ‬تحتمس‭ ‬الثالث‭ ‬إلى‭ ‬برلين،‭ ‬فتمالك‭ ‬دافن‭ ‬نفسه،‭ ‬كابحًا‭ ‬ابتسامة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬ليبسيوس‭ ‬يحتسي‭ ‬قهوة‭ ‬دافن‭ ‬على‭ ‬الصناديق‭ ‬التي‭ ‬تحوي‭ ‬كل‭ ‬أفاريز‭ ‬غرفة‭ ‬الملوك،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يختص‭ ‬بتحتمس‭ ‬الثالث،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬هدف‭ ‬بعثة‭ ‬ليبسيوس‭ ‬البروسية،‭ ‬وخسرت‭ ‬ألمانيا‭ ‬معركتها‭ ‬مع‭ ‬فرنسا،‭ ‬التي‭ ‬سارعت‭ ‬بوضع‭ ‬محتويات‭ ‬الغرفة‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬المصريات‭ ‬بمتحف‭ ‬اللوفر‭ ‬في‭ ‬باريس‭.‬

‭ ‬

مؤلفات‭ ‬ليبسيوس

نشر‭ ‬ليبسيوس‭ ‬كتبًا‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬المصري‭ ‬القديم،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬كتاب‭ ‬الموتى‮»‬‭ (‬1858‭)‬،‭ ‬وكتاب‭ ‬‮«‬الملوك‭ ‬المصريين‮»‬‭ (‬1858‭)‬،‭ ‬‮«‬تقسيم‭ ‬العصور‭ ‬المصرية‮»‬‭ (‬1849‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬1859‭ ‬ظهر‭ ‬كتابه‭ ‬الشهير‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬آثار‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬وإثيوبيا‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬اشتهر‭ ‬باسمه‭ ‬الألماني‭ ‬‮«‬دانكيميلر‮»‬،‭ ‬في‭ ‬12‭ ‬جزءًا،‭ ‬وله‭ ‬ملحق‭ ‬يشتمل‭ ‬على‭ ‬النصوص‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬دوّنها‭ ‬أيام‭ ‬البعثة،‭ ‬وهو‭ ‬كتاب‭ ‬ضخم‭. ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬أضخم‭ ‬كتاب‭ ‬عن‭ ‬المصريات،‭ ‬إذ‭ ‬يغطّيها‭ ‬من‭ ‬الناحيتين‭ ‬الأثرية‭ ‬واللغوية‭ ‬والنتائج‭ ‬التاريخية‭. ‬ورغم‭ ‬تعمّق‭ ‬ليبسيوس‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬اللغة،‭ ‬إلّا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يترك‭ ‬إلا‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬الترجمات‭ ‬لنصوص‭ ‬قديمة‭ ‬زودها‭ ‬بتعليقات‭ ‬تاريخية‭ ‬وتوضيحية‭.‬

كان‭ ‬آخر‭ ‬أعماله‭ ‬هو‭ ‬كتاب‭ ‬قواعد‭ ‬اللغة‭ ‬النوبية‭ (‬1880‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬تطوير‭ ‬للغة‭ ‬النوبية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬منتشرة‭ ‬آنذاك،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمته‭ ‬رسمٌ‭ ‬يوزع‭ ‬اللغات‭ ‬في‭ ‬القارة‭ ‬الإفريقية‭.‬

وفي‭ ‬عام‭ ‬1866‭ ‬عاد‭ ‬ليبسيوس‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬لينقب‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬السويس‭ ‬وشرق‭ ‬الدلتا،‭ ‬فاكتشف‭ ‬قانون‭ ‬تانيس‭ ‬الشهير‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬شرق‭ ‬الدلتا،‭ ‬وهو‭ ‬يحوي‭ ‬نصوصًا‭ ‬لها‭ ‬نفس‭ ‬طابع‭ ‬حجر‭ ‬رشيد‭ ‬وباللغات‭ ‬الهيروغليفية‭ ‬والديموطيقية،‭ ‬اللغة‭ ‬المصرية‭ ‬الشعبية،‭ ‬واليونانية‭.‬

وكانت‭ ‬آخر‭ ‬زيارات‭ ‬ليبسيوس‭ ‬لمصر‭ ‬عام‭ ‬1869‭ ‬حينما‭ ‬حضر‭ ‬حفل‭ ‬افتتاح‭ ‬قناة‭ ‬السويس‭.‬

وتوفّي‭ ‬ذلك‭ ‬الرائد‭ ‬الأثري‭ ‬في‭ ‬برلين،‭ ‬إثر‭ ‬إصابته‭ ‬بسرطان‭ ‬المعدة،‭ ‬يوم‭ ‬10‭ ‬يوليو‭ ‬1884‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬ترجمت‭ ‬وزارتا‭ ‬الآثار‭ ‬والثقافة‭ ‬المصريتان‭ ‬والمركز‭ ‬القومي‭ ‬للترجمة‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬وصف‭ ‬مصر‮»‬‭ ‬لعلماء‭ ‬الحملة‭ ‬الفرنسية‭ ‬عام‭ ‬2005،‭ ‬وذلك‭ ‬بالاشتراك‭ ‬مع‭ ‬أساتذة‭ ‬المصريات‭ ‬والتاريخ‭ ‬المصري‭ ‬القديم‭ ‬بالجامعات‭ ‬المصرية‭ ‬الذين‭ ‬درسوا‭ ‬في‭ ‬ألمانيا،‭ ‬وأساتذة‭ ‬اللغة‭ ‬الألمانية‭ ‬بكليّات‭ ‬الألسن‭ ‬والآداب،‭ ‬خاصة‭ ‬أنه‭ ‬متوافر‭ ‬مجانًا‭ ‬وكاملًا‭ ‬على‭ ‬شبكة‭ ‬الإنترنت،‭ ‬ولا‭ ‬تتوافر‭ ‬له‭ ‬حقوق،‭ ‬ونُشرت‭ ‬لوحاته‭ ‬على‭ ‬شبكة‭ ‬الإنترنت‭ ‬بالألوان‭. ‬كما‭ ‬تزداد‭ ‬أهميته‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الأثريين‭ ‬السودانيين‭ ‬لما‭ ‬تضمنه‭ ‬من‭ ‬نقوش‭ ‬في‭ ‬حضارة‭ ‬كوش‭ ‬عفا‭ ‬عليها‭ ‬الزمن‭ ‬ولم‭ ‬تُسجل‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬بل‭ ‬وطُمر‭ ‬الكثير‭ ‬منها‭ ‬تحت‭ ‬طمي‭ ‬النيل ■

لوحات‭ ‬جدارية‭ ‬من‭ ‬المقابر‭ ‬المحيطة‭ ‬بهرم‭ ‬سقارة‭ ‬بالجيزة‭ ‬تبين‭ ‬أنشطة‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬أثناء‭ ‬عصر‭ ‬الأسرة‭ ‬الرابعة‭ ‬الفرعونية

أهرامات‭ ‬مِرْوِي‭ ‬بالسودان