العِلم وراء إنشاء منزل صحّي
يقضي البشر المعاصرون حوالي 90 في المئة من وقتهم في مساحات داخلية مغلقة، حيث يتنقلون ما بين المنازل والمكاتب والمدارس والمتاجر والمطاعم والصالات الرياضية، ومع ذلك، لا تزال تلك المساحات غير مستكشفة بالكامل من نواحٍ عديدة. فعلى الرّغم من طول الوقت الذي نعيش فيه داخل أماكن مبنية، فإنه نادرًا ما يتوقّف أحد للتفكير في كيفية تأثير هذه المساحات على صحتنا العقلية والجسدية، وكيف تشكّل أفكارنا ومشاعرنا وسلوكياتنا؟ وكيف تنظّم إنتاجيتنا وأداءنا وعلاقاتنا؟
أهم الأماكن المبنية التي يقضي فيها البشر معظم أوقاتهم هي المنازل. لذلك، كان لا بدّ من استكشاف المبادئ العلمية التي تساعدنا على إنشاء منازل صحية، لا سيما مع انتشار وباء كورونا الذي اجتاح العالم.
في عام 1929، بنى المهندس المعماري الأمريكي الشهير ريتشارد نيوترا ما يسمّى بـ Lovell Health House، الذي بات يُعرف بـ «المنزل الصحي»، بما أنّه يعد أول مثال مجسّد للمنزل الصحي على طريقة الأسلوب العالمي في البناء مع وجود العناصر الصحية الأساسية، أي الكثير من أشعة الشمس والهواء النقي.
واليوم بدأ العديد من الأشخاص يفكرون في كيفية بناء منازل صحيّة مرة أخرى، حيث أخذوا يدركون مخاطر المواد الكيميائية الموجودة داخل منازلهم والتلوث الذي تتسبّب فيه. وبدأ المهندسون المعماريون يدركون أن وظيفة المنازل يجب أن تكون أكثر من مجرّد توفير المأوى، وأن الصحّة أكثر من مجرد صحة جسدية، بل هي نفسية أيضًا.
ومما لا شكّ فيه أنّ من أفضل الطرق لتعزيز بيئة داخلية صحية، إدخال عناصر من البيئة الخارجية. وفي عصر جائحة كورونا التي فرضت علينا البقاء في منازلنا التي تحوّلت إلى أماكن للعمل والتعلُّم والترفيه أيضًا، قد يتطلّب الحفاظ على الصحة والسعادة منّا دعوة المزيد من العناصر الطبيعية وضوء النهار والهواء النقي إلى داخل بيوتنا.
لكن هذه الفكرة ليست جديدة، إذ في منتصف القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، دعت الممرضة الأشهر فلورنس نايتنجيل المعروفة بـ «صاحبة المصباح» إلى إصلاح شامل للمستشفيات التي كان العديد منها عبارة عن أماكن قذرة نتنة تفوح منها رائحة الموت.
نوع جديد من المستشفيات
أطلقت نايتنجيل حملة من أجل نوع جديد من المستشفيات، حيث يستطيع المرضى التمتّع بضوء الشمس والطبيعة والهواء النقي بشكل خاص. وكتبت لتقول: «إن التهوية الطبيعية أو تلك التي تحدث عن طريق النوافذ المفتوحة، هي الوسيلة الفعّالة الوحيدة لتأمين العنصر الأساسي لشفاء المرضى، وهو الهواء النقي».
ومن ثمّ أصبحت نايتنجيل مدافعة عن فكرتها التي دعت فيها إلى تقسيم المستشفيات إلى أجنحة، مما أدّى إلى ظهور نماذج جديدة من المستشفيات، لاسيما في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، والتي كانت تأوي المرضى في أجنحة طويلة وضيقة مع نوافذ كبيرة مصفوفة على طول كل جدار تطلّ على مروج مفتوحة واسعة.
كما تبنّى مصممو المصحات ومراكز العلاج طويلة الأمد لمرضى السلّ، الخصائص العلاجية للطبيعة والضوء والهواء وأنشأوا مرافق تحتوي على حدائق وشرفات وغرف مشمسة. لكن أفكار التصميم الجديدة هذه لم تقتصر على المستشفيات.
في الوقت نفسه تقريبًا، ساعدت سلسلة من الإصلاحات في مجال الإسكان - بما في ذلك قوانين أوصت بتوسيع الساحات بين المباني السكنية المكتظة، وطالبت بأن يكون لكلّ غرفة نافذة لإدخال الهواء الطلق - في إبطاء انتشار الأمراض المُعدية في المدن الكبرى.
وقد استوحى المهندسون المعماريون من المصحات لإنشاء منازل مفتوحة يسهل فيها دخول الهواء والضوء أيضًا. حتى أنه في عام 1926، ذهب المهندس المعماري رودولف شندلر إلى حد التنبؤ بأنه فيما يخص تصميم المساحات المبنية «سيختفي التمييز بين الداخل والخارج».
النزعة إلى المنازل المغلقة
من اللافت أن ذلك التمييز لم يحدث، فخلال القرن العشرين، أدّت مجموعة متنوعة من الابتكارات العلمية والتكنولوجية، منذ تطوير المضادات الحيوية حتى ظهور أجهزة تكييف الهواء، إلى إحداث تغييرات كبيرة في تصميم المباني.
كما بدأ ظهور المباني المغلقة أمام العالم الخارجي والهياكل الإسمنتية الجامدة ذات أنظمة التهوية الاصطناعية، فبقي ضوء النهار والطبيعة والهواء النقيّ في الخارج؛ ودخلت التكنولوجيا والإفراط في التعقيم وكفاءة الطاقة.
وقد أدّت أزمة الطاقة في السبعينيات والتركيز اللاحق على الاستدامة إلى إغلاق المباني بشكل أكثر إحكامًا في محاولة لجعلها أكثر كفاءة في استخدام الطاقة. وهكذا انخفضت معدلات التهوية الداخلية، وأصبحنا أكثر ابتعادًا عن العالَم الطبيعي.
يوضّح العِلم الآن أن كلّ هذه التطورات كانت في الاتجاه الخاطئ. فالهواء النقي، على سبيل المثال، له فوائد صحية مهمة، لا سيما أثناء جائحة كورونا التي أكثر ما تصيب الجهاز التنفسي.
Covid-19 هو في الأساس مرض يتفشّى في الأماكن المغلقة، حيث تميل القطرات السائلة الصغيرة التي تصدر من الجهاز التنفسي الحاملة للفيروس إلى البقاء لفترة أطول في الأماكن المغلقة، وخاصة الأماكن ذات التهوية السيئة.
يقول مدير معهد الصحة والبيئة المبنية في جامعة أوريغون، كيفن ويملينبيرج، إن فتح نافذة أو زيادة كمية الهواء الخارجي الذي يدخل من خلال نظام التدفئة والتهوية وتكييف الهواء يُعدّ «استراتيجية رائعة لتخفيف المواد الفيروسية في الهواء وتجنّب تفشي الأمراض».
يمكن أن يؤدي إدخال المزيد من الهواء الخارجي أيضًا إلى تقليل التعرّض لأي ملوثات يتصادف وجودها في الداخل (وفي الواقع، تشير الأبحاث إلى أن الهواء الداخلي يمكن أن يحتوي على كميّة من الملوثات أكثر بكثير من الهواء الخارجي). يمكن لملوثات الهواء في الأماكن المغلقة، التي تتراوح بين الجسيمات الدقيقة التي ننتجها عند الطهي إلى ثاني أكسيد الكربون الذي نطلقه عند الزفير، أن تؤدي إلى تهيُّج في الرئتين وضعف القدرة على التركيز. وفي دراسة أجريت عام 2016، وجد الباحثون أن زيادة إمدادات الهواء الخارجي تعزّز أداء المتطوعين في الاختبارات المعرفية.
ضوء الشمس
وفيما يخصّ النوافذ، من المفيد جدًا إبقاء الستائر مفتوحة، إذ يمكن للأشعة فوق البنفسجية في ضوء الشمس القضاء على مجموعة متنوعة من الميكروبات، بما في ذلك فيروس كورونا - على الرغم من أنّها تستغرق بعض الوقت - ويمكن أن يكون ضوء النهار علاجيًا، لأنّه يفيد الأشخاص الذين يعيشون في منازل تتمتّع بإمكانية أكبر للوصول إلى الضوء الطبيعي من خلال التمتّع برفاهية نفسيّة أفضل، بينما يتعافى المرضى في غرف المستشفى المشمسة بشكل أسرع، حتى أنّ معدلات الوفيات لديهم تكون أقل من معدلات أولئك الذين يتم نقلهم إلى غرف مظلمة. ويمكن أن يعزّز ضوء النهار المزاج، ويعزّز القدرة على التعلّم، ويقلّل من ضغط الدم، كما أنّه يحافظ على انتظام ساعتنا البيولوجية، إذ يساعدنا ضوء الصباح المائل إلى اللون الأزرق على البقاء يقظين أثناء النهار ويُحسّن نومنا في الليل.
يقول فان دين ويملينبيرج إنّ هناك طرقًا لتعظيم فوائد ضوء النهار دون الشروع في إدخال تعديلات كبيرة على المنازل. في البداية، يقترح التأكد من قضاء وقت كاف في غرف مضاءة جيدًا، لا سيّما في فترة الصباح، إذ يلاحظ أنّ «التعرُّض لضوء النهار في الصباح هو الأهمّ من حيث الحفاظ على دورة النوم والاستيقاظ بطريقة صحية». كما يقترح إضافة مناور أو أنابيب شمسية واستخدام الدهانات العاكسة ذات الألوان الفاتحة، إضافة إلى نقل المكاتب ومساحات العمل بالقرب من النوافذ المنورة.
الطبيعة وقدرتها العلاجية
ثم، بالطبع، هناك الطبيعة. لدى البشر تقارُب فطري مع الطبيعة وشعور غريزي بالانجذاب إليها، مما يجعلها بمنزلة طريقة للإلهاء الإيجابي ولتخفيف التوتر والسماح لأذهاننا بالراحة.
في دراسة كلاسيكية أجريت عام 1984، اكتشف الرائد في مجال التصميم، روجر أولريش، أنّ المرضى الذين خضعوا لعمليات جراحية، وكانت غرفهم في المستشفى تطلّ على مجموعة من الأشجار استخدموا جرعات أقلّ من مسكنات الألم القوية وخرجوا من المستشفى في وقت أقصر من المرضى الذين أقاموا في غرف لم يستطيعوا من خلالها رؤية أيّ مناظر طبيعية.
تظهر العديد من الدراسات اليوم أن التعرُّض للطبيعة يمكن أن يقلل من التوتر والقلق والألم وإلى تحسين الانتباه والتركيز؛ وحتى تقوية جهاز المناعة. يقول مؤسس ومدير مختبر المناظر الطبيعية والصحة البشرية بجامعة إلينوي في الولايات المتحدة الأميركية، مينغ كو «عندما يشعر الجسم بالأمان والاسترخاء الفعلي، الذي يحدث من خلال التعرُّض للطبيعة، يحوّل الموارد الموجودة لديه إلى أمور أخرى، مثل بناء جهاز المناعة».
وفي هذا الإطار تساعد مناظر النوافذ الطبيعية والنباتات الداخلية وحتى صور المناظر الطبيعية وأصوات الطبيعة في توفير بعض الفوائد. يمكن أن تكون النباتات بلسمًا - خصوصًا في أوقات الإجهاد الشديد والعزلة المنزلية - فقد أبلغ الأشخاص الذين شاركوا في رحلات إلى الفضاء، والذين سافروا إلى القارة القطبية الجنوبية، على سبيل المثال، عن راحة كبيرة وجدوها في البيوت الزجاجية وأعمال البستنة. فعندما يشعر الإنسان كل يوم بالشعور نفسه، يمكن أن تكون الطبيعة بمنزلة تذكير مرئي بأنّ الوقت يستمر في التقدّم بثبات.
كل ذلك يذكّرنا بضرورة النظر إلى منازلنا بصورة أبعد من كونها مساحات تُباع وتُشترى، وتملأ بالأثاث العملي الجميل، إلى كونها أماكن عليها أن تستوفي شروطًا معيّنة تكون أساسية من أجل دوام صحتنا الجسدية والنفسية■
بدأ العديد من الأشخاص في بناء المنازل الصحية للحد من مخاطر المواد الكيميائية والتلوث الذي تسببه داخل منازلهم