«1917»... مسافة من أجل الحياة

ستدخل الحرب وستسير على قدميك في الميدان دون طعام، انطلق في ممرّات الخنادق وتعرَّض لطلقات البنادق، سترى صديقك يموت بين يديك من جَرَّاء طعنة غادرة من جندي العدو، ستتعرَّض للقتل حدّ استهدافك بطلقات نارية تُدَوِّي حولك من كل مكان وأنت تجري، ولن تعرف متى ستصيبك الطلقة، ستمرّ الطلقة قريبًا من رأسك ثم تنجو، ستعيش هذا حين تشاهد فيلم 1917، الذي صدر بلندن في ديسمبر الماضي، وأخرجه سام ميندز، وشارك في كتابته مع كريستي ويلسون كيرنز.
حصل الفيلم على جائزة الـ «غولدن غلوب» لأفضل فيلم دراما عن مدة عرض 119 دقيقة، وتم تصويره بالكامل على أنه لقطة واحدة.
تتفتَّح الشاشة على زهور صفراء مبهجة محاطة بخضرة مزهرة، متعة بصريّة لن تستغرق سوى ثوانٍ، ثمّ تنسحب الكاميرا للخلف لتقول إننا سنعود ونتابع جنديًا في حالة استراحة واسترخاء ناعس، وحين تظهر قدم ومعطف غريب وغليظ نسمع أوّل كلمة في الفيلم «بليك»، وهو اسم الجندي الذي سنسير أمامه بالكاميرا لفترة ثمّ خلفه وأحيانًا جانبه هو ورفيقه شوفيلد في مهمة تبدأ باقتسام قطعة خبز جاف تشبه مضغ حذاء قديم.
الكاميرا داخل عينيك
منذ البدء والكاميرا تتحرك وكأنك أنت المُشَاهد تُصَوِّر من عمق الحدث، لقد جعلك صُنَّاع الفيلم في وضعية الكاميرا وكأنها داخل عينيك، لا تَدَخُّلَ تكنولوجيًّا ملحوظ في التصوير، لقد وضعكَ المخرج أمام الحدث وتركك مع الكاميرا تتابع ما يجري، أنت عين الكاميرا، والكاميرا عينك، تلاحق المناظر من خلال جريانك وراء ما يحدث، تحمل الكاميرا على كتفك، ترصد الجنديين، تتقدمهما، وتكون خلفهما، وأحيانًا تصورهما من جنب.
الحدث ملتصق بك وأنت ملتصق بالحدث، داخله. تسير مع حالة جنديين يحملان رسالة لإنقاذ مجموعة من الجنود، كل شيء حي أمامك، فلن تتساءل إن كان ما حولك ديكور مُتْقَن الصنع، أم هو أطلال حرب حقيقية تم استخدامها موقعًا للتصوير، فقد تورّطنا منذ البداية وتابعنا الحدث كرفقاء له، لدرجة أن هناك أشياء تمرّ أمام الكاميرا وكأنها تعوق التصوير؛ كجندي يمرّ من أمام بليك أو شوفيلد.
كأنك مراسل حربي ترصد حكاية رسالة واجبة الوصول؛ لإنقاذ أرواح بشرية، نحن داخل خندق بالفعل، نتحرك مع الجدران الرملية المسنودة بالخشب، ويكاد التراب يقع علينا ونحن نتابع ما يحدث، نحن في الحدث، وهذا ما أراده صنّاع الفيلم، لقد عشنا حقيقة ولم نعش فيلمًا.
كاميرا الفيلم حيَّة لا تبحث عن الجمال والتقنية وزوايا التصوير والمشَاهد الباهرة بقدر ما ترصد ما يحدث أمامك. أنت دخلت الحرب في هذا الفيلم ولن تخرج منها إلّا مع النهاية، لا يوجد سماء سوى سماء تحمل طائرات الموت، لقد عشنا الحرب هنا بصورة مختلفة عمّا تم حكيُه في أفلام أخرى كثيرة.
عين حميمة
الفيلم بلا قطع، مما يجعلك مفتوح العينين على الدوام طوال المشاهدة، وكأنه يقول إن الحرب متصلة لا تنقطع، لن تشعر أن هناك بطلًا في الفيلم، فكل شيء تم التقاطه عبر الكاميرا هو بطل؛ الجنود، والقائد، والذباب، والأسلاك الشائكة، والخوذات، والممرات، والسجائر، والحصان الميّت، والخنادق، والسيارة التي تعطلت في الطريق، البطولة في هذا الفيلم لهذه العين الحميمة التي ترصد وتجعل المشاهد لا يستطيع أن يغلق عينيه قدر لمحة كي يتابع السّير من أجل وصول الرسالة.
ونحن وراء الكاميرا نشعر بالتنفس العميق الحسَّاس الذي يُشعرنا بالتوتر، حركة الأقدام الغائصة في الوحل والطين مع مصاحبة هذه الموسيقى العجيبة، التي تشبه صفَّارة داخل الأذن الحسَّاسة، موسيقى متناسبة تمامًا مع الحالة، حتى أنّك تسمع صوت انغماس الأقدام في الطين اللّزج، وصوت هبوط الغربان على الجثث.
إلى جانب الألوان التي تميل إلى البنّي المحروق طوال الفيلم، واضحة تمامًا في السترات ولون الأرض، وبِرَك الماء الملقى فيها جثث البشر والأحصنة، ستشعر بالحرب ووقاحتها وقسوتها دون دم عنيف، ستشعر ببشاعة الحرب وأنت في وسط ألوان البنّي المحروق بلون لا تتقبّله روحك، ستقشعر من حدّة الأسلاك الشائكة التي تريد أن تنغرس في اللحم.
التورُّط من أجل الأخ
بليك، الذي قام بدوره الممثل الإنجليزي دين تشارليز تشابمان هو منذ البداية متورط مثلنا، فهو أخو جوزيف بليك الملازم في الفرقة الثانية، ونعرف أن أخاه جوزيف حيّ، وأن الألمان تركوا المكان كتراجُع استراتيجي، ويبدو أنهم شكَّلوا خطًا جديدًا، والسبب الرئيسي في وجوب إرسال رسالة أن العقيد ماكينزي، الذي قام بدوره الممثل بندكت كومبرباتش، الذي يقود الفرقة الثانية، أعلن أنه سيطارد الألمان المنسحبين؛ لاعتقاده بأن الألمان في حالة فوضى، إنه مخطئ، فإذا لم تصل الرسالة التي يحملها بليك إلى ماكينزي ستحدث مذبحة، وستتم خسارة كتيبتين تضمان 1600 رجل بينهم شقيق بليك.
من هنا تم توريط بليك بدافع شخصي لإنقاذ أخيه. فتكون بداية الرحلة من أجل إنقاذ حياة أخ من بين 1600 رجل، كان انفعال بليك واضحًا بأنه يتحرّك من أجل أخيه.
كان واضحًا أن بليك حريص على حياة أخيه، أما رفيقه شوفيلد، الذي قام بدوره الممثل جورج ماكاي، فقد ظهر أن حرصه الأشد كان على حياته الشخصية؛ لذلك ظل مهيَّأ للتراجع في أيّ لحظة كي ينجو بنفسه من موت أكيد، لكننا حين نتعمَّق في مسيرة الفيلم عندما يموت بليك ويبقى شوفيلد وحيدًا، سيكتشف القيمة الكبرى للحياة عامة، وأنه ينبغي عليه إنقاذ 1600 جندي، ولا يتركنا الفيلم دون أن يسخر من الحرب بجملة وردت على لسان الملازم ليزلي، الذي قام بدوره ببراعة - رغم قصر مساحة الدور - الممثل أندرو سكوت رأيناه يضحك بسخرية من التضحية الكبرى التي يقوم بها بليك وشوفيلد، فقال لهما: «ابتهجا، هناك ميدالية، بالتأكيد ليس هناك ما يريح الأرملة أفضل من قطعة الشريط».
لحظة ممتعة
ولأننا تورطنا مع بليك وشوفيلد، فقد سِرْنا وراءهما لمسافة طويلة وعانينا اللّزوجة ورؤية المأساة وأردنا أن نرتاح، لقد أُرْهِقنا من تتبُّع الانفجارات والجرذان، والماء العكِر، فكان لزامًا أن تدخل بنا الكاميرا إلى بستان به ورود بيضاء ليرطّب قليلًا على أرواحنا... بعض الزهور وبعض الخضرة في الطريق الشاق جعلت أرواحنا تتنفس قليلًا؛ كي لا تغمض أعيننا عن المتابعة.
حين وجدا السُّرر القبيحة داخل الخندق، كانت لحظة ممتعة بالنسبة إليهما، لقد جلس بليك على السرير واهتزّ، وكأنه وجد متعة الحياة في سرير يهتز، هل أراد أن يقول إن نعمة الراحة لا تقدّر بثمن؟ وإن الحرب تقتل كل ما هو جميل في الطبيعة، حتى الرغبة في لحظة استراحة على سرير ليس جميلًا؟
لقد تأكد ذلك بعد قليل حين قُتِلَ بليك وتُرِك في العراء، كانت هذه إدانة واضحة للحرب ولما يحدث فيها، ومن هنا بدأت الكاميرا تتتبَّع شوفيلد وحده عبر الطريق للوصول برسالتين؛ رسالة لإنقاذ الجنود، وأخرى لأخي بليك.
لمسة حانية على الجرح
من ألطف وأرهف اللقطات في الفيلم ظهور أنثى لشوفيلد في الظلام الخانق، فهو مصاب ينزف الدم، وهي مختبئة من ويلات القتل، لقد أعطى وجودها المؤقت طراوة وقسوة في الوقت نفسه، أعطتنا لمحة إنسانية حين مَسَّتْ جرح شوفيلد، فشعر بالحنين والدفء الإنساني، لمسة يدها الحنون على جرحه كانت تدين الحرب، وقال: «أنا صديق»، وشعرنا أن سعادة العالم الحقيقية يمكن للرجل أن يقضيها في صحبة امرأة طيبة، وأن الحرب جميعها لا لزوم لها مقابل لمسة على الجرح، هذه أول لمسة حانية في الفيلم، وزال التوتر من وجه شوفيلد لقطة وحيدة كانت كافية بتوصيل راحة الروح وترطيب المشاعر والرغبة في حياة أُسَريَّة، لقد تنفّس بعمق وتنهّد أول تنهيدة إنسانية، هذه اللحظة هي هدف الفيلم والمبتغى من الحياة، لحظة سكينة رائقة دون خوف.
وإذا بطفلة صغيرة طريّة تبكي في الظلام، فيشتعل المطلب الإنساني للحياة ضد الحرب؛ فللصغيرة أن تعيش مستقبلها، لا تعرف المرأة اسم الطفلة، فقد ماتت أمّها وتركتها دون حليب ترضعه، فأخذتها المرأة معها؛ لتنقذ حياتها، ورغم قسوة الحرب، فإن شوفيلد أعطى للمرأة كلّ ما معه من طعام من أجل حياة الطفلة، وكأن الجميع يريد أن يحافظ على المستقبل وأن يكون بريئًا من الحرب.
حين يلمس شوفيلد الطفلة تصيب قلوبنا البراءة، دقائق معدودة على الشاشة تمثّل راحة القلب والروح، لحظات سكينة بين رجل وامرأة وطفلة تساوي العالم، وتجعلك تريد أن تقتل الحرب، ثم حين يتركهما ويذهب بالرسالة يصل إلى جمع الجنود وهم يستمعون إلى أغنية وكأنها قُدَّاس ذِكْر، ما إن تسمع الصوت الحنون الراغب في الحياة حتى تحبّه، وتعلم أن الجنود في حالة صلاة روحية؛ يريدون أن يتخلَّصوا من وطأة الحرب حتى ولو بأغنية، لحظة رائقة لأغنية شفيفة بصوت رقيق تبعث الحياة وسط هذا القتل لكل ما هو جميل.
من أجل الحياة
في اللحظات الأخيرة للفيلم، صار شوفيلد منهكًا ومتعبًا، ونحن وراءه في غاية التوتر، هل سيستطيع أن يصل بالرسالة ويُنْهِى المذبحة؟ ثم تأتي لحظة حاسمة وشجاعة ورغبة قوية في إنهاء الحرب... لقد فعلها شوفيلد وصعد أمام شلال الرصاص بكامل جسده، متعرضًا للموت المحقَّق أمام جيش العدو، وسار مواجهًا الموت؛ يريد الحياة للجميع، هذه الاندفاعة الشجاعة تجعل قلبك يدقّ بعنف، هل سيصاب شوفيلد؟ فإذا أصيب فمن ستتبع وأنت تحمل الكاميرا وراءه؟
لحظة الشجاعة هذه دفعت الدماء في قلوب الجنود، فانتفضوا في مواجهة الموت، بكامل أجسادهم في مواجهة الرصاصات، يريدون أن يعبروا مثل هذا الجندي المواجه للرصاصات بصدره المفتوح، لكنّهم لم يدركوا أنه يواجه الرصاصات من أجل إنقاذ حياتهم... شجاعته شجاعة حياة حقيقية، وشجاعتهم شجاعة موت زائف، إنهم يريدون القتل، وهو يريد إيقاف القتل، وشتّان ما بين الشجاعتين.
بعد أن وصلتْ رسالة شوفيلد لماكينزي وأُوقِفَتْ المذبحة، ظل ينادي باحثًا عن جوزيف بليك، ولا أحد يهتمّ، فالكل جرحى والكل مشغول بنفسه أو بآخر، مأساة حرب واضحة، لكنّه كان مُصِرًّا على أن تصل الرسالة الأخرى التي يحملها، وحين يسمع صوت جوزيف بليك الشبيه بصوت أخيه، أخبره بأنّ أخاه مات رجلًا صالحًا.
أراد جوزيف بليك أن يبكي، لكنه لم يبكِ، إنها الجندية، كانت دمعة وصرخة محبوسة داخل صدره المكلوم، وشدّ على يد شوفيلد، وشعرنا بالنهاية وشوفيلد يتجه ناحية شجرة مصحوبًا بموسيقى حزينة رقيقة، ونحن وراءه نتابع سيره الواهن ونكاد نشكره على هذه الرحلة الشاقة، وعلى الرسالة التي وصلت، نشكره لأنه جعلنا نمرّ بخنادق حرب، وسط الموت.
حين يقترب شوفيلد من الشجرة أردناه أن يستريح، فأسند ظهره للشجرة وسط الخضرة الناعمة، ثم استخرج من جيبه، جانب قلبه، صورة تخصّ أسرته مكتوب على ظهرها كلمة واحدة: «عُد إلينا»، وأغمض عينيه تحوطه خضرة مزهرة وزهور صفراء مبهجة كالتي رأينا في مفتتح الفيلم، ورأينا سكينة العالم تَغْشَاه، وسطعت الشمس على وجهه في نعومة رهيفة، وتركناه وهو يغمض عينيه وأغلقنا الكاميرا ■