السيرة الذَّاتية في كتابات محمد جبريل

السيرة الذَّاتية  في كتابات محمد جبريل

كتب محمد جبريل فصولًا من سيرته الذَّاتية في مؤلفات عدة. واتّخذ من وقائع في حياته مادة أولية لفصول من رواياته ولعدد من قصصه القصيرة.
 نحاول في هذه المقالة أن نقدّم معرفة بالسّيَر الذاتية التي كتبها جبريل في غير مؤلَّف من مؤلَّفاته، وبأدبيَّتها. وهذا يقتضي أن نحدِّد مفهوم السيرة الذاتية وإشكاليتها أولًا. السّيرة الذاتية هي، وفي الوقت نفسه، سرد وقائع حياة شخص ما معيَّن بقلمه، وبناء أدبي متخيَّل. وهنا تتمثَّل إشكاليتها، فكاتبها ينبغي عليه أن يجعل من السّرد لوقائع حياة معيشة بناءً أدبيًا متخيَّلًا ناطقًا برؤية إلى عالمه، فمن ثنائية تضاد هي: تسجيل /تخيُّل، ينبغي أن يتشكَّل نصٌّ أدبي سردي ذو فاعلية جمالية دلالية، فهل أنجز جبريل هذه المهمة؟ وكيف؟ 

 

 

في‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬مؤلفات‭ ‬جبريل‭ ‬السيرية‭ ‬نتبين‭ ‬ما‭ ‬يأتي‭:‬

في‭ ‬‮«‬الحياة‭ ‬ثانية‮»‬،‭ ‬نقرأ‭ ‬رواية‭ ‬تسجيليــة‭ ‬تتمــثّل‭ ‬مـــــادتهــــا‭ ‬الأوّليــــة‭ ‬في‭ ‬حـــدث‭ ‬سيــري‭ ‬محدَّد‭ ‬يقتطعه‭ ‬الراوي‭ ‬من‭ ‬مسار‭ ‬حياته،‭ ‬ويـــرويه،‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬خيطي،‭ ‬محدود‭ ‬الزمن،‭ ‬متكسِّر‭ ‬بالاسترجاع‭ ‬ومتقطع‭ ‬بالتأمل‭ ‬والتعريف،‭ ‬وينطق‭ ‬برؤية،‭ ‬إلى‭ ‬قضية‭ ‬إنسانية‭ ‬وجودية‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬القضايا‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وهي‭ ‬قضية‭ ‬الموت،‭ ‬ما‭ ‬يرقى‭ ‬بالحدث‭ ‬الشخصي‭ ‬إلى‭ ‬الحدث‭ ‬الإنساني‭ ‬الوجودي‭.‬

في‭ ‬‮«‬كوب‭ ‬شاي‭ ‬بالحليـــب‮»‬،‭ ‬يتّخذ‭ ‬جبريل‭ ‬من‭ ‬وقائع‭ ‬من‭ ‬حياتـــه‭ ‬مــادَّة‭ ‬أوَّلية‭ ‬لنصٍّ‭ ‬روائــــي،‭ ‬ذي‭ ‬بناء‭ ‬روائي‭ ‬متخيَّل،‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬مرجع‭ ‬سيـــري‭ ‬ويغايره‭ ‬لينظر‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬اختار‭ ‬من‭ ‬الوقائع‭ ‬السيرية‭ ‬ما‭ ‬يراه،‭ ‬ونظم‭ ‬ما‭ ‬اختاره‭ ‬في‭ ‬البناء‭ ‬الروائي‭ ‬الخاص‭ ‬لينطــــق‭ ‬برؤيـــة‭ ‬الفتى‭ ‬القادم‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭ ‬ليحقق‭ ‬ذاته‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬ميادين‭ ‬العيش‭.‬

في‭ ‬‮«‬أيامي‭ ‬القاهرية‮»‬‭ ‬فصول‭ ‬متنوعة‭ ‬عن‭ ‬أماكن‭ ‬وشخصيات‭ ‬أدبية‭ ‬و‭...‬،‭ ‬تقدّم‭ ‬معرفة‭ ‬قوامها‭ ‬اَراء‭ ‬مباشرة،‭ ‬من‭ ‬نحو‭ ‬أول،‭ ‬وصور‭ ‬أدبية‭ ‬تنطق‭ ‬بالدلالة‭ ‬الكاشفة‭ ‬من‭ ‬نحو‭ ‬ثان‭.‬

 

توهّج‭ ‬إبداعي

في‭ ‬‮«‬مدِّ‭ ‬المــــوج‮»‬،‭ ‬نلحــــظ‭ ‬التوهـــج‭ ‬الإبداعي،‭ ‬إذ‭ ‬تتحــــول‭ ‬المادة‭ ‬السيريـــــة،‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬النصــــوص،‭ ‬إلى‭ ‬نصوص‭ ‬قصصية‭ ‬قصيرة‭ ‬جدًا،‭ ‬مكثَّفة‭ ‬مقطَّرة‭ ‬تفوح‭ ‬بالدلالة‭ ‬كالوردة‭ ‬الجورية،‭ ‬وتترك‭ ‬للقارئ،‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬النصوص،‭ ‬أن‭ ‬يفكّر‭ ‬ويتخيّل،‭ ‬ويكمل‭ ‬النص،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬شريكًا‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭. ‬

وإن‭ ‬كان‭ ‬كلّ‭ ‬نص‭ ‬يستقل‭ ‬ببنائه‭ ‬المتخيَّل‭ ‬ودلالته،‭ ‬فإنه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬ينتظم‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬كلّي‭ ‬متخيَّل‭ ‬ذي‭ ‬فاعلية‭ ‬جمالية‭ ‬دلالية‭.‬

يصف‭ ‬جبريل‭ ‬صنيعه‭ ‬هذا‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬تنبثق‭ ‬الصور‭ ‬كالومضات،‭ ‬لا‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬تختفي‭ ‬كمدِّ‭ ‬البحر،‭ ‬تمتصّه‭ ‬رمال‭ ‬الشاطئ‭. ‬شخصيات‭ ‬وأحداث،‭ ‬تلتقط‭ ‬الذَّاكرة‭ ‬أقلَّها،‭ ‬ويغيب‭ ‬أكثرها،‭ ‬كالومضات‭ ‬المتلاشية،‭ ‬أو‭ ‬كاحتواء‭ ‬الرمال‭ ‬لمدِّ‭ ‬الموج‮»‬‭. ‬

في‭ ‬‮«‬قراءة‭ ‬الصور‮»‬،‭ ‬نتذكَّر‭ ‬‮«‬بقايا‭ ‬صور‮»‬‭ ‬لحنّا‭ ‬مينه،‭ ‬ونلحظ‭ ‬التناصّ‭ ‬والاختلاف‭ ‬في‭ ‬آَن،‭ ‬فمينه‭ ‬كتب‭ ‬رواية‭ ‬ذات‭ ‬مرجع‭ ‬سيري،‭ ‬وجبريل‭ ‬كتب‭ ‬نوعًا‭ ‬سيريًا‭ ‬جديدًا‭ ‬أحاول،‭ ‬فيما‭ ‬يأتي،‭ ‬أن‭ ‬أقدّم‭ ‬معرفة‭ ‬به‭.‬

يصدِّر‭ ‬جبريل‭ ‬قراءته‭ ‬للصور‭ ‬بقول‭ ‬هارييت‭ ‬بيشر‭- ‬ستو‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أمتلك‭ ‬أية‭ ‬موهبة‭. ‬أنا‭ ‬أكتب‭ ‬ما‭ ‬رأيته‭ ‬فعلًا‮»‬‭.‬

كاتب‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬يكتب‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬فعلًا،‭ ‬هذا‭ ‬صحيح،‭ ‬لكنّ‭ ‬هذا‭ ‬يقتضي‭ ‬امتلاك‭ ‬منظور‭ ‬تتم‭ ‬الرؤية‭ ‬منه‭ ‬لاختيار‭ ‬الوقائع‭ ‬ونظم‭ ‬ما‭ ‬يتمّ‭ ‬اختياره‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬سيري‭ ‬متخيّل‭. ‬يقول‭ ‬جبريل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭: ‬‮«‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬قد‭ ‬يضيف،‭ ‬وقد‭ ‬يحذف،‭ ‬وربما‭ ‬اختلق‭ ‬خياله‭ ‬ما‭ ‬يبدِّل‭ ‬الصورة‭ ‬الحقيقية‭...‬‮»‬‭ (‬أيامي،‭ ‬ص‭ ‬28‭).‬

وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنّ‭ ‬ما‭ ‬يــــراه‭ ‬الكاتــــب‭ ‬مــــن‭ ‬منظوره‭ ‬هـــو‭ ‬الذي‭ ‬يُملي‭ ‬الكتابة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفيده‭ ‬عنوان‭ ‬الكتاب‭ ‬‮«‬قــــراءة‭ ‬الصور‮»‬،‭ ‬فقراءة‭ ‬الشيء‭ ‬تعني‭ ‬تحصيل‭ ‬معرفة‭ ‬به‭ ‬وتقديـــم‭ ‬هذه‭ ‬المعرفة‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬صاحبها‭. ‬

 

فضاء‭ ‬خلاَّق

وإذ‭ ‬نعرف‭ ‬مفهــوم‭ ‬جبــريل‭ ‬للصور‭ ‬المعنية‭ ‬يتأكد‭ ‬لنا‭ ‬هذا،‭ ‬فهذه‭ ‬الصور‭ ‬التي‭ ‬يقـرأهـــا‭ ‬هي‭ ‬الصور‭ ‬التي‭ ‬نستعيــد‭ ‬بهــا‭ ‬حياتنا،‭ ‬وتذكّـــرنا‭ ‬بما‭ ‬قد‭ ‬ننساه‭...‬،‭ ‬وكما‭ ‬يقول‭ ‬رولان‭ ‬بارت،‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬الصــور‭ ‬الفوتوغرافية‭ ‬تكاد‭ ‬تعيد‭ ‬الموتى‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‮»‬‭.‬

يريد‭ ‬جبريل‭ ‬إذًا‭ ‬أن‭ ‬يستعيد‭ ‬من‭ ‬الماضي‭ ‬ما‭ ‬عاشه‭ ‬فعلًا،‭ ‬ليأتي‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الحاضر‭ ‬ليكون‭ ‬حاضرًا‭ (‬انظر‭: ‬بقايا‭ ‬صور،‭ ‬الغلاف‭ ‬الأخير‭).‬

سؤالان‭ ‬يطرحان‭ ‬هنا‭ ‬هما‭: ‬ما‭ ‬الماضي‭ ‬الذي‭ ‬يستحضره‭ ‬جبريل‭ ‬ليكون‭ ‬حاضرًا؟‭ ‬ومن‭ ‬أي‭ ‬منظور‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك؟

نحاول‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬هذين‭ ‬السؤالين‭ ‬فيما‭ ‬يأتي‭.‬

يُهدي‭ ‬جبريل‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬شارع‭ ‬إسماعيل‭ ‬صبري‮»‬‭ (‬نفسه،‭ ‬ص‭ ‬5‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬الشارع‭ ‬الذي‭ ‬وُلد‭ ‬ونشأ‭ ‬فيه‭. ‬وهو‭ ‬أقدم‭ ‬شوارع‭ ‬منطقة‭ ‬بحري‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية‭ ‬وأهمّها‭ ‬وأشهرها،‭ ‬وهو‭ ‬الشارع‭ ‬الإسكندراني‭ ‬الشعبي‭ ‬الديني‭ ‬الصوفي،‭ ‬فهذا‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يهدي‭ ‬جبريل‭ ‬كتابه‭ ‬له‭ ‬يتجاوز‭ ‬الجغرافيا،‭ ‬ليكون‭ ‬فضاء‭ ‬خلاَّقًا‭ ‬للمعنى،‭ ‬بوصفه‭ ‬فضاء‭ ‬الروح‭ ‬الوطنية‭ ‬الشعبية‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬مازالت‭ ‬تنبض‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬جبريل،‭ ‬أو‭ ‬مازالت‭ ‬لها‭ ‬‮«‬منازل‮»‬‭ ‬في‭ ‬قلبه،‭ ‬فتذكّرنا‭ ‬بقول‭ ‬أبي‭ ‬تمام‭ ‬الشهير‭.‬

تقول‭ ‬زينب‭ ‬العسّال‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬‮«‬أيامي‮»‬‭ ‬ما‭ ‬يؤيد‭ ‬هذا‭: ‬‮«‬الإسكندرية‭ ‬لم‭ ‬تَضِع‭ ‬مني‭...‬،‭ ‬هكذا‭ ‬يُنهي‭ ‬جبريل‭ ‬مقدمة‭ ‬كتابه‭ ‬أيامي‭ ‬القاهرية،‭ ‬وكأنه‭ ‬يعتذر‭ ‬لرحيله‭ ‬عن‭ ‬مدينته‭ ‬الإسكندرية‭ ‬متجهًا‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‮»‬‭. (‬أيامي‭...‬،‭ ‬ص‭ ‬5‭). ‬

وهكذا،‭ ‬كما‭ ‬يبدو،‭ ‬يريد‭ ‬جبريل‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬ما‭ ‬يسكنه‭ ‬‮«‬الإسكندرية‮»‬‭ ‬حاضرًا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يسكن‭ ‬فيه‭ ‬القاهرة‭.‬

 

استحضار‭ ‬الماضي

بُغية‭ ‬استحضار‭ ‬الماضي‭ ‬وجعله‭ ‬حاضرًا،‭ ‬تتمّ‭ ‬قراءة‭ ‬الصور،‭ ‬فهي‭ ‬التي‭ ‬تصل‭ ‬ما‭ ‬يجــري‭ ‬بما‭ ‬جــــرى‭ ‬والتطلُّع‭ ‬إلى‭ ‬الآتــي‭. ‬يقول‭ ‬جبريل‭: ‬‮«‬الحيـــاة‭ ‬التي‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬التذكُّر‭ ‬لم‭ ‬تكن‭. ‬التذكُّر‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يعطي‭ ‬لحياتنا‭ ‬معناها‮»‬‭ (‬قراءة‭ ‬الصور،‭ ‬ص‭ ‬7‭).‬

أن‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬دور‭ ‬التذكُّر،‭ ‬كما‭ ‬يراه‭ ‬جبريل،‭ ‬فما‭ ‬هي‭ ‬حاله،‭ ‬وهو‭ ‬يصادق‭ ‬النسيان‭ ‬منذ‭ ‬سنٍّ‭ ‬باكرة؟‭ (‬نفسه،‭ ‬ص‭ ‬8‭). ‬

في‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال،‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬ما‭ ‬يُرى‮»‬‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يقفز‭ ‬إلى‭ ‬الذَّاكرة،‭ ‬ويُملي‭ ‬الكتابة،‭ ‬ويغدو‭ ‬حاضرًا،‭ ‬ويجعل‭ ‬العيش‭ ‬محتملًا،‭ ‬ويعطيه‭ ‬معنى،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أننا‭ ‬إزاء‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الذاكرة‭ ‬يقاوم‭ ‬النسيان،‭ ‬ويصل‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬بما‭ ‬جرى،‭ ‬ويجعل‭ ‬الماضي‭ ‬حاضرًا،‭ ‬ويعطي‭ ‬الحياة‭ ‬معنى‭.‬

إن‭ ‬الكتابة‭ ‬التي‭ ‬تمليها‭ ‬هذه‭ ‬الذاكرة‭ ‬هي‭ ‬نوع‭ ‬مختلف‭ ‬من‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية،‭ ‬يصفه‭ ‬جبريل،‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬لا‭ ‬يندرج‭ ‬داخل‭ ‬أيّ‭ ‬جنس‭ ‬من‭ ‬الأجناس‭ ‬الأدبية‭ ‬المعروفة،‭ ‬فهو‭ ‬ليس‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية،‭ ‬ولا‭ ‬رواية،‭ ‬ولا‭ ‬مجموعة‭ ‬قصصية،‭ ‬ولا‭ ‬ترجمة،‭ ‬ولا‭ ‬أدب‭ ‬رحلات،‭ ‬ولا‭ ‬دراسة‭ ‬أدبية‭... ‬لكنّه‭ ‬خليط‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كله‮»‬‭ (‬نفسه،‭ ‬ص13‭).‬

هذا‭ ‬الخليط،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬شوقي‭ ‬بدر‭ ‬يوسف،‭ ‬له‭ ‬ذائقته‭ ‬الخاصة‭ (‬كوب‭ ‬شاي‭...‬،‭ ‬ص‭ ‬151‭).‬

 

نوع‭ ‬جديد

تفيد‭ ‬قراءة‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬السّيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬بأنه‭ ‬نوع‭ ‬جديد‭ ‬منها،‭ ‬يمزج‭ ‬الأنواع‭ ‬الأدبية،‭ ‬ويؤدّي‭ ‬بوح‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬حديث‭ ‬طليٍّ‭ ‬يخاطب‭ ‬القارئ‭ ‬الصديق‭. ‬يقول‭ ‬جبريل،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭: ‬‮«‬أفضِّل‭ ‬الأسلوب‭ ‬التحدُّثي‮»‬،‭ ‬و«مخاطبة‭ ‬القارئ‭ ‬بوصفه‭ ‬صديقًا‭ ‬تبثُّه‭ ‬ذاتك،‭ ‬وتبوح‭ ‬له‭ ‬بما‭ ‬كنت‭ ‬تعتبره‭ ‬سرَّك‭ ‬الشخصي‮»‬‭ (‬انظر‭: ‬أيامي‭...‬،‭ ‬ص‭ ‬27‭ ‬و28‭).‬

هذا‭ ‬‮«‬التحدُّث‭ ‬إلى‭ ‬القارئ‭ ‬الصديق‮»‬‭ ‬يمتّ‭ ‬بصلة‭ ‬إلى‭ ‬نوعين‭ ‬من‭ ‬القص‭ ‬التراثي‭ ‬هما‭ ‬الحكاية،‭ ‬أو‭ ‬الحدوتة،‭ ‬وحديث‭ ‬السمر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يسمّى‭ ‬فاكهة‭ ‬المجالس،‭ ‬وهو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬النص‭ ‬الأدبي‭ ‬المفتوح‭.‬

قد‭ ‬نسأل‭: ‬ما‭ ‬دور‭ ‬الصور‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقام؟

يجيب‭ ‬جبريل‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭: ‬كأن‭ ‬الصور‭ ‬مفاتيح‭ ‬الذاكرة‭ ‬لحجرات،‭ ‬في‭ ‬داخلها‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬الأشخاص‭ ‬والرؤى‭ ‬والتجارب‭ ‬والخبرات‭ ‬والأحلام،‭ ‬والكاتب‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يزاوج‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يتذكره‭ ‬وما‭ ‬تذكِّره‭ ‬به‭ ‬الصور‭. ‬

وتستكمل‭ ‬المخيلة‭ ‬ما‭ ‬تلاشى‭ ‬من‭ ‬الذاكرة،‭ ‬وتسدُّ‭ ‬الفجوات،‭ ‬وتوهم‭ ‬بأن‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬فعلًا،‭ ‬ربما‭ ‬لأن‭ ‬عمليَّتي‭ ‬التذكر‭ ‬والتخيُّل‭ ‬متطابقتان‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ (‬قراءة‭ ‬الصور،‭ ‬13‭-‬16‭).‬

 

تحقُّق‭ ‬عياني‭ ‬للصور

يبدو‭ ‬الأديب،‭ ‬قارئ‭ ‬الصور،‭ ‬وهو‭ ‬يكتــب‭ ‬قـــراءته‭ ‬هذه‭ ‬كأنه‭ ‬المتلقي‭ ‬الذي‭ ‬تحدَّث‭ ‬عنـــه‭ ‬رومان‭ ‬أنغاردن،‭ ‬فهذا‭ ‬المتلقـــي،‭ ‬كمـــا‭ ‬يـــرى‭ ‬أنغـــاردن،‭ ‬يكمل‭ ‬بنيـــة‭ ‬النص‭ ‬المؤطَّرة،‭ ‬فيعيِّن‭ ‬المواضيع‭ ‬غير‭ ‬المتعيَّنة،‭ ‬ويملأ‭ ‬الفراغات‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬النص‭ ‬الزمنية،‭ ‬فيُجري‭ ‬ما‭ ‬يُسمى‭ ‬بعمليات‭ ‬التحقُّق‭ ‬العياني،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬هذه‭ ‬العمليات‭ ‬لا‭ ‬يبزغ‭ ‬النص‭ ‬الجمالي‭.‬

عمليات‭ ‬التحقُّق‭ ‬العياني‭ ‬تقتضي‭ ‬من‭ ‬القارئ‭ - ‬قارئ‭ ‬الصور،‭ ‬جبريل‭ - ‬أن‭ ‬يُعمل‭ ‬خياله،‭ ‬وأن‭ ‬يجري‭ ‬قراءة‭ ‬إبداعية‭.‬

وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬جبريل‭ ‬يجري‭ ‬عمليات‭ ‬تحقُّق‭ ‬عياني‭ ‬للصور،‭ ‬يُعمل‭ ‬فيها‭ ‬تذكُّره‭ ‬وخياله،‭ ‬فيبدع‭ ‬نصًّا‭ ‬مرجعه‭ ‬نصٌّ‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬الصور‭ ‬ذات‭ ‬المرجع‭ ‬الحياتي‭ ‬المعيش‭. ‬وهذه‭ ‬عملية‭ ‬إبداع‭ ‬مركّبة‭ ‬تتخذ‭ ‬شكل‭ ‬الحكاية‭ - ‬الحدوتة‭/ ‬الحديث‭ ‬الطلي‭ ‬الممتع،‭ ‬وهذه‭ ‬خصوصية‭ ‬يتميز‭ ‬بها‭ ‬سرد‭ ‬جبريل‭ ‬بعامة،‭ ‬ما‭ ‬يتيح‭ ‬القول‭: ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬السيرة‭ ‬جديد‭ ‬يمتد‭ ‬في‭ ‬جذوره‭ ‬إلى‭ ‬السرد‭ ‬التراثي،‭ ‬تنبته‭ ‬تجربة‭ ‬حياتية‭ ‬أدبية‭ ‬تريد‭ ‬لما‭ ‬يُستحضر‭ ‬من‭ ‬الماضي‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬ما‭ ‬يجـــري‭ ‬بما‭ ‬جرى،‭ ‬وأن‭ ‬يجعــــل‭ ‬من‭ ‬الماضي‭ ‬الذي‭ ‬جرى‭ ‬حاضرًا‭ ‬في‭ ‬حاضر‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬يُلجئ‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الماضي،‭ ‬كأنه‭ ‬الملاذ‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬نقُل‭ ‬الرّحم‭ ‬الذي‭ ‬يبقى‭ ‬المكان‭ ‬الأول‭ ‬والأخير‭ ‬للإنسان‭ ‬