الفنون والسلامة النفسية في التعليم العالي
في إطار دعمها لمعاهد التعليم العالي والمعاهد الثقافية النموذجية الملهمة، دعت مؤسسة ميلون الأمريكية - المهتمّة بالفنون والإنسانيات، والتي خصصت أكثر من مئتي مليون دولار لدعم هذه المجالات في فترة تفشي وباء كورونا - إلى تشجيع البحوث التجريبية التي تدلّل على وجود روابط إيجابية بين تعلُّم الفنون والإنسانيات والسلامة النفسية مدى الحياة.
وفي مقال بعنوان «ربط تعليم الفنون والإنسانيات بالسلامة النفسية والصحة طوال الحياة»، نشرته المؤسسة أخيرًا على موقعها، أكدت كاتبته، أستاذة علم النفس بجامعة ويسكونسن - ماديسون، د. كارول ريف، وجود فجوة بين الدراسات التي تربط أثر التعليم العالي بعدد سنوات تلقّي التعليم، وتلك التي تدرس أثر محتوى خبرات التعليم في هذه المرحلة على الصحة والسلامة النفسية مدى الحياة.
بيّنت د. ريف، في مقالها، كيف يؤدي التعرض المكثف للفنون والإنسانيات إلى إثراء جوانب السلامة النفسية في وقت لاحق بالحياة، وقدّمت أمثلة تثبت أن الخبرات التعليمية في الفنون والإنسانيات مهمة في تنمية الحواس، ويمكن أن تجعل الناس يقدّرون ما تقدّمه الفنون وما يقدّمه المذهب الإنساني - وما يحتاجون إليه منها - كالسعي وراء معنى للحياة، وبناء مجتمعات صالحة وعادلة.
وفي الجزء الأخير من المقال، عرضت أهدافًا متعددة للبحث المستقبلي في هذا المجال، وكيفية مساهمة العلوم المعاصرة في فهم العلاقات التي تربط بين الحصول على تعليم عالٍ في الفنون والإنسانيات - مقارنة بمجالات تعلُّم أخرى كالتكنولوجيا والتدريب المهني - والسلامة النفسية والصحة، مشيرة إلى مبادرات أطلقت أخيرًا تربط بين الفنون والإنسانيات وازدهار الإنسان، يركّز معظمها على أثر الخبرة المباشرة - كحضور مسرح أو حفل موسيقي، أو قراءة نص أدبي - على القدرات النفسية والخبرة الذاتية وصحة الجسم والدماغ.
4 توجّهات بحثية
ضمن دعوة بحثية لمختلف العلوم، ولاسيما تلك التي تتناول ممارسات أساليب الحياة بعيدة المدى، والتي تقوم بتتبُّع بحثي يمتد سنوات مديدة من عمر الإنسان، اقترحت الكاتبة 4 توجهات جديدة للبحث: ربط خبرات التعليم العالي المتنوعة بالسلامة النفسية مدى الحياة، باستخدام تصميمات بحثية منظورية وتأمّلية، وربط خبرات التعليم العالي المتنوعة بالمشاركة مدى الحياة في الفنون بصورة عامة؛ وربط التعرّض المتراكم للفنون، بكشف السجلات الشخصية المتعلّقة بالسلامة النفسية والصحة؛ وفحص مشكلات الصفوة - النخبوية - في التعليم العالي، وتأثيرها على السلامة النفسية والصحة في مقابل الأفراد غير المستفيدين من فرص التعلُّم هذه، والمشكلات المجتمعية الأكبر الناتجة من غياب المساواة.
وتهدف هذه الدعوة إلى شقّ طريق بحثي جديد مطلوب لاستكشاف القوى الإيجابية والقوى السلبية المؤثرة على التمتّع بالصحة والـــسلامـــة الـــنـــــــفسية، وتــأكـــيد دور التعليم العالي في هذه العمليات المشكّلة لفهم القضايا ذات العلاقة من خلال دليل علمي.
أبعاد السلامة النفسية
تجد د. ريف أن مرحلة التعليم العالي مهمّة لغرس الالتزام المطلوب لاستمرار التعلم مدى الحياة، ولهذا ينبغي أن يكون محــتوى الــتعليم فيها حقيــقيًا ومـــرتبــطًا بمـكــونــات الــــسلامة النــفــــسية. أمــــا مفهوم السلامة النفــــسية، فــقد سبـــق أن شــرحته في نمـــوذج جــديد، معــتمدة عــــلى أفــكـــــار وفلسفات ونظريــات سابقة. ويتـــــكون هـــــذا النـــموذج من الأبعاد الأساسية الستة التالية:
1 - قبول الذات: يمتلك المرء في درجته العالية اتجاهًا إيجابيًا نحو الذات، ويعترف ويقبل الجوانب العديدة من ذاته، بما في ذلك الجيد وغير الجيد من الصفات، كما ينتابه شعور إيجابي نحو ماضيه.
بينما يشعر في درجته المنخفضة بعدم الرضا عن الذات، وخيبة أمل فيما حدث له في الماضي، وعادة ما تكون لديه مشكلة مع بعض صفاته الشخصية، ويتمنّى أن يكون مختلفًا عمّا هو عليه.
2 - علاقات إيجابية مع الآخرين: يتمتع الشخص - في الدرجة العالية - بعلاقات دافئة ومثيرة للرضا والثقة بالآخرين، ويكون مهتمًا برفاهيتهم وقادرًا على التعاطف الشديد معهم وفهمهم، والأخذ والعطاء في علاقاته الإنسانية المتبادلة، في الوقت الذي لا تكون للشخص - في الدرجة المنخفضة - سوى علاقات قريبة محدودة، ويجد صعوبة في الثقة بالآخرين، وليس من السهل عليه أن يكون دافئًا ومنفتحًا ومهتمًا بمن سواه. وهو في الغالب محبط ومعزول، وليس لديه استعداد لتقديم تنازلات للإبقاء على روابط مهمة مع الناس.
3 - النمو الشخصي: في مستواه المرتفع، يكون لدى الإنسان شعور بالتنمية المستمرة، ويرى نفسه في تطوّر وانفتاح دائم على خبرات جديدة، ولديه إحساس بمعرفة إمكاناته، ويمكنه رؤية التحسُّن في نفسه وفي سلوكه، ويتغيّر مع الوقت بصورة تعكس مزيدًا من معرفة ذاته وفعاليته.
أما في حالة المستوى المنخفض، فيشعر المرء بالجمود، وقصور الإحساس بالتطوّر، كما يعاني الملل وعدم الاهتمام بالحياة، والعجز عن تنمية اتجاهات أو سلوكيات جديدة.
4 - هدف في الحياة: في المستوى المرتفع، تكون لدى الشخص أهداف في الحياة، ويعرف وجهته جيدًا، ويستشعر معاني للحاضر وللحياة الماضية، وتمنح معتقداته هدفًا وغايات لحياته. وإذا انخفض المستوى، يكون لديه قصور في معنى العيش، وتخلو حياته من الأهداف أو الغايات، ولا تكون لديه وجهة واضحة، ولا يرى هدفًا أو معنى لحياته الماضية والحاضرة.
5 - السيطرة على البيئة المحيطة: في المستوى المرتفع، يكون لدى المرء إحساس بالسيطرة والقدرة على إدارة البيئة من حوله، ويستطيع التحكُّم بالعديد من الأنشطة الخارجية المعقّدة، ويستخدم الفرص المتاحة بفاعلية، وتكون لديه قدرة على الاختيار أو خلق سياقات ملائمة لحاجاته الشخصية ولقيَمه.
أما في المستوى المتدني، فيواجه الإنسان صعوبة في إدارة شؤونه اليومية، ويشعر بأنه غير قادر على تحسين سياقه المحيط، ولا يكون في الغالب واعيًا بالفرص المتاحة أمامه، ويعجز عن السيطرة على عالَمه الخارجي.
6 - الاستقلال الذاتي: في المستوى المرتفع، يستطيع الإنسان أن يقرر مصيره بنفسه وبصورة مستقلة، ويكون قادرًا على مقاومة الضغوط الاجتماعية المفروضة على تفكيره وتصرّفاته، ومتمكنًا من ضبط سلوكه بصورة نابعة من داخله، ويستطيع أن يقيّم ذاته في ضوء معايير شخصية. أما في المستوى المنخفض، فيهتم الشخص بتوقّعات الآخرين وتقييمهم، ويعتمد على حكمهم في اتخاذ قراراته المهمة، ويتوافق مع الضغوط الاجتماعية ليفكر ويعمل بطرق معيّنة.
مراكز بحثية
في بريطانيا، مثلًا، أسست جامعة برايتون مركزًا للفنون والسلامة يضمّ في عضويته مجموعة من الأكاديميين والمبدعين والمتخصصين في مجالات صحية من مختلف أنحاء الجامعة، يعملون معًا على تحسين السلامة الفردية والاجتماعية والبيئية. ويركّزون على ترك أثر ذا معنى من خلال فهم الحكمة العملية التي يمكن بلوغها من خلال الفنون، فهُم يطوّرون مداخل بحثية بينية العلوم وقائمة على المجتمع، ويتيحون ممارسات فنية، كالرسم والتصميم والكتابة الإبداعية، إلى جانب بحث موضوعات تتعلّق بالصحة الذهنية وعلم النفس والمرونة والاستدامة والطب.
وتجذب البحوث والمشروعات التي يقوم بها المركز في هذه المجالات اهتمامًا دوليًا واسعًا، كما تسعى جامعة ليدز، من جانب آخر، إلى استكشاف أثر البحث في الفنون والإنسانيات على تحسين الصحة والسلامة النفسية، بما في ذلك الأثر الإيجابي للنشاط الموسيقي على الصحة الذهنية.
وتحاول استطلاعات الرأي الدورية الموجّهة لخريجي التعليم العالي، من ناحية أخرى، توفير معلومات مهمة لمثل هذه البحوث، حيث تنشّط تفكير الخريجين في خبراتهم التعليمية السابقة التي انتهت بمعنى وقيمة، وتركّز على الاستبصارات والخبرات الباطنية التي عاشوها أثناء دراستهم، والمفاهيم التي ترسخّت لديهم، وذلك من خلال طرح أسئلة حول معنى ما تلقّوه من تعليم ومدى فائدته في وقت لاحق بالحياة، والمقررات ذات القيمة بالنسبة لهم، والواجبات التي لم ينسوها رغم مرور السنوات، والتأثير الذي تركه الأساتذة عليهم، والدروس الحياتية التي تعلّموها، ولا بأس إن اختلفت الإجابات وتبدّلت وجهات النظر مع تقدُّم العمر وتراكم الخبرات.
ما يثير التفاؤل في نهاية المطاف، أن تبقى فرص تحسين مخرجات التعليم العالي المتعلّقة بالسلامة النفسية والشعور بالسعادة متاحة، إذا ما حرصت المؤسسات التعليمية المعنية على تدريب طلابها منذ البداية على بناء معرفة مفيدة، وتكوين عادات إيجابية وممارسة أنشطة تكشف عن قدراتهم وإمكاناتهم ومصادر سعادتهم وشعورهم على نحو أفضل، وتعدّهم لمهن تبعث على الاستمتاع وتعزز الثقة بالنفس وتحمّل المسؤولية وجميع أبعاد السلامة النفسية ■