الطفيلي والـ «نيولبرالية»

الطفيلي والـ «نيولبرالية»

قال‭ ‬بونج‭ ‬جون‭ - ‬هو؛‭ ‬مؤلف‭ ‬ومخرج‭ ‬فيلم‭ ‬الطفيلي،‭ (‬2019‭)‬،‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬تصريحاته‭ ‬الصحفية،‭ ‬قبل‭ ‬حصول‭ ‬الفيلم‭ ‬على‭ ‬جائزتي‭ ‬السعفة‭ ‬الذهبية‭ ‬لمهرجان‭ ‬كان‭ ‬2019،‭ ‬وأوسكار‭ ‬أفضل‭ ‬فيلم‭ ‬لعام‭ ‬2020،‭ ‬وبعده،‭ ‬إنه‭ ‬صمّم‭ ‬الفيلم،‭ ‬دراميًا،‭ ‬وبصريًا،‭ ‬اعتمادًا‭ ‬على‭ ‬ثيمة‭ ‬‮«‬السلالم»؛‭ ‬واستخدمها‭ ‬كنوع‭ ‬من‭ ‬المكافئ‭ ‬الدرامي‭ ‬والبصري‭ ‬للاختلالات‭ ‬الطبقية،‭ ‬والتغيرات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تحدُث‭ ‬في‭ ‬المجتمع؛‭ ‬في‭ ‬كوريا‭ ‬الجنوبية‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬وفي‭ ‬بقيّة‭ ‬المجتمعات‭ ‬الرأسمالية‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭.‬

هذا‭ ‬تفسير‭ ‬لما‭ ‬شاهدناه‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬السلالم،‭ ‬وكثرة‭ ‬اللعب‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬السلالم؛‭ ‬منذ‭ ‬المشهد‭ ‬الافتتاحي،‭ ‬الذي‭ ‬نرى‭ ‬فيه‭ ‬أسرة‭ ‬كيم‭ ‬الفقيرة‭ (‬وهم‭ ‬أساسًا‭ ‬من‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬التي‭ ‬انضمّت‭ ‬إلى‭ ‬فئة‭ ‬الشحاذين‭ ‬بعد‭ ‬إفلاس‭ ‬مشروع‭ ‬المطعم‭ ‬الذي‭ ‬افتتحه‭ ‬الأب‭ ‬كيم‭)‬،‭ ‬تلك‭ ‬الأسرة‭ ‬التي‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬قبو‭ ‬سُفلي،‭ ‬تحت‭ ‬مستوى‭ ‬سطح‭ ‬الأرض،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬تحت‭ ‬مستوى‭ ‬المرحاض،‭ ‬الذي‭ ‬يلزم‭ ‬الصعود‭ ‬إليه‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬سلّم،‭ ‬مرورًا‭ ‬بعائلة‭ ‬بارك‭ ‬الغنيّة،‭ ‬التي‭ ‬يضطرّ‭ ‬الزائر‭ ‬لقصرهم‭ ‬للصعود‭ ‬لعدّة‭ ‬سلالم‭ ‬حتى‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬الداخل‭.‬

والقبو‭ ‬السرّي‭ ‬الموجود‭ ‬أسفل‭ ‬القصر،‭ ‬والذي‭ ‬يلزم‭ ‬النزول‭ ‬إليه‭ ‬بسلالم؛‭ ‬والمبني‭ ‬أساسًا‭ ‬بغرض‭ ‬أن‭ ‬يختبئ‭ ‬فيه‭ ‬أصحاب‭ ‬الدار‭ ‬من‭ ‬الدائنين،‭ ‬إن‭ ‬حدث‭ ‬وأفلسوا‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام،‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭ ‬نفسها،‭ ‬التي‭ ‬رأينا‭ ‬عائلة‭ ‬كيم‭ ‬الفقيرة‭ ‬تهرع‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬سلّم‭ ‬إلى‭ ‬سلّم،‭ ‬عبر‭ ‬سيول‭ ‬الأمطار‭ ‬التي‭ ‬أغرقت‭ ‬أحياء‭ ‬الفقراء‭ ‬والطبقة‭ ‬الوسطى‭.‬

‭ ‬فكرة‭ ‬السلالم‭ ‬فكرة‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬الصراع‭ ‬والتناحر‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلّا‭ ‬منافسة‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬على‭ ‬موقعهم‭ ‬من‭ ‬السلّم‭. ‬لذلك‭ ‬يسمونه‭ ‬‮«‬السّلم‮»‬‭ ‬الاجتماعي‭. ‬والسلم‭ - ‬بطبيعة‭ ‬التعريف‭ - ‬صاعد‭/ ‬هابط،‭ ‬طالع‭/ ‬نازل؛‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬يبذل‭ ‬المرء‭ ‬بعض‭ ‬الجهد‭ ‬لكي‭ ‬يصعد‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أعلى‭ ‬في‭ ‬السلّم،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬تعِد‭ ‬به‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المواطن‭.‬

مفهوم‭ ‬السلم‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬هذا،‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يعجب‭ ‬طبعًا‭ ‬شخصًا‭ ‬ماركسيًا،‭ ‬أو‭ ‬اشتراكيًا،‭ ‬يرى‭ ‬المسألة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬ليس‭ ‬بوصفها‭ ‬سلّمًا‭ ‬صاعدًا‭ ‬هابطًا،‭ ‬وإنّما‭ ‬قلاعًا،‭ ‬وسدودًا،‭ ‬وحواجز،‭ ‬وجدار‭ ‬فصل‭ ‬عنصري‭. ‬

 

‮«‬سوبرماركت‮»‬‭ ‬محمد‭ ‬خان

نحن‭ ‬نشهد،‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬الجهد‭ ‬والعرق‭ ‬الذي‭ ‬يبذله‭ ‬مليارات‭ ‬البَشَر‭ ‬يوميًا،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬يظلّون‭ ‬محلّك‭ ‬سِر،‭ ‬هذا‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يتراجع‭ ‬مستوى‭ ‬معيشتهم‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬لأسباب‭ ‬في‭ ‬أغلبها‭ ‬هيكلية،‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالتكاسُل‭ ‬الفردي،‭ ‬ولا‭ ‬سوء‭ ‬الحظّ‭ ‬القَدري،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬لها‭ ‬علاقة‭ ‬بالسياسات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والمالية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬دخل‭ ‬للأفراد‭ ‬فيها؛‭ ‬فقد‭ ‬تفقد،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬العُملة‭ ‬المحليّة‭ ‬قدرًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬قيمتها،‭ ‬أو‭ ‬تفلس‭ ‬شركات،‭ ‬أو‭ ‬تحدُث‭ ‬أزمة‭ ‬رهونات‭ ‬عقارية،‭ ‬نتيجة‭ ‬تلاعُب‭ ‬وفساد‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬البنوك‭... ‬إلخ،‭ ‬وتكون‭ ‬النتيجة‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬هي‭ ‬فقدان‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬كلّ‭ ‬مدّخراتها،‭ ‬وانضمامها‭ ‬إلى‭ ‬طبقة‭ ‬الفقراء،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬المُعدمين‭. ‬

ويبدو‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬فيلمًا‭ ‬مصريًا‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬محمد‭ ‬خان‭ ‬وشريكه‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬السيناريو‭ ‬عاصم‭ ‬توفيق،‭ ‬هو‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬سوبر‭ ‬ماركت‮»‬،‭ (‬1990‭)‬،‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬وعيًا‭ ‬بكثير،‭ ‬وأصاب‭ ‬كبد‭ ‬الحقيقة‭ ‬حقًا،‭ ‬وفي‭ ‬وقت‭ ‬مبكر‭ ‬جدًا‭ ‬من‭ ‬بدايات‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬نيولبرالية‮»‬‭ (‬أو‭ ‬إن‭ ‬شئت‭ ‬القول‭ ‬الانفتاح‭ ‬الاقتصادي‭ ‬في‭ ‬مصر‭)‬،‭ ‬حين‭ ‬عبّر‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬د‭. ‬عزمي‭ (‬مالك‭ ‬المستشفى‭ ‬الاستثماري‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬يقدّم‭ ‬نصائحه‭ ‬لعازف‭ ‬البيانو‭ ‬رمزي‭ (‬ابن‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭)‬،‭ ‬عن‭ ‬كيف‭ ‬يصبح‭ ‬الإنسان‭ ‬مليونيرًا‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬نيولبرالية‮»‬،‭ ‬حين‭ ‬لخّصها‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬المعادلة‭ ‬التالية‭: ‬ضربة‭ ‬حظ‭ + ‬التنازل‭ ‬الأخلاقي‭ + ‬الاحتكار‭.‬

هذا‭ ‬هو‭ ‬السبيل‭ ‬الوحيد‭ ‬لتجاوز‭ ‬الحصون‭ ‬والسدود‭ ‬وجدران‭ ‬الفصل‭ ‬العنصري‭ ‬بين‭ ‬الطبقات‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الطاغية‭. ‬ليس‭ ‬الأمر،‭ ‬إذن،‭ ‬أمر‭ ‬سلّم‭ ‬طالع‭/ ‬نازل،‭ ‬لكنّها‭ ‬معادلة‭ ‬ثلاثية‭ ‬معروفة،‭ ‬ومضمونة‭ ‬النتيجة‭ ‬لمن‭ ‬جرَّبها‭.‬

بالطبع‭ ‬هناك‭ ‬إشارات‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬الطفيلي‭ ‬عن‭ ‬ملامح‭ ‬مميزة‭ ‬للمجتمع‭ ‬الرأسمالي‭ ‬المعاصر،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬حتى‭ ‬لمخرج‭ ‬نيولبرالي‭ ‬أن‭ ‬يتجاهلها؛‭ ‬من‭ ‬قبيل،‭ ‬مثلًا،‭ ‬أن‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬لا‭ ‬تدخل‭ ‬أحياء‭ ‬الأغنياء‭ ‬إلّا‭ ‬كخدم،‭ ‬أو‭ ‬جائحة‭ ‬إفلاس‭ ‬المشاريع‭ ‬الصغيرة‭ ‬والشركات‭ ‬الناشئة،‭ ‬والتي‭ ‬طالما‭ ‬روّجت‭ ‬الرأسمالية‭ ‬لها‭ ‬كسبيل‭ ‬وحيد‭ ‬أمام‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭ ‬للتّرقّي‭ ‬في‭ ‬السلّم‭ ‬الاجتماعي‭. ‬

إن‭ ‬الأب‭ ‬كيم‭ ‬قد‭ ‬أفلس‭ ‬لأنّ‭ ‬مشروع‭ ‬المطعم‭ ‬الصغير‭ ‬الذي‭ ‬افتتحه‭ ‬فشل،‭ ‬وزوج‭ ‬مدبّرة‭ ‬المنزل‭ ‬القديمة،‭ ‬المختبئ‭ ‬في‭ ‬قبو‭ ‬قصر‭ ‬الأغنياء‭ ‬هربًا‭ ‬من‭ ‬الدائنين،‭ ‬أفلس‭ ‬هو‭ ‬أيضًا،‭ ‬بعد‭ ‬فشل‭ ‬مشروعه‭ ‬الصغير‭.‬

 

فصل‭ ‬عنصري

من‭ ‬ملامح‭ ‬المجتمع‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬نيولبرالي‮»‬‭ ‬التي‭ ‬نراها‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬الفيلم؛‭ ‬مسألة‭ ‬الفصل‭ ‬العنصري‭. ‬وهو‭ ‬فصل‭ ‬عنصري‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬العِرْق،‭ ‬أو‭ ‬الديانة،‭ ‬أو‭ ‬الجنسية،‭ ‬أو‭ ‬اللون،‭ ‬لكنّه‭ ‬فصل‭ ‬عُنصري‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬المال‭. ‬إنّها‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬بتنا‭ ‬نراها‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬من‭ ‬عالَمنا‭ ‬المعاصر،‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬العربية‭. ‬هناك‭ ‬جيتوهات‭ ‬مُسوَّرة‭ ‬يسكُن‭ ‬فيها‭ ‬الأغنياء،‭ ‬معزولة‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬الأحياء‭ ‬الفقيرة‭ ‬والمتدهورة‭ ‬الخدمات‭ ‬التي‭ ‬يسكن‭ ‬فيها‭ ‬بقية‭ ‬السكان‭ ‬من‭ ‬الطبقات‭ ‬الوسطى‭ ‬والفقيرة؛‭ ‬أي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬يسمّيها‭ ‬الفيلم‭ ‬‮«‬الطفيليون‮»‬‭.‬

وهو‭ ‬ما‭ ‬يقودنا‭ ‬إلى‭ ‬ملاحظتنا‭ ‬الثانية‭ ‬الرئيسية؛‭ ‬العنصرية‭ ‬المبثوثة‭ ‬تجاه‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬والفقراء‭ ‬في‭ ‬صلب‭ ‬الفيلم،‭ ‬وفي‭ ‬ثناياه‭ ‬وحواشيه‭. ‬

تقول‭ ‬الأم‭ (‬زوجة‭ ‬كيم‭)‬،‭ ‬بتأكيد‭ ‬حاسم‭ ‬واقتناع‭ ‬جازم،‭ ‬ردًا‭ ‬على‭ ‬ملاحظة‭ ‬لزوجها‭ ‬كيم‭ ‬بأنّ‭ ‬سيدة‭ ‬القصر‭ ‬مهذّبة‭ ‬ولطيفة،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنّها‭ ‬غنيّة‭! ‬تقول‭ ‬الزوجة‭: ‬لا،‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬القول‭ ‬بأنّها‭ ‬لطيفة‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬غنية،‭ ‬بل‭ ‬يجب‭ ‬القول‭ ‬إنها‭ ‬لطيفة‭ ‬لأنّها‭ ‬غنية‭! ‬إن‭ ‬المال‭ ‬يُحسّن‭ ‬الأخلاق‭ ‬ويهذبها،‭ ‬كالمكواة‭ ‬التي‭ ‬تفردُ‭ ‬تجاعيد‭ ‬الملابس،‭ ‬أعطني‭ ‬مالًا‭ ‬مثلها،‭ ‬وستجدني‭ ‬أنا‭ ‬أيضًا‭ ‬لطيفة‭ ‬ومهذّبة‭!‬

إن‭ ‬جوهر‭ ‬العنصريّة‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الأخلاق‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالمال،‭ ‬مثلما‭ ‬هي‭ ‬الرائحة‭ ‬الكريهة‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالفقراء‭ ‬وبأحياء‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭. ‬وللتأكيد‭ ‬على‭ ‬ارتباط‭ ‬الفقر‭ ‬بفساد‭ ‬الأخلاق‭ ‬والذوق‭ ‬السليم،‭ ‬يعرضُ‭ ‬لنا‭ ‬صانع‭ ‬الفيلم‭ ‬تصرّفات‭ ‬عائلة‭ ‬كيم‭ ‬الفقيرة‭ ‬وسلوكها‭ ‬حين‭ ‬استحوذت،‭ ‬لفترة‭ ‬زمنية‭ ‬قصيرة،‭ ‬على‭ ‬القصر،‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬أصحابه‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬بارك‭ ‬الغنيّة،‭ ‬فنرى‭ ‬كمَّ‭ ‬القذارة،‭ ‬والفوضى،‭ ‬وسوء‭ ‬السلوك،‭ ‬والذوق‭ ‬الفاسد،‭ ‬أثناء‭ ‬اجتماع‭ ‬العائلة‭ ‬الفقيرة‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬المعيشة،‭ ‬وتناولهم‭ ‬الطعام‭ ‬والشراب‭ ‬بصورة‭ ‬مقزّزة‭. ‬

إن‭ ‬الأخلاق‭ ‬المنحلّة‭ ‬هنا،‭ ‬والذوق‭ ‬الفاسد،‭ ‬هما‭ ‬رذيلة‭ ‬متأصلة‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬الفقراء،‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬ما‭ ‬يصلنا‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬المشهد،‭ ‬ويصبح‭ ‬من‭ ‬المنطقي،‭ ‬إذن،‭ ‬أن‭ ‬يتردّد‭ ‬في‭ ‬وعينا‭ ‬تبرير‭ ‬الأم‭ ‬وهي‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬السبب‭ ‬هو‭ ‬الفقر،‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬العائلة‭ ‬غنيّة،‭ ‬لكانت‭ ‬أخلاقهم‭ ‬وسلوكهم‭ ‬وذوقهم،‭ ‬أفضل‭ ‬وأنظف‭ ‬وأرقى؛‭ ‬فالمال‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يكوي‭ ‬تجاعيد‭ ‬سوء‭ ‬السلوك‭ ‬والأخلاق؛‭ ‬ويفردها،‭ ‬ويحسّن‭ ‬من‭ ‬منظرها‭.‬

 

ارتداد‭ ‬على‭ ‬التنوير

إن‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬النوعية‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬تمثّل‭ ‬ارتدادًا‭ ‬على‭ ‬التنوير‭ ‬الذي‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬أفلام‭ ‬سابقة،‭ ‬على‭ ‬قلّتها،‭ ‬كان‭ ‬صانعوها‭ ‬أكثر‭ ‬استنارة،‭ ‬ووعيًا‭. ‬إن‭ ‬‮«‬طفيلي‮»‬‭ ‬بونج‭ ‬جون‭ - ‬هو،‭ ‬يمثّل‭ ‬ردّة‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬الأفلام‭ ‬الناقدة‭ ‬للـ‭ ‬‮«‬نيولبرالية‮»‬‭: (‬وول‭ ‬ستريت،‭ ‬1987‭) ‬لأوليفر‭ ‬ستون؛‭ ‬والذي‭ ‬لخّص‭ ‬حال‭ ‬
الـ‭ ‬‮«‬نيولبرالية‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬مرحلة‭ ‬مبكّرة‭ ‬جدًا،‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬إحدى‭ ‬شخصيات‭ ‬الفيلم،‭ ‬سمسار‭ ‬البورصة‭ ‬جوردن‭ ‬جيكو،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يمدح‭ ‬الجشع‭ ‬قائلًا‭: ‬الجشع‭ ‬مفيد،‭ ‬الجشع‭ ‬صحي،‭ ‬الجشع‭ ‬فضيلة‭!‬

بعد‭ ‬مرور‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬عامًا،‭ ‬يأتي‭ ‬‮«‬الطفيلي‮»‬‭ ‬ليصم‭ ‬الفقراء،‭ ‬لا‭ ‬الرأسماليين،‭ ‬بالجشع،‭ ‬وسوء‭ ‬الخلق،‭ ‬وفساد‭ ‬الذوق‭ ‬السليم،‭ ‬بل‭ ‬وليزايد‭ ‬على‭ ‬مقولات‭ ‬جوردن‭ ‬جيكو،‭ ‬قائلًا‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬أبطال‭ ‬الفيلم،‭ ‬وبطريقة‭ ‬متماهية،‭ ‬لا‭ ‬ناقدة‭: ‬الأخلاق‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالمال،‭ ‬والمال‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يحوّل‭ ‬الرذيلةَ‭ ‬إلى‭ ‬فضيلة‭!‬

إن‭ ‬صوت‭ ‬الفيلم‭ ‬هنا‭ ‬يعكس‭ ‬ارتداد‭ ‬الرأسمالية‭ ‬إلى‭ ‬أصلها‭ ‬الأوّلي،‭ ‬وذلك‭ ‬بعدما‭ ‬اعتدنا،‭ ‬فيما‭ ‬لا‭ ‬يُعدّ‭ ‬ولا‭ ‬يُحصى‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬والمسلسلات‭ ‬الغربية‭ ‬والشرقية،‭ ‬على‭ ‬صوت‭ ‬الخطاب‭ ‬الأخلاقي‭ ‬
للـ‭ ‬‮«‬نيولبرالية‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يصرِّح‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬بأنّ‭ ‬الفرد‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬وجود‭ ‬الشرّ،‭ ‬بفساد‭ ‬أو‭ ‬صلاح‭ ‬أخلاقه‭ ‬الشخصية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬التعمية‭ ‬على‭ ‬مسؤولية‭ ‬السياسات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬للرأسمالية‭ ‬التي‭ ‬تفرض‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬وتدفعهم‭ ‬دفعًا‭ ‬لاتخاذ‭ ‬قرارات‭ ‬‮«‬أخلاقية‮»‬‭ ‬بعينها‭.‬

وعندما‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الآن‭ ‬ترتدّ‭ ‬إلى‭ ‬أصولها‭ ‬الأولى،‭ ‬فإننا‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نُذكّر‭ ‬بالمقولة‭ ‬الشهيرة‭ ‬للاهوتي‭ ‬الفرنسي‭ ‬جان‭ ‬كالفن‭ (‬1509‭ - ‬1564‭) ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬‮«‬إن‭ ‬مقدار‭ ‬نجاح‭ ‬المرء‭ ‬ماليًا،‭ ‬هو‭ ‬مؤشر‭ ‬على‭ ‬خلاصه‭ ‬أو‭ ‬هلاكه‭ ‬في‭ ‬الآخرة‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬المقولة‭ ‬التي‭ ‬قال‭ ‬عنها‭ ‬ماكس‭ ‬فيبر‭ ‬بأنّها‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬على‭ ‬أساسها‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الحديثة،‭ ‬وإحدى‭ ‬الروافع‭ ‬الأساسية‭ ‬لاقتصاد‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬في‭ ‬أوربّا‭.‬

من‭ ‬هذه‭ ‬الزاوية،‭ ‬يمكننا‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الأولى،‭ ‬ورأسماليتنا‭ ‬الفائقة‭ ‬اليوم،‭ ‬هما،‭ ‬كلتاهما،‭ ‬تسيران‭ ‬جنبًا‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬برفقة‭ ‬اللاهوتي‭.‬

 

صكوك‭ ‬الغفران

لقد‭ ‬أعفت‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الأولى‭ ‬الثريّ‭ ‬من‭ ‬تأنيب‭ ‬الضمير؛‭ ‬ليس‭ ‬لدى‭ ‬الرأسمالي‭ ‬تأنيب‭ ‬ضمير،‭ ‬لأنّه‭ ‬متأكد‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬الربّ‭ ‬راض‭ ‬عنه،‭ ‬وعذاب‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬الآخرة‭ ‬سيتم‭ ‬الصفح‭ ‬عنه‭ ‬بسبب‭ ‬ثرائه‭ ‬المالي‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭.‬

هذا‭ ‬هو‭ ‬جوهر‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬صكوك‭ ‬الغفران‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬أغنياء‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭ ‬يشترونها‭ ‬لينالوا‭ ‬بها‭ ‬العفو‭ ‬في‭ ‬الآخرة،‭ ‬والتي‭ ‬باتت‭ ‬تطلّ‭ ‬برأسها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬سافر‭ ‬في‭ ‬أشكال‭ ‬عدة،‭ ‬كالتبرّعات‭ ‬المالية‭ ‬والأعمال‭ ‬الخيرية،‭ ‬مثلًا،‭ ‬التي‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭ ‬كبار‭ ‬الأثرياء‭ ‬اليوم‭: ‬تبرّع‭ ‬واستثمر‭ ‬لسلامة‭ ‬روحك‭.‬

إن‭ ‬رأسماليًا‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬الأوربية؛‭ ‬هو‭ ‬ياكوف‭ ‬فوجر،‭ ‬قد‭ ‬اشترى‭ ‬بأمواله‭ ‬صلوات‭ ‬الناس‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬الحالي،‭ ‬فجميع‭ ‬المستأجرين‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬مساكن‭ ‬فوجر‭ ‬الاجتماعية‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬بنايات‭ ‬من‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭ ‬تؤجّر‭ ‬بأسعار‭ ‬زهيدة‭ ‬في‭ ‬ألمانيا،‭ ‬يشترط‭ ‬عليهم،‭ ‬كشرط‭ ‬أساسي‭ ‬لقبولهم‭ ‬كسكان‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬البنايات،‭ ‬أن‭ ‬يؤدوا‭ ‬يوميًا‭ ‬صلاة‭ ‬صباحية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬سلامة‭ ‬روح‭ ‬فوجر‭: ‬‮«‬السلامُ‭ ‬عليكِ‭ ‬يا‭ ‬مريم،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فوجر‮»‬‭.‬

يعبّر‭ ‬‮«‬الطفيلي‮»‬،‭ ‬إذن،‭ ‬عن‭ ‬رؤية‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الفائقة‭ ‬للقيم‭ ‬والأخلاق‭ ‬الفردية،‭ ‬بربطها‭ ‬بحظّ‭ ‬المرء‭ ‬من‭ ‬الغنى‭ ‬أو‭ ‬الفقر‭. ‬ويعبّر‭ ‬كذلك‭ ‬عن‭ ‬رؤيتها‭ ‬بخصوص‭ ‬المسألة‭ ‬الاجتماعية؛‭ ‬فهي‭ ‬سلالم‭ ‬صاعدة‭/ ‬هابطة،‭ ‬يمكن‭ ‬بالجهد‭ ‬والمثابرة‭ ‬الفردية‭ ‬الترقّي‭ ‬والصعود‭ ‬عليها‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ينفي،‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬الأحوال،‭ ‬مسؤولية‭ ‬العنصر‭ ‬الجَبري؛‭ ‬المتمثّل‭ ‬في‭ ‬السياسات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬المفروضة‭ ‬على‭ ‬الأفراد‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬نيولبرالي‮»‬‭. ‬

إن‭ ‬هذا‭ ‬النفور‭ ‬من‭ ‬تحميل‭ ‬الظروف‭ ‬الهيكلية‭ ‬أيّ‭ ‬مسؤولية،‭ ‬وقصر‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬مجرد‭ ‬اختيارات‭ ‬أخلاقية‭ ‬فردية،‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬عبّرت‭ ‬عنه‭ ‬مارجريت‭ ‬ثاتشر‭ ‬ذات‭ ‬مرّة‭ ‬بقولها‭: ‬‮«‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬شيء‭ ‬اسمه‭ ‬مجتمع،‭ ‬هناك‭ ‬فقط‭ ‬أفراد‮»‬‭ ‬‭‬ ■