«1917»... مسافة من أجل الحياة

«1917»... مسافة من أجل الحياة

ستدخل‭ ‬الحرب‭ ‬وستسير‭ ‬على‭ ‬قدميك‭ ‬في‭ ‬الميدان‭ ‬دون‭ ‬طعام،‭ ‬انطلق‭ ‬في‭ ‬ممرّات‭ ‬الخنادق‭ ‬وتعرَّض‭ ‬لطلقات‭ ‬البنادق،‭ ‬سترى‭ ‬صديقك‭ ‬يموت‭ ‬بين‭ ‬يديك‭ ‬من‭ ‬جَرَّاء‭ ‬طعنة‭ ‬غادرة‭ ‬من‭ ‬جندي‭ ‬العدو،‭ ‬ستتعرَّض‭ ‬للقتل‭ ‬حدّ‭ ‬استهدافك‭ ‬بطلقات‭ ‬نارية‭ ‬تُدَوِّي‭ ‬حولك‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬وأنت‭ ‬تجري،‭ ‬ولن‭ ‬تعرف‭ ‬متى‭ ‬ستصيبك‭ ‬الطلقة،‭ ‬ستمرّ‭ ‬الطلقة‭ ‬قريبًا‭ ‬من‭ ‬رأسك‭ ‬ثم‭ ‬تنجو،‭ ‬ستعيش‭ ‬هذا‭ ‬حين‭ ‬تشاهد‭ ‬فيلم‭ ‬1917،‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬بلندن‭ ‬في‭ ‬ديسمبر‭ ‬الماضي،‭ ‬وأخرجه‭ ‬سام‭ ‬ميندز،‭ ‬وشارك‭ ‬في‭ ‬كتابته‭ ‬مع‭ ‬كريستي‭ ‬ويلسون‭ ‬كيرنز‭.‬

حصل‭ ‬الفيلم‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬غولدن‭ ‬غلوب‮»‬‭ ‬لأفضل‭ ‬فيلم‭ ‬دراما‭ ‬عن‭ ‬مدة‭ ‬عرض‭ ‬119‭ ‬دقيقة،‭ ‬وتم‭ ‬تصويره‭ ‬بالكامل‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬لقطة‭ ‬واحدة‭.‬

 

تتفتَّح‭ ‬الشاشة‭ ‬على‭ ‬زهور‭ ‬صفراء‭ ‬مبهجة‭ ‬محاطة‭ ‬بخضرة‭ ‬مزهرة،‭ ‬متعة‭ ‬بصريّة‭ ‬لن‭ ‬تستغرق‭ ‬سوى‭ ‬ثوانٍ،‭ ‬ثمّ‭ ‬تنسحب‭ ‬الكاميرا‭ ‬للخلف‭ ‬لتقول‭ ‬إننا‭ ‬سنعود‭ ‬ونتابع‭ ‬جنديًا‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬استراحة‭ ‬واسترخاء‭ ‬ناعس،‭ ‬وحين‭ ‬تظهر‭ ‬قدم‭ ‬ومعطف‭ ‬غريب‭ ‬وغليظ‭ ‬نسمع‭ ‬أوّل‭ ‬كلمة‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬‮«‬بليك‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬اسم‭ ‬الجندي‭ ‬الذي‭ ‬سنسير‭ ‬أمامه‭ ‬بالكاميرا‭ ‬لفترة‭ ‬ثمّ‭ ‬خلفه‭ ‬وأحيانًا‭ ‬جانبه‭ ‬هو‭ ‬ورفيقه‭ ‬شوفيلد‭ ‬في‭ ‬مهمة‭ ‬تبدأ‭ ‬باقتسام‭ ‬قطعة‭ ‬خبز‭ ‬جاف‭ ‬تشبه‭ ‬مضغ‭ ‬حذاء‭ ‬قديم‭.‬

 

الكاميرا‭ ‬داخل‭ ‬عينيك

منذ‭ ‬البدء‭ ‬والكاميرا‭ ‬تتحرك‭ ‬وكأنك‭ ‬أنت‭ ‬المُشَاهد‭ ‬تُصَوِّر‭ ‬من‭ ‬عمق‭ ‬الحدث،‭ ‬لقد‭ ‬جعلك‭ ‬صُنَّاع‭ ‬الفيلم‭ ‬في‭ ‬وضعية‭ ‬الكاميرا‭ ‬وكأنها‭ ‬داخل‭ ‬عينيك،‭ ‬لا‭ ‬تَدَخُّلَ‭ ‬تكنولوجيًّا‭ ‬ملحوظ‭ ‬في‭ ‬التصوير،‭ ‬لقد‭ ‬وضعكَ‭ ‬المخرج‭ ‬أمام‭ ‬الحدث‭ ‬وتركك‭ ‬مع‭ ‬الكاميرا‭ ‬تتابع‭ ‬ما‭ ‬يجري،‭ ‬أنت‭ ‬عين‭ ‬الكاميرا،‭ ‬والكاميرا‭ ‬عينك،‭ ‬تلاحق‭ ‬المناظر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬جريانك‭ ‬وراء‭ ‬ما‭ ‬يحدث،‭ ‬تحمل‭ ‬الكاميرا‭ ‬على‭ ‬كتفك،‭ ‬ترصد‭ ‬الجنديين،‭ ‬تتقدمهما،‭ ‬وتكون‭ ‬خلفهما،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬تصورهما‭ ‬من‭ ‬جنب‭. ‬

الحدث‭ ‬ملتصق‭ ‬بك‭ ‬وأنت‭ ‬ملتصق‭ ‬بالحدث،‭ ‬داخله‭. ‬تسير‭ ‬مع‭ ‬حالة‭ ‬جنديين‭ ‬يحملان‭ ‬رسالة‭ ‬لإنقاذ‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الجنود،‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬حي‭ ‬أمامك،‭ ‬فلن‭ ‬تتساءل‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬حولك‭ ‬ديكور‭ ‬مُتْقَن‭ ‬الصنع،‭ ‬أم‭ ‬هو‭ ‬أطلال‭ ‬حرب‭ ‬حقيقية‭ ‬تم‭ ‬استخدامها‭ ‬موقعًا‭ ‬للتصوير،‭ ‬فقد‭ ‬تورّطنا‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬وتابعنا‭ ‬الحدث‭ ‬كرفقاء‭ ‬له،‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أشياء‭ ‬تمرّ‭ ‬أمام‭ ‬الكاميرا‭ ‬وكأنها‭ ‬تعوق‭ ‬التصوير؛‭ ‬كجندي‭ ‬يمرّ‭ ‬من‭ ‬أمام‭ ‬بليك‭ ‬أو‭ ‬شوفيلد‭.‬

كأنك‭ ‬مراسل‭ ‬حربي‭ ‬ترصد‭ ‬حكاية‭ ‬رسالة‭ ‬واجبة‭ ‬الوصول؛‭ ‬لإنقاذ‭ ‬أرواح‭ ‬بشرية،‭ ‬نحن‭ ‬داخل‭ ‬خندق‭ ‬بالفعل،‭ ‬نتحرك‭ ‬مع‭ ‬الجدران‭ ‬الرملية‭ ‬المسنودة‭ ‬بالخشب،‭ ‬ويكاد‭ ‬التراب‭ ‬يقع‭ ‬علينا‭ ‬ونحن‭ ‬نتابع‭ ‬ما‭ ‬يحدث،‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬الحدث،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أراده‭ ‬صنّاع‭ ‬الفيلم،‭ ‬لقد‭ ‬عشنا‭ ‬حقيقة‭ ‬ولم‭ ‬نعش‭ ‬فيلمًا‭. ‬

‭ ‬كاميرا‭ ‬الفيلم‭ ‬حيَّة‭ ‬لا‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬الجمال‭ ‬والتقنية‭ ‬وزوايا‭ ‬التصوير‭ ‬والمشَاهد‭ ‬الباهرة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬ترصد‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬أمامك‭. ‬أنت‭ ‬دخلت‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفيلم‭ ‬ولن‭ ‬تخرج‭ ‬منها‭ ‬إلّا‭ ‬مع‭ ‬النهاية،‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬سماء‭ ‬سوى‭ ‬سماء‭ ‬تحمل‭ ‬طائرات‭ ‬الموت،‭ ‬لقد‭ ‬عشنا‭ ‬الحرب‭ ‬هنا‭ ‬بصورة‭ ‬مختلفة‭ ‬عمّا‭ ‬تم‭ ‬حكيُه‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة‭.‬

 

عين‭ ‬حميمة

الفيلم‭ ‬بلا‭ ‬قطع،‭ ‬مما‭ ‬يجعلك‭ ‬مفتوح‭ ‬العينين‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬طوال‭ ‬المشاهدة،‭ ‬وكأنه‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬الحرب‭ ‬متصلة‭ ‬لا‭ ‬تنقطع،‭ ‬لن‭ ‬تشعر‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬بطلًا‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬فكل‭ ‬شيء‭ ‬تم‭ ‬التقاطه‭ ‬عبر‭ ‬الكاميرا‭ ‬هو‭ ‬بطل؛‭ ‬الجنود،‭ ‬والقائد،‭ ‬والذباب،‭ ‬والأسلاك‭ ‬الشائكة،‭ ‬والخوذات،‭ ‬والممرات،‭ ‬والسجائر،‭ ‬والحصان‭ ‬الميّت،‭ ‬والخنادق،‭ ‬والسيارة‭ ‬التي‭ ‬تعطلت‭ ‬في‭ ‬الطريق،‭ ‬البطولة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفيلم‭ ‬لهذه‭ ‬العين‭ ‬الحميمة‭ ‬التي‭ ‬ترصد‭ ‬وتجعل‭ ‬المشاهد‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يغلق‭ ‬عينيه‭ ‬قدر‭ ‬لمحة‭ ‬كي‭ ‬يتابع‭ ‬السّير‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬وصول‭ ‬الرسالة‭.‬

‭ ‬ونحن‭ ‬وراء‭ ‬الكاميرا‭ ‬نشعر‭ ‬بالتنفس‭ ‬العميق‭ ‬الحسَّاس‭ ‬الذي‭ ‬يُشعرنا‭ ‬بالتوتر،‭ ‬حركة‭ ‬الأقدام‭ ‬الغائصة‭ ‬في‭ ‬الوحل‭ ‬والطين‭ ‬مع‭ ‬مصاحبة‭ ‬هذه‭ ‬الموسيقى‭ ‬العجيبة،‭ ‬التي‭ ‬تشبه‭ ‬صفَّارة‭ ‬داخل‭ ‬الأذن‭ ‬الحسَّاسة،‭ ‬موسيقى‭ ‬متناسبة‭ ‬تمامًا‭ ‬مع‭ ‬الحالة،‭ ‬حتى‭ ‬أنّك‭ ‬تسمع‭ ‬صوت‭ ‬انغماس‭ ‬الأقدام‭ ‬في‭ ‬الطين‭ ‬اللّزج،‭ ‬وصوت‭ ‬هبوط‭ ‬الغربان‭ ‬على‭ ‬الجثث‭. ‬

إلى‭ ‬جانب‭ ‬الألوان‭ ‬التي‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬البنّي‭ ‬المحروق‭ ‬طوال‭ ‬الفيلم،‭ ‬واضحة‭ ‬تمامًا‭ ‬في‭ ‬السترات‭ ‬ولون‭ ‬الأرض،‭ ‬وبِرَك‭ ‬الماء‭ ‬الملقى‭ ‬فيها‭ ‬جثث‭ ‬البشر‭ ‬والأحصنة،‭ ‬ستشعر‭ ‬بالحرب‭ ‬ووقاحتها‭ ‬وقسوتها‭ ‬دون‭ ‬دم‭ ‬عنيف،‭ ‬ستشعر‭ ‬ببشاعة‭ ‬الحرب‭ ‬وأنت‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬ألوان‭ ‬البنّي‭ ‬المحروق‭ ‬بلون‭ ‬لا‭ ‬تتقبّله‭ ‬روحك،‭ ‬ستقشعر‭ ‬من‭ ‬حدّة‭ ‬الأسلاك‭ ‬الشائكة‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تنغرس‭ ‬في‭ ‬اللحم‭. ‬

 

التورُّط‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الأخ

بليك،‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بدوره‭ ‬الممثل‭ ‬الإنجليزي‭ ‬دين‭ ‬تشارليز‭ ‬تشابمان‭ ‬هو‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬متورط‭ ‬مثلنا،‭ ‬فهو‭ ‬أخو‭ ‬جوزيف‭ ‬بليك‭ ‬الملازم‭ ‬في‭ ‬الفرقة‭ ‬الثانية،‭ ‬ونعرف‭ ‬أن‭ ‬أخاه‭ ‬جوزيف‭ ‬حيّ،‭ ‬وأن‭ ‬الألمان‭ ‬تركوا‭ ‬المكان‭ ‬كتراجُع‭ ‬استراتيجي،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنهم‭ ‬شكَّلوا‭ ‬خطًا‭ ‬جديدًا،‭ ‬والسبب‭ ‬الرئيسي‭ ‬في‭ ‬وجوب‭ ‬إرسال‭ ‬رسالة‭ ‬أن‭ ‬العقيد‭ ‬ماكينزي،‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بدوره‭ ‬الممثل‭ ‬بندكت‭ ‬كومبرباتش،‭ ‬الذي‭ ‬يقود‭ ‬الفرقة‭ ‬الثانية،‭ ‬أعلن‭ ‬أنه‭ ‬سيطارد‭ ‬الألمان‭ ‬المنسحبين؛‭ ‬لاعتقاده‭ ‬بأن‭ ‬الألمان‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬فوضى،‭ ‬إنه‭ ‬مخطئ،‭ ‬فإذا‭ ‬لم‭ ‬تصل‭ ‬الرسالة‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭ ‬بليك‭ ‬إلى‭ ‬ماكينزي‭ ‬ستحدث‭ ‬مذبحة،‭ ‬وستتم‭ ‬خسارة‭ ‬كتيبتين‭ ‬تضمان‭ ‬1600‭ ‬رجل‭ ‬بينهم‭ ‬شقيق‭ ‬بليك‭.‬

من‭ ‬هنا‭ ‬تم‭ ‬توريط‭ ‬بليك‭ ‬بدافع‭ ‬شخصي‭ ‬لإنقاذ‭ ‬أخيه‭. ‬فتكون‭ ‬بداية‭ ‬الرحلة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إنقاذ‭ ‬حياة‭ ‬أخ‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬1600‭ ‬رجل،‭ ‬كان‭ ‬انفعال‭ ‬بليك‭ ‬واضحًا‭ ‬بأنه‭ ‬يتحرّك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أخيه‭. ‬

كان‭ ‬واضحًا‭ ‬أن‭ ‬بليك‭ ‬حريص‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬أخيه،‭ ‬أما‭ ‬رفيقه‭ ‬شوفيلد،‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بدوره‭ ‬الممثل‭ ‬جورج‭ ‬ماكاي،‭ ‬فقد‭ ‬ظهر‭ ‬أن‭ ‬حرصه‭ ‬الأشد‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬حياته‭ ‬الشخصية؛‭ ‬لذلك‭ ‬ظل‭ ‬مهيَّأ‭ ‬للتراجع‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬لحظة‭ ‬كي‭ ‬ينجو‭ ‬بنفسه‭ ‬من‭ ‬موت‭ ‬أكيد،‭ ‬لكننا‭ ‬حين‭ ‬نتعمَّق‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬الفيلم‭ ‬عندما‭ ‬يموت‭ ‬بليك‭ ‬ويبقى‭ ‬شوفيلد‭ ‬وحيدًا،‭ ‬سيكتشف‭ ‬القيمة‭ ‬الكبرى‭ ‬للحياة‭ ‬عامة،‭ ‬وأنه‭ ‬ينبغي‭ ‬عليه‭ ‬إنقاذ‭ ‬1600‭ ‬جندي،‭ ‬ولا‭ ‬يتركنا‭ ‬الفيلم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يسخر‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬بجملة‭ ‬وردت‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الملازم‭ ‬ليزلي،‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بدوره‭ ‬ببراعة‭ - ‬رغم‭ ‬قصر‭ ‬مساحة‭ ‬الدور‭ - ‬الممثل‭ ‬أندرو‭ ‬سكوت‭ ‬رأيناه‭ ‬يضحك‭ ‬بسخرية‭ ‬من‭ ‬التضحية‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭ ‬بليك‭ ‬وشوفيلد،‭ ‬فقال‭ ‬لهما‭: ‬‮«‬ابتهجا،‭ ‬هناك‭ ‬ميدالية،‭ ‬بالتأكيد‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يريح‭ ‬الأرملة‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬قطعة‭ ‬الشريط‮»‬‭.‬

 

لحظة‭ ‬ممتعة

ولأننا‭ ‬تورطنا‭ ‬مع‭ ‬بليك‭ ‬وشوفيلد،‭ ‬فقد‭ ‬سِرْنا‭ ‬وراءهما‭ ‬لمسافة‭ ‬طويلة‭ ‬وعانينا‭ ‬اللّزوجة‭ ‬ورؤية‭ ‬المأساة‭ ‬وأردنا‭ ‬أن‭ ‬نرتاح،‭ ‬لقد‭ ‬أُرْهِقنا‭ ‬من‭ ‬تتبُّع‭ ‬الانفجارات‭ ‬والجرذان،‭ ‬والماء‭ ‬العكِر،‭ ‬فكان‭ ‬لزامًا‭ ‬أن‭ ‬تدخل‭ ‬بنا‭ ‬الكاميرا‭ ‬إلى‭ ‬بستان‭ ‬به‭ ‬ورود‭ ‬بيضاء‭ ‬ليرطّب‭ ‬قليلًا‭ ‬على‭ ‬أرواحنا‭... ‬بعض‭ ‬الزهور‭ ‬وبعض‭ ‬الخضرة‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬الشاق‭ ‬جعلت‭ ‬أرواحنا‭ ‬تتنفس‭ ‬قليلًا؛‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬تغمض‭ ‬أعيننا‭ ‬عن‭ ‬المتابعة‭.‬

حين‭ ‬وجدا‭ ‬السُّرر‭ ‬القبيحة‭ ‬داخل‭ ‬الخندق،‭ ‬كانت‭ ‬لحظة‭ ‬ممتعة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليهما،‭ ‬لقد‭ ‬جلس‭ ‬بليك‭ ‬على‭ ‬السرير‭ ‬واهتزّ،‭ ‬وكأنه‭ ‬وجد‭ ‬متعة‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬سرير‭ ‬يهتز،‭ ‬هل‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬نعمة‭ ‬الراحة‭ ‬لا‭ ‬تقدّر‭ ‬بثمن؟‭ ‬وإن‭ ‬الحرب‭ ‬تقتل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جميل‭ ‬في‭ ‬الطبيعة،‭ ‬حتى‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬استراحة‭ ‬على‭ ‬سرير‭ ‬ليس‭ ‬جميلًا؟

لقد‭ ‬تأكد‭ ‬ذلك‭ ‬بعد‭ ‬قليل‭ ‬حين‭ ‬قُتِلَ‭ ‬بليك‭ ‬وتُرِك‭ ‬في‭ ‬العراء،‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬إدانة‭ ‬واضحة‭ ‬للحرب‭ ‬ولما‭ ‬يحدث‭ ‬فيها،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬بدأت‭ ‬الكاميرا‭ ‬تتتبَّع‭ ‬شوفيلد‭ ‬وحده‭ ‬عبر‭ ‬الطريق‭ ‬للوصول‭ ‬برسالتين؛‭ ‬رسالة‭ ‬لإنقاذ‭ ‬الجنود،‭ ‬وأخرى‭ ‬لأخي‭ ‬بليك‭.‬

 

لمسة‭ ‬حانية‭ ‬على‭ ‬الجرح

من‭ ‬ألطف‭ ‬وأرهف‭ ‬اللقطات‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬ظهور‭ ‬أنثى‭ ‬لشوفيلد‭ ‬في‭ ‬الظلام‭ ‬الخانق،‭ ‬فهو‭ ‬مصاب‭ ‬ينزف‭ ‬الدم،‭ ‬وهي‭ ‬مختبئة‭ ‬من‭ ‬ويلات‭ ‬القتل،‭ ‬لقد‭ ‬أعطى‭ ‬وجودها‭ ‬المؤقت‭ ‬طراوة‭ ‬وقسوة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬أعطتنا‭ ‬لمحة‭ ‬إنسانية‭ ‬حين‭ ‬مَسَّتْ‭ ‬جرح‭ ‬شوفيلد،‭ ‬فشعر‭ ‬بالحنين‭ ‬والدفء‭ ‬الإنساني،‭ ‬لمسة‭ ‬يدها‭ ‬الحنون‭ ‬على‭ ‬جرحه‭ ‬كانت‭ ‬تدين‭ ‬الحرب،‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬صديق‮»‬،‭ ‬وشعرنا‭ ‬أن‭ ‬سعادة‭ ‬العالم‭ ‬الحقيقية‭ ‬يمكن‭ ‬للرجل‭ ‬أن‭ ‬يقضيها‭ ‬في‭ ‬صحبة‭ ‬امرأة‭ ‬طيبة،‭ ‬وأن‭ ‬الحرب‭ ‬جميعها‭ ‬لا‭ ‬لزوم‭ ‬لها‭ ‬مقابل‭ ‬لمسة‭ ‬على‭ ‬الجرح،‭ ‬هذه‭ ‬أول‭ ‬لمسة‭ ‬حانية‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬وزال‭ ‬التوتر‭ ‬من‭ ‬وجه‭ ‬شوفيلد‭ ‬لقطة‭ ‬وحيدة‭ ‬كانت‭ ‬كافية‭ ‬بتوصيل‭ ‬راحة‭ ‬الروح‭ ‬وترطيب‭ ‬المشاعر‭ ‬والرغبة‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬أُسَريَّة،‭ ‬لقد‭ ‬تنفّس‭ ‬بعمق‭ ‬وتنهّد‭ ‬أول‭ ‬تنهيدة‭ ‬إنسانية،‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬هي‭ ‬هدف‭ ‬الفيلم‭ ‬والمبتغى‭ ‬من‭ ‬الحياة،‭ ‬لحظة‭ ‬سكينة‭ ‬رائقة‭ ‬دون‭ ‬خوف‭.‬

‭ ‬وإذا‭ ‬بطفلة‭ ‬صغيرة‭ ‬طريّة‭ ‬تبكي‭ ‬في‭ ‬الظلام،‭ ‬فيشتعل‭ ‬المطلب‭ ‬الإنساني‭ ‬للحياة‭ ‬ضد‭ ‬الحرب؛‭ ‬فللصغيرة‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬مستقبلها،‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬المرأة‭ ‬اسم‭ ‬الطفلة،‭ ‬فقد‭ ‬ماتت‭ ‬أمّها‭ ‬وتركتها‭ ‬دون‭ ‬حليب‭ ‬ترضعه،‭ ‬فأخذتها‭ ‬المرأة‭ ‬معها؛‭ ‬لتنقذ‭ ‬حياتها،‭ ‬ورغم‭ ‬قسوة‭ ‬الحرب،‭ ‬فإن‭ ‬شوفيلد‭ ‬أعطى‭ ‬للمرأة‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬طعام‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حياة‭ ‬الطفلة،‭ ‬وكأن‭ ‬الجميع‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يحافظ‭ ‬على‭ ‬المستقبل‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬بريئًا‭ ‬من‭ ‬الحرب‭. ‬

حين‭ ‬يلمس‭ ‬شوفيلد‭ ‬الطفلة‭ ‬تصيب‭ ‬قلوبنا‭ ‬البراءة،‭ ‬دقائق‭ ‬معدودة‭ ‬على‭ ‬الشاشة‭ ‬تمثّل‭ ‬راحة‭ ‬القلب‭ ‬والروح،‭ ‬لحظات‭ ‬سكينة‭ ‬بين‭ ‬رجل‭ ‬وامرأة‭ ‬وطفلة‭ ‬تساوي‭ ‬العالم،‭ ‬وتجعلك‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تقتل‭ ‬الحرب،‭ ‬ثم‭ ‬حين‭ ‬يتركهما‭ ‬ويذهب‭ ‬بالرسالة‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬جمع‭ ‬الجنود‭ ‬وهم‭ ‬يستمعون‭ ‬إلى‭ ‬أغنية‭ ‬وكأنها‭ ‬قُدَّاس‭ ‬ذِكْر،‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬تسمع‭ ‬الصوت‭ ‬الحنون‭ ‬الراغب‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬حتى‭ ‬تحبّه،‭ ‬وتعلم‭ ‬أن‭ ‬الجنود‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬صلاة‭ ‬روحية؛‭ ‬يريدون‭ ‬أن‭ ‬يتخلَّصوا‭ ‬من‭ ‬وطأة‭ ‬الحرب‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬بأغنية،‭ ‬لحظة‭ ‬رائقة‭ ‬لأغنية‭ ‬شفيفة‭ ‬بصوت‭ ‬رقيق‭ ‬تبعث‭ ‬الحياة‭ ‬وسط‭ ‬هذا‭ ‬القتل‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جميل‭.‬

 

من‭ ‬أجل‭ ‬الحياة

في‭ ‬اللحظات‭ ‬الأخيرة‭ ‬للفيلم،‭ ‬صار‭ ‬شوفيلد‭ ‬منهكًا‭ ‬ومتعبًا،‭ ‬ونحن‭ ‬وراءه‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬التوتر،‭ ‬هل‭ ‬سيستطيع‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬بالرسالة‭ ‬ويُنْهِى‭ ‬المذبحة؟‭ ‬ثم‭ ‬تأتي‭ ‬لحظة‭ ‬حاسمة‭ ‬وشجاعة‭ ‬ورغبة‭ ‬قوية‭ ‬في‭ ‬إنهاء‭ ‬الحرب‭... ‬لقد‭ ‬فعلها‭ ‬شوفيلد‭ ‬وصعد‭ ‬أمام‭ ‬شلال‭ ‬الرصاص‭ ‬بكامل‭ ‬جسده،‭ ‬متعرضًا‭ ‬للموت‭ ‬المحقَّق‭ ‬أمام‭ ‬جيش‭ ‬العدو،‭ ‬وسار‭ ‬مواجهًا‭ ‬الموت؛‭ ‬يريد‭ ‬الحياة‭ ‬للجميع،‭ ‬هذه‭ ‬الاندفاعة‭ ‬الشجاعة‭ ‬تجعل‭ ‬قلبك‭ ‬يدقّ‭ ‬بعنف،‭ ‬هل‭ ‬سيصاب‭ ‬شوفيلد؟‭ ‬فإذا‭ ‬أصيب‭ ‬فمن‭ ‬ستتبع‭ ‬وأنت‭ ‬تحمل‭ ‬الكاميرا‭ ‬وراءه؟‭ ‬

لحظة‭ ‬الشجاعة‭ ‬هذه‭ ‬دفعت‭ ‬الدماء‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬الجنود،‭ ‬فانتفضوا‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الموت،‭ ‬بكامل‭ ‬أجسادهم‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الرصاصات،‭ ‬يريدون‭ ‬أن‭ ‬يعبروا‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الجندي‭ ‬المواجه‭ ‬للرصاصات‭ ‬بصدره‭ ‬المفتوح،‭ ‬لكنّهم‭ ‬لم‭ ‬يدركوا‭ ‬أنه‭ ‬يواجه‭ ‬الرصاصات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إنقاذ‭ ‬حياتهم‭... ‬شجاعته‭ ‬شجاعة‭ ‬حياة‭ ‬حقيقية،‭ ‬وشجاعتهم‭ ‬شجاعة‭ ‬موت‭ ‬زائف،‭ ‬إنهم‭ ‬يريدون‭ ‬القتل،‭ ‬وهو‭ ‬يريد‭ ‬إيقاف‭ ‬القتل،‭ ‬وشتّان‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الشجاعتين‭.‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬وصلتْ‭ ‬رسالة‭ ‬شوفيلد‭ ‬لماكينزي‭ ‬وأُوقِفَتْ‭ ‬المذبحة،‭ ‬ظل‭ ‬ينادي‭ ‬باحثًا‭ ‬عن‭ ‬جوزيف‭ ‬بليك،‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يهتمّ،‭ ‬فالكل‭ ‬جرحى‭ ‬والكل‭ ‬مشغول‭ ‬بنفسه‭ ‬أو‭ ‬بآخر،‭ ‬مأساة‭ ‬حرب‭ ‬واضحة،‭ ‬لكنّه‭ ‬كان‭ ‬مُصِرًّا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬الرسالة‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬يحملها،‭ ‬وحين‭ ‬يسمع‭ ‬صوت‭ ‬جوزيف‭ ‬بليك‭ ‬الشبيه‭ ‬بصوت‭ ‬أخيه،‭ ‬أخبره‭ ‬بأنّ‭ ‬أخاه‭ ‬مات‭ ‬رجلًا‭ ‬صالحًا‭.‬

أراد‭ ‬جوزيف‭ ‬بليك‭ ‬أن‭ ‬يبكي،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يبكِ،‭ ‬إنها‭ ‬الجندية،‭ ‬كانت‭ ‬دمعة‭ ‬وصرخة‭ ‬محبوسة‭ ‬داخل‭ ‬صدره‭ ‬المكلوم،‭ ‬وشدّ‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬شوفيلد،‭ ‬وشعرنا‭ ‬بالنهاية‭ ‬وشوفيلد‭ ‬يتجه‭ ‬ناحية‭ ‬شجرة‭ ‬مصحوبًا‭ ‬بموسيقى‭ ‬حزينة‭ ‬رقيقة،‭ ‬ونحن‭ ‬وراءه‭ ‬نتابع‭ ‬سيره‭ ‬الواهن‭ ‬ونكاد‭ ‬نشكره‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬الشاقة،‭ ‬وعلى‭ ‬الرسالة‭ ‬التي‭ ‬وصلت،‭ ‬نشكره‭ ‬لأنه‭ ‬جعلنا‭ ‬نمرّ‭ ‬بخنادق‭ ‬حرب،‭ ‬وسط‭ ‬الموت‭.‬

حين‭ ‬يقترب‭ ‬شوفيلد‭ ‬من‭ ‬الشجرة‭ ‬أردناه‭ ‬أن‭ ‬يستريح،‭ ‬فأسند‭ ‬ظهره‭ ‬للشجرة‭ ‬وسط‭ ‬الخضرة‭ ‬الناعمة،‭ ‬ثم‭ ‬استخرج‭ ‬من‭ ‬جيبه،‭ ‬جانب‭ ‬قلبه،‭ ‬صورة‭ ‬تخصّ‭ ‬أسرته‭ ‬مكتوب‭ ‬على‭ ‬ظهرها‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة‭: ‬‮«‬عُد‭ ‬إلينا‮»‬،‭ ‬وأغمض‭ ‬عينيه‭ ‬تحوطه‭ ‬خضرة‭ ‬مزهرة‭ ‬وزهور‭ ‬صفراء‭ ‬مبهجة‭ ‬كالتي‭ ‬رأينا‭ ‬في‭ ‬مفتتح‭ ‬الفيلم،‭ ‬ورأينا‭ ‬سكينة‭ ‬العالم‭ ‬تَغْشَاه،‭ ‬وسطعت‭ ‬الشمس‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬في‭ ‬نعومة‭ ‬رهيفة،‭ ‬وتركناه‭ ‬وهو‭ ‬يغمض‭ ‬عينيه‭ ‬وأغلقنا‭ ‬الكاميرا‭ ‬