حسن الإمام السينما الرومانسـية تمتزج بالمآسي الاجتماعية
أكثر من 100 عام مضت على ميلاد مخرج الروائع حسن الإمام، الذي رحل تاركًا تراثًا سينمائيًا ذا سمات خاصة. وُلد عام 1919 ورحل في عام 1988، وبين الميلاد والرحيل مسيرة فنيّة غنيّة بالعمل والتفرّد، قدّم خلالها أعمالًا مائزةً وضعت اسمه بين كبار مخرجي السينما العربية.
منذ أن رشّحه صلاح أبو سيف لإخراج فيلم زقاق المدق لنجيب محفوظ، عن الرواية التي تحمل الاسم نفسه، ثم إخراجه ثلاثة أفلام أخرى عن «الثلاثية»؛ أصبح ضمن أبرز مخرجي الواقعيّة في ستينيات القرن الماضي.
بلغ عدد الأفلام التي أخرجها حسن الإمام حوالي 100 فيلم جعلته من أكثر مخرجي السينما غزارة، يأتي بعده مخرجون كبار من أمثال هنري بركات، وفطين عبدالوهاب، وصلاح أبو سيف. وإن كان عدد الأفلام ليس معيارًا للقيمة الفنيّة، إلّا أن الإمام قدّم عديدًا من الأعمال المهمة التي جعلته واحدًا من أهمّ المخرجين في السينما المصرية، لاسيّما أنه اهتمّ بقضايا الإنسان في المجتمع.
لم يُطلق عليه لقب مخرج الروائع من فراغ؛ فقد استطاع أن يحوز الاهتمام بمجموعة كبيرة من الأفلام الروائية التي تناولت - في مراحل مختلفة - حيوات الإنسان وما يمرّ به من صراعات وطموح ورؤى متباينة للواقع الذي يعيشه، ولذلك قدّم سمات إنسانيّة منبثقة عن وعي حقيقي بالواقع وبالإنسان. والمتأمّل لشخصياته يلمح تعدّد الوجوه واختلافها، فنجد صورة المرأة الضحية، والرجل الازدواجي، والمستكبر المختال، والابن العاقّ، وغيرها من سمات أدهشت المشاهد.
لذا، فإنّ أعماله تحفل بشخصيات مفارقة للواقع وتسعى إلى تأكيد كينونتها ووجودها عبْر المثابرة والدأب في دروب الحياة، رغم ما تعانيه في واقعها المرير مثل «زوزو»، و«أميرة». وهناك شخصيات أخرى تجنح باختيارها إلى انحراف أخلاقي نتيجة إصابتها بآفة الاستعلاء وزيف الفحولة المفتعلة، مثل السيد أحمد عبدالجواد.
تناقضات لافتة
جاءت الدهشة والانجذاب إلى شخصياته وعوالمها من خلال مفارقات اجتماعية عبّرت عن تناقضات لافتة؛ لاسيما في التكوين النفسي والدرامي، كما في فيلم «بائعة الخبز»، وأثر موقف المجتمع من زينب في «خلّي بالك من زوزو»، والسلطانة في «سلطانة الطرب»، حيث جاءت النظرة السلبية تجاه المرأة رغم معاناتها، وأيضًا شخصيتا السيد أحمد عبدالجواد، وياسين في «الثلاثية»، إذ لفت الأول الأنظار بمفهومه الضيّق للمرأة وازدواجية هذه النظرة، سواء كانت المرأة زوجة أو ابنة أو صديقة. أمّا ياسين فقد عبّر عن نظرة كلاسيكية تعبّر عن فحولة بدائية لا ترى المرأة إلّا من هذه الزاوية.
وقد تناولت أفلامه قضايا الإنسان وأزماته في الحياة، فجاءت الشخصيات نماذج معبّرة عن الإنسان في مراحل زمنية مختلفة وظروف اجتماعية متباينة، وعبّرت الأفلام عن أزمات إنسانية محددة في كل مرحلة زمنية، أي أنّ المرحلة التاريخية التي عبّرت عنها شخصيات مثل أمينة، والسيد أحمد عبدالجواد، وكمال، وفهمي في «الثلاثية»؛ اختلفت عنها كليّة مثيلاتها التي تعيش واقعًا مغايرًا في حقبة زمنية أخرى، كما في أفلامه خلال السبعينيات والثمانينيات.
وعلى سبيل المثال يتناول فيلم «زقاق المدق» أزمة الإنسان مع الواقع من خلال شخصية حميدة التي تتطلّع إلى التحقق والثراء بحسب وعيها، ولم تكن المرأة في تلك الفترة بدأت انطلاقتها نحو المدارس والجامعات وميادين العمل، وبالتالي يتّضح الأثر السلبي الناتج عن تأخُّر التعليم وتأثيره على مصيرها، حيث تتكشف الثقافة السطحية للمرأة وقلّة وعيها.
تنوّع وثراء
كذلك تعبّر أفلام «بين القصرين» (1964)، و«قصر الشوق» (1967)، و«السكّرية» (1974) عمّا تمرّ به المرأة من غياب لدورها، وعدم وجود فاعلية حقيقية لها في المجتمع خلال تلك الفترة، حيث كان دورها يقتصر على الدور التقليدي في البيت ورعاية الأولاد.
تميّزت تجربة الإمام بالتنوع والثراء، بسبب مروره بمراحل فنيّة مختلفة اهتم خلالها بالقصص المأسوية، والسينما الواقعية، والأفلام الغنائية.
وتميّزت هذه الأعمال - في كل اتجاهاتها ومراحلها - بالاحتفاء بقضايا البسطاء، والتعبير بصدق عن الحدث الدرامي وسلوك الشخصيات. واستمرت رحلته الفنية نحو 40 عامًا بدأها عام 1947 بفيلمي «ملائكة في جهنم»، و«الستات عفاريت»، واختتمها عام 1986 بفيلمي «عصر الحب»، و«بكره أحلى من النهاردة»، وتميّز بكتابة قصص وسيناريوهات كثير من أفلامه للتعبير عن وجهة نظره في القضايا التي يتناولها. وتم اختيار ثلاثة من أفلامه في قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، هي «خلي بالك من زوزو»، و«الخطايا»، و«بين القصرين».
تحتفظ الذاكرة الشعبية بعديد من الأفلام التي أخرجها حسن الإمام، وترتبط في الوعي الجمعي بأحداث ومواقف وأزمات مرّ بها المصريّون على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، وتمثّل في الوقت نفسه بصمة خاصة، فلا يذكر اسمه إلّا وتقفز إلى الذّاكرة أفلامه عن ثلاثية نجيب محفوظ، التي بدت كتوثيق سينمائي لمرحلة سياسية واجتماعية من تاريخ المجتمع المصري.
رؤية فنيّة واعية
كذلك أفلام «بائعة الخبز» (1953)، و«التلميذة» و«الخرساء» (1961)، و«شفيقة القبطية» (1963)، و«الراهبة» (1965)، و«بمبة كشّر» (1974)، و«بالوالدين إحسانًا» (1976)، وغيرها من أفلام ترسّخت في الوجدان وخاطبت المشاعر الإنسانية.
لفت الأنظار مبكرًا من خلال فيلم «اليتيمتين» (1948) من بطولة فاتن حمامة وثريا حلمي، وهو الفيلم الثالث في مسيرته، من تأليف هنري بركات، وشارك الإمام في كتابته. تضمّن مشاهد تمثيلية مؤثرة اعتمدت على قدرات إخراجية كبيرة نابعة عن رؤية فنيّة واعية، وسيناريو متماسك فنيًا، حيث جعل الشخصية المحورية نعمت تمرُّ بمآزق عديدة، بدأت من تركها طفلة رضيعة أمام الجامع، ثم رحيل الرجل الطيب الذي قام على رعايتها، ثم سعيها من أجل قوت يومها، وحتى فقدان بصرها ووقوعها في قبضة امرأة بلا ضمير، مما يجعل مأساة البطلة أكثر بروزًا وإلحاحًا، ويجعل المشاهد متعاطفًا معها ومتفاعلًا بصورة كبيرة. وهو الهدف من تآزر صور القهر التي يصوغها الفيلم.
السينما وحركة المجتمع
ترتبط أفلام الإمام بحركة المجتمع وتفاصيله من خلال تداخل السياسي مع الاجتماعي، وتقاطع الشخصي بالعام، ورصْد ردود الأفعال تجاه ما تمرّ به الشخصيات المحورية من مآزق وأحداث، وهو ما جعل البسطاء يقتربون من عالمه ويجدون أنفسهم في أفلامه ويشعرون بأبطاله، واستطاع بقدرته الفنيّة أن يصل بالممثل إلى أعلى درجة من المصداقية؛ فكم بكى المشاهدون في مشاهد إنسانية تعرّضت فيها الشخصيات للعنف النفسي، كما في فيلم «الخطايا»، وكم استاء الناس من السخرية التي تعرّض لها الفقراء بمجتمع الأثرياء في فيلم «خلي بالك من زوزو»، والحزن من عقوق الوالدين في فيلم «وبالوالدين إحسانًا»... وغيرها؛ ذلك أن الإمام من أهمّ المخرجين الذين ترتكز أعمالهم على المشاعر الإنسانية ومخاطبة الوجدان. تضطلع غالبية أفلامه بمهمة التعبير عن هموم الناس وأزماتهم من خلال قصصهم ويومياتهم، وينأى بأفلامه عن التجريد وهاجس الصورة كلوحة تشكيلية، فتنبع أهمية الصورة من مقتضيات التكوين الذي يتشكّل في الأساس من الصراع الدرامي وهموم الشخصيات.
اهتم أيضًا منذ بداية مسيرته الفنية بتقديم الأفلام المأسوية، مثل «أسرار الناس»، و«حُكم القوي»، و«كاس العذاب»، و«غضب الوالدين»، و«في شرع مين» وغيرها، حيث اهتم بالحالات الإنسانية التي تصطدم فيها الصفات الحميدة بالمعاناة، متكئًا على مرور الشخصيات - لا سيما المرأة - بمآزق الحياة، وهو ما ظهر جليًا في أفلام «أنا بنت ناس»، و«الخرساء»، و«ظلموني الناس»، و«أنا بنت مين»، وغيرها، فضلًا عن فيلمي «الخطايا»، و«ابن مين في المجتمع»، حيث اتّسمت الرؤية فيهما بالتعبير عن صورة الرجل الذي يعاني حالة التشتت والضياع.
أزمة وجود ومصير
تتلخص الرؤية الفنية لجلّ أفلام الإمام المأسوية بأحداث تتعلّق بشخصية بطل محوري يمرّ بأزمة وجود تتجاوز كل المشكلات الطارئة التي تكون فيها الحبيبة أو الصديق أو الزوجة أو السلطة... إلخ، طرفها الآخر؛ إلى مشكلة تتعلّق بالمصير.
فثمة معاناة حقيقية تمرّ بها شخصية البطل وتهدد مصيره بغدٍ معتم لا يكون له فيه اسم أو عائلة أو نسب، أو السقوط الاجتماعي كنعيمة في «وكر الملذات»، وزينب في «خلي بالك من زوزو»، وأميرة في «أميرة حبي أنا»، ونعمت في «اليتيمتين»، وعفاف في «سلطانة الطرب»، وحمادة الحلواني في «ابن مين في المجتمع»، وغيرها من شخصيات تعاني سقوطًا اجتماعيًا نجده انشغل بها وبمصائرها في أعماله.
يتناول فيلم «اليتيمتين» - على سبيل المثال - ثيمة فنيّة تمتزج فيها تجليات الضعف الإنساني من فقر، وفقد، وعجز، ووحدة، في مقابل الانتهازية والجبروت وعدم الإنسانية، ويكشف الفيلم عن شكل مختلف من أشكال القهر، يقوم على قهر المرأة للمرأة من جهة، وتضافر كل الظروف المواتية لإنتاج ثيمة من جهة أخرى. فنعمت وُجدت أمام الجامع (إشارة إلى أنها قد تكون طفلة غير شرعية)، وعندما يموت الرجل الذي قام على رعايتها؛ فإنّها تعود إلى الشارع مرّة أخرى سعيًا من أجل قوت يومها، وتصاب بفقدان بصرها، وتقع بين يدي امرأة شريرة. كلّ هذه الضغوط والتعدد في أشكال القهر كان له أثر كبير في بلورة الحالة الإنسانية التي تعبّر عنها الشخصية.
هاجس إثبات الوجود
في تصوري أن الرؤية الفنية في هذا الفيلم لا تختلف عن فيلم «الخطايا» (1962) من بطولة عبدالحليم حافظ، فالتطور الدرامي لشخصية نعمت قريب التشابه - إلى حدّ ما - مع التطور الدرامي لشخصية حسين، فكلاهما يعاني اليُتم، والفقد، بسبب غياب الأب، كذلك شخصية حمادة الحلواني في فيلم «ابن مين في المجتمع»، وعفاف في «سلطانة الطرب». والثيمة نفسها موجودة في كثير من أفلام الإمام، بما يكشف عن انشغال خاص بمصائر شخصيات تمرّ بأزمات اجتماعية. يتوقف «الخطايا» عند حالة إنسانية شديدة التعقيد لشاب مقبل على الحياة يُصدم بواقع مرير، حيث تحرمه الظروف من أمّه وأخيه وحبيبته، ويصبح بلا مأوى.
وإذا نظرنا إلى بناء الشخصية، سنجد أنّ نعمت واجهت جبروت المرأة صاحبة القلب المتحجر، وواجه حسين في «الخطايا» جبروت الأب الذي سئم تمثيل الدور، ولم يستطع كبح جموح ذاته المتصلبّة إزاء ابنه بالتبنّي، ليواجه حسين التشرد والوحدة والفقد. وفي «أميرة حبّي أنا» (1974) تقع أميرة في مشكلة الاعتراف بها زوجة، وتعاني الشخصيات في أفلام «بائعة الخبز»، والتلميذة»، و«بالوالدين إحسانًا»، و«ابن مين في المجتمع»، وغيرها أزمات مشابهة، ويكاد هاجس إثبات الوجود وتحرّي المصير يكون هو المسيطر على جلّ أفلامه، إذ تعاني الشخصيات أزمات النّسَب والسقوط الاجتماعي والفقد.
سينما المآزق الإنسانية
حينما انتقل الإمام إلى مراحل أخرى في مسيرته الفنية، سواء مرحلة السينما الواقعية في الستينيات، أو مرحلة الأفلام الغنائية في السبعينيات؛ لم يبتعد عن المآسي الإنسانية، لاسيما المتعلّقة بقهر المرأة، وإذا كانت أعماله قد ارتبطت في حقبتي الأربعينيات والخمسينيات بهذه الهواجس؛ فإنّها لازمت عالمه الفني حتى في المراحل الأخرى، وظلّ التعبير عن الفواجِع بأغلب أعماله حتى الغنائية منها، فقد تمحورت أيضًا حول ظروف مأسويّة تمرّ بها المرأة، مثل فيلم «حكايتي مع الزمان» (1973)، و«أميرة حبّي أنا» (1974) وغيرها من الأفلام التي امتزجت فيها الأغنية بالاستعراض، ولاقت نجاحًا كبيرًا، مثل «خلي بالك من زوزو».
ملمح أساسي
من السمات الفريدة التي تشكّل ملمحًا أساسيًا في سينما حسن الإمام؛ أنه يمزج بين الرومانسية والمأساة، فمن ذروة الألم والإحساس بالغبن تتولّد الرومانسية لتخفّف من وطأة الأيام وبؤسها، ولتشعرنا بقيمة الحياة ودفء الإحساس بالحب الذي يُعين على مواجهة المشقّات والمصاعب، ونجد هذا البناء الدرامي في كثير من أفلامه، مثل «اليتيمتين»، حيث أحبت نعمت حسونة في ذروة إحساسها بالظلم والألم النفسي. وفي «خلّي بالك من زوزو»، أحبت زوزو سعيد كامل، رغم ما تعانيه في الجامعة من زملائها الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء عليها، وفي فيلم «أميرة حبّي أنا» وقعت أميرة في حب عادل، رغم ظروفها الحياتية وصعوبة العيش ويُتمها وتولّيها مسؤولية الإنفاق على الأسرة، كذلك الحال في أفلام «الخرساء»، و«بياعة الجرايد»، و«حب وكبرياء»، و«ابن مين في المجتمع»، وحتى «عصر الحب» الذي اصطدمت فيه الرومانسية بحدّة الزمن.
تعبّر الثيمات الفنية لكثير من أفلام الإمام عن هذا الاتجاه، حتى في الثلاثية كانت أزمة المجتمع في الوجود والاستقلال، وعبّرت غالبية الشخصيات عن أزمة وجودها في خضم ظروف اجتماعية وسياسية معيّنة. وفي «اليتيمتين» كانت نجمة إبراهيم تحاول هدم شخصية الفتاة، وتسعى إلى صُنع شخصية أخرى، متسولة، في حين أبت الفتاة وسعت إلى خَلاصها والحفاظ على كينونتها، رغم الضعف وقلّة الحيلة، كذلك حاول عماد حمدي هدم ابنه بالتبني، بالإفصاح عن حقيقة قديمة لا معنى لذكرها، الأمر نفسه نلحظه في أفلام أخرى، مثل «ظلموني الناس»، و«أنا بنت مين».
لم تسيطر ثيمة المأساة على أفلام الإمام الأولى في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته فحسْب، مثل أفلام «البوسطجي»، و«ظلموني الناس»، و«حُكم القوي»، و«غضب الوالدين»، و«وكر الملذات»، و«بائعة الخبز»، وغيرها؛ إنما استمرت هذه الثيمة حتى في أفلامه الواقعية في الستينيات، وكانت مؤشرًا قويًا على ارتباط أعماله بالفواجع وعدم التخلي عن مآسي الشخصيات، وظهر ذلك في عديد من الأفلام، مثل «زقاق المدق»، و«بياعة الجرايد»، و«بين القصرين»، و«قصر الشوق»، وغيرها. وحتى في الأفلام الغنائية والاستعراضية التي استهلها بفيلم «الخطايا»؛ لم يبتعد أيضًا عن فكرة المأساة، وبدا ذلك بوضوح في «خلي بالك من زوزو»، و«أميرة حبي أنا»، و«حكايتي مع الزمان»، و«سلطانة الطرب»، و«ابن مين في المجتمع» ■