سعاد محمد صوت كبير حاصره الطابع الكلثومي
لا شكّ في أنّ التحاق الصوت النسائي الكبير (فيروز) المبكّر بالمؤسسة الرحبانية، وتحوّله إلى واحد من الثالوث الذي شكّل هذه الظاهرة الموسيقية قد أدّى دورًا في حجب الشهرة عن عدد من الأصوات اللبنانية القادرة، كانت لها إسهامات بنهضة الموسيقى العربية في منتصف القرن العشرين بين القاهرة وبيروت، وإن كان الصوت الكبير الوحيد الذي عرف كيف ينتزع حقّه من الشهرة، خلال فترة العطاء وبعد الرحيل، هو صوت صباح. أما الكوكبة الأخرى التي لحقها الظلم في أثناء العطاء وبعد الرحيل، فتضمّ مجموعة يقف على رأسها بلا أدنى شك الصوتان النسائيان اللبنانيان، سعاد محمد ونور الهدى، إلى جانب أصوات مهمّة أخرى، مثل نجاح سلام ووداد.
سنخصص هذا المقال لصوت المطربة الكبيرة سعاد محمد، آملين أن يكشف النقاد والمؤرّخون في وقت لاحق قيمة صوتها وعطائه، إلى جانب زميلاتها الأخريات في يوم غير بعيد، يوم تستعيد النهضة الموسيقية العربية انطلاقتها، بعد طول خمود.
اسمها الحقيقي سعاد محمد المصري، كدلالة على أصولها المصرية، التي طبعت صوتها وأداءها، رغم هجرة عائلتها من مصر إلى لبنان.
لمع صوت سعاد محمد في وقت مبكّر من عمرها كسائر الأصوات الكبيرة النسائية والرجالية، وكان الموسيقار اللبناني توفيق الباشا، يروي لي كيف أنه تنبّه منذ وقت مبكّر إلى الأهمية الاستثنائية لصوت سعاد محمد، عندما كانت تؤدي رائعة أم كلثوم (من ألحان محمد القصبجي) «ليه تلاوعيني وانتِ نور عيني»، عندما كانت تتجاوز سنواتها العشر بسنتين فقط. وقد ظلّ لهذه العلاقة المبكّرة أثرها المهم عندما عادت سعاد من هجرتها الأولى إلى مصر، لتعاود مزاولة الغناء في لبنان فترة طويلة، تزوّجت خلالها الشاعر الغنائي اللبناني محمد علي فتوح، قبل عودتها الثانية إلى القاهرة واستقرارها فيها حتى الرحيل.
اكتشاف مبكّر
قليلون مَن يعلمون أن سعاد محمد انتسبت، في مطلع شبابها الأول بعقد الأربعينيات، إلى رعيل الفنانات اللبنانيات اللواتي ارتحلن مبكرًا إلى القاهرة، بحثًا عن الشهرة، عقب نضج النهضة الموسيقية هناك (بعد سيد درويش)، وارتباط هذه النهضة شديد الإغراء بنهضة الأفلام الغنائية السينمائية، التي كانت تُغري كلّ صوت جميل في العالم العربي، بالانتقال إلى القاهرة، وضمّت كوكبة الراحلين من بيروت إلى القاهرة كلّا من لور دكاش ونور الهدى وصباح وسعاد محمد، وحتى وديع الصافي.
ومما لا شك فيه أنّه قد تم في القاهرة اكتشاف مبكّر لروعة الصوت النسائي القادم من لبنان، دون الاهتمام في البداية بما إذا كانت تتمتّع إلى جانب الموهبة الصوتية، بموهبة تمثيلية، حتى تصلح للقيام ببطولة أفلام غنائية.
وعندما توجّه المنتجون مع نكبة فلسطين في عام 1948 إلى إنتاج أول فيلم عن النكبة (فتاة من فلسطين)، كان اهتمامهم يتركّز، بلا شك، على صوت سعاد محمد المدهش، دون أيّ التفات إلى موهبتها التمثيلية، بدليل القيمة الموسيقية والغنائية للأغاني التي لحّنها كلّ من زكريا أحمد ورياض السنباطي، وهي قيمة الأداء الرائع المبكّر لسعاد محمد، مقارنةً بالتواضع الشديد لمستوى الفيلم ومستوى التمثيل فيه، خاصّة تمثيل النجمة الجديدة.
أصبحت سعاد محمد بهذا الفيلم ثالث فنانة لبنانية تغزو السينما المصرية الغنائية، بأفلام قامت فيها بدور البطولة، بعد نور الهدى وصباح.
أجمل ما غنّت سعاد
ومما لا شكّ فيه أن أداء سعاد محمد الغنائي في هذا الفيلم الأول، قد غطّى على ضحالة موهبتها التمثيلية، الأمر الذي أدّى بعد ذلك بسنوات قليلة، إلى إعادة استقطابها لفيلم ثانٍ تولّى التلحين فيه كلٌّ من زكريا أحمد ورياض السنباطي ومحمود الشريف، وقدّمت فيه سعاد بعضًا من أجمل ما غنّت في حياتها، مثل قصيدة «أنا وحدي» (عنوان الفيلم) من ألحان السنباطي، و«فتح الهوى شبّاك» له أيضًا.
وأدت سعاد في الفيلم نفسه من ألحان العبقري المظلوم الآخر محمود الشريف لحنه الرائع، واحدة من أجمل ما غنّت سعاد في حياتها:
«مين السّبب في الحب... القلب والّا العين»؟
لكن من سوء حظ سعاد أن الروعة التي وصلت إليها في أدائها الغنائي، لملحّنين من الكبار، قد تراجعت أمام الضعف الشديد لموهبتها التمثيلية، فكان «أنا وحدي» ثاني وآخر أفلامها في القاهرة، ولم يُكتب لها أن تُظهر صوتها في أفلام جماهيرية، كما فعلت زميلتاها اللبنانيتان نور الهدى وصباح.
ولعلّ التنقّل بين القاهرة وبيروت في ذلك الوقت المبكر، قد جمع بين صوت سعاد محمد الكبير، وواحد من أنجب المواهب الموسيقية السورية الشابة في النصف الثاني من عقد الأربعينيات، هو محمد محسن (الناشف)، ومع أن هذا اللقاء قد أثمر عددًا قليلاً من الأغاني، فإن موهبة محمد محسن التلحينيّة المتأثرة بوضوح بالموسيقار الكبير رياض السنباطي، وعبقرية سعاد الغنائية قد وقعتا في أسر الطابع الكلثومي بالغناء النسائي منذ البداية، مع أنه أنتج ثلاثة من أروع ما لحّن محسن، وأروع ما غنّت سعاد طوال حياتها: دمعة على خد الزمن، والعمر يوم، ومظلومة يا ناس، المتأثّرة كثيرًا برائعة أم كلثوم والسنباطي «ظلموني الناس».
وبعد النجاح المدهش لهذه الأغنيات المبكّرة، وبعد فشل سعاد السينمائي الواضح، رغم روعة صوتها في أغاني فيلميها الأوّلين والأخيرين، وربما ظروف أخرى أيضًا، أدى ذلك إلى عودة سعاد للاستقرار في بيروت.
خامة عبقرية
حتى ذلك الوقت من نجاح سعاد محمد المبكّر في لفت الأنظار والأسماع إلى عبقرية خامتها الصوتية وأدائها الغنائي، فإنّ الذين دهشوا لهذه الظاهرة الغنائية الجديدة، تنبّهوا إلى أن عبقرية الصوت والأداء لدى سعاد محمد، هي الابنة الشرعية للطابع الكلثومي، سواء في طبيعة الصوت، أو في الأداء الغنائي، مما دفع الملحن الكبير حليم الرومي إلى أن يمنح صوت سعاد لحنه الخالد «إذا الشعب يومًا أراد الحياة»، ويبدو أن ذلك الاكتشاف قد أسعدَ سعاد إلى درجة أنّها بدل أن تتابع رسم خطّ مستقبل في الغناء عن الطابع الكلثومي الباهر، فإنّها غرقت في ذلك التشابه، فراحت تخصّص ظهورها الفني لإعادة أداء ما يشتهر جماهيريًا من أغنيات أم كلثوم، وذلك في الحفلات الرائعة التي كانت تقدّمها في الملاهي الليلية. وقد قدّر لي أن أستمتع بعدد من هذه السهرات الغنائية التي تؤدي فيها سعاد بعبقرية صوتية، أغنيات مثل «شمس الأصيل»، و«عوّدت عيني»، وغيرها من روائع السنباطي لصوت أم كلثوم العبقري.
وما كان هذا هو التشابه الوحيد بين الطابع الكلثومي والطابع الذي التزمت به سعاد، بل إنها حتى عندما كان يجتهد عدد من الملحنين بالتعاون معها، كانت تتّجه في أغنياتها الخاصة إلى الاستمرار في الاستغراق بالطابع الكلثومي.
وقد تنبّهت سعاد، في وقت متأخر جدًا من حياتها الفنية، إلى أنّها قد استغرقت في اللون الكلثومي بطريقة مُبالغ فيها، أدت إلى محاصرة خصوصية الإبداع الغنائي العبقري الذي كانت تؤديه بصوتها الكبير.
ففي بيروت مثلًا، حظيت سعاد باهتمام أحد مكتشفيها الأوائل، توفيق الباشا، الذي كان يبذل جهودًا واضحة في إعادة صياغة عدد من تحف التراث الموسيقي العربي صياغة جديدة، من الموشحات والأدوار، فأتحفنا بصوت سعاد الكبير بأداء رائع لدور «أنا هويت» لسيّد درويش، فجاء تحفة غنائية جديدة لهذا الدور التراثي.
وقد روت سعاد محمد لشقيقي المايسترو سليم سحّاب، أنها عندما حملت تسجيلها لأداء دور «أنا هويت» بصياغة توفيق الباشا، إلى الموسيقار محمد عبدالوهاب، أدّت دهشة عبدالوهاب بما سمع، إلى أن يخاطب سعاد بقوله: «يا مُجرمة»!
سعاد وعبدالوهاب
والحقيقة أن سعاد، رغم اهتمام كلّ من زكريا أحمد والسنباطي بصوتها، وتقديمهما لها بعض روائع ألحانهما، فإنّها كانت تتمنّى أن تجمع إلى ذلك ولو لحنًا كبيرًا واحدًا من محمد عبدالوهاب. ولعلّها كانت تقصد ذلك عندما أسمعته تسجيل دور «أنا هويت»، كما أنّني استمعت في الخمسينيات إلى مشاركة لسعاد في برنامج «على الناصية» المصري الشهير، فطلبت الاستماع إلى رائعة عبدالوهاب الجديدة وقتها «بافكّر في اللي ناسيني»، ودعت عبدالوهاب إلى أن يعاود نشاطه ويقدّم لنا روائع جديدة مثلها، وكان ينقص هذا الحديث (خجلًا) أن تضيف سعاد: «وأنا مستعدة للغناء».
لكنّها في خلال عودتها أكثر من مرة للإقامة في بيروت، حظيت باهتمام توفيق الباشا، الذي كان يهتم بتقديم نماذج من الألحان العربية الجادة، من خلال صوتين كبيرين هما صوتا نور الهدى وسعاد، فاستمعنا بصوت الأخيرة إلى عدد من الموشّحات التراثية، التي أعاد صياغتها الباشا، وكان أجملها بصوت سعاد موشح «ملا الكاسات» محمد عثمان، و«ما احتيالي» لأبو خليل القباني.
كمّا أن الباشا وضع لها لحنًا جميلًا يتراوح بين الطابع المصري واللبناني، وهي أغنية «أجمل سلام».
وقد أتيح لسعاد أن تقدّم في القاهرة بعض نجاحاتها الغنائية، مثل لحن «أوعدك» لمحمد سلطان، الذي تفوّق فيه على ألحانه لزوجته فايزة أحمد، ثم إعادة تقديم لحن رائع لفريد الأطرش «بقى عايز تنساني»، برأيي أنّها تفوّقت في أدائه على صاحب الأغنية الأصلي.
غير أن ذروة ما حظيت به سعاد في القاهرة، هي الأغنية الاستثنائية لصوتها, القصيدة التي لحّنها لها الموسيقار رياض السنباطي من أشعار محمود حسن إسماعيل (شاعر النهر الخالد ودعاء الشرق لعبدالوهاب): قومي إلى الصلاة، وهي رائعة موجّهة إلى القدس، بعد وقوعها في نير الاحتلال عام 1967. وقد تكون هذه التحفة الفنيّة أروع ما قدّمته سعاد إثباتًا لقيمة صوتها الاستثنائي ولتجارب عباقرة الموسيقى مع هذا الصوت.
أبرز الأصوات النسائية
خلاصة القول أن صوت سعاد محمد هو بين أبرز الأصوات النسائية التي عرفها الغناء العربي في القرن العشرين، وإن صاحبة هذا الصوت قد ظلمته بإبقائه في أسر الطابع الكلثومي الغنائي، على عظمة هذا الطابع طبعًا، لكنّ ذلك الأسر بقي قيدًا يحجب عن المستمع العربي خصوصية صوت نسائي كبير هو صوت سعاد محمد.
وشاءت الظروف أن تقدم لسعاد محمد، وهي تعيش شيخوختها الإنسانية والفنية في القاهرة، مناسبة تقدّم فيها مشهدًا تاريخيًا تؤدي فيه خلاصة لائقة بتاريخيها الفني المجيد، فقد أتيح لسعاد أن تقدّم حفلة أولى وأخيرة في دار الأوبرا بالقاهرة، فصعدت إلى المسرح بشيخوختها الجليلة وهي ترتدي النظارات الطبية، فكان استقبال جمهور القاهرة لها تاريخيًا في حفلة قدّمت فيها أغنيتين فقط، كأنهما خلاصة مفيدة وقيّمة لما قدّمته من غناء مجيد طوال حياتها الفنية، وذلك تحت قيادة المايسترو سليم سحاب الذي يعشق صوت سعاد ويقدّره عظيم التقدير، حيث كان استقبال جمهور دار أوبرا القاهرة لها تاريخيًا في الأغنيتين التي أحسنت اختيارهما للتقديم في تلك الحفلة التاريخية، وكأنها تقدّم خلاصة لكلّ ما قدّمته في حياتها، فأدت لحن الملحن الكبير أحمد صدقي الخاص بها:
من غير حب الدنيا دي إيه
من غير حب نعيش على إيه
ثم ختمت الحفلة برائعة زكريا أحمد الأخيرة لأم كلثوم «الهوى غلّاب». وقد
كانت حرارة استقبال جمهور دار الأوبرا لسعاد محمد في البداية وفي النهاية مشهدًا
تاريخيًا ختاميًا يليق بسعاد محمد وكلّ ما قدّمت، ختمه المايسترو سحاب بالانحناء وتقبيل يد المطربة التي وصفها بأنّها صاحبة الصوت العظيم ■