الجديد حول حركة تخطّي البشرية

تعززت المكتبة الفرنسية بصدور ثلاثة كتب جديدة عن تيار
الـ «ترانسهومانسم». وكما بات معروفًا، فإنّ الترانسهومانسم «تخطي أو تجاوز الإنسية» التي لا ينبغي الخلط بينها وبين «ما بعد الإنسية»، تبعًا لمنظور المفكر الفرنسي لوك فيري, هي حركة نشأت خلال ثمانينيات القرن الماضي في وادي السليكون، وتسعى إلى استثمار الثورة العلمية والتكنولوجية في تطوير الكائن البشري وتحويله إلى كائن هجين، «أومو - تكنو» خارق، أي نوع من السايبورغ ذي الإمكانيات الهائلة. ويرى أصحابها وأتباعها أن التضافر بين تكنولوجيات النانو، والتكنولوجيا الحيوية، والذكاء الاصطناعي، والمعلوميات، وعلم الروبوتات، وعلم الوراثة، والعلوم المعرفية والعصبية، يسمح بتحسين القدرات الجسمانية والفكرية للإنسان وجعله مقاومًا للمرض والإعاقة والشيخوخة والموت.
صدرت الكتب الجديدة خلال السنة الحالية عن ناشرين مختلفين. الكتاب الأول بعنوان اتأملات في تخطّي الإنسية... التذاوت والحكمة البيئيةب من تحرير جُزوي غِيبو (نشر لارماتان). وجاء الثاني حاملًا اسم امن الإنسي إلى متخطي الإنسية... تأملات في تخطّي الإنسيةب من تأليف وليام فولبير يوغنو تابيكو وأناطول فوغو ومؤلفين آخرين، (نشر لارماتان كاميرون). أما الثالث فهو لِألكسندر مواتي، وعنوانه افي جذور تخطّي الإنسية... فرنسا 1930 - 1980ب (نشر أوديل جاكوب). وفي ما يلي تعريف مختصر بهذه الإصدارات.
«تأملات في تخطي الإنسية... التذاوت والحكمة البيئية»
في هذا المؤلف، يعمل جزوي غيبو ذ الذي عُرف أكثر بإصداراته الأدبية - تفكيره فيما أعلنه معتنقو تخطّي الإنسية من مشاريع مستقبلية تسعى إلى خلق إنسان هجين، نصفه آلة ونصفه الآخر بدن بشري. مواضيع وقضايا كثيرة يعالجها الكاتب لما تشكّله حركة تخطّي الإنسية من نقلة فكرية تقود إلى إعادة النظر في الإتيقا والميتافيزيقا، بل والمعرفة بشكلٍ عام. ولما كان البشر سيعيشون مستقبلًا مع أناس معزّزين بقدرات إضافية، فإنّهم سيضطرون - لا محالة - إلى مساءلة هوّيتهم وطبيعتهم الإنسانية.
على غرار الفلاسفة، يبدأ غيبو بحثه بطرح إشكاليته من خلال مجموعة من الأسئلة التي تُسائل الموضوع: لماذا لا تحظى تأثيرات النظام الطبي الجديد الأنطولوجية والإتيقية بالاهتمام الفكري الواجب؟ أليسَ من الضروري أن تُعيد تيارات الفكر النقدي تقييم موضوعها ومناهجها على صعيد الأنطولوجيا والإتيقا والبيداغوجيا؟ ألا يُعيد النظام الطبّي الجديد تركيب مشهد الواقع بكيفية جَذرية؟ ما السُّبل الجديدة التي يجب أن يسير نحوها تدريس الفلسفة بشكل مغاير، في زمن التحولات العلمية الهائلة في مجال البيولوجيا؟ هل الإنسان المزيد من نفس طبيعة الإنسان العادي الذي بقي وفيًا لكينونته الأصلية؟ وهل يمكن إخضاعه لحقوق وواجبات الإنسان نفسها الذي لم يُحول تكنولوجيًا؟ وألا يجب أن يُلحق به الإنسان المعاد إلى الحياة بعد نجاح عملية تجميده؟
إضافة إلى ما سبق، هناك أسئلة تخصّ الوضع الاقتصادي المأزوم لبلدان العالم الثالث التي فرض عليها التقويم الهيكلي المتمثل بالأساس في تدخلات ذات طبيعة تقنية، الشيء الذي يحتّم - تبعًا لِغيبو - اعتماد خطط تقويم أكسيولوجي. كما خص المؤلِّف صفحات عدة للمسألة البيئية، مسترشدًا بهانز جوناس وبالفيلسوف جلبير هوتوا.
يتكون الكتاب من ثلاثة أقسام، وقد درس غيبو تخطّي الإنسية في القسم الأول الذي جزّأه إلى بابين وثمانية فصول. يحمل الباب الأول عنوان اوفيات تخطي الإنسية وإصلاح الفلسفةب، وفيه نجد الفصول التالية: من النظام الطبي الجديد إلى تمثّل جديد للموت؛ من الإنسان المزيد إلى أنطولوجيا وإتيقا أعيد تقييمهما؛ من أجل فلسفة للعجلة الإبستمولوجية؛ من أجل بيداغوجيا بمنهج تخميني.
وعالج الباب الثاني تجميد الجثث وعوائق المَثَل الأعلى لما بعد البائد، من خلال أربعة فصول انصبّت على مصادر التجميد ومناهجه، والافتراض الاختزالي للتجميد، ثم فيزياء الحرارة المنخفضة والاستلزام الاختزالي المضاد، وأخيرًا الاعتراضات التي تواجه الاختزال التجميدي.
ويتحدد موضوع القسم الثاني في التذاوت، وتناولت أبوابه الثلاثة المتضمنة 10 فصول التيمات الآتية: كسوف الذات الفردية والتهدئة الموضوعية؛ معالجة الاضطرابات الاجتماعية بالتقابلية المعكوسة؛ من أجل إتيقا امتمدرِسةب للتدبير العمومي.
ونطالع الحكمة البيئية في القسم الثالث الذي جاء في بابين؛ عالج الأول موضوع االمبدأ العاطفي... من أجل حكمة بيئية للتناظرب، وبحثت فصوله في االوضع الحالي... تدهور الإفراطب؛ يليه افي ضرورة حكمة بيئية للتماثلب؛ ثم افي القيمة الإنزيمية للانفعالب؛ وختم بـ االمبدأ العاطفي... انفعالية مستنيرةب.
وخُصص الباب الثاني للفيلسوف البلجيكي الراحل جلبير هوتوا ولزوم عقلانية بديلة؛ وقد تدارس غيبو فيه المواضيع التالية: فلسفة العلوم التكنولوجية عند جلبير هوتوا؛ ثم مناطق الظل لدى جلبير هوتوا والمناصرة من أجل عقلانية بديلة. وفي الصفحات الأخيرة أشار الكاتب إلى مجموع الكتب التي اعتمدها في دراسته التي جاءت عميقة ومستوفية لشروط تحرير المقالة البحثية.
«من الإنسي إلى متخطي الإنسية»
يفحص هذا المؤلف قضية تخطّي الإنسية للوقوف على منطلقاتها وانعكاساتها النظرية والتطبيقية على الوجود البشري وعلى المجتمعات المعاصرة، منطلقًا من أن تخطّي الإنسية ليس مجرد حركة علمية فلسفية تستمد أصولها من التخييل العلمي وترتبط به، بل هي مشاريع ومخططات تستهدف إدخال تغييرات على الكائن البشري لتحويله إلى سايبورغ خارق. ومن بين الأسئلة العميقة التي يطرحها ويعالجها مؤلّفو الكتاب سؤال معنى الحياة إذا ما تحرّر الإنسان من إكراهات وضرورات الوضع البشري كالقلق والألم والشيخوخة والموت.
دراسات عدة تُكوِّن هذا المؤلف الغني بالمعطيات والتأملات المنصبة جميعها حول الترانسهومانسم. الدراسة الأولى بعنوان اأي مستقبل للبشرية في مواجهة ثورة تخطّي الإنسية؟ب من تحرير وليامس تابيكو الذي فحص فيها العبور من إنسانية الأنوار إلى تخطي الإنسية، ثم مجتمع التجويد ويوتوبياته العديدة، لينهيها بفصل امن متخطي الإنسية إلى ما بعد الإنسيب، والذي جاء متسائلًا عن مستقبل البشرية على ضوء ما سبق. وحرر دوني مْبيسا باللغة الإنجليزية الدراسة الثانية التي عالجت الذكاء الاصطناعي والحياة الاجتماعية؛ وانقسمت إلى المحاور التالية: هل الذكاء الاصطناعي علامة تقدُّم أم علامة نمو؟؛ الذكاء الاصطناعي ومكننة الطبيعة اللإنسانية؛ الذكاء الاصطناعي والإتيقا. وتناولت الدراسة الثالثة، التي وقّعها ألكسندر كاربونو، الخلود كأفق، حيث انتقلت من أساطير الخلود إلى عبادة الخلود الجسماني، ثم إلى ضرورة التخلي عن الحديث عن الموت وتعويضه بالكلام عن الحياة، لتختتم بموت الموت أو إماتة جسد الكائن من أجل الغير. وانصبّ اهتمام لامودي تنكوانو عمرو في الدراسة الخامسة على دوار الخلود الرقمي؛ ونطّلع فيها على: النظرية السبرانية ومنطق تخطي الإنسية، ثم الذكاء الاصطناعي كإكسير للشباب، وفي الأخير من أجل قراءة إتيقية للرغبة في تخطّي الإنسية. وجاءت الدراسة الخامسة التي كتبها أولريش أوريليان مِتيندي متناولة إمكانية مجيء مجتمع ما بعد الموت من خلال التفكير في التكنولوجيا الطبية. وفيها فحصٌ لتفكّك العقائد الأخروية في تكنولوجيا الكائن الحي، وأيّ مستقبل للإنساني في مجتمع ما بعد الموت، ومساءلة ما بعد المائت. واشتغل كونتان لوبليار في الدراسة السادسة على المظاهر القانونية لاستزادة الإنسان، حيث قسمها إلى العناصر التالية: التقدّم التكنولوجي المُكون لاضطراب قانوني، ثم القانون المشارك في الاضطراب، وأخيرًا القانون كَحَلّ. امن حقوق الإنسان إلى إتيقا الإنسان المتعددب كان هو عنوان الدراسة السابعة والتي حررها جزوي يوروبا غيبو. ونطالع فيها: من أجل إعادة تقييم للإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ تخطّي الإنسية في مواجهة المسؤولية الشرعية؛ من أجل إتيقا لتخطي الإنسية؛ من أجل إتيقا للإنسان المتعدد. الدراسة الأخيرة التي حررها مويز فاندي، تطرقت إلى منظور المفكر الكاميروني أبينيزير نجوه مويل للضبط في أبعاده كافة.
وإذا كان المؤلفون مجمعين على إيجابية التقدم العلمي والتقني الذي يخدم الإنسان ويطيل في عمره من خلال الحدّ من أمراض الشيخوخة كالزهايمر وباركنسون، إلّا أنهم يعبّرون عن تخوّفاتهم مما قد ينتج عن تطبيق أفكار تخطي الإنسية وتحويلها إلى واقع ملموس؛ خصوصًا أن برنامج راي كريزويل يتحدث عن ظهور كائنات جديدة خلال الثلاثين سنة القادمة، ستمهد لإنسان المستقبل الموعود بالخلود، عن سبق تخطيط وإصرار، لا عن مصادفة وملايين السنين من التحولات الطبيعية التي مسّت خصائص الفرد البشري وقدراته، كما بينت أبحاث نظرية التطور. ومعنى ذلك أن الذكاء الاصطناعي سيتحكم في الهندسة الوراثية للكائن الجديد، وسيزوده بعكاكيز إلكترونية عوضًا عن بعض أعضائه الهشّة. ومن جهة ثانية، فإنّ التفاوت في العلاج وفي الحصول على التعديلات الوراثية يطرح ضرورة الضبط الأخلاقي والقانوني.
«في جذور تخطّي الإنسية»
يأتي كتاب ألكسندر مواتي (مهندس فرنسي خريج مدرسة المناجم وباحث في تاريخ العلوم) لإغــــــنــــــــاء الـــــدراسات الفرنسية التي انصبّت على تخـــطّي الإنسية، بحفر تاريخي في كتابات الفترة الواقعة بين 1930 و1980 بحثًا عن أفكار قد تكون مهّدت لهذه الحركة. ومن التساؤلات التي حاول مواتي الإجابة عنها: ما هي دلالة اتخطّي الإنسيةب ومتى بدأ استعمال الاسم وما هي جذوره في الثقافة الفرنسية؟؛ علمًا بأن هذا المفهوم ينسب إلى جوليان هكسلي الذي استعمله سنة 1957. يرى مواتي أن معتنقي هذا المذهب سعوا إلى بناء سردية أنثروبولوجية جديدة يجعلها تقترب من الديانة الجديدة للـ انيوليبراليةب ولما بعد الإنسيّة. ويسجل أن العديد من الأعمال قامت بتحليل آمال ومخاطر تخطّي الإنسية التي تعبّر عن سياسات النيوليبرالية، وعن الخطاب الداعي إلى زيادة كفاءات الفرد البشري، خدمة لمصالحها الاقتصادية.
وقد توصل المؤلف، من خلال تنقيبه في الفترة الممتدة من 1930 إلى 1980، إلى أن مجموعة من المفكرين الفرنسيين السابقين، استخدمت بهذا الشكل أو ذاك فكرة اتخطّي الإنسيةب. من بين هؤلاء المهندس جان كوترو، الذي كوّن مجموعات تفكير في طريق ثالث بين الشيوعية والرأسمالية، وكان يرى أن العلم تجاوز البشرية، وأنه من الواجب تأسيس علم جديد للإنسان. واستنادًا إلى اجتهاداته استطاع بلورة اتخطّي الإنسيةب سنة 1937، قبل أن ينقله هكسلي إلى الضفة الأخرى من الأطلسي. ويسجل الكاتب أن كوترو وهكسلي، بتخيّلهما لإنسان جديد أعلى، يكونان قد أخرجا الداروينية من الميدان البيولوجي، وأدخلاها إلى مجال اليوتوبيا. المفكر الثاني هو الأب اليسوعي تيلار دو شاردان، الذي سعى إلى الدمج بين العلم والدين في إيمانه، وكان قد طوّر مفهوم االإنسان الفائقب. أما الثالث فهو جان روستان الذي وظّف لفظ سوبرمان، وكان يقول بزيادة إمكانات الإنسان، ويؤكد ضرورة تحسين الجنس البشري، بالاعتماد على تحويل الحمض النووي أو على الانتقاء الجيني. وهناك مفكر رابع هو الطبيب الجراح ألكسي كاريل صاحب كتاب االإنسان... ذلك المجهولب، الذي أخضع علم الأحياء لأيديولوجيته اليمينية المتطرفة، وفكّر في خلق أرستقراطية بيولوجية متفوقة من خلال تحسين النسل. كما خصص مواتي بعض اهتمامه بالصحفي لويس باولز الذي كان يصدر مجلة رائدة في الخيال العلمي هي ابلانيتب. ومن بين ما لاحظه مواتي خلال تتبُّعه لنشأة المفهوم في فرنسا هو تركيز المفكرين المذكورين على الإنسان الناقص أكثر من تركيزهم على الإنسان المزيَّد.
ويستشف القارئ من بحث مواتي أن مفهوم ترانسهومانسم الذي تنعت به الحركة الأمريكية اتخطّي الإنسيةب، فرنسي الأصل؛ وأن أبحاث هذه الأخيرة لا تتوافر فيها الشروط والمواصفات العلمية، رغم استنادها إلى نتائج علوم كثيرة. وبالتالي فهي مجرد حركة ثقافية يمكن اعتبارها، تجاوزًا، حركة فلسفية. وقد سجل بعض النقاد على المؤلَّف خلوّه من الربط بين المعطيات المتوصل إليها وبين السجالات الفلسفية التي دارت في فرنسا، وخصوصًا بين الوجوديين وبين معارضيهم، وبالأخص حول الماهية والوجود ■