فيلم «الجميع يعلم» اختطاف مفاجئ واختلال عائلي

فيلم «الجميع يعلم» (2018)، هو آخر التحف السينمائية للمخرج الإيراني أصغر فرهادي (بطولة بينيلوب كروز وخافيير بارديم). أنجزه بطريقة مختلفة عن أعماله السالفة، وذلك باختيار فضاء إسباني، وطاقم فني يتحدث اللغة الإسبانية، بغية اقتحام عالَم سينمائي جديد يغني التوغّلات الإيرانية التي حفلت بها معظم أفلامه السابقة. اختيار المخرج للعنوان «الجميع يعلم» كان ذكيًّا، ومقصودًا لشدّ انتباه المتلقي إلى قضية الفيلم، وبالرغم من تعمّد فرهادي تشويش المشاهد وخلق التساؤلات حول موضوع العلم (الحقيقة الخفية)، فإن الجواب يأبى أن ينجلي ولو في منعرجات الفيلم وأحداثه المتوالية.
يكتشف المتتبع للفيلم، في نهاية المشاهدة، أنه وقع ضحية حيلة ماكرة اختارها المخرج لتمويهه وتضليله عن المسار بعنوان معاكس للتفاصيل ومتناقض مع الوقائع. كيف لا والأحداث كلّها غموض وتعقيد وأسئلة واشتباه وحيرة؟ كيف لا والعلم منعدم في أبسط المشاهد، وفي أعقد التأويلات والتعليلات؟ سنؤجّل الحديث عن موضوع العلم في الفيلم إلى اللاحق، ونكتفي بالقول إن المخرج نصب شراك جذب وتشويق للمتلقي عن طريق العنوان، وحينما يشاهد هذا المتلقي العمل يكتشف أن إسنادية العلم للكل تعد تضليلًا من المخرج، والتضليل طريقه متناقض، خاصة حينما يصبح الجميع مشاركًا في سرد أخباره ونقل إشاعاته. لهذا اختار المخرج أن يخطو بنا - في أحداث الفيلم - نحو أفق انتظار مخالف للتوقع كليًا، حتى يحبك مسار لعبته الفنية - منذ البداية - بخيوط الغموض والالتباس.
أحداث متقلبة
تحكي قصة الفيلم عن شخصية تدعى لورا (بينيلوب كروز)، وهي امرأة إسبانية تعيش في بوينس أيريس (الأرجنتين)، ثم تُقرر في يوم من الأيام العودة إلى مسقط رأسها، في قرية إسبانية خارج مدريد، كل إنتاجها الفلاحي مخصص لجني العنب والكروم، قصد صناعة النبيذ.
لم تكن العودة نهائية دائمة، بل زيارة مؤقتة لأختها هناك، لمشاركتها الفرحة والبهجة في حفل زفافها. تعود لورا إذًا إلى ديارها، وبرفقتها ابنتها المراهقة، وابنها الصغير، وتلتقي هناك الأسرة والأهل والأحباب؛ الأب - الأخت - الأصدقاء - الحبيب القديم.
تبدأ الأحداث بثبات وسكون في حفل بهيج واستعداد يسبق هذه المناسبة، ثم يركز فرهادي، كعادته، على أدقّ الجزئيات العائلية، تمهيدًا لوقوع الزلّة أو العُقدة العائلية. تتلاحق الأحداث والأفراح والاحتفالات بهذه المناسبة، إلى أن تُطفأ الأنوار، ويظلم المكان، ويحجب المشهد، فننتقل آنذاك إلى مستوى ثان من الوقائع، ومسار آخر من القصة.
تتولد العُقدة ويقع المحظور، عقب اكتشاف لورا أن ابنتها المراهقة اختفت عن المنزل، فتتناسل وقائع التحرّي والبحث والسؤال من أجل هدف واحد؛ إيجاد الطفلة.
تتلقى العائلة بعد ذلك رسالة هاتفية تخبرها بأن البنت مخطوفة، ويطلب خاطفوها مبلغًا ماليًا ضخمًا حتى تفكّ قيودها، ويُخلى سبيلها. فتضطر الأم لورا، في البداية، إلى الاتصال بزوجها (إليخاندرو)، ليلتحق بها إلى إسبانيا للبحث عن حل للمشكلة، خاصة أن العصابة هددتهم بقتل الابنة في حال إخبار الشرطة. ولا تجد لورا من حلّ يفكّ هذا العائق الطارئ، سوى طلب مساعدة حبيبها السابق باكو (خافيير بارديم)، الذي يملك - بالاشتراك مع صديق له - مزرعة لإنتاج الكروم.
يتلكأ باكو، في البداية، للتنازل عن هذا المبلغ الضخم، فتلجأ لورا للخبر الحاسم، وتكشف له عن سرّ خطير مفاده أن الطفلة هي ابنته من علاقتهما السابقة. يُصدم باكو من هول الخبر، ويحسم قراره لمصلحة فلذة كبده. كيف لا وقد حُرم من الإنجاب مجددًا في علاقته الثانية مع الزوجة؟ يربط اتصالاته بالعصابة، ويقرر أخيرًا أن يضحي بثروته ويبيع حصّته من أرض العنب، من أجل الهدف الأسمى؛ إنقاذ ابنته.
ينجح أخيرًا في مسعاه، وينتهي الفيلم بمغادرة الأسرة للقرية، دون علم للبنت بأبيها الحقيقي، ودون دراية للأسرة بالحقيقة وموضوع العلم الذي قصده المخرج في العنوان: المسؤول عن عملية الاختطاف، ولو أنّ المعرفة قد تمّت بنجاح بالنسبة للمشاهد، الذي عرف صاحب الفعل. وهنا نكتشف حيلة أخرى من المخرج استهدفت حجب الحقيقة عن العائلة الحائرة، وكشفها للمشاهد المتابع والمدرك لكل التفاصيل، فجمع المخرج - عن طريق هذه الحيلة - بين ثنائيات متضادة: الحجب/ الكشف - الحيرة/ الإدراك - الجهل/ العلم... إلخ.
طابع اجتماعي رتيب
يظهر من خلال الاستعراض السابق أن فرهادي واصل على منوال أفلامه السابقة نفسه، فيما يخص الطبع الاجتماعي الذي يتبدّى واضحًا، بين ثنايا الصراع النفسي والوجداني والفكري لشخصياته. فأفلام مثل: «انفصال نادر وياسمين» و«البائع»، تعالج هذا التوتر الاجتماعي في قالب عائلي، تتمخّض عنه انقسامات وخلافات وعوارض أسريّة، ناتجة عن الانقلاب الأسري (من حالة السعادة إلى حالة الاضطراب).
الشيء نفسه نلاحظه في هذا العمل، حيث العدسة تلاحق كلّ التفاصيل وتدقّق في أسرار العلاقة العائلية للبطلة لورا مع جميع الأفراد: الأخت والأم والأبناء والحبيب والزوج والأقرباء. إنها تقترب منهم شيئًا فشيئًا، وتحاول الإحاطة أولًا بمظاهر الفرحة والبهجة في حفل الزفاف السعيد: رقص - غناء - نبيذ - ضحك - أصوات عالية - نشاط... إلخ، ثم تنتقل إلى رصد صور الفوضى والاختلاف والاختلال التي عمّت العائلة مباشرة بعد لحظة التحوّل، لحظة اختطاف البنت: صراخ - اتهامات - بكاء - غضب - صمت - حزن - بحث... إلخ.
يبتدئ الفيلم بإيقاع رتيب وبطيء، مركّزًا على صورة يد تقطع صورة طفلة مجهولة من صفحة إحدى الجرائد الإسبانية. وهي لقطة ذكية لها إحالة بعدية لما سيأتي من أحداث لاحقة، لأن محور العقدة في الفيلم هي طفلة لورا التي ستُختطف وتقطع من حبل العائلة، على شاكلة الصورة التي تقصّ في هذا المشهد. وفي مشهد دالّ آخر، تركّز الكاميرا على الطفلة المراهقة وصديقها وهما يركبان درّاجة ويتجهان في طريق ضيقة، بسرعة كادت تصدمهما بسيارة تقابلهما الطريق.
المثير في الأمر هو أن سائق السيارة هو باكو (الأب الشرعي لتلك الطفلة)، وما تقابلهما إلّا إشارة مسبقة من المخرج للمواجهات القادمة في الطريق، مواجهات صادمة وتقابلات مثيرة، ستلزم باكو التضحية بالغالي والنفيس لإنقاذ طفلته الوحيدة بعد علمه بسرّ الأبوة.
واستمرارًا مع حالة الرتابة والثبات التي ميّزت الشطر الأول من الفيلم، نصادف في أحد المشاهد البطلة العائدة إلى ديارها (لورا) وهي تفتح نوافذ منزلها القديم، وتتطلع لأشعة الشمس المنسلّة من عبق النسيم العليل، والمطلة من نفق الجو الجميل. وهذا رمز بصري بليغ يوحي بفتح خواطر البطلة، وتهييج مشاعرها للبوح والمكاشفة، للإعلان والمحاسبة، للإبداء والمساءلة، خاصة فيما يتعلّق بماضي علاقتها الغرامية بحبيبها الأول باكو.
انقلاب مفاجئ
تتغير الوقائع فجأة، ومن دون سابق إنذار فور إطفاء الأنوار في حفل الزفاف. وهذا المشهد رمز فنّي بارع، فتح الباب أمام المنعرجات، ومثّل حلقة التحول الأساسية في الفيلم. فالانتقال من حالة الاحتفال إلى لحظات المآسي يلخّصه المخرج عبر هذا الانقطاع المفاجئ في الأنوار، حيث عمّ الظلام وساد الغسق وانبسط السواد، إيحاء بانقطاع مصدر الفرح، واندثار جوّ المرح، وهيمنة سمة التّرح. وكل ذلك بسبب اكتشاف الأم لورا غياب ابنتها عن الغرفة التي كانت ترقد فيها، واختطافها من طرف أشخاص مجهولين.
وقد وظّف المخرج مجموعة من المؤشرات البصرية التي دلّت على هذا التقلّب، أبرزها:
- انتفاضة الحمام الخائف وهروبه من عقارب ساعة الكنيسة، حيث مكان عقد القران، إيحاء بالفورة والفوضى التي ستسود هذه المناسبة، عقب المعرفة بخبر الخطف.
- المطر الغزير والرعد القوي: أيقونة فنية أخرى وظّفها فرهادي للإحالة إلى الجو المكهرب، والمكفهرّ للأحداث، وخصوصًا أن جزءها الأول تميّز بصفاء الطقس ووهج الشمس ونسيم الطبيعة العليل. وهذا التغيّر المناخي المباغت مردُّه إلى سعي المخرج لتحقيق التناسب الفنّي بين الجو الدرامي والجو الواقعي للأحداث.
- خفوت الأنوار: وهي من العلامات البصرية الدالة على وضعية التحول، حيث ينقلنا فرهادي من عالَم وهاج بأشعة الشمس وصفاء السماء في النهار إلى عالَم غامر بالظلام والعتمة الليلية أثناء حفل الزفاف. وهو وضع ساعد العصابة على اختطاف الطفلة، مستغلّين، في ذلك، انقطاع النور عن فضاء الحفل.
ارتجاج في العلاقات
تتعقّد سيرورة الأحداث، وتتّسع شبكة التساؤلات والشكوك، وتزداد وتيرة الخلافات والاختلالات، وينمو الصراع والصدام بين مختلف الشخصيات في العائلة:
- شجار أب لورا مع عائلة باكو، بسبب رغبته في توفير المال الكافي لإنقاذ حفيدته المختطفة. ولهذا السبب وجّه سيلًا من كلمات السبّ والشتم ضد باكو، متهمًا إيّاه باستغلال ابنته لورا في الماضي، ودفعها لبيع أرضها بثمن هزيل.
- خلاف باكو وزوجته، بسبب التفكير في إعانة عائلة لورا بمال المزرعة، لإنقاذ الفتاة المختطفة. فباكو كان يخطط لبيع حصته من مزرعة الكروم لمساعدة المختطفة، بينما ترفض الزوجة هذه الفكرة، مدّعية أن لورا مجرد مخادعة كاذبة أعماها الطمع، تسعى لتوريط باكو، والاحتيال على ثروته.
- الشك في أن يكون زوج لورا، الغائب عن الأحداث، هو المسؤول عن عملية الاختطاف من أجل الثروة، نظرًا لأنّه فقد عمله وأصبح عاطلًا محتاجًا للمال، ومدمنًا مقبلًا على الخمر، وهذا سبب كاف للشكّ فيه.
- التشكيك في زوجة باكو، هي الأخرى، في هذه القضية، لأنّ العصابة كانت تتواصل معها في هاتفها الخاص، وتوجّه إليها رسائل التهديد، وشروطها المالية مقابل الإفراج، وهذا ما جعل الجميع يتوجس من هذا التراسل الغريب.
- التنازع حول الأرض، من المشاكل الأخرى التي عمّقت هوة الخصومة والصدام بين الأطراف: عائلة لورا من جهة، وعائلة باكو من جهة أخرى. الأولى تتهم الثانية بالاحتيال وشراء الأرض بثمن بخس، والثانية تنفي هذه التهمة، وتدّعي أنها اشترتها بالودّ والرضا والتفاهم.
أبوّة متأخرة
المنعرج الثاني الذي نصادفه في الفيلم، يتراءى لنا في اللحظة التي أفصحت فيها الأم لورا لحبيبها القديم باكو بأن الطفلة المختطفة هي ابنته من علاقتهما السابقة. هذا الخبر الصادم شكّل نقطة تحوّل مهمة في الفيلم، حيث اضطرت الأم أن تفشي السّر الدفين، الذي طال حجبه وستره لزمن طويل، كآخر محاولة منها لإنقاذ ابنتها من الضياع.
وجد باكو نفسه محاصرًا في قوقعة الصدمة، ومرغمًا على التدخل، مهما يكُن، لاسترجاع فلذة كبده. كيف لا وهو الذي حُرم من نعمة الأبوّة سنوات طويلة؟ كيف لا وقد عاش في دهمة ودجنة غيّبت عنه ابنته الوحيدة لسنين عدّة؟ فبعد فراقها عن باكو، تزوجت لورا من زوجها إليخاندرو، واتفقا معًا على إخفاء سرّ حملها من حبيبها الأول، إلى أن جاءت هذه العقبة التي ستفرج عن الأخبار، وتجلي الأسرار، وتكشف الأقدار. ست عشرة سنة من السّتر والإبطان، ست عشرة سنة من الطمس والكتمان، ست عشرة سنة من وهْم العقم والحرمان (باكو لم يُرزق بأولاد من زواجه، فتوهّم العقم وعدم الإنجاب).
هكذا نجح المخرج، ببراعة، في تحويل الأنظار، وتمويه الأبصار من القضية الأساسية للفيلم (اختطاف البنت) إلى قضية محوريّة أخرى، تمثّلت في الأبوة المتأخرة لباكو، لأنّ هذا الأخير لم يعلم بالأمر اليقين، إلّا بعد سنوات طويلة من الواقعة. صراع آخر تولّد عن هذا التوتر العائلي، وهو الصدام الثنائي بين زوج لورا (الأب غير الشرعي) وباكو الأب الشرعي للفتاة المختطفة، فهذا الأخير اكتشف صلته الدموية بالطفلة متأخرًا، وحاول أن يردّ الجميل لفلذة كبده - أو «حقه» كما جاء في حواره مع إليخاندرو - بإنقاذها من براثن الوحوش المختطفين. أما زوج لورا (إليخاندرو) فكان يستهدف من إنقاذ الطفلة تحسين صورته عند الأسرة والعائلة، وذلك بالتكفير عن أخطائه السابقة، وتعويض كل التقصير الذي أظهره في أداء واجبه الأسري: الشّرب - البطالة - الإهمال - المشاعر الباردة... إلخ.
وهكذا سيقرر باكو، التضحية بحقّه في مزرعة الكروم، وذلك ببيع حصته من هذا المشروع لزميله وشريكه، من أجل تأمين الفدية التي سيقدمها للعصابة، بهدف إنقاذ ابنته المختطفة. إنه الجزاء الأصلح الذي يمكن أن يقدّمه لفتاته الصغيرة، تعويضًا عن السنين الطويلة التي قضاها بعيدًا عنها، وجاهلًا بها.
وقد ركز فرهادي، في هذا الصدد، على مشهد بليغ يرصد حوار باكو مع زوجته، وهو يدافع عن نفسه في تحويل ممتلكاته إلى تضحية نفيسة في سبيل جميلته الصغيرة. ويؤطر المخرج - في هذا المشهد - لقطة مميزة تصور باكو وهو ينظر إلى صورته المعكوسة في مرآة الحمام، وكأنه يقيم مونولوجًا وجدانيًا يناجي فيه أحاسيس الأبوة التي ظلت دفينة لزمن طويل، من أجل الاستيقاظ والتدخل في هذا الوقت الحرج.
حيرة عائلية وإفشاء للجمهور
بعد الاختطاف، تدخل العائلة في دوامة من الحيرة والشك والاشتباه، خصوصًا أن المسؤول عن هذا الفعل الإجرامي، لن يكون سوى فرد من أفراد العائلة، أو قريب مقرّب منها. مادام يعلم بصلة المراهقة ونسبها من باكو صاحب الثروة والمال، ومادام يملك الرقم الهاتفي لزوجة باكو وحبيبته السابقة لورا، ويستعمله في توجيه خطته، والتواصل مع العائلة.
وهذا ما يفسر تفضيل العصابة للاختيار الصعب في العملية، باختطاف البنت المراهقة بدل أخيها الصغير (ولو أنه أسهل للخطف)، ذلك أن المراهقة ستدر دخلًا كبيرًا للعصابة، لكونها تنتمي لصلب باكو الغنيّ، عكس الطفل الصغير ابن إليخاندرو العاطل.
وإذا كانت متاهة التساؤل والاختلاف والتشكيك هي التي سادت بين أطراف العائلة في نهاية الفيلم، مما جعل الحقيقة تبقى مخفية ومكتومة، والمجرم مستورًا مجهولًا، فإنّ المخرج قرر، في مقابل ذلك، إظهار العصابة للمشاهد، وكشف ملامحها، وهوية أفرادها، وذرائع فعلتها، والمستفيد من غنيمتها، حيث يكشف فرهادي عن الوجوه التي اختطفت الفتاة، فجأة، دون أدنى تحذير للبطل، ودون سابق تحضير للمتفرج. عصابة مكوّنة من شابين اتفقا مع فتاة العائلة التي التقتها لورا في بداية الفيلم رفقة طفلتها الصغيرة. واحد من هذين الشابين متزوج من هذه الفتاة، يعيش الفقر والعوز المدقع، وللخروج من هذه الحالة، اتفق مع زوجته وصديق له على خطة هذه العملية.
فخ مُحكم
يحجب فرهادي، بذكائه الفني، مسؤولية هذه الفتاة في الجريمة، لكنّه يدع خيطًا للشبهة والتوريط والاتهام، ويترك الحل مملوكًا، والسرّ مكشوفًا عند أحد أبطاله في الفيلم. إنه فخ مُحكم التشييد ومتقن التقييد، انسلّ من بين قرائن الجريمة، ليلمح جليًا من أحد أفراد العائلة. فبعد عودة الفتاة، متأخرة، من المكان الذي يوجد فيه رفاقها الخاطفون، لاحظت أمّها بقايا وحلٍ وتراب على حذائها المتسخ، بينما دبرت هي أكذوبة للرد على سؤال أمها حول سبب تأخرها عن العودة للمنزل. لكنّ الجواب لم يقنع الأم، فتظل أعينها - وأعين العدسة - مركّزة على الحذاء المتسخ، باعتباره دليلًا يولد التوجس والريبة والشبهة.
وينتهي الفيلم بهذا المشهد الإشكالي، تاركًا للمتلقي حريّة الحكم على مصير كل فرد من أفراد العائلة؛ سواء الفتاة المذنبة وزوجها الفقير، أو البطلة لورا التي أخفت الحقائق الشرعية عن ابنتها، أو باكو الذي فضّل الانسحاب وإخفاء سرّ الأبوة عن الابنة، أو إليخاندرو الذي تخاذل في مواقف أسرية حاسمة وأبعد الطفلة عن أبيها الشرعي. ويتفنّن المخرج فرهادي، في لقطته الختامية، مؤطرًا مجموعة من رجال النظافة وهم ينظفون الشارع الإسباني. وهذه اللقطة رمزٌ فنيّ بليغ يدل على تطهير ذنوب الشخصيات، والتكفير عن خطاياهم، والصفح عن ذنوب كلّ فرد منهم: العصابة الخاطفة - لورا الكاتمة للسر - باكو المستسلم - إليخاندرو المتخاذل - الأب المشاغب... إلخ.
إبداع فني وتقني
اهتم فرهادي بالتركيبة الجمالية والفنية، بقدر العناية نفسها بالحبكة النصيّة وتسلسل الأحداث. فعلى المستوى التشخيصي، أنجز خافيير بارديم دوره بتجسيد بارع، كلّه فيض من الأحاسيس والانفعالات: الابتسامة - الفرحة - النشاط والحيوية - الرقص... إلخ في الشطر الأول من الفيلم، ثم: الحزن - التوتر - الغضب - القلق - الصدمة - الخوف... إلخ في الشطر الثاني. ليخالف بذلك الأدوار النمطية التي اعتاد أن يؤديها سابقًا، خاصة أن بصمته الصارمة، والجافة من الانفعالات، التي أبدع بها في رائعة الأخوين كوين «لا وطن للمسنّين» - وتوّج من خلالها بأوسكار أفضل دور مساعد - ظلت راسخة في ذهن عشاق الفن السابع، ومستقرة في فكرهم السينمائي. ليفاجئنا بارديم بهذا التمثيل المميّز والمتقن، الذي ناقض كل التصورات السابقة، حول شخصيته الحادة والصلبة الخالية من المشاعر الإنسانية.
أما بينيلوبي كروز (لورا) فقد أدت - بتميّز - دور الأم الحنونة المليئة بمشاعر العطف والإشفاق، الرقّة واللين، المحبة والمودة، وقد شكّل المنعطف الحاسم في الفيلم (الاختطاف) صدمة ونقطة تحوّل في شخصيتها التي باحت بدواخلها الأليمة بعد ذلك: البكاء - الجزع - الأنين - الشكوى - الغضب - الصراخ - الإرهاق - الألم ذ التضحية - طلب المساعدة بكل الطرق... إلخ. إنها مشاعر الأم تتبدّى، وتعلن حضورها، وتصرخ بقوة، بعد وجع الفراق وطعنة الحرمان الأمومي.
الفضاء هو الآخر عنصر أساسي مستجد في هذا العمل السينمائي، باعتباره طفرة فنيّة في أفلام أصغر فرهادي، وانسلاخًا عن العادة القديمة في تعامله مع هذا المكون. فجُلّ أعماله السابقة، انحصرت في الفضاء الإيراني ومجالاته المتعدّدة، ليقرر هذه المرّة تغيير البوصلة، وتحويل الاتجاه صوب إسبانيا، وبالضبط في قرية ضاحية العاصمة مدريد، حيث تمثّل الفلاحة دور المُعين الأساسي للمواطن الإسباني.
إشارة أيقونية
والزراعة الأساسية التي تنتشر في هذا المكان هي زراعة الكروم لإنتاج النبيذ وكل أنواع الخمور. وهذا ما ينبهنا إلى إشارة أيقونية مهمة في هذا الصدد، مرتبطة برمزية هذا المنتوج المسكر، الذي يفقد التركيز، ويشوش العقل، ويؤدي بالفرد إلى المتاهة والتمويه والتضليل. وهذه الصفات هي القيم الأساسية التي غلبت على حبكة الفيلم، وهيمنت على مخيال كل شخصياته في أغلب الفترات. وما مشهد الاحتفال بالنبيذ، وسكب الخمور المستقدمة من مزرعة باكو، إلّا تدليل على بدء الدوّامة واتّساع شبكة الحيرة والمتاهة في العلاقات العائلية للبطلة. والسبب بطبيعة الحال هو الطارئ الذي سيقع في هذا الحفل (الاختطاف)، وكأنّ المخرج يريد أن يشبّه لنا وقع تضليله على العائلة، هنا، بالتشويش الذي تحدثه الخمر في عقل الإنسان.
على المستوى البصري، هيمنت اللقطات المقربة والمتوسطة في الفيلم، لكونه عملًا فنيًا ذا طابع اجتماعي وأسري، يرصد طارئًا أخلّ بتماسك العائلة، التي أوهمنا المخرج باستقرارها وانسجامها في البداية.
فاللقطات الكبيرة والمقرّبة، أطّرت وضعية الحوار والتواصل في جميع مراحل الفيلم، مركّزة على السلوك التفاعلي للشخصيات، ومزاجها الانفعالي، وملامحها الخارجية في الوضعيات المنفرجة، واللحظات المتأزمة على السواء. ففي المرحلة الأولى، تطغى مظاهر التفاهم والسعادة والانبساط على محيَّا الشخصيات، أثناء استعدادها لحفل الزفاف البهيج. بينما تتقلّب هذه الوضعيّة إلى النقيض في المرحلة الثانية، حينما يسود التشكيك والاختلاف والاضطراب، وهذا ما يؤدي إلى تهديم بُنيان العائلة.
لقطات متوسطة
وفيما يخص اللقطات المتوسطة، فقد حاولت رصد البنية الدينامية للأحداث، وطابعها الحركي المتجلي في سيرورة البحث والتضحية من أجل إنقاذ البنت المختطفة، حيث تعقبت العدسة - بلقطات متوسطة - محاولات كل من لورا وباكو لتوفير الفدية الكافية لعتق رقبة طفلتهما الشرعية، والتي ستنجح أخيرًا بفضل إصرار الأم، ومشاعر الأبوة المتحركة عند الأب (الشرعي).
تلعب الإضاءة، كذلك، دورًا بارزًا وفاعلًا في الفيلم، لكونها تعبّر عن الجانب الدرامي للأحداث وانعراجاتها المثيرة، كما أنّها تتناسق مع الحالة النفسية للشخصيات، وتتوافق مع علاقاتها الاجتماعية وظروفها العائلية. فنجد مثلًا أن الإضاءة تقوى في القسم الأول من الفيلم، نظرًا لتردداتها التعبيرية الكثيفة فيما يخص الانفعالات الإيجابية:
- أشعة الشمس المشرقة، والجو الصحو، وما رافق ذلك من إنارة طبيعية قويّة أثناء الاستعداد لحفل الزفاف.
- كثرة المصابيح والأنوار الاصطناعية التي خلقت البهجة، وزادت من إيقاع الحفل وصخب النشاط (الغناء والرقص).
كما نصادف هذه الشدة في الشعاع، والحدة في الوهج خلال عملية البحث عن الطفلة المختطفة، وأثناء انسلال نور الأمل إلى نفسية عائلتها، لأنّ ظروف العملية، فرضت على المخرج تسليط الضوء على الحيثيات والاعتبارات والدوافع التي كانت وراءها، ثم تعقّب جميع مراحلها لتنوير المشاهد بجميع تفاصيلها من لحظة الصدمة، إلى لحظة التشكيك، ثم البحث عن الفدية، فإنقاذ الفتاة، أخيرًا، من أيدي العصابة.
لحظة مفصلية
شكّل انقطاع الضوء عن حفل الزفاف لحظة مفصلية في المحكي البصري للفيلم، لكونه سيقفز بنا من محطة إلى محطة (الوقائع) ومن درجة إلى درجة (الإنارة). فهذه اللحظة أشارت، فنيًّا، إلى التحول من المستوى المتّزن للأحداث (المسرة - السعادة - الاحتفاء - اللهو - السمر- الشدو... إلخ) إلى المستوى المختل منها (الشكوى - الاكتئاب - الشجن - الكَرْب - الفوضى - الغيظ - السخط - الحنق... إلخ). وقد عبّر المخرج عن هذا التحوّل، من خلال مثيرات ضوئية باهتة، تظهر الخفوت، وضعف الحدة، وشحب البريق:
- مثيرات صناعية: انقطاع النور، وتمدد العتمة والدهمة.
- مثيرات طبيعية: ظلام الليل الحالك - السحب والأمطار القوية التي حجبت ضوء السماء.
في المستوى الصوتي تغيب الموسيقى التصويرية المرافقة (الخارجية) غيابًا تامًا، نظرًا لخصوصيته الأسرية، وبعده الاجتماعي المبني على غلبة الحوار، وسيادة التواصل والكلام، وتبادل أطراف الحديث. فالمخرج ترك مساحة شاسعة لشخصياته من أجل التعبير عن أحاسيسها وأفكارها ومواقفها الصدامية بعيدًا عن تأثير الموسيقى، وسلطة النغم، ونفوذ اللحن.
لكنّ هذا لا يعني أن الفيلم استغنى استغناء كاملًا عن الرنّة والقطعة الموسيقية. بل إنه وظّف، في مقابل ذلك، الموسيقى الداخلية المتمثلة في مجموعة من الأغاني المستمدة من التراث الفني الإسباني والمسيحي: عزف نغمات الفلامنكو في حفل الزفاف - ترانيم البيانو في الكنيسة أثناء عقد القران. وتتجلّى وظيفة هذه القطع الموسيقية في الإحالة إلى تقاليد الزفاف الإسباني والطقوس الاحتفالية التي ترافقه، إضافة إلى توجيه الأنظار إلى الموروث الموسيقي اللاتيني الذي تزخر به إسبانيا (الفلامنكو)، الذي يعد مَعلمًا ثقافيًا بارزًا يحظى بإعجاب العديد من سكان العالم.
وفي الختام نخلص إلى أن المخرج فرهادي نجح في التوغل بعيدًا عن محيطه الإيراني، من خلال خوض مغامرة سينمائية بالأراضي الإسبانية، بتوظيف طاقم إسباني، ولغة إسبانية، فعبّر، سينمائيًا، عن تناقضات عائلية مثيرة كشفت زيف المظاهر التي ادّعتها الأسرة قبل وأثناء حفل الزفاف.
لم يكن الاتزان المؤقت، الذي ظهر في الحفلة إلّا إيذانًا ببدء الاختلال الذي أسفر عن ثنائيات من القيم المتعارضة: الخير/ الشر - الحب/ الكراهية - الشرعية/ اللاشرعية - التضحية/ الإهمال - المساعدة/ التقصير - السعادة/ الحزن - الضحك/ البكاء - الاحتفال/ التأسّي... إلخ ■