ليبسيوس الأساس الألماني لعِلم المصريات
احتلّ علماء المصريات الفرنسيون والإنجليز الصدارة في ضمائر واهتمام المشتغلين بعلم المصريات ومحبّيه والمثقفين من المصريين على الخصوص، وعزز ذلك ما قام به شامبليون من فكّ لرموز اللغة الهيروغليفية، وعلماءُ الحملة الفرنسية، وماسبيرو مارييت باشا، والبريطانيون بتري ويلكنسون، وهوارد كارتر، وإيميليا دواردز مؤسِّسة صندوق استكشاف مصر، وغيرهم الكثير.
لكن ممّا لم نجد له صدى أو اهتمامًا في كتابات باحثي المصريات والإعلاميين والمثقفين المصريين والعرب عن علم المصريات، ذِكر جهود علماء المصريات الألمان، ورائدهم كارل ريتشارد ليبسيوس (1810 - 1884م)، وكتابه الشهير «دانكيميلر» عن آثار مصر والسودان في العصور القديمة، والمعروف في الغرب بأنه أكبر عالم للمصريات بعد شامبليون، بل والوحيد الذي يمكن وضعه في مصاف شامبليون بما قدّمه لعلم المصريات من خدمات. ولهذا، فإننا نتناول في هذا المقال التعريف به للقراء العرب الذين لم تُتح لهم الفرصة للاطلاع على الإسهامات الألمانية في علم المصريات.
وُلد كارل ريتشارد ليبسيوس بمدينة ناومبورج في 23 ديسمبر عام 1810، والتحق بالجامعة في مدينة لَيْبزيج عام 1829، وبعدها بعام ذهب إلى جامعة جوتنجن، حيث تأثّر بأستاذه أوتفريد موللر، فقرر أن يركّز في دراساته على الجانب التاريخي في فقه اللغة المصرية القديمة.
انتقل ليبسيوس بعد ذلك من جوتنجن إلى برلين، حيث تخرّج عام 1833 وحصل على الدكتوراه، وتحت تأثير صديقه يانسن وعالم التاريخ الطبيعي الشهير فون هُمبولت، شقّ طريقه في دراسة المصريات بكلّ حماس، خصوصًا أن هذا العلم لم يشدّ إليه دارسين لهم شهرة أو وزن منذ وفاة عالِم المصريات الفرنسي شامبليون عام 1832. وقد وجد ليبسيوس في هذا المجال حقلًا فسيحًا لإظهار قدراته، ففي خطابه الشهير إلى عالم الآثار روسيليني، بعنوان «خطاب إلى السيد روسيليني»، بخصوص الأبجدية الهيروغليفية، وقد حدَّد نقطة التحول في دراسة الهيروغليفية، حيث أعلن فيه قبوله لنظام شامبليون، كما قام بالإضافة والحذف فيه حين اقتضت الضرورة، وشرح لأول مرّة العلاقة بين الصور الهيروغليفية واللغة القبطية.
وبعد أربع سنوات قضاها في زيارة المتاحف ودور الآثار المصرية في كل من إيطاليا وهولندا وإنجلترا، عاد إلى ألمانيا حيث أقنعه همبولت ويانسن بأن يزور مصر على رأس بعثة علمية بمعونة من البلاط الملكي البروسي.
بعثة ليبسيوس وظهور الألمان في مصر
عندما اعتلى فردريش فيلهلم الرابع
(1840 - 1861م) عرش بروسيا، نصحه صديقا ليبسيوس؛ هومبولت، ويانسن، بأن يرسل ليبسيوس على الفور إلى مصر على رأس بعثة أثرية أقوى وأفضل من البعثة المتواضعة التي أرسلها والده فيلهلم الثالث إلى مصر برئاسة هنريش فون مينوتولي عام 1820-1821 للتنقيب عن الآثار في مصر.
وبالفعل، قام ليبسيوس على رأس تلك البعثة عام 1842، لعمل حفائر أثرية وتسجيلها، في مصر وبلاد النوبة والسودان. وفاقت إمكانات البعثة تلك التي كانت للبعثة الفرنسية التي قادها شامبليون عام 1828، فقد أنفقت الحكومة البروسية بسخاء على هذه البعثة للقيام بحملة واسعة من نسخ النقوش والتنقيب عن الآثار.
ورحّب محمد علي باشا بالبروسيين، وقدّم لهم عونًا تمثّل في توفير وسيلة نقل مجانية لهم، وتقديم ما يلزمهم من العمّال المسخّرين. أخذت البعثة تبحث لثلاثة أعوام، فاكتشفت معظم المناطق التي تحوي الآثار المصرية القديمة من جنوب الخرطوم بالسودان حتى سواحل سورية.
وقد احتفلت البعثة بعيد جلوس ملك بروسيا، برفع علم بروسيا وإضرام شعلة على قمة الهرم الأكبر، ونقش ليبسيوس نص التهنئة للملك فيلهلم الرابع على مدخل الهرم الأكبر بحروف هيروغليفية.
وقد قلّد ليبسيوس الأسلوب الفرعوني في كتابة اسم الملك، فسمّى ملك بروسيا «ملك الشمال والجنوب»، كما اكتشف موقع متاهة الفيوم، اللابيرنث، وقسم الموقع إلى أقسام، ثم زار فلسطين وشبه جزيرة سيناء، وكانت بعثته على درجة عالية من التنظيم، حتى أنها أخذت معها قسًّا لوثريًا لتوفير الخدمة الدينية للفريق.
وفي نهاية عام 1845 عادت البعثة إلى ألمانيا ومعها 15 ألفًا من القوالب الجصية وورق البردي، علاوة على الرسوم والنقوش والخرائط والخطط التي جمعتها بمنتهى الدقة والعناية، وعادت بنتائج فاقت كل التوقعات.
وقد أضافت البعثة ما عادت به من تحف وبحوث إلى القسم المصري في متحف برلين، فأضفت عليه الطابع النهائي، حيث إن ما أحضره ليبسيوس يعتبر كنزًا أحسن اختيارَ قِطعه. وبدأ ليبسيوس في ترتيب الجناح المصري بمبنى المتحف الجديد في برلين 1850، فصارت طريقة ترتيبه فيه مثلًا احتذته المتاحف الأخرى في أقسامها المصرية، بما في ذلك المتحف المصري بالقاهرة.
وتولى في العام نفسه منصب مساعد مدير المتحف المصري في برلين، ثم مديرًا له منذ 1865 حتى وفاته عام 1884.
تنافس ألماني - فرنسي
لا يمكن أن نتناول سيرة حياة ليبسيوس وأثره في علم المصريات، ونتغافل عن ذكر هذه الواقعة الطريفة عن التنافس الأوربي في علم المصريات، بسلبياته وإيجابياته، خاصة أنّها تبيّن مدى اهتمام فرنسا وسبْقها في السيطرة الأدبية على عالم الفراعنة.
كان عالم المصريات الفرنسي الشهير بريس دافن (1807 - 1879) يعمل منذ عام 1838 في تسجيل ودراسة آثار الأقصر، وكانت السنوات منذ 1839 إلى 1843 من أسعد سنواته كعالِم مصريات لما سجّله من المباني والنقوش الفرعونية، قبل أن تتدخل قوات محمد علي باشا، والي مصر، لتشويهها بحُجّة بناء مستشفى من أحجار تلك الصروح.
وكان هناك ركام يحتوي على نقوش وأفاريز أثرية من معبد خونس بالأقصر، وجاءته الأخبار بقرب مجيء ليبسيوس إلى المعبد لدراسته لحساب بعثته البروسية، وفكّر أن ليبسيوس سيعمل على نقل غرفة الملوك بالمعبد إلى برلين إن عاجلًا أو آجلًا، في ظل الإمكانات الضخمة المتاحة له.
ومن ثم فكّر دافن أن ينقلها هو إلى باريس، فقام بتلك المهمة الشاقة والدقيقة بمساعدة عشرين من أهل الأقصر، وكان يعمل ليلًا حين يغيب القمر أو في الظهيرة، حيث تُبعد الشمس الحارقة الفضوليين.
وبعد ثماني عشرة ليلة من العمل الدؤوب، نقل محتويات الغرفة من النقوش والأحجار والتماثيل في 27 صندوقًا على مَتن مركبه، وسرعان ما غادر الأقصر متجها شمالًا إلى القاهرة، حاملًا كنزه الثمين، وعند مقابر بني حسن بمحافظة المنيا، قابل دافن ليبسيوس، الذي كان متجهًا جنوبًا إلى الأقصر، ودعاه لشرب القهوة على متن مركبه. وأسرَّ ليبسيوس إلى دافن أنّه جاء ليحمل قاعة تحتمس الثالث إلى برلين، فتمالك دافن نفسه، كابحًا ابتسامة، فقد كان ليبسيوس يحتسي قهوة دافن على الصناديق التي تحوي كل أفاريز غرفة الملوك، بما فيها ما يختص بتحتمس الثالث، التي كانت هدف بعثة ليبسيوس البروسية، وخسرت ألمانيا معركتها مع فرنسا، التي سارعت بوضع محتويات الغرفة في قسم المصريات بمتحف اللوفر في باريس.
مؤلفات ليبسيوس
نشر ليبسيوس كتبًا في التاريخ المصري القديم، مثل «كتاب الموتى» (1858)، وكتاب «الملوك المصريين» (1858)، «تقسيم العصور المصرية» (1849)، وفي عام 1859 ظهر كتابه الشهير بعنوان «آثار من مصر وإثيوبيا»، الذي اشتهر باسمه الألماني «دانكيميلر»، في 12 جزءًا، وله ملحق يشتمل على النصوص التي كان قد دوّنها أيام البعثة، وهو كتاب ضخم. بل ربما كان أضخم كتاب عن المصريات، إذ يغطّيها من الناحيتين الأثرية واللغوية والنتائج التاريخية. ورغم تعمّق ليبسيوس في علم اللغة، إلّا أنه لم يترك إلا القليل من الترجمات لنصوص قديمة زودها بتعليقات تاريخية وتوضيحية.
كان آخر أعماله هو كتاب قواعد اللغة النوبية (1880)، وهو تطوير للغة النوبية التي لم تكن منتشرة آنذاك، وفي مقدمته رسمٌ يوزع اللغات في القارة الإفريقية.
وفي عام 1866 عاد ليبسيوس إلى مصر لينقب في منطقة السويس وشرق الدلتا، فاكتشف قانون تانيس الشهير في شمال شرق الدلتا، وهو يحوي نصوصًا لها نفس طابع حجر رشيد وباللغات الهيروغليفية والديموطيقية، اللغة المصرية الشعبية، واليونانية.
وكانت آخر زيارات ليبسيوس لمصر عام 1869 حينما حضر حفل افتتاح قناة السويس.
وتوفّي ذلك الرائد الأثري في برلين، إثر إصابته بسرطان المعدة، يوم 10 يوليو 1884.
وقد ترجمت وزارتا الآثار والثقافة المصريتان والمركز القومي للترجمة كتاب «وصف مصر» لعلماء الحملة الفرنسية عام 2005، وذلك بالاشتراك مع أساتذة المصريات والتاريخ المصري القديم بالجامعات المصرية الذين درسوا في ألمانيا، وأساتذة اللغة الألمانية بكليّات الألسن والآداب، خاصة أنه متوافر مجانًا وكاملًا على شبكة الإنترنت، ولا تتوافر له حقوق، ونُشرت لوحاته على شبكة الإنترنت بالألوان. كما تزداد أهميته بالنسبة إلى الأثريين السودانيين لما تضمنه من نقوش في حضارة كوش عفا عليها الزمن ولم تُسجل حتى الآن، بل وطُمر الكثير منها تحت طمي النيل ■
لوحات جدارية من المقابر المحيطة بهرم سقارة بالجيزة تبين أنشطة الحياة اليومية أثناء عصر الأسرة الرابعة الفرعونية
أهرامات مِرْوِي بالسودان