عمر فرّوخ دارسًا وناظمًا للشعر
للمربّي والأديب والشاعر اللبناني د. عمر فروخ (1906 – 1987) أكثر من مئة كتاب مطبوع في الفلسفة والتاريخ والأدب العربي والشّعر، أبرزها: تاريخ الأدب العربي (6 مجلدات)، وتاريخ الفكر العربي، والتبشير والاستعمار، والتصوف في الإسلام، وعبقرية اللغة العربية، الإسلام والتاريخ، والأسرة في الشرع الإسلامي، والعرب والفلسفة، وفي الشعر له كتابان، الأول: هذا الشعر الحديث، والثاني هو مجموعته الشعرية فجر وشفق. يقول فروخ إن التأليف فنّ من فنون المعرفة يحتاج إلى الإحاطة بعدد من فنون المعرفة الأخرى، على كثرة أو قلّة، وإن لم يستخدم المؤلف هذه المعارف استخدامًا مباشرًا في الفن الذي يؤلّف فيه، لأنّ الإحاطة بفنون كثيرة توسّع أفق المؤلف، وتجعل كتبه أكثر صحة ودقة.
عُرف عن عمر أنه نشأ في بيت به مكتبة، وأهله يتقنون ثلاث لغات، وهو درس بالجامعة الأمريكية في بيروت متخصصًا بالأدب العربي والتاريخ، قبل أن يتابع دراسته العليا في ألمانيا، ويحصل منها على دكتوراه الفلسفة في الأدب العربي على يد المستشرق البروفيسور يوسف هيل.
ويتابع عمر قائلًا: وإذا كانت المعارف الفكرية عماد كل تأليف، فإنّ الأسلوب، أي عرض المادة، هو المبرر للتأليف، فعلى المؤلف أن يدرك أن الوضوح في التفكير هو الذي يؤدي إلى الوضوح في التعبير.
هذا «البيان» أو النظرية في التأليف، هو ما اعتمده عمر في نظمه الشعر أيضًا، وهو لم يؤلّف كتابًا إلا وذكر تبرير تأليفه، والمنهج المتبع، والإضافة التي يتوخاها.
ففي كتبه في اللغة العربية وآدابها يكتب أنه يفتخر بعروبته و«بتاريخ العرب والمسلمين، لذلك دأب على نبش التراث الذي يعتز به، مجاهدًا في سبيل لغته وكنوزها، ومحاربًا الدعوة إلى العامية والشعر الحديث،» وهو القائل:
أم اللغات نُفدّيها وتفدينا
والروح عزّت ولكنّا نؤدِّيها
فيا رؤومًا علينا في تبدّيها
إذا افترقنا، حنانيك، أمِدّينا
بعروة منك وثقى لا انفصام لها
في نقد الشعر الحديث
كتاب فروخ «هذا الشعر الحديث» (الصادر عن دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت 1978)، كان في الأصل مقدّمة لمجموعته الشعرية، ثم وسّعها فباتت كتابًا مستقلًا، ثار فيه عمر على مدّعي الشعر الحديث، مفصلًا في دراسة الشعر الأوربي، ومؤكدًا أنه موزون مقفّى، مؤسس على قواعد الشعر اليوناني، ثم جاء أمثال عزرا باوند، وإليوت، وولت وتمان، الذين شوّهوا الشعر، فسار على نهجهم شعراء عرب في الوطن والمهاجر، فزادوا التشويه، بجهلهم باللغة والتاريخ، متغربين رغبة بالتميز السطحي، مدفوعين بتعصُّب أعمى.
ويدرس عمر في هذا الكتاب بدايات الشعر المطلق، مؤكدًا أسبقية منير الحسامي، الذي أصدر ديوانه في عام 1925، وكان قد كتبه قبل سنتين وقرأه على عمر وزملاء آخرين، وذلك قبل أمين الريحاني في «عرش الحب والجمال» وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وجبران والمهجريّين، علمًا بأن الريحاني نفسه هو من كتب مقدمة ديوان الحسامي.
يعرف عمر الشعر بأنه نشاط ذهني لم يكن خاصًا بالعرب ولا بغيرهم، وهناك عند العرب: نثر مسجوع ونثر مطلق وخطب وأمثال، أما أولئك الذين يعلنون أنهم يريدون أن يزيدوا في ثروة الأدب العربي أشياء من الأدب الإفرنجي هم في الحقيقة يريدون أن يشوّهوا العقل العربي.
ويستعرض عمر شعرًا حديثًا وضعه بنفسه ليؤكد سهولة نظم مثل هذا الشعر، ومما يقوله في الشعراء هؤلاء: «أولئك الأفراد الذين تطمئن نفوسهم إلى التشويه لا يكونون عادة من أصحاب النهج السويّ في الحياة، ولا من أهل المنطق في التفكير»، و«كل ما أرجوه من أنصار الشّعر الحُر وأنصار الشعر المنثور وأنصار ما لا أدري اسمًا له أن يوجدوا لما يتخيّلونه اسمًا كما فعل العرب من قبل».
وإن كان عمر قد خلص إلى أن حريّة التعبير تسمح للجميع أن يقولوا ما يريدون، وأن يضعوا لذلك ما يرغبون من تسميات، فالقراء أخيرًا هم الحكام، مضيفًا بل معترفًا بأن ما كتبه هو في هذا الكتاب ليس بحثًا في الشعر الحديث، بل عرضًا لمستوى الشعر الحديث.
في نظمه الشعر
نظم عمر الشعر باكرًا، وهو طالب في الجامعة الأمريكية عام 1920، إلّا أن تقدّمه في السن، وانصرافه إلى دراسة الفلسفة والعلوم الطبيعية والاجتماعية، خفّفا من رغبته في نظم الشعر، وإن لم يخفّفا من مقدرته على ذلك، وهو حين أراد أن يقيم الدليل على أن الشعر الحديث يستطيعه كل إنسان أثبت في مجموعته «فجر وشفق» كثيرًا منه.
وفي مجموعته هذه، لم يثبت تلك القصائد الأولى، فأول قصيدة فيه تعود إلى عام 1923 وعنوانها «المكانس الأوربية».
وقصائد عمر هي قصائــــد مناسبات: غزوة الأحزاب، وبدء القتال في لبنــــان، وتأبيــــن عمر الداعوق، ورثـــاء الملك فيصل، ونهاية العام الدراسي في نابلس (حيث كان يعلّم)، ومهــــرجان د. وجيه البارودي، وإلى عارف أبي شـقرا، وقصائد أخرى عبّر فيها عــن لواعـــج نفسه، وعن موقفه من الحياة والتاريخ والإنســـان، وفيها كلها نجد صورًا لتجارب عمـــر في حياته.
وفي هذه القصائد كلّها خط واحد جامع، هو مقاربته المثالية في السلوك، والدعوة إلى الجد، والأخلاق الرفيعة، والاعتزاز بالقيم الدينية والإنسانية والحضّ على اتّباعها وتعليمها، وعمر دائمًا في كل ذلك، العربي المسلم المترفع، والمثقف الموسوعي المعتز بذاته، انتماء وعصامية وسلوكًا.
كتب في «الإهداء»: «إلى الذين لم تفسد أذواقهم بالفن المشوّه وبالشعر المشوّه، وإلى الذين لا يزال معيار الجودة عندهم الفكر الواضح في الأسلوب النقي، وإلى الذين لم تنزل في صدورهم أوهام الفارغين وأماني العاجزين».
في شعره الوطني
كان عمر يحمل عبء التاريخ، وهو يعرف أن هذا التاريخ هو صورة الماضي، وقلّة هم الذين يستذكرونه أو يستلهمونه، يقول: ولأنني صريح وواضح أصرخ في العرب:
أيها العُرب، إلى أين المسير؟
ضلّ فينا الهادي وساء المصير
قد ورثنا البلاد وهي جنان
فرآها أبناؤنا وهي بور
وفي رؤيته للوطن كتب:
وطني كل بقعة عاش فيهــا
عربي اللســـان والإيمــــــان
وطني الشرق كلّه يتجلّــى
في جهود من الأماني الحسان
وطني الغرب حيثما حلّ في الـ
غرب شموس العلى بنو مروان
وهو حين يروي قصة العروبة، يتوقّف عند محطات تاريخية يفتخر بها، ليصل إلى الواقع المعيب الذي نحياه. وكي لا نظنه حبيس فكرة الانتماء والإحباط، وهو العصامي المثقف، فقد نظم أكثر من قصيدة في: الإنسان، وفي دعاة السلام، وفي ضرورة استقبال الحياة في الوطن بفرح.
في مواقفه من الحياة
وكان ينظم قصائده بنَفَس المعلّم الرسول:
خذ من سرورك باليمين
إني سئمت من الأنين
وابسُم إذا طلع النّها
رُ، وسِرْ به طلق الجبين
وفي الشباب نظم:
خلّ الصبا يتريـــــــــث
ودَعِ الهوى يتحدث
ما كنت أعشق لو علم
ت بأننــــــي أتلوث
وفي تقدُّم العمر نظم:
وقالوا: صرت شيخًا ذا وقار
كبيرًا همة وكـبير سن
وما السبعون مع عقل فتيّ
سوى سبع لدى الطفل الأغنّ
أمرّ على الحياة مجال أنس
وأمضي في الزمان زعيم جنّ
وكلّ لذائذ الدنيا هبـــــــــاء
إذا قيست بلذة مطمئــــــــــــنّ
في التعليم والتربية
وعمر المطمئــن إلـــى قيمـــه وسلوكـــه، لم يفُته، وهو المعلم والمثقف الذي يتقن عدة لغات، أن يضم فـــي ديوانــــه أفضـــل ما قرأه مــن شعر أجنبي مترجمًا عن الألمانية لجوته، وعن الإنجليزية لشكسبير وتينيســون وجونســـون، وعن الفارسية لمحمد إقبال وجلال الدين الرومي.
وعمر المعلّم ينصح عن تجربة، فأبلغ:
تطلب من العيش حظ القوي
وإياك والهمة الوانية
إذا أنت لم تبغ في ذي الحياة
ستقتلك الفئة الباغية
وربّ قوي ينادي الحياة
فتمنحه العيشة الراضية
فلبِّ النداء إذا ما عـــــلا
ولا تحقر الدعوة الآتية
وفي جدِّيته، حين يرثي أو يمدح، يشرح الكلمات مباشرة، نظـــم في ذكرى أحمد شوقي:
حسب ذا السيف في العلا ما يعاني
بلغ الشأو واستوى في العنان
كلّما ملت السيوف ضرابــــــــًا
في غمار ردت إلى الأجفان
(العنان: كبد السماء - الجفن: قراب السيف)
وفي عرضه لمقدرته في نظم الشعر، نظم قصائد عمودية، وأخرى منثورة، وأخرى بلا قافية، كذلك نظم مسدسات مطلقة، ومفردات ومثاني.
من مفرداته:
إن هذي الحياة عبء ثقيل
وأراني لا أحمل العبء وحدي
ومن مثانيه:
عبثًا أحمل دائي
وأرى رأي طـــبيبي
إنني أحتاج يا نَفـ
سُ إلى رأي حـبيبي
وفي كتابه: غبار السنين (الصادر في بيروت عن دار الأندلس عام 1985) كان ينهي بعض نصوصه بأبيات من الشعر العمودي، من ذلك في أحمد شوقي:
كأن النيل لم يكُ قبل شوقي
يفيض على ثرى الهرمين تبرا
ولا فرعون في قوم أباة
ولا الهرمان من خوفو وخفرا
خلقت لها الخلود وكل خُلد
تمنّى من قريضك فيه شطرا
في نقد شعره
عمر فروخ الذي هاجم الشعر الحديث نظم على منواله متحديًا، ومعلمًا، ومعترفًا أنّ في الشعر الحديث جمالًا، وشعره كلّه مدرسي عقليّ، ليس فيه صور شعرية أو خيال مجنح، أو عاطفة لاهبة... هو جاد، ينشد القيم في لغة صحيحة ومفردات مختارة، وقافية لا عيوب فيها.
وكان عمر يوثّق قصائده زمانًا ومكانًا، وقد يوطئ بفقرة نثرية تشرح، وهذا دليل آخر على عقله المنظم وسلوكه التعليمي الجدي، أما حواشي صفحاته فغنيّة بتفسير المفردات، والتعريف بالأعلام والأماكن وما يعتقد أنه سيغلق على القارئ من مفاهيم ■