د. بديع حقي ومصطفى شحيبر

د. بديع حقي ومصطفى شحيبر

  • كنت أول من كتب شعر التفعيلة ، ولم أعر سبقي إليه أية أهمية
  • القصة والرواية أكثر تعبيرا عن روح العصر من الشعر
  • من بين كل ما ترجمت إلى العربية، تظل روائع طاغور آثرها إلى قلبي
  • كانت الدبلوماسية "زوجتي الشرعية" أما الأدب "فعشيقتي"

حين تقرأ الرجل، تأسرك نغمة إنسانية تتبدى في غلالة من ألفاظ وتعبيرات عذبة، وحين تلتقي به تحس أنك بإزاء نبع ثر من المشاعر، الإحساس المرهف الذي يصل إلى حد الشفافية. ولد في دمشق عام 1922، وظل الحنين إلى حواريها وإلى بيتها الشامي مغروسا في قلبه، يحمله معه حيثما تنقل في عمله الدبلوماسي الذي استمر أربعين عاما، تنقل خلالها في عواصم عديدة. حمل شهادة الحقوق من الجامعة السورية عام 1944، وشهادة الدكتوراة في الحقوق  الدولية من جامعة باريس عام 1950، ولكن "جمرة" الكلمة التي كانت تتقد في أعماقه قد أنتجت عطاء أدبيا غنيا، ابتدأ بديوانه عام 1953، وتوالى مع أعماله القصصية والروائية: "التراب الحزين" و"حين تتمزق الظلال" و"جفون تسحق الصور" و"أحلام الرصيف المجروح" و"همسات العكازة المسكينة" ثم سيرته الذاتية، بالإضافة إلى دراسات بعنوان  "قمم في الأدب العالمي" ومقالات عديدة. وفي الترجمة سبعة مؤلفات لطاغور، وروايتان للكاتب الروسي (غوغول) هما: "المعطف" و"اللوحة"، ورواية لهمنغواي "ولاتزال الشمس تشرق"، وغير ذلك من أعمال. وإذا كان الرجل زاهدا في الشهرة، فإن التاريخ يسجل له ريادته في بعض مجالات الأدب، وسبقه فيها الآخرين، ورؤيته الأدبية المتميزة. هذا هو  الدكتور بديع حقي الإنسان والأديب. وقد أجرى الحوار معه مصطفى شحيبر مسئول البرامج الثقافية في إذاعة دمشق وله اهتمامات بالآدب والنقد.

  • من المعلوم أنك بدأت حياتك الأدبية شاعرا، وأصدرت مجموعتك الشعرية "سحر"، عام 1953 ثم غلب عليك الاتجاه إلى القصة والرواية، تراك وجدتهما أكثر تعبيرا عن روح العصر؟.

- ربما كان ما ذكرت صحيحا من أنني وجدت القصة والرواية أكثر تعبيرا عن روح العصر وأنهما أرحب منه أفقا وأوسع مضطربا، ولئن بدأت بنظم الشعر وكتابة القصة معا، في مستهل حياتي الأدبية، لقد كان ميلي إلى الشعر ظاهرا، وقد جاء في مقدمة ديواني "سحر": "إن الشعر هو الفن الذي يتأتى له أكثر من غيره أن يصور النفس وأن يسبر أغوارها، فيجلو ما  يصطرع فيها من نزوات وبدوات، ويخيل إلي أن الفنون الأخرى التي ابتدعها الإنسان، إنما تعد في جوهرها لحقا به وتبعا له".

ولعلي أمسكت عن النظم لأنني استنفدت كل مفرداتي الشعرية وصوري الجمالية، أخذا بمدرجة الشاعر الفرنسي "بول فاليري" الذي أمسك عن نظم الشعر، بعد ليلة مؤرقة في مدينة "جنوا" فقال: "لقد استنفدت كل الكلمات الشعرية التي صغتها من قبل، فعلام أكرر نفسي؟"، ولعلي لويت بصري عن الشعر، إثر أزمة عاطفية ألمت بي، حتى لقد دار في خلدي، أنني لست بقادر على القريض، بعد أن غابت من أحب، وأن معين إلهامي، من دونها، قد نضب، وأن كل ما ضمه ديواني من صور غبيسة بأطايب الغزل والوجد ليس إلا عبثا وسرابا، بيد أنني أحب أن أشير إلى أنني انصرفت إلى القصة تمام الانصراف، منذ أن بلينا بمأساتنا الكبرى، مأساة فلسطين، فبينما كانت جبهتي تلثم سجادة المسجد الأقصى في القدس، مصليا، مبتهلا، باكيا، إثر زيارة لقبته الشهيرة، ضمن وفد سوري، عام 1953، آليت على نفسي، أن أنثر، بعد الآن، على تراب فلسطين أندى كلماتي ودموعي، في قصص وروايات، وكذلك كتبت مجموعة قصص "التراب الحزين" التي نالت جائزة الدولة للقصة عام 1961، ورواية "أحلام على الرصيف المجروح" التي استوحيتها من هزيمة حزيران "يونيو" عام 1967، ومقالات "حين يورق الحجر" التي استوحيتها من ملحمة الحجارة، ومجموعة "قوس قزح فوق بيت ساحور" التي ستصدر قريبا.

رائد شعر التفعيلة

  • هناك أمر قد لا يعرفه الكثيرون، حتى الحديث أو شعر التفعيلة فقد اعتادا الباحثون أن ينسبوا أولوية هذا الشعر إلى نازك الملائكة وبدر شاكر السياب أو إلى علي أحمد باكثير في مسرحيته الشعرية "أخناتون ونفرتيتي"، أو إلى محاولات لويس عوض أو إلى غير هؤلاء، معيدين كتابة أول قصيدة على نسق الشعر الحر إلى عام 1946، في حين أنك كنت أسبق من هؤلاء جميعا، إذ كنت، في الواقع، أول من نظم قصيدة التفعيلة، وهي حقيقة أشارت إليها نازك الملائكة، في كتابها "قضايا الشعر المعاصر"، ماذا تقول في هذا الشأن؟

- كان إنصافا من الشاعرة نازك الملائكة أن تشير إلى ذلك في كتابها المذكور حول إرهاصات الشعر الحر في أدبنا المعاصر، مستشهدة بقصيدة "خريف غابة بولونيا" التي نظمتها بباريس عام 1946، غير أنني أحب أن أشير، هنا، إلى أنني نظمت قصائد أخرى سبقت هذه القصيدة، منها قصيدة "أرق" التي نشرتها صحيفة "الصباح" التي كان يشرف عليها الأستاذ د. عبدالغني العطري وذلك بتاريخ 16/ 8/ 1943، ثم تابعت هذه التجربة المثيرة، بعد أن استمرأتها، علما بأنني لم أعر سبقي إليها أية أهمية، حين يثار موضوع الإرهاصات الأولى في شعر التفعيلة، بعد أن هجرت الشعر وهجرني.

روائع طاغور

  • لا اذكر اسم بديع حقي، إلا ويمثل في الذهن، ترجمتك لروائع طاغور، ولعل كثيرين من القراء سمعوا باسمك، لأول مرة، من خلال تلك الترجمة، علما بأن مترجمين بعدك نقلوا طاغور إلى العربية، إلا أن فضل الريادة يبقى، هنا، لك أيضا، أضف إلى ذلك أنك جعلت القارئ العرب يعيش روحانية طاغور ويتلمس شفافيته، ويتأثر برمزيته المشوبة برومانسية عذبة؟.

- بين كل ما نقلت من آثار أدبية أجنبية، إلى اللغة العربية ، تظل روائع طاغور في الشعر والمسرح آثرها إلى قلبي، لما يترقرق في أدب طاغور كله من نزعة إنسانية وصور شفافة رمزية تأتلف مع نزعتي الرمزية المتجلية في ديواني "سحر". وقد بدأت بديوان "جيتنجالي" بعد أن قرأته مترجما إلى الفرنسية بقلم "أندريه جيد" فأعجبت به أشد الإعجاب، وأفصحت عن رغبتي المتقدة في ترجمته مع بقية روائع طاغور إلى العربية، لسفير الهند في موسكو رادا كريشنان، المفكر الهندي الراحل، الذي أضحى فيما بعد رئيسا لجمهورية الهند، وكنت في ذلك العام 1952 قائما بالأعمال في سفارتنا بموسكو، فأهدى إلي رحمه الله، مجموعة تضم أهم آثار طاغور الشعرية والمسرحية، التي نقلها طاغور نفسه من البنغالية إلى الإنجليزية "طبعة ماكميلان - لندن" وقمت بترجمة خمسة دواوين ومسرحيتين، نشرتها كلها في بيروت ودمشق وأعيد طبعها في القاهرة عام 1961 ضمن سلسة الألف كتاب، بمناسبة مرور مائة عام على مولد طاغور، بطلب من وزارة التربية في الجمهورية العربية المتحدة، (وقتها) وقد راجع أكثرها الأستاذ مصطفى حبيب، كما راجعت مسرحية "دورة الربيع" الدكتورة نجاح العطار، ونشرتها وزارة الثقافة عام 1965. ورأيت فيما بعد أن أضم كل ما ترجمت، في مجموعة واحدة تحت عنوان "روائع طاغور"، ونهضت دار العلم للملايين بنشرها خمس مرات، وأشاد بهذه الترجمة كثير من النقاد، أذكر منهم الأستاذ المحاضر في جامعات الهند الأستاذ الندوي.

وقد أعانني على هذه الترجمة الشائقة الممتعة، أنني كنت شاعرا، ويبدو لي أنه يحسن بأي مترجم يتصدى لنقل شعر طاغور إلى العربية أن يكون شاعرا، يتذوق الكلمة الموحية الملهمة، المجنحة، ويعرف كيف ينتقيها، ولعل تقدير القارئ العربي لترجمتي ورواجها في الوطن العربي كله هو خير مكافأة معنوية أصبتها، بيد أنني مازلت أذكر موقفا غصت فيه عيناي بالدموع، في مؤتمر العلاقات الدولية الذي دعيت إليه في نيودلهي عام 1987، حين طلب رئيس الجلسة الأستاذ "ظل الرحمن صديقي"، إلى أعضاء المؤتمر الوقوف لتحية بديع حقي الكاتب العربي السوري الذي نذر قلمه لنقل روائع طاغور إلى العربية، مسهما بذلك، في توطيد العلاقات العربية - الهندية الثقافية، ونهضت، آنذاك، ودموع التأثر تفيض متدفقة على وجنتي، معانقة هدير التصفيق المدوي في أرجاء القاعة، كانت دموعي أنقى تحية أزجيها إلى أصدقائي الهنود الذين يعرفون كيف يقدرون وكيف يحبون.

النثر.. ولغة الشعر

  • من يقرأ قصصك ورواياتك، يشعر بأنك لم تغادر فضاء الشعر، حتى وأنت تكتب القصة والرواية، وربما كنت من كتاب القصة الأوائل الذين يدققون في اختيار ألفاظهم ويكتبون بأسلوب ونفس شعريين، بدءا من مجموعة "التراب الحزين" حتى آخر رواية لك.

- في مقال نشره الصديق الدكتور عبد السلام العجيلي، بمجلة الأديب اللبنانية، غب صدور كتابي "التراب الحزين" أورد فيه أنني كالطائر المحلق الذي جفا سماء الشعر، ونزل إلى رحاب القصة، محتفظا بزغب الطائر وريشه.

ولئن لم يعد الشعر يذلل لي أوزانه وقوافيه، لأنفض ما يمور في الصدر من مشاعر، لقد ظللت أحتفظ في نثري بصور الشعر وألفاظه وموسيقاه، أريقها في رئات كلماتي وحروفي، فلعلي أضحيت - كما كتبت ذات مرة - كالنعامة التي لا تقوى على الطيران، والتدويم في الفضاء، ولكنها لا تزال تنسب إلى الطير، وترفرف مثلها، بجناحيها على استحياء، وتسبق الغزال السانح، إن راق لها أن تسابقه، ولعل هذا يفسر علام راق لي، في رواياتي كلها وبعض قصصي، أن أطمح إلى ما طمح إليه الروائي البريطاني "ألدوس هكسلي" في موسقة الرواية والقصة، في حرصي الدائب، المتصل، على إيقاع الجملة، وتناسق حروفها وتناغم ألفاظها، لتكون الرواية أشبه بسمفونية، والقصة أشبه بسوناتا، حيث تجد، مثلا، أن نقرات العكازة في رواية "همسات العكازة المسكينة" تتجاوب، حلوة الجرس، شجية، كأنها جملة موسيقية تتردد ضمن سمفونية عذبة، رحبة. ولئن كنت أعد، حين نظمت قصائد "سحر" الرمزية، مؤثرا الألفاظ الموسيقية الشفافة، من عبيد الشعر الذين يرون أن خير الشعر هو الحولي، المحك، لقد أضحيت في نثري أيضا، من عبيد النثر وخدامه، وإني لأعتز بأن أكون خادما للغتي العربية الرائعة. هنا يطيب لي أن أورد ما ذكره الناقد الكبير الدكتور حسام الخطيب، في الندوة التي أقيمت تكريما لأدبي، منذ قرابة خمس سنوات في اتحاد الكتاب العرب، فيما كان يتحدث عن جمالية نثري وموسيقاه فقال: "إن بديع حقي يسعى، حتى وهو يصور الشر أو القبح، في رواياته وقصصه، إلى أن ينفض صورهما بأسلوب آسر جميل" ولا أنكر هذا أو أنفيه، لأن استجلاء القبح على النحو الذي ارتضيت، قد يحسر بعض أسرار الجمال المتوارية خلف القبح، واستجلاء الشر، على نحو صاف، معبر، قد يبرز أبعاده وخوافيه، كما تبرز عدسة المجهر النقية، دقائق الجراثيم الصغيرة، غير المرئية. وللشر، فيما أحسب، جراثيم أكثر ضراوة من الجراثيم المعدية. وهنا أحب أن أشير إلى أن الروائي الأمريكي "فوكنر" يتكئ على الجمل الموسيقية الشعرية، في جل رواياته، لاسيما في "الصخب والعنف"، "النخيل البري" لأنه قرزم الشعر قبل أن يضحى روائيا، وأننا لنجد هذه النزعة الشعرية في الأسلوب المتكئ على الصورة والأسطورة في روايات "ماركيز" كما نجدها لدى " داريل" في "رباعية الإسكندرية" بسردها المشحون بصور شعرية خلابة، حتى لقد شبه أحد النقاد روايته هذه بسمفونية تنتظم في أربع حركات.

السيرة الذاتية.. وشجرة التاريخ

  • سيرتك الذاتية "الشجرة التي غرستها أمي" ربما جاءت بعيدة كثيرا أو قليلا، عما ألفناه في السير الذاتية، إذ ليس المهم ذكر تواريخ ووقائع، بل كنت مخلصا لبديع حقي الشاعر ذي الشفافية، هكذا كان الحديث عن الأم وعن ذكريات بيت الطفولة، يعني الحديث عن البيئة الدمشقية والعادات والتقاليد ونشوة الماضي، بنفس رومانسي عذب.

- كانت أمي رحمها الله امرأة بسيطة الفطرة، متواضعة مستقيمة، ذكية الفؤاد، وقد بنى بها والدي ولها من العمر أربعة عشر عاما، وتوفي وهي لاتزال صبية، فلم تشأ أن تتزوج بعد أن ترملت وسهرت على تربية طفليها الصغيرين - أنا وأختي - وكانت تربيتها مزيجا من القسوة والعطف والحنان، وقد غرست هذه الأم الطيبة في حديقة دارنا بسوق ساروجة، شجرة نارنج، انساقت، في فيئها، أحلام طفولتي وشبابي، مظللة كتبي وأوراقي وقلمي. من هذه الشجرة تسلسلت ذكرياتي الرفافة، الحزينة، الهنيئة معا، لتصف الحارة الدمشقية، وفناء الدار القديمة، تهزج، في فنائها بحرة مثرثرة، وتتأود على جنباتها أصص الفل والياسمين والتمر حنة، وتجلو إلى ذلك كله، مواجع الحياة القاسية، المضنية التي عشتها، وتقاليد المجتمع القديم وعاداته، وفي هذا النسق من الذكريات، لا سبيل إلى إيراد تاريخ، فإن كل حجر، كل ذرة من تراب، كاف وحده، لينفض مدارج الطفولة ومعالم الدار الدمشقية ومتاهات الحارة الظليلة، في نفس حميمي رومانسي - كما شئت أن تصفه - وفي مقال غمز أوتار قلبي، كتبه صديق العمر الدكتور عبد السلام العجيلي، آخيرا، يقول: "لقد غرست أم بديع شجرتين: شجرة، نارنج عرفتها في الأيام الفائتة، وتفيأت ظلها، ومتعت نظري بخضرة أوراقها، والشجرة الثانية هي بديع نفسه الذي غرسته أمه في أرض الوطن، وفي حديقة الأدب وروضة الفن من هذا الوطن".

صمت الشاعر

  • عود على بدء، إلى الشعر، على الرغم من أن روحك ظلت شاعرية، في كتاباتك كلها فقد تركت نظم الشعر، منذ أمد بعيد، فهل كان طلاقا، بائنا؟ أم أنك كنت تعود، خلال السنوات التي انقضت، إلى الشعر، بين الفينة والفينة؟

- لم يكن هجري للشعر طلاقا بائنا، فقد أوحت لي ليلتي الأولى التي قضيتها في كوناكري عام 1973، - وكنت قدمت إليها رئيسا لبعثتنا الدبلوماسية - أوحت لي، قصيدة أعتز بها كثيرا، هي السمفونية الإفريقية، التي نشرتها مجلة "المعرفة" فيما بعد، كانت ليلة عاصفة، أنشب فيها البرق مخالبه في قطيع الغيوم، وتهزم الرعد مدويا، رهيبا، وتدفق الغيث، على نحو  لم أر مثيلا له، عمري كله، فلما هدأت العاصفة، أثالت كلمات القصيدة، على قلمي وقلبي كما لو أنها كانت تغسل حناياه، لتعيدني إلى فردوسي المفقود، وقد نظمت بعد هذه القصيدة قصائد لم أرض عنها كل الرضا. ثم خلد قلمي إلى الصمت فلم يعد يغزل الشعر، وظلت القصة والرواية تستأثران باهتمامي ووسواسي.

الرواية ومغامرة الكشف

  • أنت أديب متعدد الجوانب، كتبت الشعر والقصة والرواية والمقالة، فأي نوع من هذه الأنواع كان الأقرب إلى قلبك؟

- لعل الرواية هي الأقرب والآثر إلى نفسي، وإن أكن أحن إلى الشعر كثيرا، لأنه يذكرني بأحلى أيام العمر من شبابي. القصة هي، في نظري، أشبه بنزهة قصيرة، أما الرواية فهي إن وضعت في قرن مع القصة تتراءى لي أشبه برحلة مغامرة مجهولة قد تفضي إلى اكتشاف قارة في متاهات النفس الإنسانية الرحيبة، ولهذا تجتذب الرواية قلمي أكثر من غيرها.

بين الجمرة.. والخمرة

  • إلى جانب الأدب، لوحظ أن لك اهتمامات بالغناء والموسيقى، من باب المتابعة لا من باب الممارسة، وقد بسطت بعض آرائك حول وهذا الموضوع في مقالاتك، وفي محاضرة ألقيتها قبل أمد، في المركز الثقافي بالمزة،  وحملت عنوانا ذا دلالة: "جمرة الحرف وخمرة النغم"، فماذا عن هذه العلاقة بين الجمرة والخمرة؟

- جوابي يندرج ضمن جوابي عن سؤالك السابق حين ذكرت بأنني أطمع إلى موسقة القصة والرواية، فقد استعضت من العزف على آلة موسيقية، بالعزف على وتر الحرف، فإن للكلمة العربية نوطة ولذعة في القلب تماثلان خمرة النغم، بما تنفضه من نشوة، فلا فرق بين الجمرة والخمرة، لأن النقطة "الجيم" هربت وسمت فوقها، لتوشيها برعشتها الموحية.

ههنا يتراءى لي الجناس بين هذين اللفظين مأنوسا، متناغما، وإن أكن بطبعي لا أسيغ الجناس مع بقية ما يسمونه بالمحسنات اللفظية.

الأدب والدبلوماسية

  • سلخت فترة طويلة من حياتك دبلوماسيا، متنقلا في عواصم عديدة، ولعلك واحد من كوكبة من الأعلام كانوا دبلوماسيين وأدباء بارزين، في الوقت نفسه، تحضرني أسماء عمر أبي ريشة والدكتور سامي الدروبي رحمهما الله، ونزار قباني وشكيب الجابري، وهناك الشاعر التشيلي بابلو نيرودا والشاعر اليوناني سيفيريس والشاعر الفرنسي كلوديل وغيرهم. ترى ألا تغني الدبلوماسية تجربة الأديب؟

- أحب أن أردد، هنا، ما أورده الكاتب الروسي العظيم تشيخوف - وكان طبيبا ناجحا إلى جانب كونه قصاصا عبقريا - حول حرفته وهوايته الأدبية فقال: الطب هو زوجتي الشرعية أما الأدب فعشيقتي، فأقول بدوري: "الدبلوماسية هي زوجتي الشرعية أما الأدب فعشيقتي، بيد أن زوجتي الشرعية وعشيقتي قد ائتلفتا دوما، لمصلحتي، فلئن شغلتني الدبلوماسية بعملها  الرتيب، في كتابة تقارير سياسية واقتصادية، تطوى في الأدراج، وفي عمل قنصلي يشغلني عن هوايتي، إلا أنها فسحت لي آفاقا من معرفة الناس جديدة، وأمدتني بثقافة خصبة، وأتاحت لي أن أتقن لغات عديدة، مما مهد لي الطريق لأنقل إلى العربية آثارا تعد شوامخ في الأدب الأجنبي، وقد قيل بحق: اغترب تتجدد. إنها تجربة في الحياة فريدة، أغنت أدبي وما كانت تتيسر لي لو أنني قبعت في بلدي، لا أريم منه، وقد أثارت الدبلوماسية، إلى ذلك كله، لواعج الحنين الطاغي إلى وطني الحبيب، فتمنيت دوما أن يكون ترابه الطاهر مثوى لعظامي، حين ألقى وجه ربي، أما الأدب فظل - وسيبقى - هاجسي ومشغلتي، متمنيا ما تمناه الكاتب الفرنسي "أندريه موروا"، أن أقضي نحبي، في بلدي وبين أهلي وأحبتي، هادئا، مطمئنا، بين فاصلتين، من جملة أكتبها، من قصة أو رواية، أو مقال.

الترجمة.. العمر القصير

  • إلى جانب ترجمتك لطاغور فقد نقلت إلى العربية بعض أعمال "غوغول" و"همنغواي" فلماذا لم تستمر في هذا الاتجاه؟

- لأن العمر قصير، مهما امتد، وخضم الآداب الأجنبية ثر، غزير لا ينضب، لهذا أوثر الآن، الإبداع على الترجمة، في الربع الأخير المتبقي من العمر، فإن السبعين- وبلغتها - قد أحوجت سمعي نفسه إلى ترجمان.

عن الصداقات

  • على مدى حياتك الأدبية الحافلة، كتبت في مجلات وصحف عديدة، وارتبطت بصداقات مع كثير من أعلام الأدب، ماذا تقول عن هذا الجانب؟

- في الحفلة التي أقيمت تكريما لأدبي، تحدثت بإسهاب عن الأشخاص الذين رعوا أدبي وكان لهم أثر كبير في تشجيعي على الكتابة، أذكر منهم، الأستاذ عبد الغني العطري، صاحب مجلتي الدنيا والصباح، الذي أفسح لي صدر صحيفتيه لأنشر فيهما بواكير أدبي، والأستاذ ألبير أديب صاحب مجلة الأديب الذي رعى قلمي الغض وحنا عليه، وأضحى الأقرب والأحب إلى قلبي بين جميع الأصدقاء، وشعرت عندما استأثره الله إلى جواره أنه طوى بغيابه أغلى جزء من حياتي وذكرياتي، كما أذكر الدكتور شكيب الجابري والأستاذ سعيد الجزائري، اللذين كان لهما فضل في إغرائي بالكتابة في صحيفتيهما.

وقد تلقيت في أوائل الستينيات، كتابا من الدكتور أحمد زكي رئيس تحرير مجلة العربي يطلب إلي فيه الإسهام بالكتابة فيها وترادفت لي فيها دراسات وقصص موضوعة، وقصص مترجمة، على مدى عشر سنوات، وقد جمعت بعضها في كتابين هما: "قمم في الأدب العالمي" ومجموعة قصصية "حين تتمزق الظلال"، هما من آثر الكتب إلى قلبي، لأنهما من نتاج الكهولة والنضج.

 



 




د. بديع حقي





مصطفى شحيبر





طاغور





بديع حقي يصافح رئيس الجمهورية الهندية في حفل دعى إليه بمناسبة انعقاد مؤتمر العلاقات الدولية في نيودلهي عام  1987





همنغواي