أمراض السعادة آفة العيش في عصر الحداثة

أمراض السعادة آفة العيش في عصر الحداثة

بحثًا عن السعادة وتحت شعار الحرية والرخاء والعدالة، يجد الأوربيون والأمريكيون على حد سواء أنفسهم في طريق مسدود وفي مأزق شديد يشهد تطورًا للمعاناة النفسية والاضطرابات السلوكية منذ النصف الثاني من القرن الماضي. 
لقد شكلت هذه القضية محور كتاب «أمراض السعادة» لعالم الاجتماع والباحث في المركز الوطني للبحث العلمي CNRS الفرنسي هيوز لاغرانج.

يسلّط لاغرانج الضوء على ما يجب اعتباره واحدًا من أكثر التحولات الحاسمة للحالة البشرية في التاريخ الحديث، حيث يرسم صورة سريرية طموحة ومحفزة للاضطرابات التي تطغى في المجتمعات الغربية، فالحريات التي غزت المجال الخاص تتعرّض الآن للتقويض بسبب انعدام المسؤولية في العمل، كما أدى تراجع العمل الجماعي والتوظيف التكنولوجي إلى سوء المعاملة وإدمان الكحول والمخدرات والقلق والاكتئاب والاضطرابات السلوكية، واستخدام العقاقير، سواء القانونية منها أو تلك غير القانونية. وهي كلها معالم تعكس الصورة المأسوية التي تشكلت في العقود الأخيرة. يستعين المؤلف لبيان ذلك بالعديد من البيانات الدقيقة التي تم جمعها من خلال الاستعانة بالتاريخ الطبي والاجتماعي والبيولوجيا وعلم الوراثة وعلم الأعصاب والطب النفسي وعلم الاجتماع.
والهدف من كل ذلك محاولة تقديم إجابات لأسئلة مركزية مفادها: ما الذي يعانيه الانسان الغربي اليوم، وما أسباب هذه المعاناة، وهل يعد البحث عن السعادة سببًا من هذه الأسباب، وكيف يمكن التغلب على هذه الأسباب أو على الأقل الحد منها؟
إن الأمر لا يتعلق تقريبًا بوضع صورة إكلينيكية للإنسانية المعاصرة، على الأقل في أوربا والولايات المتحدة، فالنتيجة هي ضغط دائم من الاضطرابات النفسية والسلوكية، وهي - حسب لاغرانج - شرور اجتماعية وفردية. ولذلك، فإنّ تحليلها لا يكون منطقيًا إلا إذا فتحنا «الصناديق السوداء لمآسينا» من خلال فحص «عادات الحداثة»، وإعادة كشف أعراف هذا العصر.

تفاوت في الدخل والثروة
في هذا الإطار يقول لاغرانج: «لقد جلبت الحداثة الاستقلال الذاتي، وخفضت الفقر، وضاعفت تقريبًا متوسط ​​العمر المتوقع، وقضت على عدد من الأمراض والأوبئة الفتّاكة، ومع ذلك فلقد سئمنا من فتوحاتنا المذهلة... نحن الآن بصدد مواجهة أمراض جديدة من نوع آخر، إنها أمراض السعادة». 
فعلى الرغم من ارتفاع الثروة بشكل هائل في القرن العشرين عند كل من الأوربيين والأمريكيين الشماليين، فإنهم لا يشعرون بسعادة أكثر، كما لو أن ربيع السعادة أقلع مودعًا دون رجعة.
شهدت العقود الأربعة الماضية زيادة حادة في التفاوت في الدخل والثـــروة، حيـــث يتعرض البشر اليوم للقيود والضغوط التي أصبحت فردية، فالمصير الجماعي للطبقة العاملة على سبيل المثال؛ يتبدد تدريجيًا حتى أنه أضحى على وشك الاختفاء، مثله في ذلك مثل عدد من الأوبئة التي كانت مميتة للغاية (السلّ والملاريا والكوليرا). 
وقد شكّل ازدياد دور الأداء المعرفي سمة بارزة في مجتمعاتنا، وقد أفضى هذا التزايد إلى ظهور أمراض نفسية وأخرى جسدية، كأمراض القلب والأوعية الدموية والسمنة والسكري والسرطانات وغيرها من أمراض العصر، مع بروز أمراض التنافس والكثير من الإحباط. إن الوصول إلى أفضل الأماكن أضحى مفتوحًا من حيث المبدأ للجميع، بيد أن هناك عوائق وتفــــاوتات تحول دون ذلك، وتجهز على فكرة الأفضلية والجدارة، مما يجعل العديد من البشر يشعرون بالمســــؤولية عن فشلهم، فيتطور لديهم القلق والاكتئاب والإدمان.
ومن جهة أخرى، فقد أصبحت العائلات متواطئة في هذه المنافسة لتحقيق هذه الأفضلية والجدارة من خلال النزاعات الزوجية الانتقائية. ويؤكد لاغرانج أنه إذا لم نكن حذرين، فإن سياسة بيولوجية قائمة على الموروثات الجينية تخاطر بتعزيز عدم المساواة الاجتماعية أكثر من أي وقت مضى.

حجة مركزية
يستعرض هذا الكتاب منظورين متكاملين عن سوء أحوال الناس العصريين. ويقول المؤلف: «إذا درسنا أمراض القلق والاكتئاب، فإن انتشار هذه الاضطرابات في الدول الغربية، قد ارتفع مع الأجيال التي ولدت إبان الحرب العالمية الأولى، بل واستمر ذلك حتى بالنسبة إلى مواليد سبعينيات القرن الماضي، خصوصًا مع زيادة الرفاهية والازدهار ومستويات المعيشة. 
وتم تفسير هذه الأمراض النفسية على أنها تعبير عن القيود التي يفرضها النظام الاجتماعي على رغبة المعاصرين، وكان القصد منها الاحتفال بانتهاء تحريرنا. وهذه هي الحجة المركزية التي يقدمها التحليل النفسي الغربي في القرن العشرين». ومع انفتاح العالم وتدفق موجات الاستبداد إلى الغرب، كانت هناك إدانة مستمرة للسيطرة الاجتماعية وتنامي الدور التأديبي للدول. يرى بعض الأطباء النفسيين أن القلق والاكتئاب مرتبطان بالتوترات بين الرغبة والقيود التي يفرضها المجتمع. لقد بدأت تتشكل في هذه المجتمعات العديد من الظواهر كغياب الهوية الحضرية والتضامن المحلي، واختفاء الأسرة الممتدة، وارتفاع الهوة بين الطبقات، وارتفاع حالات الطلاق، والوحدة، وتبديد الأفق الديني، إضافة إلى ضعف الرابطة الزوجية الذي يشكّل العامل الرئيس في بروز الأمراض النفسية وبعض أشكال الإدمان، إذ تعد نسبة الضرر النفسي الأعلى بين المطلقين الذين يعيشون بمفردهم.
 وهكذا، فإن الاكتئاب والقلق هما نتيجة اختفاء الظروف الوقائية التي صاحبت الحداثة. كما وصلت البطالة إلى أعلى المستويات، فأُنشئ إثر ذلك نظام جديد من الاستياء والانزعاج، نظام أكثر فردية وأقل جماعية، وفي الوقت نفسه، لوحظ انخفاض حصة الدخل في الأجور، مع تراجع الانتساب إلى النقابات وانهيار النضال الجماعي، بما في ذلك إضرابات العمال. 

تعويض ضروري
يختلج شعور عند معظم الأشخاص، أن حريتهم قد سُحقت وانهزمت، وذلك مردّه إلى أن الحريات المكتسبة في المجال الخاص لم يصاحبها تمديد للحكم الذاتي في مجال العمل. وقد أوجد ذلك شكلًا من أشكال إضفاء الطابع المحلي عن طريق الانضباط الصناعي، ثم أحدث توحيدُ العملِ المكتبي أعباءً وثغرات كثيرة. وقد أدت الفجوة بين الحرية الخاصة والخضوع المهني إلى ظهور تعويضات، وكانت أكثر هذه التعويضات هي تلك المتمثلة في زيادة حالات الانتحار واستهلاك الكحول منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
 لقد ترتب عن ذلك أن أصبح الإدمان تعويضًا ضروريًا للعاطلين عن العمل أو المهددين بالبطالة، والذين تخلفّوا عن طريق التحديث المتسارع، فالتغير التكنولوجي والروبوتات جعلت الرجال والنساء من ذوي المهارات المنخفضة موظفين زائدين عن الحاجة. ويستجيب المطرودون والمهمشون بشكل سريع لتعاطي المؤثرات العقلية والإقدام على الانتحار، يتساوى في ذلك الرجال كما النساء، والشباب كما الكهول. كما أن الطبقة الوسطى المتعلمة ليست بمنأى عن هذا الوضع المتردي، إنها فئة هشة تشارك في سباق محموم لفرض نفسها والوصول إلى الأماكن الجيدة، مما يجعلها عرضة للإرهاق والمحن والانهيار.
يركز المنظور الثاني على دراسة الأسباب التي تؤدي إلى سوء حالة أولئك الذين هم أفضل حالًا من الناحيتين المادية والتعليمية في المجتمعات المعاصرة، ولا يقتصر الأمر على كون هذه الفئة قادرة على المنافسة، أو تحقيق الأداء المعرفي، بل بقدرتها على الإطاحة بالآخرين من أجل الوصول إلى أفضل الجامعات وأفضل المجالات والوظائف الأكثر ربحية. وتكتسب هذه المنافسة سمة جديدة، حيث تغطي أوجه عدم المساواة بشكل أساسي التسلسل الهرمي للأداء المعرفي، مما يفضي إلى حالة من الإحباط والاستياء عند أولئك الذين تم إقصاؤهم مما هو أفضل، هذا على الرغم من أن الوصول إلى أفضل المناصب مفتوح من حيث المبدأ للجميع.

تباين القدرات المعرفية
تسهم البيئات الاجتماعية في تباين القدرات المعرفية، ولكن إلى حد محدود. إن معظم هذا التباين ينتج في القدرات بين الأفراد داخل المجتمعات المتقدمة بشكل مشترك عن التأثيرات الوراثية والبيئة المحددة التي يختارها كل فرد. وهكذا تحاول العائلات جاهدة التأثير على الأداء التعليمي لأطفالهم. إن العائلات الثرية لها تأثير أكبر في وظائف المدرسة وفي العمل أحيانًا، فهم يودون إعطاء جيناتهم مصيرًا أفضل.
في العقود الأخيرة، كانت هناك زيادة في مطابقة الزوجين على أساس المهارات المعرفية، وفي الوقت الراهن، يؤخذ بعين الاعتبار المستوى الدراسي للشريك، وربما زاد الأزواج من تشابه المهارات المعرفية المشفرة وراثيًا. وهكذا أصبحت العائلات، تتصرف كفاعلين في السياسة الحيوية.
يقول المؤلف: «يجب أن نلبي احتياجات الأمن العاطفي والتضامن. إن التأكيد على الهويات أمر مفهوم في سياق تتسارع فيه فتح الاحتمالات والتغيير التقني بشكل كبير. ومن خلال استحضار هذا المعطى، لا بدّ من خلق توازنات داخلية وأخرى خارجية لتجاوز الاضطرابات وما يقسم الذات، وعلينا أن نفكر في حداثة ونمو بديلين ومنفصلين، والانخراط في استهلاك أكثر اقتصادًا وملاءمة، والتوظيف الأمثل للذكاء البشري الموجه والمنسجم أكثر مع البيئة الخارجية والداخلية للإنسان لجعل هذه الحياة أكثر ثراءً في الأحاسيس والاكتشافات. إن الحياة الجيدة - المؤسسة على العيش مع الآخرين والتوازن مع الطبيعة والمؤسسات - هي أفق يمكن تقاسمه».
إن العلوم الاجتماعية والنفسية لم تكشف لنا إلا عن النزر القليل، وهي فجوة يبدو أن لاغرانج أراد تعويضها بدقة وتفصيل بين دفتي هذا الكتاب. فطموح هذا العمل واسع، ولا يسع المرء إلا أن يعجب بزخم هذا التحقيق، حيث لم يكتف المؤلف بإعطائنا الوسائل اللازمة لعلاج الأمراض الطبية أو الأخلاقية أو السياسية، وإنما أمدنا بنهج جديد ومحفز، ليس بالمكتمل أو القطعي لتلك الأشكال التي تتخذها الحياة اليوم في الغرب، موجهًا في الأخير دعوة للجميع لإيجاد معنى في حياتهم، آنذاك يمكن أن يكون هذا التغيير مصدرًا لجرعة أمل لمواجهة هذه الأمراض ■