فيلم «الجميع يعلم» اختطاف مفاجئ واختلال عائلي

فيلم «الجميع يعلم» اختطاف مفاجئ واختلال عائلي

فيلم‭ ‬‮«‬الجميع‭ ‬يعلم‮»‬‭ (‬2018‭)‬،‭ ‬هو‭ ‬آخر‭ ‬التحف‭ ‬السينمائية‭ ‬للمخرج‭ ‬الإيراني‭ ‬أصغر‭ ‬فرهادي‭ (‬بطولة‭ ‬بينيلوب‭ ‬كروز‭ ‬وخافيير‭ ‬بارديم‭). ‬أنجزه‭ ‬بطريقة‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬أعماله‭ ‬السالفة،‭ ‬وذلك‭ ‬باختيار‭ ‬فضاء‭ ‬إسباني،‭ ‬وطاقم‭ ‬فني‭ ‬يتحدث‭ ‬اللغة‭ ‬الإسبانية،‭ ‬بغية‭ ‬اقتحام‭ ‬عالَم‭ ‬سينمائي‭ ‬جديد‭ ‬يغني‭ ‬التوغّلات‭ ‬الإيرانية‭ ‬التي‭ ‬حفلت‭ ‬بها‭ ‬معظم‭ ‬أفلامه‭ ‬السابقة‭.  ‬اختيار‭ ‬المخرج‭ ‬للعنوان‭ ‬‮«‬الجميع‭ ‬يعلم‮»‬‭ ‬كان‭ ‬ذكيًّا،‭ ‬ومقصودًا‭ ‬لشدّ‭ ‬انتباه‭ ‬المتلقي‭ ‬إلى‭ ‬قضية‭ ‬الفيلم،‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬تعمّد‭ ‬فرهادي‭ ‬تشويش‭ ‬المشاهد‭ ‬وخلق‭ ‬التساؤلات‭ ‬حول‭ ‬موضوع‭ ‬العلم‭ (‬الحقيقة‭ ‬الخفية‭)‬،‭ ‬فإن‭ ‬الجواب‭ ‬يأبى‭ ‬أن‭ ‬ينجلي‭ ‬ولو‭ ‬في‭ ‬منعرجات‭ ‬الفيلم‭ ‬وأحداثه‭ ‬المتوالية‭. ‬

يكتشف‭ ‬المتتبع‭ ‬للفيلم،‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المشاهدة،‭ ‬أنه‭ ‬وقع‭ ‬ضحية‭ ‬حيلة‭ ‬ماكرة‭ ‬اختارها‭ ‬المخرج‭ ‬لتمويهه‭ ‬وتضليله‭ ‬عن‭ ‬المسار‭ ‬بعنوان‭ ‬معاكس‭ ‬للتفاصيل‭ ‬ومتناقض‭ ‬مع‭ ‬الوقائع‭. ‬كيف‭ ‬لا‭ ‬والأحداث‭ ‬كلّها‭ ‬غموض‭ ‬وتعقيد‭ ‬وأسئلة‭ ‬واشتباه‭ ‬وحيرة؟‭ ‬كيف‭ ‬لا‭ ‬والعلم‭ ‬منعدم‭ ‬في‭ ‬أبسط‭ ‬المشاهد،‭ ‬وفي‭ ‬أعقد‭ ‬التأويلات‭ ‬والتعليلات؟‭ ‬سنؤجّل‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬موضوع‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬إلى‭ ‬اللاحق،‭ ‬ونكتفي‭ ‬بالقول‭ ‬إن‭ ‬المخرج‭ ‬نصب‭ ‬شراك‭ ‬جذب‭ ‬وتشويق‭ ‬للمتلقي‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬العنوان،‭ ‬وحينما‭ ‬يشاهد‭ ‬هذا‭ ‬المتلقي‭ ‬العمل‭ ‬يكتشف‭ ‬أن‭ ‬إسنادية‭ ‬العلم‭ ‬للكل‭ ‬تعد‭ ‬تضليلًا‭ ‬من‭ ‬المخرج،‭ ‬والتضليل‭ ‬طريقه‭ ‬متناقض،‭ ‬خاصة‭ ‬حينما‭ ‬يصبح‭ ‬الجميع‭ ‬مشاركًا‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬أخباره‭ ‬ونقل‭ ‬إشاعاته‭. ‬لهذا‭ ‬اختار‭ ‬المخرج‭ ‬أن‭ ‬يخطو‭ ‬بنا‭ - ‬في‭ ‬أحداث‭ ‬الفيلم‭ - ‬نحو‭ ‬أفق‭ ‬انتظار‭ ‬مخالف‭ ‬للتوقع‭ ‬كليًا،‭ ‬حتى‭ ‬يحبك‭ ‬مسار‭ ‬لعبته‭ ‬الفنية‭ - ‬منذ‭ ‬البداية‭ - ‬بخيوط‭ ‬الغموض‭ ‬والالتباس‭.‬

 

‭ ‬أحداث‭ ‬متقلبة

تحكي‭ ‬قصة‭ ‬الفيلم‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬تدعى‭ ‬لورا‭ (‬بينيلوب‭ ‬كروز‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬امرأة‭ ‬إسبانية‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬بوينس‭ ‬أيريس‭ (‬الأرجنتين‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬تُقرر‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬مسقط‭ ‬رأسها،‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬إسبانية‭ ‬خارج‭ ‬مدريد،‭ ‬كل‭ ‬إنتاجها‭ ‬الفلاحي‭ ‬مخصص‭ ‬لجني‭ ‬العنب‭ ‬والكروم،‭ ‬قصد‭ ‬صناعة‭ ‬النبيذ‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬العودة‭ ‬نهائية‭ ‬دائمة،‭ ‬بل‭ ‬زيارة‭ ‬مؤقتة‭ ‬لأختها‭ ‬هناك،‭ ‬لمشاركتها‭ ‬الفرحة‭ ‬والبهجة‭ ‬في‭ ‬حفل‭ ‬زفافها‭. ‬تعود‭ ‬لورا‭ ‬إذًا‭ ‬إلى‭ ‬ديارها،‭ ‬وبرفقتها‭ ‬ابنتها‭ ‬المراهقة،‭ ‬وابنها‭ ‬الصغير،‭ ‬وتلتقي‭ ‬هناك‭ ‬الأسرة‭ ‬والأهل‭ ‬والأحباب؛‭ ‬الأب‭ - ‬الأخت‭ - ‬الأصدقاء‭ - ‬الحبيب‭ ‬القديم‭. ‬

تبدأ‭ ‬الأحداث‭ ‬بثبات‭ ‬وسكون‭ ‬في‭ ‬حفل‭ ‬بهيج‭ ‬واستعداد‭ ‬يسبق‭ ‬هذه‭ ‬المناسبة،‭ ‬ثم‭ ‬يركز‭ ‬فرهادي،‭ ‬كعادته،‭ ‬على‭ ‬أدقّ‭ ‬الجزئيات‭ ‬العائلية،‭ ‬تمهيدًا‭ ‬لوقوع‭ ‬الزلّة‭ ‬أو‭ ‬العُقدة‭ ‬العائلية‭. ‬تتلاحق‭ ‬الأحداث‭ ‬والأفراح‭ ‬والاحتفالات‭ ‬بهذه‭ ‬المناسبة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تُطفأ‭ ‬الأنوار،‭ ‬ويظلم‭ ‬المكان،‭ ‬ويحجب‭ ‬المشهد،‭ ‬فننتقل‭ ‬آنذاك‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬ثان‭ ‬من‭ ‬الوقائع،‭ ‬ومسار‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬القصة‭.‬

  ‬تتولد‭ ‬العُقدة‭ ‬ويقع‭ ‬المحظور،‭ ‬عقب‭ ‬اكتشاف‭ ‬لورا‭ ‬أن‭ ‬ابنتها‭ ‬المراهقة‭ ‬اختفت‭ ‬عن‭ ‬المنزل،‭ ‬فتتناسل‭ ‬وقائع‭ ‬التحرّي‭ ‬والبحث‭ ‬والسؤال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬هدف‭ ‬واحد؛‭ ‬إيجاد‭ ‬الطفلة‭. ‬

‭ ‬تتلقى‭ ‬العائلة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬رسالة‭ ‬هاتفية‭ ‬تخبرها‭ ‬بأن‭ ‬البنت‭ ‬مخطوفة،‭ ‬ويطلب‭ ‬خاطفوها‭ ‬مبلغًا‭ ‬ماليًا‭ ‬ضخمًا‭ ‬حتى‭ ‬تفكّ‭ ‬قيودها،‭ ‬ويُخلى‭ ‬سبيلها‭. ‬فتضطر‭ ‬الأم‭ ‬لورا،‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬إلى‭ ‬الاتصال‭ ‬بزوجها‭ (‬إليخاندرو‭)‬،‭ ‬ليلتحق‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬إسبانيا‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬حل‭ ‬للمشكلة،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬العصابة‭ ‬هددتهم‭ ‬بقتل‭ ‬الابنة‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬إخبار‭ ‬الشرطة‭. ‬ولا‭ ‬تجد‭ ‬لورا‭ ‬من‭ ‬حلّ‭ ‬يفكّ‭ ‬هذا‭ ‬العائق‭ ‬الطارئ،‭ ‬سوى‭ ‬طلب‭ ‬مساعدة‭ ‬حبيبها‭ ‬السابق‭ ‬باكو‭ (‬خافيير‭ ‬بارديم‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬يملك‭ - ‬بالاشتراك‭ ‬مع‭ ‬صديق‭ ‬له‭ - ‬مزرعة‭ ‬لإنتاج‭ ‬الكروم‭. ‬

يتلكأ‭ ‬باكو،‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬للتنازل‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬المبلغ‭ ‬الضخم،‭ ‬فتلجأ‭ ‬لورا‭ ‬للخبر‭ ‬الحاسم،‭ ‬وتكشف‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬سرّ‭ ‬خطير‭ ‬مفاده‭ ‬أن‭ ‬الطفلة‭ ‬هي‭ ‬ابنته‭ ‬من‭ ‬علاقتهما‭ ‬السابقة‭. ‬يُصدم‭ ‬باكو‭ ‬من‭ ‬هول‭ ‬الخبر،‭ ‬ويحسم‭ ‬قراره‭ ‬لمصلحة‭ ‬فلذة‭ ‬كبده‭. ‬كيف‭ ‬لا‭ ‬وقد‭ ‬حُرم‭ ‬من‭ ‬الإنجاب‭ ‬مجددًا‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬الثانية‭ ‬مع‭ ‬الزوجة؟‭ ‬يربط‭ ‬اتصالاته‭ ‬بالعصابة،‭ ‬ويقرر‭ ‬أخيرًا‭ ‬أن‭ ‬يضحي‭ ‬بثروته‭ ‬ويبيع‭ ‬حصّته‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬العنب،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الهدف‭ ‬الأسمى؛‭ ‬إنقاذ‭ ‬ابنته‭.‬

ينجح‭ ‬أخيرًا‭ ‬في‭ ‬مسعاه،‭ ‬وينتهي‭ ‬الفيلم‭ ‬بمغادرة‭ ‬الأسرة‭ ‬للقرية،‭ ‬دون‭ ‬علم‭ ‬للبنت‭ ‬بأبيها‭ ‬الحقيقي،‭ ‬ودون‭ ‬دراية‭ ‬للأسرة‭ ‬بالحقيقة‭ ‬وموضوع‭ ‬العلم‭ ‬الذي‭ ‬قصده‭ ‬المخرج‭ ‬في‭ ‬العنوان‭: ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬عملية‭ ‬الاختطاف،‭ ‬ولو‭ ‬أنّ‭ ‬المعرفة‭ ‬قد‭ ‬تمّت‭ ‬بنجاح‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمشاهد،‭ ‬الذي‭ ‬عرف‭ ‬صاحب‭ ‬الفعل‭. ‬وهنا‭ ‬نكتشف‭ ‬حيلة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬المخرج‭ ‬استهدفت‭ ‬حجب‭ ‬الحقيقة‭ ‬عن‭ ‬العائلة‭ ‬الحائرة،‭ ‬وكشفها‭ ‬للمشاهد‭ ‬المتابع‭ ‬والمدرك‭ ‬لكل‭ ‬التفاصيل،‭ ‬فجمع‭ ‬المخرج‭ - ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬هذه‭ ‬الحيلة‭ - ‬بين‭ ‬ثنائيات‭ ‬متضادة‭: ‬الحجب‭/ ‬الكشف‭ - ‬الحيرة‭/‬‭ ‬الإدراك‭ - ‬الجهل‭/ ‬العلم‭... ‬إلخ‭.‬

 

طابع‭ ‬اجتماعي‭ ‬رتيب

يظهر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاستعراض‭ ‬السابق‭ ‬أن‭ ‬فرهادي‭ ‬واصل‭ ‬على‭ ‬منوال‭ ‬أفلامه‭ ‬السابقة‭ ‬نفسه،‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬الطبع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الذي‭ ‬يتبدّى‭ ‬واضحًا،‭ ‬بين‭ ‬ثنايا‭ ‬الصراع‭ ‬النفسي‭ ‬والوجداني‭ ‬والفكري‭ ‬لشخصياته‭. ‬فأفلام‭ ‬مثل‭: ‬‮«‬انفصال‭ ‬نادر‭ ‬وياسمين‮»‬‭ ‬و«البائع‮»‬،‭ ‬تعالج‭ ‬هذا‭ ‬التوتر‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬عائلي،‭ ‬تتمخّض‭ ‬عنه‭ ‬انقسامات‭ ‬وخلافات‭ ‬وعوارض‭ ‬أسريّة،‭ ‬ناتجة‭ ‬عن‭ ‬الانقلاب‭ ‬الأسري‭ (‬من‭ ‬حالة‭ ‬السعادة‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬الاضطراب‭).‬

الشيء‭ ‬نفسه‭ ‬نلاحظه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العمل،‭ ‬حيث‭ ‬العدسة‭ ‬تلاحق‭ ‬كلّ‭ ‬التفاصيل‭ ‬وتدقّق‭ ‬في‭ ‬أسرار‭ ‬العلاقة‭ ‬العائلية‭ ‬للبطلة‭ ‬لورا‭ ‬مع‭ ‬جميع‭ ‬الأفراد‭: ‬الأخت‭ ‬والأم‭ ‬والأبناء‭ ‬والحبيب‭ ‬والزوج‭ ‬والأقرباء‭. ‬إنها‭ ‬تقترب‭ ‬منهم‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا،‭ ‬وتحاول‭ ‬الإحاطة‭ ‬أولًا‭ ‬بمظاهر‭ ‬الفرحة‭ ‬والبهجة‭ ‬في‭ ‬حفل‭ ‬الزفاف‭ ‬السعيد‭: ‬رقص‭ - ‬غناء‭ - ‬نبيذ‭ - ‬ضحك‭ - ‬أصوات‭ ‬عالية‭ - ‬نشاط‭... ‬إلخ،‭ ‬ثم‭ ‬تنتقل‭ ‬إلى‭ ‬رصد‭ ‬صور‭ ‬الفوضى‭ ‬والاختلاف‭ ‬والاختلال‭ ‬التي‭ ‬عمّت‭ ‬العائلة‭ ‬مباشرة‭ ‬بعد‭ ‬لحظة‭ ‬التحوّل،‭ ‬لحظة‭ ‬اختطاف‭ ‬البنت‭: ‬صراخ‭ - ‬اتهامات‭ - ‬بكاء‭ - ‬غضب‭ - ‬صمت‭ - ‬حزن‭ - ‬بحث‭... ‬إلخ‭. ‬

يبتدئ‭ ‬الفيلم‭ ‬بإيقاع‭ ‬رتيب‭ ‬وبطيء،‭ ‬مركّزًا‭ ‬على‭ ‬صورة‭ ‬يد‭ ‬تقطع‭ ‬صورة‭ ‬طفلة‭ ‬مجهولة‭ ‬من‭ ‬صفحة‭ ‬إحدى‭ ‬الجرائد‭ ‬الإسبانية‭. ‬وهي‭ ‬لقطة‭ ‬ذكية‭ ‬لها‭ ‬إحالة‭ ‬بعدية‭ ‬لما‭ ‬سيأتي‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬لاحقة،‭ ‬لأن‭ ‬محور‭ ‬العقدة‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬هي‭ ‬طفلة‭ ‬لورا‭ ‬التي‭ ‬ستُختطف‭ ‬وتقطع‭ ‬من‭ ‬حبل‭ ‬العائلة،‭ ‬على‭ ‬شاكلة‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬تقصّ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭. ‬وفي‭ ‬مشهد‭ ‬دالّ‭ ‬آخر،‭ ‬تركّز‭ ‬الكاميرا‭ ‬على‭ ‬الطفلة‭ ‬المراهقة‭ ‬وصديقها‭ ‬وهما‭ ‬يركبان‭ ‬درّاجة‭ ‬ويتجهان‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬ضيقة،‭ ‬بسرعة‭ ‬كادت‭ ‬تصدمهما‭ ‬بسيارة‭ ‬تقابلهما‭ ‬الطريق‭.‬

المثير‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬سائق‭ ‬السيارة‭ ‬هو‭ ‬باكو‭ (‬الأب‭ ‬الشرعي‭ ‬لتلك‭ ‬الطفلة‭)‬،‭ ‬وما‭ ‬تقابلهما‭ ‬إلّا‭ ‬إشارة‭ ‬مسبقة‭ ‬من‭ ‬المخرج‭ ‬للمواجهات‭ ‬القادمة‭ ‬في‭ ‬الطريق،‭ ‬مواجهات‭ ‬صادمة‭ ‬وتقابلات‭ ‬مثيرة،‭ ‬ستلزم‭ ‬باكو‭ ‬التضحية‭ ‬بالغالي‭ ‬والنفيس‭ ‬لإنقاذ‭ ‬طفلته‭ ‬الوحيدة‭ ‬بعد‭ ‬علمه‭ ‬بسرّ‭ ‬الأبوة‭. ‬

واستمرارًا‭ ‬مع‭ ‬حالة‭ ‬الرتابة‭ ‬والثبات‭ ‬التي‭ ‬ميّزت‭ ‬الشطر‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الفيلم،‭ ‬نصادف‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬المشاهد‭ ‬البطلة‭ ‬العائدة‭ ‬إلى‭ ‬ديارها‭ (‬لورا‭) ‬وهي‭ ‬تفتح‭ ‬نوافذ‭ ‬منزلها‭ ‬القديم،‭ ‬وتتطلع‭ ‬لأشعة‭ ‬الشمس‭ ‬المنسلّة‭ ‬من‭ ‬عبق‭ ‬النسيم‭ ‬العليل،‭ ‬والمطلة‭ ‬من‭ ‬نفق‭ ‬الجو‭ ‬الجميل‭. ‬وهذا‭ ‬رمز‭ ‬بصري‭ ‬بليغ‭ ‬يوحي‭ ‬بفتح‭ ‬خواطر‭ ‬البطلة،‭ ‬وتهييج‭ ‬مشاعرها‭ ‬للبوح‭ ‬والمكاشفة،‭ ‬للإعلان‭ ‬والمحاسبة،‭ ‬للإبداء‭ ‬والمساءلة،‭ ‬خاصة‭ ‬فيما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بماضي‭ ‬علاقتها‭ ‬الغرامية‭ ‬بحبيبها‭ ‬الأول‭ ‬باكو‭.‬

‭ ‬

انقلاب‭ ‬مفاجئ‭ ‬

تتغير‭ ‬الوقائع‭ ‬فجأة،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬سابق‭ ‬إنذار‭ ‬فور‭ ‬إطفاء‭ ‬الأنوار‭ ‬في‭ ‬حفل‭ ‬الزفاف‭. ‬وهذا‭ ‬المشهد‭ ‬رمز‭ ‬فنّي‭ ‬بارع،‭ ‬فتح‭ ‬الباب‭ ‬أمام‭ ‬المنعرجات،‭ ‬ومثّل‭ ‬حلقة‭ ‬التحول‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭. ‬فالانتقال‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬الاحتفال‭ ‬إلى‭ ‬لحظات‭ ‬المآسي‭ ‬يلخّصه‭ ‬المخرج‭ ‬عبر‭ ‬هذا‭ ‬الانقطاع‭ ‬المفاجئ‭ ‬في‭ ‬الأنوار،‭ ‬حيث‭ ‬عمّ‭ ‬الظلام‭ ‬وساد‭ ‬الغسق‭ ‬وانبسط‭ ‬السواد،‭ ‬إيحاء‭ ‬بانقطاع‭ ‬مصدر‭ ‬الفرح،‭ ‬واندثار‭ ‬جوّ‭ ‬المرح،‭ ‬وهيمنة‭ ‬سمة‭ ‬التّرح‭. ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬بسبب‭ ‬اكتشاف‭ ‬الأم‭ ‬لورا‭ ‬غياب‭ ‬ابنتها‭ ‬عن‭ ‬الغرفة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ترقد‭ ‬فيها،‭ ‬واختطافها‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬أشخاص‭ ‬مجهولين‭.‬

وقد‭ ‬وظّف‭ ‬المخرج‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المؤشرات‭ ‬البصرية‭ ‬التي‭ ‬دلّت‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التقلّب،‭ ‬أبرزها‭: ‬

‭- ‬انتفاضة‭ ‬الحمام‭ ‬الخائف‭ ‬وهروبه‭ ‬من‭ ‬عقارب‭ ‬ساعة‭ ‬الكنيسة،‭ ‬حيث‭ ‬مكان‭ ‬عقد‭ ‬القران،‭ ‬إيحاء‭ ‬بالفورة‭ ‬والفوضى‭ ‬التي‭ ‬ستسود‭ ‬هذه‭ ‬المناسبة،‭ ‬عقب‭ ‬المعرفة‭ ‬بخبر‭ ‬الخطف‭.‬

‭- ‬المطر‭ ‬الغزير‭ ‬والرعد‭ ‬القوي‭: ‬أيقونة‭ ‬فنية‭ ‬أخرى‭ ‬وظّفها‭ ‬فرهادي‭ ‬للإحالة‭ ‬إلى‭ ‬الجو‭ ‬المكهرب،‭ ‬والمكفهرّ‭ ‬للأحداث،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬أن‭ ‬جزءها‭ ‬الأول‭ ‬تميّز‭ ‬بصفاء‭ ‬الطقس‭ ‬ووهج‭ ‬الشمس‭ ‬ونسيم‭ ‬الطبيعة‭ ‬العليل‭. ‬وهذا‭ ‬التغيّر‭ ‬المناخي‭ ‬المباغت‭ ‬مردُّه‭ ‬إلى‭ ‬سعي‭ ‬المخرج‭ ‬لتحقيق‭ ‬التناسب‭ ‬الفنّي‭ ‬بين‭ ‬الجو‭ ‬الدرامي‭ ‬والجو‭ ‬الواقعي‭ ‬للأحداث‭.‬

‭- ‬خفوت‭ ‬الأنوار‭: ‬وهي‭ ‬من‭ ‬العلامات‭ ‬البصرية‭ ‬الدالة‭ ‬على‭ ‬وضعية‭ ‬التحول،‭ ‬حيث‭ ‬ينقلنا‭ ‬فرهادي‭ ‬من‭ ‬عالَم‭ ‬وهاج‭ ‬بأشعة‭ ‬الشمس‭ ‬وصفاء‭ ‬السماء‭ ‬في‭ ‬النهار‭ ‬إلى‭ ‬عالَم‭ ‬غامر‭ ‬بالظلام‭ ‬والعتمة‭ ‬الليلية‭ ‬أثناء‭ ‬حفل‭ ‬الزفاف‭. ‬وهو‭ ‬وضع‭ ‬ساعد‭ ‬العصابة‭ ‬على‭ ‬اختطاف‭ ‬الطفلة،‭ ‬مستغلّين،‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬انقطاع‭ ‬النور‭ ‬عن‭ ‬فضاء‭ ‬الحفل‭.‬

 

ارتجاج‭ ‬في‭ ‬العلاقات

تتعقّد‭ ‬سيرورة‭ ‬الأحداث،‭ ‬وتتّسع‭ ‬شبكة‭ ‬التساؤلات‭ ‬والشكوك،‭ ‬وتزداد‭ ‬وتيرة‭ ‬الخلافات‭ ‬والاختلالات،‭ ‬وينمو‭ ‬الصراع‭ ‬والصدام‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬الشخصيات‭ ‬في‭ ‬العائلة‭: ‬

‭- ‬شجار‭ ‬أب‭ ‬لورا‭ ‬مع‭ ‬عائلة‭ ‬باكو،‭ ‬بسبب‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬توفير‭ ‬المال‭ ‬الكافي‭ ‬لإنقاذ‭ ‬حفيدته‭ ‬المختطفة‭. ‬ولهذا‭ ‬السبب‭ ‬وجّه‭ ‬سيلًا‭ ‬من‭ ‬كلمات‭ ‬السبّ‭ ‬والشتم‭ ‬ضد‭ ‬باكو،‭ ‬متهمًا‭ ‬إيّاه‭ ‬باستغلال‭ ‬ابنته‭ ‬لورا‭ ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬ودفعها‭ ‬لبيع‭ ‬أرضها‭ ‬بثمن‭ ‬هزيل‭.‬

‭- ‬خلاف‭ ‬باكو‭ ‬وزوجته،‭ ‬بسبب‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬إعانة‭ ‬عائلة‭ ‬لورا‭ ‬بمال‭ ‬المزرعة،‭ ‬لإنقاذ‭ ‬الفتاة‭ ‬المختطفة‭. ‬فباكو‭ ‬كان‭ ‬يخطط‭ ‬لبيع‭ ‬حصته‭ ‬من‭ ‬مزرعة‭ ‬الكروم‭ ‬لمساعدة‭ ‬المختطفة،‭ ‬بينما‭ ‬ترفض‭ ‬الزوجة‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة،‭ ‬مدّعية‭ ‬أن‭ ‬لورا‭ ‬مجرد‭ ‬مخادعة‭ ‬كاذبة‭ ‬أعماها‭ ‬الطمع،‭ ‬تسعى‭ ‬لتوريط‭ ‬باكو،‭ ‬والاحتيال‭ ‬على‭ ‬ثروته‭.‬

‭- ‬الشك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬زوج‭ ‬لورا،‭ ‬الغائب‭ ‬عن‭ ‬الأحداث،‭ ‬هو‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬عملية‭ ‬الاختطاف‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الثروة،‭ ‬نظرًا‭ ‬لأنّه‭ ‬فقد‭ ‬عمله‭ ‬وأصبح‭ ‬عاطلًا‭ ‬محتاجًا‭ ‬للمال،‭ ‬ومدمنًا‭ ‬مقبلًا‭ ‬على‭ ‬الخمر،‭ ‬وهذا‭ ‬سبب‭ ‬كاف‭ ‬للشكّ‭ ‬فيه‭.‬

‭- ‬التشكيك‭ ‬في‭ ‬زوجة‭ ‬باكو،‭ ‬هي‭ ‬الأخرى،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القضية،‭ ‬لأنّ‭ ‬العصابة‭ ‬كانت‭ ‬تتواصل‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬هاتفها‭ ‬الخاص،‭ ‬وتوجّه‭ ‬إليها‭ ‬رسائل‭ ‬التهديد،‭ ‬وشروطها‭ ‬المالية‭ ‬مقابل‭ ‬الإفراج،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬الجميع‭ ‬يتوجس‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التراسل‭ ‬الغريب‭.‬

‭- ‬التنازع‭ ‬حول‭ ‬الأرض،‭ ‬من‭ ‬المشاكل‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬عمّقت‭ ‬هوة‭ ‬الخصومة‭ ‬والصدام‭ ‬بين‭ ‬الأطراف‭: ‬عائلة‭ ‬لورا‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وعائلة‭ ‬باكو‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬الأولى‭ ‬تتهم‭ ‬الثانية‭ ‬بالاحتيال‭ ‬وشراء‭ ‬الأرض‭ ‬بثمن‭ ‬بخس،‭ ‬والثانية‭ ‬تنفي‭ ‬هذه‭ ‬التهمة،‭ ‬وتدّعي‭ ‬أنها‭ ‬اشترتها‭ ‬بالودّ‭ ‬والرضا‭ ‬والتفاهم‭.‬

 

أبوّة‭ ‬متأخرة

المنعرج‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬نصادفه‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬يتراءى‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬أفصحت‭ ‬فيها‭ ‬الأم‭ ‬لورا‭ ‬لحبيبها‭ ‬القديم‭ ‬باكو‭ ‬بأن‭ ‬الطفلة‭ ‬المختطفة‭ ‬هي‭ ‬ابنته‭ ‬من‭ ‬علاقتهما‭ ‬السابقة‭. ‬هذا‭ ‬الخبر‭ ‬الصادم‭ ‬شكّل‭ ‬نقطة‭ ‬تحوّل‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬حيث‭ ‬اضطرت‭ ‬الأم‭ ‬أن‭ ‬تفشي‭ ‬السّر‭ ‬الدفين،‭ ‬الذي‭ ‬طال‭ ‬حجبه‭ ‬وستره‭ ‬لزمن‭ ‬طويل،‭ ‬كآخر‭ ‬محاولة‭ ‬منها‭ ‬لإنقاذ‭ ‬ابنتها‭ ‬من‭ ‬الضياع‭.‬

وجد‭ ‬باكو‭ ‬نفسه‭ ‬محاصرًا‭ ‬في‭ ‬قوقعة‭ ‬الصدمة،‭ ‬ومرغمًا‭ ‬على‭ ‬التدخل،‭ ‬مهما‭ ‬يكُن،‭ ‬لاسترجاع‭ ‬فلذة‭ ‬كبده‭. ‬كيف‭ ‬لا‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬حُرم‭ ‬من‭ ‬نعمة‭ ‬الأبوّة‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة؟‭ ‬كيف‭ ‬لا‭ ‬وقد‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬دهمة‭ ‬ودجنة‭ ‬غيّبت‭ ‬عنه‭ ‬ابنته‭ ‬الوحيدة‭ ‬لسنين‭ ‬عدّة؟‭ ‬فبعد‭ ‬فراقها‭ ‬عن‭ ‬باكو،‭ ‬تزوجت‭ ‬لورا‭ ‬من‭ ‬زوجها‭ ‬إليخاندرو،‭ ‬واتفقا‭ ‬معًا‭ ‬على‭ ‬إخفاء‭ ‬سرّ‭ ‬حملها‭ ‬من‭ ‬حبيبها‭ ‬الأول،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاءت‭ ‬هذه‭ ‬العقبة‭ ‬التي‭ ‬ستفرج‭ ‬عن‭ ‬الأخبار،‭ ‬وتجلي‭ ‬الأسرار،‭ ‬وتكشف‭ ‬الأقدار‭. ‬ست‭ ‬عشرة‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬السّتر‭ ‬والإبطان،‭ ‬ست‭ ‬عشرة‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬الطمس‭ ‬والكتمان،‭ ‬ست‭ ‬عشرة‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬وهْم‭ ‬العقم‭ ‬والحرمان‭ (‬باكو‭ ‬لم‭ ‬يُرزق‭ ‬بأولاد‭ ‬من‭ ‬زواجه،‭ ‬فتوهّم‭ ‬العقم‭ ‬وعدم‭ ‬الإنجاب‭).‬

‭ ‬هكذا‭ ‬نجح‭ ‬المخرج،‭ ‬ببراعة،‭ ‬في‭ ‬تحويل‭ ‬الأنظار،‭ ‬وتمويه‭ ‬الأبصار‭ ‬من‭ ‬القضية‭ ‬الأساسية‭ ‬للفيلم‭ (‬اختطاف‭ ‬البنت‭) ‬إلى‭ ‬قضية‭ ‬محوريّة‭ ‬أخرى،‭ ‬تمثّلت‭ ‬في‭ ‬الأبوة‭ ‬المتأخرة‭ ‬لباكو،‭ ‬لأنّ‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬لم‭ ‬يعلم‭ ‬بالأمر‭ ‬اليقين،‭ ‬إلّا‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الواقعة‭. ‬صراع‭ ‬آخر‭ ‬تولّد‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬التوتر‭ ‬العائلي،‭ ‬وهو‭ ‬الصدام‭ ‬الثنائي‭ ‬بين‭ ‬زوج‭ ‬لورا‭ (‬الأب‭ ‬غير‭ ‬الشرعي‭) ‬وباكو‭ ‬الأب‭ ‬الشرعي‭ ‬للفتاة‭ ‬المختطفة،‭ ‬فهذا‭ ‬الأخير‭ ‬اكتشف‭ ‬صلته‭ ‬الدموية‭ ‬بالطفلة‭ ‬متأخرًا،‭ ‬وحاول‭ ‬أن‭ ‬يردّ‭ ‬الجميل‭ ‬لفلذة‭ ‬كبده‭ - ‬أو‭ ‬‮«‬حقه‮»‬‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬حواره‭ ‬مع‭ ‬إليخاندرو‭ - ‬بإنقاذها‭ ‬من‭ ‬براثن‭ ‬الوحوش‭ ‬المختطفين‭. ‬أما‭ ‬زوج‭ ‬لورا‭ (‬إليخاندرو‭) ‬فكان‭ ‬يستهدف‭ ‬من‭ ‬إنقاذ‭ ‬الطفلة‭ ‬تحسين‭ ‬صورته‭ ‬عند‭ ‬الأسرة‭ ‬والعائلة،‭ ‬وذلك‭ ‬بالتكفير‭ ‬عن‭ ‬أخطائه‭ ‬السابقة،‭ ‬وتعويض‭ ‬كل‭ ‬التقصير‭ ‬الذي‭ ‬أظهره‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬واجبه‭ ‬الأسري‭: ‬الشّرب‭ - ‬البطالة‭ - ‬الإهمال‭ - ‬المشاعر‭ ‬الباردة‭... ‬إلخ‭.‬

‭ ‬وهكذا‭ ‬سيقرر‭ ‬باكو،‭ ‬التضحية‭ ‬بحقّه‭ ‬في‭ ‬مزرعة‭ ‬الكروم،‭ ‬وذلك‭ ‬ببيع‭ ‬حصته‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬لزميله‭ ‬وشريكه،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تأمين‭ ‬الفدية‭ ‬التي‭ ‬سيقدمها‭ ‬للعصابة،‭ ‬بهدف‭ ‬إنقاذ‭ ‬ابنته‭ ‬المختطفة‭. ‬إنه‭ ‬الجزاء‭ ‬الأصلح‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقدّمه‭ ‬لفتاته‭ ‬الصغيرة،‭ ‬تعويضًا‭ ‬عن‭ ‬السنين‭ ‬الطويلة‭ ‬التي‭ ‬قضاها‭ ‬بعيدًا‭ ‬عنها،‭ ‬وجاهلًا‭ ‬بها‭. ‬

وقد‭ ‬ركز‭ ‬فرهادي،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد،‭ ‬على‭ ‬مشهد‭ ‬بليغ‭ ‬يرصد‭ ‬حوار‭ ‬باكو‭ ‬مع‭ ‬زوجته،‭ ‬وهو‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬تحويل‭ ‬ممتلكاته‭ ‬إلى‭ ‬تضحية‭ ‬نفيسة‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬جميلته‭ ‬الصغيرة‭. ‬ويؤطر‭ ‬المخرج‭ - ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ - ‬لقطة‭ ‬مميزة‭ ‬تصور‭ ‬باكو‭ ‬وهو‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬صورته‭ ‬المعكوسة‭ ‬في‭ ‬مرآة‭ ‬الحمام،‭ ‬وكأنه‭ ‬يقيم‭ ‬مونولوجًا‭ ‬وجدانيًا‭ ‬يناجي‭ ‬فيه‭ ‬أحاسيس‭ ‬الأبوة‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬دفينة‭ ‬لزمن‭ ‬طويل،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الاستيقاظ‭ ‬والتدخل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬الحرج‭.‬

 

حيرة‭ ‬عائلية‭ ‬وإفشاء‭ ‬للجمهور

بعد‭ ‬الاختطاف،‭ ‬تدخل‭ ‬العائلة‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬من‭ ‬الحيرة‭ ‬والشك‭ ‬والاشتباه،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أن‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الفعل‭ ‬الإجرامي،‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬سوى‭ ‬فرد‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬العائلة،‭ ‬أو‭ ‬قريب‭ ‬مقرّب‭ ‬منها‭. ‬مادام‭ ‬يعلم‭ ‬بصلة‭ ‬المراهقة‭ ‬ونسبها‭ ‬من‭ ‬باكو‭ ‬صاحب‭ ‬الثروة‭ ‬والمال،‭ ‬ومادام‭ ‬يملك‭ ‬الرقم‭ ‬الهاتفي‭ ‬لزوجة‭ ‬باكو‭ ‬وحبيبته‭ ‬السابقة‭ ‬لورا،‭ ‬ويستعمله‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬خطته،‭ ‬والتواصل‭ ‬مع‭ ‬العائلة‭.‬

وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬تفضيل‭ ‬العصابة‭ ‬للاختيار‭ ‬الصعب‭ ‬في‭ ‬العملية،‭ ‬باختطاف‭ ‬البنت‭ ‬المراهقة‭ ‬بدل‭ ‬أخيها‭ ‬الصغير‭ (‬ولو‭ ‬أنه‭ ‬أسهل‭ ‬للخطف‭)‬،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬المراهقة‭ ‬ستدر‭ ‬دخلًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬للعصابة،‭ ‬لكونها‭ ‬تنتمي‭ ‬لصلب‭ ‬باكو‭ ‬الغنيّ،‭ ‬عكس‭ ‬الطفل‭ ‬الصغير‭ ‬ابن‭ ‬إليخاندرو‭ ‬العاطل‭.‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬متاهة‭ ‬التساؤل‭ ‬والاختلاف‭ ‬والتشكيك‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬سادت‭ ‬بين‭ ‬أطراف‭ ‬العائلة‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الفيلم،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬الحقيقة‭ ‬تبقى‭ ‬مخفية‭ ‬ومكتومة،‭ ‬والمجرم‭ ‬مستورًا‭ ‬مجهولًا،‭ ‬فإنّ‭ ‬المخرج‭ ‬قرر،‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬ذلك،‭ ‬إظهار‭ ‬العصابة‭ ‬للمشاهد،‭ ‬وكشف‭ ‬ملامحها،‭ ‬وهوية‭ ‬أفرادها،‭ ‬وذرائع‭ ‬فعلتها،‭ ‬والمستفيد‭ ‬من‭ ‬غنيمتها،‭ ‬حيث‭ ‬يكشف‭ ‬فرهادي‭ ‬عن‭ ‬الوجوه‭ ‬التي‭ ‬اختطفت‭ ‬الفتاة،‭ ‬فجأة،‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬تحذير‭ ‬للبطل،‭ ‬ودون‭ ‬سابق‭ ‬تحضير‭ ‬للمتفرج‭. ‬عصابة‭ ‬مكوّنة‭ ‬من‭ ‬شابين‭ ‬اتفقا‭ ‬مع‭ ‬فتاة‭ ‬العائلة‭ ‬التي‭ ‬التقتها‭ ‬لورا‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الفيلم‭ ‬رفقة‭ ‬طفلتها‭ ‬الصغيرة‭. ‬واحد‭ ‬من‭ ‬هذين‭ ‬الشابين‭ ‬متزوج‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الفتاة،‭ ‬يعيش‭ ‬الفقر‭ ‬والعوز‭ ‬المدقع،‭ ‬وللخروج‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحالة،‭ ‬اتفق‭ ‬مع‭ ‬زوجته‭ ‬وصديق‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬خطة‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭.‬

 

فخ‭ ‬مُحكم‭ ‬

يحجب‭ ‬فرهادي،‭ ‬بذكائه‭ ‬الفني،‭ ‬مسؤولية‭ ‬هذه‭ ‬الفتاة‭ ‬في‭ ‬الجريمة،‭ ‬لكنّه‭ ‬يدع‭ ‬خيطًا‭ ‬للشبهة‭ ‬والتوريط‭ ‬والاتهام،‭ ‬ويترك‭ ‬الحل‭ ‬مملوكًا،‭ ‬والسرّ‭ ‬مكشوفًا‭ ‬عند‭ ‬أحد‭ ‬أبطاله‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭. ‬إنه‭ ‬فخ‭ ‬مُحكم‭ ‬التشييد‭ ‬ومتقن‭ ‬التقييد،‭ ‬انسلّ‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬قرائن‭ ‬الجريمة،‭ ‬ليلمح‭ ‬جليًا‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬أفراد‭ ‬العائلة‭. ‬فبعد‭ ‬عودة‭ ‬الفتاة،‭ ‬متأخرة،‭ ‬من‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يوجد‭ ‬فيه‭ ‬رفاقها‭ ‬الخاطفون،‭ ‬لاحظت‭ ‬أمّها‭ ‬بقايا‭ ‬وحلٍ‭ ‬وتراب‭ ‬على‭ ‬حذائها‭ ‬المتسخ،‭ ‬بينما‭ ‬دبرت‭ ‬هي‭ ‬أكذوبة‭ ‬للرد‭ ‬على‭ ‬سؤال‭ ‬أمها‭ ‬حول‭ ‬سبب‭ ‬تأخرها‭ ‬عن‭ ‬العودة‭ ‬للمنزل‭. ‬لكنّ‭ ‬الجواب‭ ‬لم‭ ‬يقنع‭ ‬الأم،‭ ‬فتظل‭ ‬أعينها‭ - ‬وأعين‭ ‬العدسة‭ - ‬مركّزة‭ ‬على‭ ‬الحذاء‭ ‬المتسخ،‭ ‬باعتباره‭ ‬دليلًا‭ ‬يولد‭ ‬التوجس‭ ‬والريبة‭ ‬والشبهة‭.‬

‭ ‬وينتهي‭ ‬الفيلم‭ ‬بهذا‭ ‬المشهد‭ ‬الإشكالي،‭ ‬تاركًا‭ ‬للمتلقي‭ ‬حريّة‭ ‬الحكم‭ ‬على‭ ‬مصير‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬العائلة؛‭ ‬سواء‭ ‬الفتاة‭ ‬المذنبة‭ ‬وزوجها‭ ‬الفقير،‭ ‬أو‭ ‬البطلة‭ ‬لورا‭ ‬التي‭ ‬أخفت‭ ‬الحقائق‭ ‬الشرعية‭ ‬عن‭ ‬ابنتها،‭ ‬أو‭ ‬باكو‭ ‬الذي‭ ‬فضّل‭ ‬الانسحاب‭ ‬وإخفاء‭ ‬سرّ‭ ‬الأبوة‭ ‬عن‭ ‬الابنة،‭ ‬أو‭ ‬إليخاندرو‭ ‬الذي‭ ‬تخاذل‭ ‬في‭ ‬مواقف‭ ‬أسرية‭ ‬حاسمة‭ ‬وأبعد‭ ‬الطفلة‭ ‬عن‭ ‬أبيها‭ ‬الشرعي‭. ‬ويتفنّن‭ ‬المخرج‭ ‬فرهادي،‭ ‬في‭ ‬لقطته‭ ‬الختامية،‭ ‬مؤطرًا‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬النظافة‭ ‬وهم‭ ‬ينظفون‭ ‬الشارع‭ ‬الإسباني‭. ‬وهذه‭ ‬اللقطة‭ ‬رمزٌ‭ ‬فنيّ‭ ‬بليغ‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬تطهير‭ ‬ذنوب‭ ‬الشخصيات،‭ ‬والتكفير‭ ‬عن‭ ‬خطاياهم،‭ ‬والصفح‭ ‬عن‭ ‬ذنوب‭ ‬كلّ‭ ‬فرد‭ ‬منهم‭: ‬العصابة‭ ‬الخاطفة‭ - ‬لورا‭ ‬الكاتمة‭ ‬للسر‭ - ‬باكو‭ ‬المستسلم‭ - ‬إليخاندرو‭ ‬المتخاذل‭ - ‬الأب‭ ‬المشاغب‭... ‬إلخ‭.‬

 

إبداع‭ ‬فني‭ ‬وتقني

‭ ‬اهتم‭ ‬فرهادي‭ ‬بالتركيبة‭ ‬الجمالية‭ ‬والفنية،‭ ‬بقدر‭ ‬العناية‭ ‬نفسها‭ ‬بالحبكة‭ ‬النصيّة‭ ‬وتسلسل‭ ‬الأحداث‭. ‬فعلى‭ ‬المستوى‭ ‬التشخيصي،‭ ‬أنجز‭ ‬خافيير‭ ‬بارديم‭ ‬دوره‭ ‬بتجسيد‭ ‬بارع،‭ ‬كلّه‭ ‬فيض‭ ‬من‭ ‬الأحاسيس‭ ‬والانفعالات‭: ‬الابتسامة‭ - ‬الفرحة‭ - ‬النشاط‭ ‬والحيوية‭ - ‬الرقص‭... ‬إلخ‭ ‬في‭ ‬الشطر‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الفيلم،‭ ‬ثم‭: ‬الحزن‭ - ‬التوتر‭ - ‬الغضب‭ - ‬القلق‭ - ‬الصدمة‭ - ‬الخوف‭... ‬إلخ‭ ‬في‭ ‬الشطر‭ ‬الثاني‭. ‬ليخالف‭ ‬بذلك‭ ‬الأدوار‭ ‬النمطية‭ ‬التي‭ ‬اعتاد‭ ‬أن‭ ‬يؤديها‭ ‬سابقًا،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬بصمته‭ ‬الصارمة،‭ ‬والجافة‭ ‬من‭ ‬الانفعالات،‭ ‬التي‭ ‬أبدع‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬رائعة‭ ‬الأخوين‭ ‬كوين‭ ‬‮«‬لا‭ ‬وطن‭ ‬للمسنّين‮»‬‭ - ‬وتوّج‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬بأوسكار‭ ‬أفضل‭ ‬دور‭ ‬مساعد‭ - ‬ظلت‭ ‬راسخة‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬عشاق‭ ‬الفن‭ ‬السابع،‭ ‬ومستقرة‭ ‬في‭ ‬فكرهم‭ ‬السينمائي‭. ‬ليفاجئنا‭ ‬بارديم‭ ‬بهذا‭ ‬التمثيل‭ ‬المميّز‭ ‬والمتقن،‭ ‬الذي‭ ‬ناقض‭ ‬كل‭ ‬التصورات‭ ‬السابقة،‭ ‬حول‭ ‬شخصيته‭ ‬الحادة‭ ‬والصلبة‭ ‬الخالية‭ ‬من‭ ‬المشاعر‭ ‬الإنسانية‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬بينيلوبي‭ ‬كروز‭ (‬لورا‭) ‬فقد‭ ‬أدت‭ - ‬بتميّز‭ - ‬دور‭ ‬الأم‭ ‬الحنونة‭ ‬المليئة‭ ‬بمشاعر‭ ‬العطف‭ ‬والإشفاق،‭ ‬الرقّة‭ ‬واللين،‭ ‬المحبة‭ ‬والمودة،‭ ‬وقد‭ ‬شكّل‭ ‬المنعطف‭ ‬الحاسم‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ (‬الاختطاف‭) ‬صدمة‭ ‬ونقطة‭ ‬تحوّل‭ ‬في‭ ‬شخصيتها‭ ‬التي‭ ‬باحت‭ ‬بدواخلها‭ ‬الأليمة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭: ‬البكاء‭ - ‬الجزع‭ - ‬الأنين‭ - ‬الشكوى‭ - ‬الغضب‭ - ‬الصراخ‭ - ‬الإرهاق‭ - ‬الألم‭ ‬ذ‭ ‬التضحية‭ - ‬طلب‭ ‬المساعدة‭ ‬بكل‭ ‬الطرق‭... ‬إلخ‭. ‬إنها‭ ‬مشاعر‭ ‬الأم‭ ‬تتبدّى،‭ ‬وتعلن‭ ‬حضورها،‭ ‬وتصرخ‭ ‬بقوة،‭ ‬بعد‭ ‬وجع‭ ‬الفراق‭ ‬وطعنة‭ ‬الحرمان‭ ‬الأمومي‭.‬

الفضاء‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬عنصر‭ ‬أساسي‭ ‬مستجد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬السينمائي،‭ ‬باعتباره‭ ‬طفرة‭ ‬فنيّة‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬أصغر‭ ‬فرهادي،‭ ‬وانسلاخًا‭ ‬عن‭ ‬العادة‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬تعامله‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬المكون‭. ‬فجُلّ‭ ‬أعماله‭ ‬السابقة،‭ ‬انحصرت‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الإيراني‭ ‬ومجالاته‭ ‬المتعدّدة،‭ ‬ليقرر‭ ‬هذه‭ ‬المرّة‭ ‬تغيير‭ ‬البوصلة،‭ ‬وتحويل‭ ‬الاتجاه‭ ‬صوب‭ ‬إسبانيا،‭ ‬وبالضبط‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬ضاحية‭ ‬العاصمة‭ ‬مدريد،‭ ‬حيث‭ ‬تمثّل‭ ‬الفلاحة‭ ‬دور‭ ‬المُعين‭ ‬الأساسي‭ ‬للمواطن‭ ‬الإسباني‭.‬

 

إشارة‭ ‬أيقونية

‭ ‬والزراعة‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬تنتشر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬هي‭ ‬زراعة‭ ‬الكروم‭ ‬لإنتاج‭ ‬النبيذ‭ ‬وكل‭ ‬أنواع‭ ‬الخمور‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬ينبهنا‭ ‬إلى‭ ‬إشارة‭ ‬أيقونية‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد،‭ ‬مرتبطة‭ ‬برمزية‭ ‬هذا‭ ‬المنتوج‭ ‬المسكر،‭ ‬الذي‭ ‬يفقد‭ ‬التركيز،‭ ‬ويشوش‭ ‬العقل،‭ ‬ويؤدي‭ ‬بالفرد‭ ‬إلى‭ ‬المتاهة‭ ‬والتمويه‭ ‬والتضليل‭. ‬وهذه‭ ‬الصفات‭ ‬هي‭ ‬القيم‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬غلبت‭ ‬على‭ ‬حبكة‭ ‬الفيلم،‭ ‬وهيمنت‭ ‬على‭ ‬مخيال‭ ‬كل‭ ‬شخصياته‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الفترات‭. ‬وما‭ ‬مشهد‭ ‬الاحتفال‭ ‬بالنبيذ،‭ ‬وسكب‭ ‬الخمور‭ ‬المستقدمة‭ ‬من‭ ‬مزرعة‭ ‬باكو،‭ ‬إلّا‭ ‬تدليل‭ ‬على‭ ‬بدء‭ ‬الدوّامة‭ ‬واتّساع‭ ‬شبكة‭ ‬الحيرة‭ ‬والمتاهة‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬العائلية‭ ‬للبطلة‭. ‬والسبب‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬هو‭ ‬الطارئ‭ ‬الذي‭ ‬سيقع‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحفل‭ (‬الاختطاف‭)‬،‭ ‬وكأنّ‭ ‬المخرج‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يشبّه‭ ‬لنا‭ ‬وقع‭ ‬تضليله‭ ‬على‭ ‬العائلة،‭ ‬هنا،‭ ‬بالتشويش‭ ‬الذي‭ ‬تحدثه‭ ‬الخمر‭ ‬في‭ ‬عقل‭ ‬الإنسان‭.‬

‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬البصري،‭ ‬هيمنت‭ ‬اللقطات‭ ‬المقربة‭ ‬والمتوسطة‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬لكونه‭ ‬عملًا‭ ‬فنيًا‭ ‬ذا‭ ‬طابع‭ ‬اجتماعي‭ ‬وأسري،‭ ‬يرصد‭ ‬طارئًا‭ ‬أخلّ‭ ‬بتماسك‭ ‬العائلة،‭ ‬التي‭ ‬أوهمنا‭ ‬المخرج‭ ‬باستقرارها‭ ‬وانسجامها‭ ‬في‭ ‬البداية‭.‬

فاللقطات‭ ‬الكبيرة‭ ‬والمقرّبة،‭ ‬أطّرت‭ ‬وضعية‭ ‬الحوار‭ ‬والتواصل‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬مراحل‭ ‬الفيلم،‭ ‬مركّزة‭ ‬على‭ ‬السلوك‭ ‬التفاعلي‭ ‬للشخصيات،‭ ‬ومزاجها‭ ‬الانفعالي،‭ ‬وملامحها‭ ‬الخارجية‭ ‬في‭ ‬الوضعيات‭ ‬المنفرجة،‭ ‬واللحظات‭ ‬المتأزمة‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬ففي‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى،‭ ‬تطغى‭ ‬مظاهر‭ ‬التفاهم‭ ‬والسعادة‭ ‬والانبساط‭ ‬على‭ ‬محيَّا‭ ‬الشخصيات،‭ ‬أثناء‭ ‬استعدادها‭ ‬لحفل‭ ‬الزفاف‭ ‬البهيج‭. ‬بينما‭ ‬تتقلّب‭ ‬هذه‭ ‬الوضعيّة‭ ‬إلى‭ ‬النقيض‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية،‭ ‬حينما‭ ‬يسود‭ ‬التشكيك‭ ‬والاختلاف‭ ‬والاضطراب،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تهديم‭ ‬بُنيان‭ ‬العائلة‭.‬

 

لقطات‭ ‬متوسطة

‭ ‬وفيما‭ ‬يخص‭ ‬اللقطات‭ ‬المتوسطة،‭ ‬فقد‭ ‬حاولت‭ ‬رصد‭ ‬البنية‭ ‬الدينامية‭ ‬للأحداث،‭ ‬وطابعها‭ ‬الحركي‭ ‬المتجلي‭ ‬في‭ ‬سيرورة‭ ‬البحث‭ ‬والتضحية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إنقاذ‭ ‬البنت‭ ‬المختطفة،‭ ‬حيث‭ ‬تعقبت‭ ‬العدسة‭ - ‬بلقطات‭ ‬متوسطة‭ - ‬محاولات‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬لورا‭ ‬وباكو‭ ‬لتوفير‭ ‬الفدية‭ ‬الكافية‭ ‬لعتق‭ ‬رقبة‭ ‬طفلتهما‭ ‬الشرعية،‭ ‬والتي‭ ‬ستنجح‭ ‬أخيرًا‭ ‬بفضل‭ ‬إصرار‭ ‬الأم،‭ ‬ومشاعر‭ ‬الأبوة‭ ‬المتحركة‭ ‬عند‭ ‬الأب‭ (‬الشرعي‭).‬

تلعب‭ ‬الإضاءة،‭ ‬كذلك،‭ ‬دورًا‭ ‬بارزًا‭ ‬وفاعلًا‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬لكونها‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬الجانب‭ ‬الدرامي‭ ‬للأحداث‭ ‬وانعراجاتها‭ ‬المثيرة،‭ ‬كما‭ ‬أنّها‭ ‬تتناسق‭ ‬مع‭ ‬الحالة‭ ‬النفسية‭ ‬للشخصيات،‭ ‬وتتوافق‭ ‬مع‭ ‬علاقاتها‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وظروفها‭ ‬العائلية‭. ‬فنجد‭ ‬مثلًا‭ ‬أن‭ ‬الإضاءة‭ ‬تقوى‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الفيلم،‭ ‬نظرًا‭ ‬لتردداتها‭ ‬التعبيرية‭ ‬الكثيفة‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬الانفعالات‭ ‬الإيجابية‭: ‬

‭- ‬أشعة‭ ‬الشمس‭ ‬المشرقة،‭ ‬والجو‭ ‬الصحو،‭ ‬وما‭ ‬رافق‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬إنارة‭ ‬طبيعية‭ ‬قويّة‭ ‬أثناء‭ ‬الاستعداد‭ ‬لحفل‭ ‬الزفاف‭.‬

‭ - ‬كثرة‭ ‬المصابيح‭ ‬والأنوار‭ ‬الاصطناعية‭ ‬التي‭ ‬خلقت‭ ‬البهجة،‭ ‬وزادت‭ ‬من‭ ‬إيقاع‭ ‬الحفل‭ ‬وصخب‭ ‬النشاط‭ (‬الغناء‭ ‬والرقص‭).‬

‭ ‬كما‭ ‬نصادف‭ ‬هذه‭ ‬الشدة‭ ‬في‭ ‬الشعاع،‭ ‬والحدة‭ ‬في‭ ‬الوهج‭ ‬خلال‭ ‬عملية‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الطفلة‭ ‬المختطفة،‭ ‬وأثناء‭ ‬انسلال‭ ‬نور‭ ‬الأمل‭ ‬إلى‭ ‬نفسية‭ ‬عائلتها،‭ ‬لأنّ‭ ‬ظروف‭ ‬العملية،‭ ‬فرضت‭ ‬على‭ ‬المخرج‭ ‬تسليط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬الحيثيات‭ ‬والاعتبارات‭ ‬والدوافع‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬وراءها،‭ ‬ثم‭ ‬تعقّب‭ ‬جميع‭ ‬مراحلها‭ ‬لتنوير‭ ‬المشاهد‭ ‬بجميع‭ ‬تفاصيلها‭ ‬من‭ ‬لحظة‭ ‬الصدمة،‭ ‬إلى‭ ‬لحظة‭ ‬التشكيك،‭ ‬ثم‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الفدية،‭ ‬فإنقاذ‭ ‬الفتاة،‭ ‬أخيرًا،‭ ‬من‭ ‬أيدي‭ ‬العصابة‭.‬

 

لحظة‭ ‬مفصلية

‭ ‬شكّل‭ ‬انقطاع‭ ‬الضوء‭ ‬عن‭ ‬حفل‭ ‬الزفاف‭ ‬لحظة‭ ‬مفصلية‭ ‬في‭ ‬المحكي‭ ‬البصري‭ ‬للفيلم،‭ ‬لكونه‭ ‬سيقفز‭ ‬بنا‭ ‬من‭ ‬محطة‭ ‬إلى‭ ‬محطة‭ (‬الوقائع‭) ‬ومن‭ ‬درجة‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ (‬الإنارة‭). ‬فهذه‭ ‬اللحظة‭ ‬أشارت،‭ ‬فنيًّا،‭ ‬إلى‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬المستوى‭ ‬المتّزن‭ ‬للأحداث‭ (‬المسرة‭ - ‬السعادة‭ - ‬الاحتفاء‭ - ‬اللهو‭ - ‬السمر‭- ‬الشدو‭... ‬إلخ‭) ‬إلى‭ ‬المستوى‭ ‬المختل‭ ‬منها‭ (‬الشكوى‭ - ‬الاكتئاب‭ - ‬الشجن‭ - ‬الكَرْب‭ - ‬الفوضى‭ - ‬الغيظ‭ - ‬السخط‭ - ‬الحنق‭... ‬إلخ‭). ‬وقد‭ ‬عبّر‭ ‬المخرج‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬التحوّل،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مثيرات‭ ‬ضوئية‭ ‬باهتة،‭ ‬تظهر‭ ‬الخفوت،‭ ‬وضعف‭ ‬الحدة،‭ ‬وشحب‭ ‬البريق‭: ‬

‭-  ‬مثيرات‭ ‬صناعية‭: ‬انقطاع‭ ‬النور،‭ ‬وتمدد‭ ‬العتمة‭ ‬والدهمة‭.‬

‭ - ‬مثيرات‭ ‬طبيعية‭: ‬ظلام‭ ‬الليل‭ ‬الحالك‭ - ‬السحب‭ ‬والأمطار‭ ‬القوية‭ ‬التي‭ ‬حجبت‭ ‬ضوء‭ ‬السماء‭.‬

في‭ ‬المستوى‭ ‬الصوتي‭ ‬تغيب‭ ‬الموسيقى‭ ‬التصويرية‭ ‬المرافقة‭ (‬الخارجية‭) ‬غيابًا‭ ‬تامًا،‭ ‬نظرًا‭ ‬لخصوصيته‭ ‬الأسرية،‭ ‬وبعده‭ ‬الاجتماعي‭ ‬المبني‭ ‬على‭ ‬غلبة‭ ‬الحوار،‭ ‬وسيادة‭ ‬التواصل‭ ‬والكلام،‭ ‬وتبادل‭ ‬أطراف‭ ‬الحديث‭. ‬فالمخرج‭ ‬ترك‭ ‬مساحة‭ ‬شاسعة‭ ‬لشخصياته‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬أحاسيسها‭ ‬وأفكارها‭ ‬ومواقفها‭ ‬الصدامية‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬تأثير‭ ‬الموسيقى،‭ ‬وسلطة‭ ‬النغم،‭ ‬ونفوذ‭ ‬اللحن‭. 

لكنّ‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الفيلم‭ ‬استغنى‭ ‬استغناء‭ ‬كاملًا‭ ‬عن‭ ‬الرنّة‭ ‬والقطعة‭ ‬الموسيقية‭. ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬وظّف،‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬ذلك،‭ ‬الموسيقى‭ ‬الداخلية‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأغاني‭ ‬المستمدة‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الفني‭ ‬الإسباني‭ ‬والمسيحي‭: ‬عزف‭ ‬نغمات‭ ‬الفلامنكو‭ ‬في‭ ‬حفل‭ ‬الزفاف‭ - ‬ترانيم‭ ‬البيانو‭ ‬في‭ ‬الكنيسة‭ ‬أثناء‭ ‬عقد‭ ‬القران‭. ‬وتتجلّى‭ ‬وظيفة‭ ‬هذه‭ ‬القطع‭ ‬الموسيقية‭ ‬في‭ ‬الإحالة‭ ‬إلى‭ ‬تقاليد‭ ‬الزفاف‭ ‬الإسباني‭ ‬والطقوس‭ ‬الاحتفالية‭ ‬التي‭ ‬ترافقه،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬توجيه‭ ‬الأنظار‭ ‬إلى‭ ‬الموروث‭ ‬الموسيقي‭ ‬اللاتيني‭ ‬الذي‭ ‬تزخر‭ ‬به‭ ‬إسبانيا‭ (‬الفلامنكو‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬مَعلمًا‭ ‬ثقافيًا‭ ‬بارزًا‭ ‬يحظى‭ ‬بإعجاب‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬العالم‭.‬

وفي‭ ‬الختام‭ ‬نخلص‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المخرج‭ ‬فرهادي‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬التوغل‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬محيطه‭ ‬الإيراني،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬خوض‭ ‬مغامرة‭ ‬سينمائية‭ ‬بالأراضي‭ ‬الإسبانية،‭ ‬بتوظيف‭ ‬طاقم‭ ‬إسباني،‭ ‬ولغة‭ ‬إسبانية،‭ ‬فعبّر،‭ ‬سينمائيًا،‭ ‬عن‭ ‬تناقضات‭ ‬عائلية‭ ‬مثيرة‭ ‬كشفت‭ ‬زيف‭ ‬المظاهر‭ ‬التي‭ ‬ادّعتها‭ ‬الأسرة‭ ‬قبل‭ ‬وأثناء‭ ‬حفل‭ ‬الزفاف‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬الاتزان‭ ‬المؤقت،‭ ‬الذي‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬الحفلة‭ ‬إلّا‭ ‬إيذانًا‭ ‬ببدء‭ ‬الاختلال‭ ‬الذي‭ ‬أسفر‭ ‬عن‭ ‬ثنائيات‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬المتعارضة‭: ‬الخير‭/ ‬الشر‭ - ‬الحب‭/ ‬الكراهية‭ - ‬الشرعية‭/ ‬اللاشرعية‭ - ‬التضحية‭/ ‬الإهمال‭ - ‬المساعدة‭/ ‬التقصير‭ - ‬السعادة‭/ ‬الحزن‭ - ‬الضحك‭/ ‬البكاء‭ -  ‬الاحتفال‭/ ‬التأسّي‭... ‬إلخ ■