في رثاء أمير الكويت الراحل (2006 / 2020) صباح الأحمد... من مياه الخليج إلى «بحر العالمية»

في رثاء أمير الكويت الراحل (2006 / 2020) صباح الأحمد... من مياه الخليج إلى «بحر العالمية»

ولد سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، في قرية الجهراء ــ غرب الكويت يوم 16 يونيو 1929، وعاش عند أخواله إلى السادسة من عمره، وتولدت من هذه الفترة القصيرة بذور التفاعل التلقائي، مع جميع أطياف المجتمع الكويتي، وتسللت تلك الغريزة في كيانه، ومدّته بسلوك التواضع الذي رافقه طوال حياته، ووفرت له منابع الحميمية الآسرة التي كانت أبرز عناصر نجاحه، وسهلت له الاختلاط مع كل مسار في حياة الكويت بعفوية مؤثرة.


ولد الشيخ صباح الأحمد حاملًا مواهب متنوعة، فيها خيوط الصحراء وحب القنص، وفيها تعامل مع ما يوفره البحر من هواية الحداق «صيد الأسماك»، وملاحقتها في الخليج وبحر العرب وسواحل الصومال، وأفرزت هذه العناصر روح الاقتحام لديه، وكثيرًا ما يخطو مؤمنًا بقدرته على تجاوز المخاطر.
كان الشيخ صباح من شيوخ الندرة في الاقتحامية والترابطات الشعبية، وفي الهمة التي لا تضعف، فتحرك هذه القوى رغبة للتعرف وللاكتشاف لإرضاء غريزة المعرفة التي وفرها الله له مع كثير من المواهب.
كنت أراقب هذه النزعة لاكتشاف المجهول، مستغربًا تقبّله لمخاطرها واحتمالات أضرارها، لكنه لم يتوقف، وأعطته ميزة الحضور المستمر بين الكويتيين في احتفالاتهم وفي ممارسة هواياتهم وفي أحزانهم، ومنها اكتسب معرفة بأحوال الناس وهويّاتهم وتداخلهم في شبكة التوافق السياسي والاجتماعي الكويتي.
ومع كل ذلك كان صديق الجميع دون أي وهن في الهيبة وفي المقام، حتى وهو شاب كانت له تلك المسحة المؤثرة، فرغم انخراطه الاجتماعي كانت له مصدات لحماية المقام دائمًا حاضرة.

حضور مؤثر
هذه المواهب أخذته إلى أبعد مسافة في المسارين السياسي والاجتماعي، سواء في الكويت أو الخليج، وحتى في المحيط العالمي كان حضوره مؤثرًا وصوته فاعلًا وقراره حاسمًا.
كما فتحت له أبواب المسؤولية مع بداية شبابه، أولًا بإشراف والده حاكم الكويت الشيخ أحمد الجابر المبارك الصباح، أو بعدها مع الشيخ عبدالله السالم، الذي أيقن بأنه أمير واعد وأنه من فصيلة المبادرين المقتحمين، ولذلك قرّبه متفحصًا شخصيته، فعينه عضوًا في المجلس الأعلى الذي شكّل من بعض أبناء الأسرة الحاكمة لمساندة الشيخ عبدالله السالم حاكم الكويت، كان ذلك في عام 1954، وهي الفترة التي بدأ حصاد النفط يبرز كمنبع تمويل لبناء الكويت الحديثة. كما تولى إدارة الشؤون الاجتماعية والعمل، موظفًا شبكة الترابط مع ألوان المجتمع الكويتي، ومستفيدًا من خيوط الصداقات التي يملكها مع الكويتيين.
ومع استقلال الكويت عام 1961، ومواجهة الكويت لادعاءات عبدالكريم قاسم في الكويت، أصبح أول وزير للإعلام في فترة كانت الكويت فيها موقع تطورات سياسية مؤثرة على مستقبل المنطقة، ومنفتحة على الإعلام العالمي بمراسليه وحضوره التكنولوجي.
ظل في «الإعلام» من 1961 وحتى يناير 1963، بعد أن تولى الشيخ صباح السالم الصباح المسؤوليات كأول رئيس وزراء، واختاره خلفًا له وزيرًا للخارجية عام 1963.

مفهوم جديد
ومع هذا الملف الجديد، سطعت نجوميته، دون أن يخطط لها، مدركًا ما يجب عمله في ملفه الجديد، فكل ما عمله هو تسخير ما أعطاه الله من نجومية في التواصل الإنساني، من أجل أهداف الكويت، ضامنًا دعمًا من سمو رئيس الوزراء ومن قبل جميع كبار الأسرة، ثقة به، وإيمانًا بأهدافه.
وبدأ في تشكيل المنظور الدبلوماسي أو الاستراتيجي في الدبلوماسية الكويتية، فبنى المفهوم الجديد الذي آمن به، وهو استبدال الحماية البريطانية التي ودعتها الكويت في 1961 مع الاستقلال، بالحماية العربية، بعد أن تم قبول الكويت عضوًا بـ الجامعة العربية في يوليو1961، وبعد قرار الجامعة إرسال قوات عربية رمزية تشكل الردع السياسي والمعنوي لتهديدات العراق. 
كانت مهمة الشيخ صباح أن يضمن الاقتناع الكويتي الشعبي بالغطاء الرادع المعنوي في الحماية السياسية العربية، وأن يزيد من تكثيف المساعي لضمان انضمام الكويت إلى الأمم المتحدة كعضو مستقل، بعد أن أجهض الاتحاد السوفييتي طلب الانضمام مرتين، الأولى في يوليو 1961، والثانية في نوفمبر1961، دعمًا للنظام العراقي، وليس اقتناعًا بادعاءات هذا النظام.
كان الشيخ صباح شريكًا في الحكم، مضيفًا حصيلة مهمة لنجاح الحكومة برئاسة سمو الشيخ صباح السالم، وكانت له صلاحيات غير محدودة، قادرًا على التنسيق بين سلوك الدبلوماسية الكويتية الخارجية وبين مسؤوليات ومواقف الوزارات الأخرى، فقد برزت خريطة غير رسمية لتوزيع المسؤوليات آنذاك، تقديراً لمخاطر المرحلة، فتولى الشيخ جابر الأحمد «المالية والاقتصاد» وطريق التنمية، وتولى الشيخ سعد العبدالله السالم المسؤولية الأمنية، سواء في الجيش أو الداخلية، وتولى الشيخ صباح الأحمد ملف الدبلوماسية بكل أبعاده، والشيخ جابر العلي السالم الصباح «الإعلام والثقافة»، والشيخ سالم العلي السالم الصباح «الأشغال والبناء والتعمير».

تفعيل المرحلة في الدبلوماسية الكويتية
كان الهم المرهق هو ترطيب الموقف السوفييتي المعارض لعضوية الكويت الذي لا يستند إلى أساس قانوني أو سياسي سوى محاباة موسكو لسياسة عبدالكريم قاسم، فلم يتوقف الشيخ صباح عن البحث في الممرات التي تؤدي الغرض، وكان لقضاء الله أمر آخر، حيث سقط نظام عبدالكريم قاسم في فبراير 1963، ليتولى الحكم في بغداد نظام يضم قوميين عربًا ويضم بعثيين، وينفتح الباب ليجد الشيخ صباح أول من يدخله، وهنا أشير إلى مذكرات وزير شؤون الرئاسة في الحكومة العراقية الجديدة، البعثي حازم جواد، التي نشرها في جريدة الحياة عام 2004:
«سمعنا برقية أثارت جدلًا وإحراجًا من أمير دولة الكويت، يهنئ عبدالسلام عارف بزوال نظام قاسم، ورأينا أن إهمال البرقية يفسر موقفنا بأنه مطابق لموقف قاسم، وإذا أجبنا فسيفسر ذلك بأنه بداية التسوية والاعتراف، والحل أن نرسل برقية بعنوان أمير الكويت وليس دولة الكويت».
بينما يشير وزير الخارجية في الحكومة الجديدة، طالب شبيب، في حواراته مع د. علي كريم سعيد، التي نشرت في كتاب «من حوار المفاهيم إلى حوار الدم»، حيث يقول: «فوجئت ببرقية من الكويت تعبّر عن رغبة الشيخ صباح الأحمد الجابر في زيارة العراق للتهنئة بنجاح الثورة، ولم نكن اتخذنا وقتًا كافيًا لترتيب أولوياتنا مع الكويت، لكن الخلُق العربي، وبغضّ النظر عن مسألة الاعتراف أو عدمه، يحتّم علينا استقباله والترحيب به في بغداد»، ويواصل قائلًا: «جرت مباحثات مع الشيخ صباح، كان منطلقنا ترجمة العلاقات عبر فدرالية بين البلدين، وكان الوفد الكويتي يستغرب الموقف».
ويواصل قائلًا «إن موقفنا ضعيف، وهناك عامل حاسم، فقدنا الفيتو الروسي الذي يشهر سنويًا في وجه الطلب الكويتي إلى مجلس الأمن».

كسر الجليد وشق الطريق
لم يهتم الشيخ صباح لا بغياب الرسميات ولا بطلب الفدرالية، فأصر على أن الكويت دولة مستقلة، وعاد إلى الكويت بعد أن كسر الجليد وشق الطريق بعفويته وصدقه وحميميته، المعبّرة عن الأمانة في الوعد ونزاهة في الكلام.
كان اللقاء في أبريل 1963، ومن قراءاتي للوقائع، فإن الشيخ صباح مارس الدبلوماسية الآسرة بالنعومة المتدفقة من حواراته وتأثيراتها، وبهذا يردد طالب شبيب (وزير الخارجية) باستغراب، بأنه تلقى استدعاء من القصر الجمهوري بعد سفر الوفد الكويتي بيوم واحد، ليجد في القصر الرئيس عارف ورئيس وزرائه حسن البكر، وكلًا من وزير الدفاع صالح مهدي عماش، وقائد القوات الجوية الفريق حردان التكريتي، ويقابل بقرار بأن يسافر عماش وحردان في وفد رسمي إلى الكويت ردًا على زيارة الشيخ صباح، ولم يمر على انتهائها يوم واحد، ويرفض، لكنه لم ينجح  في اعتراضه، فيذهب إلى الكويت ويتحدث عن الاستقبال، مشيرًا إلى أنه لم يبق في الكويت رجل قادر إلا وضع العقال على رأسه ليشاهد الوفد العراقي وقد تلاشت فرصة الفيتو بعد تغيير الموقف السوفييتي مع النظام العراقي الجديد.
برزت الفرصة التاريخية التي رصدها الشيخ صباح، فدفع نحو آلية طرح انضمام الكويت إلى مجلس الأمن، وعلى الرغم من معارضة المندوب العراقي ومساعيه للتأجيل، فإن مجلس الأمن صوّت بالإجماع لقبول الكويت لعضوية الأمم المتحدة.

عضوية الأمم المتحدة
وفي يوم 13 مايو 1963، وباحتفال بسيط، حضره الشيخ صباح، وشاركه الأمين العام للأمم المتحدة، السيد يوثانت، يرفع علم الكويت ليرتفع بجانب أعلام الدول الأعضاء، وتصبح الكويت الدولة رقم 111، وفي يوم 14 مايو يلقي الشيخ صباح خطاب العضوية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لأول مرة، معبّرًا عن تقدير الكويت للجهود التي بذلت، لتشارك الكويت الأسرة العالمية في منظمتها المسؤولة عن حفظ الأمن والاستقرار في العالم.
قدّم الشيخ صباح كلمة موجزة، أبرز فيها أهم تقاسيم الدبلوماسية الكويتية، وأهم نقطتين في الخطاب، وهما الوفاء لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، خاصة آلية المفاوضات لحل المشاكل بين الدول والالتزام بما يحقق مصالح الأسرة العالمية، والنقطة الثانية قضية فلسطين ودعم كفاح الشعب الفلسطيني لممارسة حقه في تقرير المصير. 
دخل الشيخ صباح الأحمد أجواء الأمم المتحدة، التي من أبرزها شبكة العلاقات الإنسانية ودورها في تنمية العلاقات بين الشعوب، وفي ترطيب التوترات والوقوف على حقائق القضايا التي تهم العالم، سواء المزعج منها أو المبهج. 
كانت ساحة الأمم المتحدة ميدان الفروسية التي تتيح له توظيف المؤهلات التي وفرها الله له، وهي موهبة التآلف التي تسهلها الحميمية التي تنطلق مع عباراته وحضوره، وتزيّنها ابتساماته التي هي عنوان منصته الآسرة.
وخلال عملي كمندوب دائم للكويت 1971 - 1981 في الأمم المتحدة، تابعت انتشاره بين الوفود واستنجادها بدعمه لقضاياها، وكان لا يتردد في المؤازرة، وتآلف مع المناخ في قاعات اللجان المختلفة، وكان يحضر جلسات مجلس الأمن التي تتعلق بالقضية الفلسطينية، كما واظب على المشاركة عندما كانت الكويت عضوًا في المجلس عام 1978 - 1979، خاصة عندما يشارك وزراء خارجية الدول الأعضاء. عاد إلى الكويت بعد الانضمام إلى الأمم المتحدة مبتهجًا بالتطور، وراسمًا طريقًا آخر لم تمارسه الكويت قبل ذلك، وهو فنون المصالحات العربية وغيرها.

قنوات المصالحة العربية وفنونها 
لا شك في أن ادعاءات قاسم ساهمت في فتح العيون على الواقع العربي الحافل بالتوترات بين الراديكاليين وبين المحافظين، بين أنظمة أيديولوجية، تواجه أنظمة انقلابية عسكرية.
كان الشيخ صباح مسكونًا بأمن الكويت والحفاظ على سلامتها وصون استقلالها، وتوصل إلى قناعة راسخة بأن الكويت ترتاح داخل الوفاق العربي في أجواء التفاهم والثقة، فانطلق حاملًا مسؤولية تاريخية ثقيلة لإدخال الهدوء وتحقيق التفاهم العربي، ترسيخًا لأمن الكويت واستقرارها، بعد أن قدّمها إلى العرب كوديعة يساهم العرب في الحفاظ عليها. 
كانت هناك صراعات كثيرة بين العرب، وانطلق الشيخ صباح الأحمد، حفاظًا على منظمة التحرير الفلسطينية في إدخال التفاهم بين سورية والمنظمة، وبين المنظمة والأردن، وبين المنظمة ولبنان، وعمل على إبعادها عن استغلالها من الأنظمة العربية، وساهم في ترطيب العلاقات بين موريتانيا والمغرب، وتولى ملف البحرين عبر التفاهم مع إيران، منسقًا مع بريطانيا لهذا الدور، وبمساعدة السكرتير العام للأمم المتحدة، وتحمل عبء الجولات في الخليج لإزالة التباعدات من أجل قيام اتحاد خليجي يضم الإمارات، إضافة إلى قطر والبحرين، وتواصل مع المملكة العربية السعودية ليضمن الجهد المشترك الذي تمثّل في جولاته التي كان فيها الأمير نواف بن عبدالعزيز مستشار الملك فيصل، وبعد تعذّر قيام الاتحاد التُّساعي، انصبت الجهود لقيام اتحاد من الإمارات السبع، وكان الشيخ صباح يستعين بمستشار قانوني من الديوان الأميري، والسفير خالد بدر الخالد المسؤول عن شؤون الخليج والجنوب في وزارة الخارجية الكويتية.

رجل المهمات الصعبة
وفي هذا المسار يكتب السيد علي ناصر محمد (وهو رئيس سابق لليمن الجنوبي) في مقال له بإحدى الصحف الكويتية، تحت عنوان «رجل المهمات الصعبة»:
«إن الشيخ صباح لعب دورًا كبيرًا في تطوير العلاقات بين اليمن والكويت ودول المنطقة، وتطبيع العلاقات مع سلطنة عمان، ولذلك توسط لوقف الحروب، بين الشمال والجنوب، وأنه زار عدن في عام 1979 للتوسط في الحرب التي اندلعت بين الجنوب والشمال، إثر اغتيال الرئيس الغشمي (رئيس اليمن الشمالي)، وكان الشيخ ضمن وفد الجامعة العربية برئاسة محمود رياض الأمين العام، وتنبّه أن علي ناصر محمد، (وكان نائب رئيس اليمن الجنوبي) وضع حقيبة قريبة من الشيخ صباح، فطلب منه إخراجها قبل أن يشارك الشيخ في الكلام، وسط عاصفة من الضحك، أثارها تعليقه، ونجحت الوساطة، ووقّع الرئيسان علي عبدالله صالح وعبدالفتاح إسماعيل اتفاق الكويت في 1979».
«ومرة أخرى يسعى الشيخ صباح الأحمد في عام 2016، عندما قام الحوثيون بالسعي للانفراد بالسلطة»، وينهي المقال مشيرًا إلى أن «اليمن والعرب فقدوا رجلًا حكيمًا وذكيًا، وإنسانًا كبيرًا أفنى حياته لقضايا وطنه والأمة العربية والإسلامية، وفي مقدمتها قضية فلسطين التي تحتاج إلى قادة من أمثاله».
لكن أكبر وأعقد القضايا التي تصدى لها كانت لتقريب المواقف بين المملكة العربية السعودية ومصر، في الفترة بين 1965 و1966، مندفعًا في جولات متلاحقة بين القاهرة وجدة والرياض، فضلًا عن اجتماعات بين ممثلي الحكومتين، يجتمعان في الكويت، كان رشاد فرعون ممثلًا للملك فيصل، والسيد حسن صبري الخولي، ممثلًا للرئيس عبدالناصر، وكانت الاجتماعات تتم في مبنى خاص قرب وزارة الخارجية في منطقة الضاحية، وكنت مشرفًا على الترتيبات وإعداد المحاضر، وكانت هناك نقاط صعبة ترفض الاستجابة للمقترحات التي يقدمها الشيخ صباح.

انعدام الثقة 
 تبلورت قناعة لدى الشيخ صباح بأن الحل الوحيد هو عقد لقاء مباشر في الكويت بين الرئيس عبدالناصر والملك فيصل، وذهب إلى القاهرة لأخذ الموافقة المبدئية، وتم اللقاء مع الرئيس عبدالناصر، بحضور المشير عامر والسادات بالإسكندرية في أغسطس 1966، حضر اللقاء بجانب الشيخ صباح السفير حمد الرجيب، وأنا، ووضعت المحضر المهم في ملفات «الخارجية».
مع الأسف رفض عبدالناصر اللقاء بصورة حادة وقاطعة، فلم يكن هناك مفر من العودة إلى الكويت والانتظار، لعل الوقت يوفر فرصة أخرى، لكن الأوضاع تدهورت وضاعت الحسابات إلى درجة اتخاذ قرارات مصيرية وضعت مصر أمام فوهة المدفع، وانتهى الموضوع، بما فيه الوجود المصري في اليمن، بعد الهزيمة التي لحقت بجيشه في 5 يونيو1967.
لم يتجاهل الشيخ صباح الأحمد نداء أثقال المسؤولية في البحث عن تفاهم عربي عام، فقد كانت الحرب اللبنانية الأهلية، وتدخل سورية، وخلافات الطوائف اللبنانية، ويجد الشيخ نفسه رئيسًا للجنة العربية التي شكلت في إطار الجامعة العربية حول لبنان، ويتواصل بين الطوائف اللبنانية، وتتشكل لجنة عسكرية برئاسة الضابط الكويتي علي المؤمن، واستدعى الأطراف إلى الكويت، وسعى بكل جهد، إلا أن انعدام الثقة عطل كل المساعي.

هزيمة 1967 وما بعدها 
كما أشرت، فقد توقفت جهود الشيخ صباح الأحمد مع انعدام الثقة وضياع فرصة لقاء القمة المصرية - السعودية، وتصاعد التوتر مع قرار مصر سحب القوات الدولية، لاسيما التي تحرس مضيق تيران، رغم تعهّد الولايات المتحدة المسجل في الأمم المتحدة، بالحفاظ على الممر مفتوحًا مقابل سحب القوات الإسرائيلية من سيناء بعد احتلالها عام 1956، واندلعت  الحرب بعد قرار إغلاق الممر البحري، وكانت كارثة عربية، وهنا يتحرك الشيخ ليوجه دعوة عاجلة لاجتماع وزراء الخارجية العرب في الكويت، ليتم ذلك يوم 11 يونيو1967، وتتم المداولات في فندق شيراتون برئاسته، ويتم التوافق على ضرورة الذهاب إلى الأمم المتحدة مباشرة، بعد أن طلب الاتحاد السوفييتي عقد اجتماع عاجل للمنظمة. كان اجتماع العرب في الكويت أول لقاء بعد الهزيمة، كان اللقاء فرصة تاريخية للمصالحة، فكان الوزير المصري محمود رياض - المعتدل - مدركًا ضرورات التضامن، وكذلك الوزير السعودي عمر السقاف والآخرون من الوزراء.
وبدأت ملامح فصل جديد في العلاقات يتعالى على الأزمات، ويعيد الشعور العربي الجماعي بالمسؤولية للدفاع عن الأمن العربي الموحد.
أخذ الوزراء طائرة كويتية إلى تركيا ليتفرقوا إلى بلدانهم، ومنها إلى نيويورك، حيث وصل الشيخ صباح الأحمد وكنت في معيته، لنبقى ثلاثة أسابيع، فيها الكثير من الاتصالات وفيها كثير من الضغوط من الدول الكبرى، لاسيما من جانب الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، الذي شعر بأن هناك خطرًا يهدد الاستراتيجية السوفييتية تجاه الشرق الأوسط، في سعي الولايات المتحدة لإدخال عناصر غير متوقعة في الملف الفلسطيني - العربي.

الأرض مقابل السلام
قدمت مجموعة أمريكا اللاتينية مشروع قرار بدعم أمريكي يطالب إسرائيل بالانسحاب، ويطالب العرب بالاعتراف، وهي أول خطوط معادلة الأرض مقابل السلام، وكانت تلك خطوة غير متوقعة، فلا أرض من دون ثمن، ولم يحقق أي طرف الأغلبية المطلوبة، لأن يوغوسلافيا وبعض دول عدم الانحياز قدمت مشروعًا مضادًا يدعو إلى الانسحاب بلا مكافأة للعدوان... وفشل المشروعان.
عادت الوفود العربية لتتواصل، فبرز صوت قوي من بعض الدول العربية يطالب باجتماع عربي يقيّم الحصيلة، فدعت الحكومة العراقية إلى اجتماع في بغداد على مستوى وزراء الخارجية العرب، وخلال المؤتمر تقدمت بعض الدول بمقترحات لتوظيف النفط ردًا على الموقف الأمريكي المتصلب، ومنع التصدير إلى الولايات المتحدة، وجاء الشيخ صباح بمقترح معاكس، وهو الاستفادة من التصدير لإفادة الدول المتضررة من العدوان، وهذا ما تم الاتفاق عليه، ونقلت حصيلة المداولات إلى القمة العربية في الخرطوم، فصادق الرؤساء على تلك المقترحات، واستفادت مصر والأردن بتعويم مالي من المملكة العربية السعودية ومن الكويت. 
وهنا يتأكد النهج الواقعي البراغماتي الذي تتميز به الدبلوماسية الكويتية، في تحويل المقترح الصدامي إلى مقترح بناء يحتاج إليه الجميع ويريحهم ويتعالى على مزايداتهم.
خلال وجود الشيخ في نيويورك ذهب إلى لقاء الرئيس جونسون، ليتحدث معه عن الوضع في المنطقة، وكان جونسون يعاني مشكلة فيتنام، ولن يجدد ترشحه للرئاسة، وكنت والسفير الكويتي طلعت الغصين في واشنطن بمعية الشيخ صباح، وكان جونسون، رغم مجاملته للشيخ، متأثرًا باتهام مصر للولايات المتحدة بأنها شريكة في العدوان، وجدد موقف بلاده الملتزم بالحفاظ على مضيق تيران مفتوحًا، مع لوم العرب لفشلهم في عدم تقديم النصيحة المناسبة للرئيس عبدالناصر لكي لا يغلق المضيق. 
توفي الرئيس عبدالناصر في سبتمبر 1970، بعد الانتهاء من القمة الطارئة لبحث الوضع بين الأردن ومنظمة التحرير، وجاء الرئيس السادات الذي سعى إلى استعادة الأراضي دون جدوى، الأمر الذي دفعه إلى قرار حرب أكتوبر 1973، وفيها نجح الجيش المصري في العبور إلى سيناء، وتدخلت الدول الكبرى لوقف الحرب دون حسم، ومنها توصل السادات إلى اتفاق سلام مع إسرائيل عام 1979، بعد جهد كبير بذله الرئيس كارتر، وبعدها جاء دور الأردن عام 1994 بتوقيع اتفاق سلام مع الدولة العبرية.

الحرب العراقية - الإيرانية 
سقط الشاه عام 1979، بعد انفجار الوضع الداخلي، بسبب ضغط المخابرات وانعدام الأمن مع تحريضات رجال الدين، وأبرزهم آية الله الخميني، الذي كان في فرنسا يبثّ صوت الثورة من باريس، ويصعّد المعارضة مع دعوة للمقاومة التي أضعفت نظام الشاه، فلم يكن هناك مفر من خروج الشاه وعودة الخميني ليتولى الإشراف على مصير إيران، تاركًا لرئيس الوزراء المعيّن مسؤوليات إدارية ووظيفة الإشراف على الجانب المدني للدولة.
كان الخميني موجودًا قبل باريس في بغداد، يمارس التحريض عن قُرب، لكن الشاه نجح في إبعاده من بغداد، ومع عودته لم يتخلّ عن عزمه الانتقام من حكومة العراق التي كان يتولاها اسميًا حزب البعث، لكن الواقع أن الرئيس صدام حسين أقام حكمًا قبائليًا عشائريًا تأمينًا للبقاء.
في 20 سبتمبر عام 1980، وبعد تفجيرات رتبتها إيران، عبر الجيش العراقي الحدود مع إيران، محتلًا المحمرة، ومتحصنًا فيها، لكن الإيرانيين قرروا - رغم صعوبة الأوضاع - المقاومة والاستمرار فيها ونقل الحرب داخل الأراضي العراقية، استمرت الحرب ثماني سنوات، شهدت تبدلات بين تقدّم عراقي وتفوق إيراني، بين ضرب المدن وبين اللجوء إلى السلاح الكيماوي.
كانت إيران في عزلة عالمية بينما يتمتع العراق بدعم عربي وعالمي تقريبًا بعد قبول بغداد الانسحاب ووقف القتال بعد سنتين من بداية الحرب، وعلى الرغم من مساندة دول مجلس التعاون وبعض الدول الغربية، لم يتمكن العراق من البقاء في الأراضي الإيرانية.

رحلة متعبة
نجحت إيران في احتلال منطقة الفاو عام 1986، واتسعت أهداف الحرب لتشمل التعرض الإيراني للسفن الكويتية التي تنقل النفط، وتأتي الولايات المتحدة لتضع العلم الأمريكي على البواخر الكويتية من أجل حمايتها، وفي الوقت نفسه جند العراق كل ما يمكن الوصول إليه من مال وسلاح لاسترجاع الفاو، معتمدًا على الخليج ماليًا وسياسيًا ولوجستيكيًا، وينضم العرب للمؤازرة السياسية بتشكيل لجنة عربية تشرح للعالم المواقف العراقية المؤيدة لوقف القتال والانسحاب، ورفض إيران هذا العرض. 
ويترأس الشيخ صباح الأحمد هذه اللجنة التي شكلتها الجامعة العربية، وينتقل بين العواصم شارحًا ومدافعًا عن العراق الذي استفاد من وجود الشيخ الذي سخّر إمكاناته ومقامه لتأمين وقف القتال لمصلحة العراق ولمصلحة الجميع، لاسيما الكويت. 
أتذكر رحلة الشيخ صباح المتعبة التي بدأت من تونس، حيث كانت من أجل لقاء عربي، ويذهب إلى طوكيو مباشرة بمعية وزير خارجية العراق طارق عزيز، ليحث اليابانيين على مساندة العراق. 
انتهت الحرب عبر أسلوب الاستنزاف الذي اتبعه العراق، مستفيدًا من المساعدات العسكرية التي يشتريها من أوربا بأموال خليجية وعراقية، بينما تعاني إيران، كما زاد الضغط الأمريكي على طهران، عبر الوجود العسكري في الخليج وإسقاط طائرة مدنية إيرانية - بالخطأ - ومنها موافقة الخميني على وقف إطلاق النار، مشبهًا القرار بطعم السمّ، وتتوقف الحرب ويتنفس العراق الصعداء مرتاحًا من عذاباتها.

الطريق إلى مجلس التعاون 
كانت دول الخليج تعاني غلاظة الراديكاليين المتطرفين العرب وبالذات من نظام البعث في العراق وفي سورية ومن اليمن وليبيا، ومن المنظمات الفلسطينية التي تديرها هذه الأنظمة، ومن أسلوبها في التعامل الذي يصل إلى التهديد، كما شعرت به خلال مؤتمر القمة العربي في بغداد لمقاطعة مصر، مع تصغير لدورها وتجاهل لمواقفها، ثم تراكم هذا الأسلوب المنفر إلى المدى الذي جعل أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد، يطرح فكرة إقامة مجلس لدول الخليج، تتفاهم دول الخليج على صيغته ويوفر لها التنسيق فيما بينها، وتقبلت الدول هذا الرأي، وفوضت الكويت للإعداد والتحضير، وإذا كانت الفكرة من الشيخ جابر الأحمد، طيّب الله ثراه، فإن الراحل الشيخ صباح الأحمد هو الذي حوّل الفكرة إلى واقع، وصارت حقيقة وفّر لها السلامة بعد أن ضمن الموقف السوفييتي إثر الزيارة التي قام بها في أبريل 1981، وبعد أن تفهمت الدول المؤثرة عالميًا ضرورات قيام المجلس. 

ترسيخ المسيرة
في 24 مايو 1981، التقى قادة دول الخليج الست في أبوظبي، وتم التوقيع على النظام الأساسي للمجلس واختيار الأمين العام، مع التركيز على الترابط الخليجي - العربي، وتبنى قضاياه كداعم مؤثر للعمل العربي المشترك، ويتجه الشيخ صباح إلى إزالة الخلافات التي لها علاقة بمسيرة المجلس، فذهب إلى اليمن الجنوبي وحلّ مشكلاتها مع سلطنة عمان، وانطلق يرسخ مسيرة المجلس مرددًا أهمية ابتعاد المنطقة عن تحالفات الدول الكبرى. 
كما واصل اهتماماته بالشأن العربي، ساهرًا على سلامة الترابط الخليجي - العربي، ومتطوعًا لحماية الجسد الخليجي من الخلافات الداخلية، كما شهدناه في تباعد البحرين وقطر، وبين قطر والمملكة العربية السعودية، وقد انزعج من الأزمة الأخيرة التي قاطعت فيها ثلاث دول من المجلس دولة قطر، اعتراضًا على بعض مواقفها، وانطلق كالعادة، لإزالة الخلاف متحملًا أثقال السفر والمتابعة وهو في بداية التسعينيات من عمره، وكلما اقترب الحل حدث شيء ما ليفشله، ومع تزايد الإرهاق والمرض توقف شخصيًا تاركًا الأمر أمام ولي العهد ورئيس الوزراء ووزير الخارجية في الكويت، كانت أطروحاته أن مجلس التعاون قرار حتمي لا بديل عنه لجميع الدول الأعضاء، وثبت ذلك خلال جريمة الغزو لدولة الكويت.

الطريق إلى الغزو ونتائجه
عانى الشيخ صباح الأحمد من الحكومات العراقية المتعاقبة منذ سقوط النظام الهاشمي في 1958، فقد طالب رئيس الوزراء عبدالكريم قاسم بضمّ الكويت، وسقط في فبراير 1963، وجاء بعده عبدالسلام عارف الذي اعترفت حكومته بالكويت كدولة، إلا أنه شخصيًا رفض ترسيم الحدود وتركها غير محددة، لكي تمارس حكومة العراق التوسع على حساب الأراضي الكويتية، أحيانًا بحجة مضايقات إيران، وأحيانًا أخرى بحجة أنه إجراء مؤقت تنسحب منه القوات العراقية بعدها، وبعض الأحيان تأمينًا لوحدة الأمن العربي الذي تهدده إيران، لكن هذه الأعذار لا تنفي واقع رغبة التمدد على حساب الكويت.
كانت اجتماعات الوزير صباح الأحمد بالسفير العراقي والوفود الزائرة لا تخلو من التوتر، وأتذكر أنني في عهد عبدالسلام عارف أخذت السفير العراقي إلى قصر دسمان في ساعة متأخرة من الليل للاجتماع مع الشيخ، تحاشيًا لصدام بين الطرفين في شمال منطقة المطلاع، ورغم كثرة اللجان بين البلدين لترسيم الحدود، فإن عارف ظل رافضًا التوقيع على مرسوم الترسيم، رغم موافقة حكومته، كما اتخذ أخوه عبدالرحمن عارف، الذي خلف أخاه عام 1966، الموقف نفسه الرافض للترسيم.
واستمر الوضع، إلى أن تمكن «البعث» من الحكم عام 1968 ليمارس أسلوبًا آخر وهو أسلوب الشدة والتعالي والابتزاز، خاصة مع دخوله في توتر دائم مع إيران حول شط العرب، بعد إلغاء الشاه اتفاقية شط العرب لعام 1937، واشتعال الجبهة بالمواجهة والعنف.

 الوضع العربي العام
ورغم الهدوء بعد اتفاق الجزائر بين الشاه وصدام عام 1975، فإن سقوط الشاه وتولي آية الله الخميني السلطة في إيران، أعاد التوتر، لأن الأخير عازم على تحجيم الحكم البعثي العلماني الراديكالي، الذي يرى فيه خطرًا على أمنه، كما يرى فيه خروجًا على قواعد الجوار، ولن يلتزم بشروط اتفاقية الجزائر.
تحمل الشيخ صباح مضايقات نظام صدام، الذي لم يعط أي اعتبار لحساسية الدولة الكويتية، ولم يظهر الاحترام لسيادتها، وسعى ليؤزم سلامتها، فالتزمت الكويت بالصبر، لأن تصاعد المخاطر بين العراق وإيران يؤذي الكويت ويعرّضها للتهديدات.
ومع عبور القوات العراقية إلى داخل أراضي إيران، وجدت الكويت نفسها في وضع يلزمها دعم العراق كي لا يسقط، الأمر الذي يفتح الأبواب أمام الجيوش الإيرانية، فكانت أول من قدّم تسهيلات، فيها سلاح وفيها جغرافيا وفيها لوجستيكيات ومال، وكما أشرت، توقفت الحرب في أغسطس 1988، وسعى صدام بعدها للحصول على أموال تخفف من ثقل الديون، التي بلغت 60 مليار دولار، فوظف الدبلوماسية للوصول إلى المال الخليجي، وإذا لم ينجح فخياره الابتزاز والتهديد.
ورغم زيارة كل من الشيخ سعد العبدالله والشيخ جابر الأحمد إلى بغداد للتهنئة خلال عام 1989، فإن النوايا تجاه الكويت لم تتوافق مع مفردات الترحيب والإشادة التي قدمت للشيخ جابر، وتمثّلت بأعلى وسام عراقي، اعترافًا بدور الكويت في خروج العراق من الحرب غير مهزوم. ومع تصاعد اليأس دعت بغداد إلى قمة عربية في مايو 1990، بأجندة مفتوحة على الوضع العربي العام، لتسمح للوفود بالتحدث في كل شيء يرونه مناسبًا. 

قمة غريبة
كانت قمة بغداد غريبة في الخطب التي ألقيت، بين خطب صدام المهددة لدول المجلس وبالذات للكويت والإمارات، وخطب أخرى تشيد بثبات العراق وانتصاره، وكان أتعس مؤتمر في تاريخ الجامعة العربية.
كانت هناك مراسلات بين الكويت والعراق على أعلى مستوى، كما جرت اتصالات بين الشيخ صباح ومبعوث صدام وموضع ثقته، سعدون حمادي، كانت تدور حول أمرين، دعم العراق المادي وإلغاء الديون عليه، والثاني اتفاقية استراتيجية تعطي العراق حقوقًا في الكويت وتحوّله إلى ملحق للعراق، بامتيازات جغرافية وموانئ وقواعد، وكان الشيخ يرد على المقترح الأخير بأن هناك اتفاقية الدفاع العربي المشترك، التي التزمت بها الكويت في دعمها للعراق ولن تقبل بغيرها، لكن ذلك لا يلبي طموح العراق. 
وزادت المطالب فازدادت حدة الرفض... وفي هذا الجو فوجئت الكويت بمذكرة يرسلها العراق إلى الجامعة العربية في شهر يوليو 1990، فيها كل التهم التي لم تأتِ على بال أحد، بما فيها تهمة تجميد مطار البصرة، وردّت الكويت بقوة لم يتوقعها العراق حين طالبت بتشكيل لجنة عربية للإشراف على ترسيم الحدود والوقوف على الحقائق، وينفتح الباب على المساعي العربية التي تنقل حُسن النية وتتحدث عن التآخي والتضامن العربي.
ولم يكن لها أي تأثير على صدام، الذي كان يتخوف من الولايات المتحدة واستدعى السفيرة الأمريكية ليطمئن إلى عدم وجود إنذار واضح يردعه.
كنت في جدة مساء الثلاثاء 31 يوليو 1990، مع الوفد الكويتي، تعبيرًا عن دعم مجلس التعاون لمواقف الكويت، وشاهدت انعدام الجدية في المفاوضات من قبل الوفد العراقي الذي شارك في جلسة الافتتاح فقط، ربما احترامًا لمشاركة ولي العهد السعودي الراحل، الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، وبعد خروجه كل ما حصل في الجلسة المغلقة بين البلدين، هو ترديد اتهامات لدولة الكويت بالمشاركة مع الولايات المتحدة للتآمر على العراق، ويستهدف العراق الشيخ صباح باتهامه بالتدبير والإشراف على المؤامرة.
لم تنجح المباحثات، وعدنا بالطائرة بمعية سمو ولي العهد الشيخ سعد، وكان مطار الكويت مزدحمًا بكبار المسؤولين تعطشًا لأخبار تسرّ، لكن الحصيلة لم تكن كذلك. 

تعالٍ على الانتقام
ذهبت إلى منزلي واتصل بي الشيخ صباح في منتصف الليل، من يوم الخميس الثاني من أغسطس يخبرني بالغزو العراقي، طالبًا أن أتوجه إلى وزارة الدفاع الكويتية، ووصلت هناك ووجدت سمو الشيخ سعد، وأمير الكويت الحالي (صاحب السمو الشيخ نواف الأحمد)، الذي كان وزيراً للدفاع، وعدد من الوزراء وضباط الجيش، وعندما اقترب الجيش العراقي من الوزارة خرج الشيخ صباح وخرجت معه بالسيارة إلى وزارة الخارجية لإجراء الاتصالات، ومع اقتراب القوات العراقية توجهنا بالسيارة جنوبًا إلى الحدود السعودية. وصلنا هناك، كان الشيخ يريد الاطمئنان على سمو الشيخ جابر وسمو الشيخ سعد، وقد وصلا إلى الحدود قبلنا، ومن الحدود توجهت إلى الرياض عائدًا إلى الأمانة العامة للمتابعة.  
انتقلت حكومة الكويت إلى الطائف، وكنت أذهب كل يوم أحد إلى هناك لمقابلة سمو الشيخ جابر الأحمد والمسؤولين، وكنت أجلس مع الشيخ صباح الأحمد، ووجدته يملك اليقين بالتحرير، متابعًا الاتصالات مع الحلفاء، عبر التنسيق مع المملكة، لكنه كان حزيناً متعاليًا على مشاعر الانتقام، ولحُسن الحظ تمسك بهذه الصلابة طوال فترة الغزو، ومع القمة العربية في العاشر من أغسطس 1990 اتضح الموقف العربي بعد فشل إحدى عشرة دولة في إدانة الغزو، ومنها انتهى النظام العربي القديم، وانتهت مصداقية العرب مع انقسام يحتاج إلى وقت ليختفي.
كان الشيخ صباح الأحمد مع سمو الشيخ جابر الأحمد في سبتمبر بالأمم المتحدة، موسعًا التواصل مع الأسرة العالمية، كما توجه إلى مجلس الأمن لحضور الجلسة الخاصة لتبني القرار 678 في 29 نوفمبر 1990، الذي يخول لمجلس الأمن اللجوء إلى القوة ابتداء من 16 يناير 1991.
وعقد مجلس التعاون قمة في ديسمبر 1990 بمدينة الدوحة، واتخذ قراراته بحتمية التحرير، سلمًا أو حربًا، وسميت قمة التحرير.
تم تحرير الكويت في 26 فبراير 1991، وكنت بمعية الشيخ صباح في أول زيارة إلى البلاد يوم 28 فبراير 1991، وسط لهب النار بعد حرق منابع النفط، فذهب لزيارة أسرته، كما ذهبت للقاء أهلي ووالدتي.

تبدلات الدبلوماسية الكويتية وفلسفة الأمير
أنهى الغزو إقامة أمن الكويت في الحوض العربي، بعد إثبات عجزه ليس فقط في الدفاع عن الكويت، وإنما في التصريح بإدانة جريمة الغزو واستنكارها، وانتقلت الكويت من الدبلوماسية الناعمة إلى الدبلوماسية الرادعة، واتخذ الشيخ صباح قرارًا تاريخيًا بدعوة الأسرة العالمية شريكًا متابعًا وفاعلًا في أمن الكويت، وتوجه بقوة نحو جميع محطات العالم وقاراته، بما في ذلك قراره باتساع صدر الكويت لإعادة العلاقات مع الدول العربية التي رفضت إدانة الغزو، وانفتح بعد توليه مسند الإمارة، بعد وفاة كل من الشيخ جابر الأحمد والشيخ سعد العبدالله، يرحمهما الله، على جميع الخطوط العربية والعالمية.
في عام 2006، تولى الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح الحكم، متبنيًا نهجًا مستجدًا، وحاملًا دبلوماسية الكويت إلى مواقع الأسرة العالمية داخل مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، متأكدًا من إيجابية المواقف، وواضعًا الكويت في الحضن العالمي، موحيًا لكل الأعضاء في الأمم المتحدة أن لهم في اهتمامات الكويت مكانًا، وأن لهم في ضمير أميرها الشيخ صباح موقعًا، وكان واعيًا ومقتنعًا بأن مثل هذا الجانب الإنساني المرهف له ثمن في تقبّل الكويت الإسهام في مسارات التنمية العالمية، وأن لها دورًا كشريك بضمير واعٍ للمهمة الإنسانية. 
هذا جانب، والجانب الآخر أن الكويت شيدت شراكة استراتيجية واسعة مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، لها جانب أمني دفاعي، كما توسعت علاقاتها مع الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وعقدت معها اتفاقيات متنوعة. 

عمق استراتيجي
بهذا البناء المتكامل، دفاعيًا وإنسانيًا، انطلق سمو الشيخ صباح كأمير معتمدًا على مجلس التعاون كعمق استراتيجي سياسي أمني شامل، حريصًا على متانته وواعيًا لأهميته، وساهم بتقبّله عودة العلاقات مع الدول العربية التي جاملت صدام، في عزل أصحاب المواقف المتطرفة، كما ساهم في تعميق الاعتدال العربي، وأضعف حلفاء النظام العراقي، ثم بدأ مشيدًا الجسور مع القارات، ومحاورًا قارة آسيا، داعيًا المجموعة الآسيوية لعقد قمة آسيوية في الكويت خلال أكتوبر 2012، وناقلًا هموم آسيا التنموية إلى الكويت، متعرفًا على احتياجاتها، ويتوجه إلى إفريقيا بدعوة المجموعة الإفريقية نحو عقد قمة عربية -  إفريقية بالكويت في نوفمبر 2013، مشجعًا صناديق التنمية العربية للمشاركة في إفريقيا وفاتحًا حوارات متنوعة مع المواقع المختلفة في القارة السمراء.
ويفتح سمو الأمير تقليدًا دبلوماسيًا مستجدًا، تمثّل في مؤتمرات تخصص لإعادة بناء الدول التي تضررت من سوء إدارة حكامها، أو تعرضت لآفات طبيعية غير متوقعة، ودخل في شراكة مع الأمم المتحدة، تتولى فيها المنظمة الإشراف على هذه المساعدات الإنسانية، خاصة التي يقدمها سمو الأمير إلى الهيئات الاجتماعية والإنسانية، مثل منظمة الصحة العالمية و«الأونروا»، فضلًا عن مؤتمرات دعم اللاجئين السوريين عام 2014 في الكويت، وإعادة إعمار العراق في 2018، وإعادة إعمار اليمن. 

مقعد غير عادي
توصلت الأمم المتحدة، إلى قناعة بأن سمو الأمير الشيخ صباح الأحمد يشغل مقعدًا غير عادي في إنسانيته وغير عادي في حجم عطائه، وغير عادي في تعدد مواهبه وتنوعها، وبهذا الإدراك عقد الأمين العام للأمم المتحدة (السابق) بان كي مون، مؤتمرًا في مبنى الأمم المتحدة بنيويورك، يعلن فيه سمو الأمير قائدًا للإنسانية، بحضور كبار المسؤولين في الكويت وفي المنظمة العالمية، وأمام أنظار الأسرة العالمية بكل تنوعاتها. 
ولذلك ليس غريبًا أن يعلن السكرتير العام الحالي أنطونيو غوتيريس (الذي خلف بان كي مون)، في نعيه لسمو الأمير الراحل، أن أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد كان رمزًا استثنائيًا للحكمة والكرم، رسول سلام، وصانع جسور، وكان دائمًا في الصف الأول لحشد تضامن المجتمع الدولي مع المحتاجين.
كما أعطى سمو الأمير الراحل العلاقات مع العراق أولوية في التواصل، بعد سقوط نظام صدام، فعمّق علاقاته مع جميع المسؤولين العراقيين، وجميع رؤساء الوزارات، فمنذ بداية الحكم الجديد تشكلت لجنة عراقية - كويتية للنهوض بالعلاقات في مختلف المجالات، وتعبيرًا عن تقدير المسؤولين العراقيين لسمو الأمير الراحل، شاركت مجموعة كبيرة من المسؤولين السابقين والحاضرين في تقديم العزاء إلى سمو الأمير الحالي الشيخ نواف في وفاة قائد الإنسانية الشيخ صباح الأحمد، طيب الله ثراه. 

سياسته الداخلية
كان سمو الشيخ صباح الأحمد يؤكد إيمانه بالدستور، عارفًا بدوره في ترسيخ النظام السياسي، وفي تأمين التوافق المجتمعي، فالدستور خريطة طريق للترابط بين الشعب وبين نظام الحكم، وهو الوثيقة التي اتخذتها الكويت، شعبًا وحكومة، لتنظيم العمل وفق المبادئ السياسية والإنسانية المتفق عليها والمستوحاة من ميثاق الأمم المتحدة ومن إعلان حقوق الإنسان لعام 1948.  وكان عارفًا بما يفرض الدستور من التزامات على الأسرة، ومستحسنًا تحديد الاختصاصات، ومثمنًا دور الدستور في استقرار الأمن وفي صمود الدولة وفي جماعية الإرادة الكويتية للحفاظ عليها. 
وإذا كان في الآونة الأخيرة قد أظهر بعض الضيق،  فمردّه للسلوكيات التي يمارسها بعض النواب أحيانًا في ابتعادهم عن روح الدستور، على الرغم من إصرارهم على حرفيته في إقليم مضطرب تهدد استقراره تقلبات الأوضاع في العراق، وتوترات إيران في الصراعات الحادة بين أطياف المجتمع.
كان الشيخ صباح يدرك أولوية اقتلاع الفساد وملاحقة المفسدين وفرض العقوبات عليهم، لكن الأهم وجود الدليل حتى لا يتعرض المجتمع للانتقام عبر الوشايات والخصومات، وكان يرى الخطر في توظيف مناخ الحرية الداخلي الرحب لتبادل الاتهامات دون إثبات قاطع. 

رجل اعتدال وعقلانية
كان ديمقراطيًا ومتقدمًا في ارتياحه لها، لأنه رأى مصير أنظمة الاستبداد، وكان يثمن الرأي والمشورة البناءة، ويعتبرها من أصول النظام المنفتح. كان يعتبر سيادة القانون في المجتمع علامة الرقي ودليل الاستنارة ونضج المجتمع، لأن سيادة القانون تعني المساواة بين الكبير والصغير، اللامع والخافت، المتنفذ والمبتعد، وكان يتابع الحوارات في المجلس وخارجه، فلا يقبل المفردات المنفرة، ولا يحب المغالاة في طرح المطالب.
كان مسكونًا بضرورات الوحدة الوطنية التي ترتفع على الصغائر وتختزن نوايا الخير بين أبناء المجتمع، ويجد الانفتاح والدستور وحرية التعبير عناصر مؤثرة في جعل هذه الوحدة تسير في نبض كل مواطن. كان رجل اعتدال وعقلانية، يؤمن برجاحة العقل، ويساند أهل الرأي، ويشجع الموهوبين، ويحتضن أصحاب الكفاءة، ويعتبر البارزين مكسبًا للكويت، وفي أي مجال.
بهذه الروح كانت علاقته مع أعضاء البرلمان، قبل تولي الإمارة، متينة، فيها تبادلية الاحترام، إذ كان مستمعًا جيدًا للمعارضة المسؤولة، وكان يجتمع مع أعضائها عندما كان وزيرًا للخارجية، فقد كان على وعي بما يملكه من سحر التلاقي.

عيون الصقر
كان الشيخ صباح مؤمنًا بأن نظام الكويت الديمقراطي فريد، لأنه يتيح الشراكة بين البرلمان والحكومة في البحث عن أفضل سبل للنهوض بالكويت، ولا يريد أن يرى البرلمان معطلًا للقوانين المهمة في جوانب التنمية.
كانت له عيون الصقر في رصد مواقع ضعف التعاون بين الحكومة والمجلس، فقد كان حريصًا على تحقيق هذا التعاون، وكان يعلّق الأمل على دور رئيس المجلس ومساعديه وجهازه في أخذ الاستباقية لإبعاد الملفات التي لا تساعد على تحقيق التعاون. 
كان يريد الخصخصة المعتدلة في بعض المسارات والخدمات، ولا بدّ أن تحظى الكويت بمجتمع مبادر، لاسيما في الجانب الاقتصادي والتجاري. 
لا يحب الإسراف ويرتاح لأهل البساطة، ويحب الاستماع إلى تراث الكويت الغنائي، لاسيما البحري، الذي يرى فيه أناشيد تحفز الهمة وتستحسن الصلابة.
كان الشيخ صباح مستنيرًا متطورًا مع المرأة في كل مجال بلا سطوة، وكان يسعد بعطائها، خاصة في الملفات العلمية والتربوية، ويدعم الثقافة ويرى فيها ملفات التعريف بالكويت في فكرها وفي إبداعها الأدبي والإنساني.

ملاحظات ثلاث 
أود أن أنهي هذا المقال بثلاث ملاحظات، كنت أسمعه يرددها:
أولًا: كثيرًا ما كان يصر على أننا عرب وجزء من الأمة العربية، مهما كان لدينا من تساؤلات، وأن الجريمة التي حدثت زادت من أصدقاء الكويت، ورفعت مقامها تقديرًا لمواقفها وإعجابًا بمحتواها.
ثانيدًا: مجلس التعاون قدرنا الاستراتيجي، فمع امتداداته الجغرافية والبشرية ونفوذه وسطوة مكانته المالية والاقتصادية، وأهم عناصره ترابط الدم، الذي يشكل الترابط الشرعي التاريخي، فإنه لا يتردد لصون متانته والحفاظ على فعاليته وزيادة وجوده العالمي. 
ثالثًا: الكويت مقر القيادة الإنسانية، صدر هذا القرار من الأمم المتحدة، وأهم ما فيه البعد الإنساني المشارك في دعم المسيرة الإنسانية باقتناع، والتشارك مع الآخرين لتوفير احتياجاتهم، والمساهمة في دعم المؤسسات والمنظمات التي تخفف من شقاء البشر في أي مكان.
عنوان الكويت دار الإنسانية ليس عابرًا وإنما هو ثابت، اعتمادًا على الإجماع العالمي الذي منحته الأسرة العالمية للكويت تحت قيادة صاحب السمو المغفور له الشيخ صباح الأحمد.
شهدنا أحزان الأسرة العالمية عبر الوفود التي جاءت من كل جهة، ومن مختلف الدول، ومن مختلف الحضارات ومن تنوع الديانات والثقافات، كلها تحركت بأحزانها نحو الكويت لتؤدي واجب العزاء في زعيم الإنسانية الذي توهج معها وغرسها في طينة الكويت قبل أن يلبي نداء الخالق، ليغادر هذه الدنيا إلى جنة الخلد يوم الأربعاء 29 سبتمبر 2020.. و«كلّ من عليها فان» ■