صباح الأحمد... القائد الإنسان

صباح الأحمد... القائد الإنسان

ما زالت ظلال اللقاء الأول مرتسمة في ذهني. بدا لي حينها صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، طيب الله ثراه وأكرم مثواه، إنسانًا باسمًا، متواضعًا، بالغ اللطف والود، حفيًا ومرحبًا بالإعلام وأهله، لا يترك زائره دون أن تغمره الرغبة في اللقاء به في أقرب فرصة سانحة.

في تلك الفترة، كان صاحب السمو شعلة متقدة من الحركة والنشاط، مواظبًا على الاتصال بالوسط الإعلامي والدبلوماسي والثقافي، مبشرا بالحدث التاريخي الجلل الذي ترنو إليه بلاده. 
كنت طالبًا في جامعة القاهرة، وأعمل في ذات الوقت مراسلًا متعاونًا مع إذاعة المملكة المغربية، ويشاء الحظ أن يتم اختياري ضمن وفد صحفي لأسافر إلى دولة الكويت، لتغطية الحدث المشهود ونقل وقائعه لمستمعي الإذاعة المغربية.

وزير في ظروف صعبة 
تلطف صاحب السمو، ووافق على إجراء حديث مع الطالب مندوب الإذاعة المغربية، وهو حينئذ وزير للإرشاد والأنباء في حكومة الكويت الأولى؛ وما أصعبها من مهمة في ذلك الظرف الزاخر بالأحداث الكبرى في مشرق الوطن العربي ومغربه.
في العام نفسه، غادرت القاهرة نحو الولايات المتحدة الأمريكية، لإكمال دراستي، وهناك تأبى المصادفات إلا أن تحقق لي الرغبة العميقة في البقاء قريبًا من الشأن الكويتي، وأنا ما زلت مبهورًا بشخصية سمو الشيخ صباح الأحمد، بتواضعه وتعامله الطيب مع ممثلي الصحافة ووسائل الإعلام.
في أمريكا، تعرفت إلى صحفي قدير، أفنى عمره في خدمة القضايا العربية والدفاع عنها والتعريف بها في مختلف المحافل التي كان يرتادها بانتظام ومواظبة داخل أروقة الأمم المتحدة في نيويورك، إنه الصحفي الراحل، ليفون كيشكيان، الأرميني الأصل، الذي عاش في فلسطين قبل قيام الدولة العبرية.
رفض كيشكيان الحصول على جواز سفر، وظل يتنقل بوثيقة ورقية مؤقتة، مرتبطًا عقلًا ووجدانًا، بفلسطين، ورافضًا اغتصاب أرضها، فما توانى عن النضال من أجلها بقلمه وقلبه ومواقفه، موظفًا شبكة علاقاته الواسعة.
استعانت به إذاعة دولة الكويت المستقلة، تقديرًا لمهنِيَّتِه الإعلامية، وإكبارًا لمواقفه المساندة للعرب. وتشاء المصادفات الجميلة التي لا تتكرر دائمًا، أن يستعين بي الراحل كيشكيان، وما زلت طالب علوم الاتصال، أثناء دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة، لأساعده في تغطية النشاط الكثيف للوفد الكويتي، بتوجيه وتخطيط من لدُن سمو الشيخ صباح الأحمد، بصفته رئيسًا لدبلوماسية الدولة الفتية، العضو الجديد في هيئة الأمم المتحدة.
وتستمر المصادفات الجميلة في تيسير السبل لتتعمق هذه الآصرة الإنسانية التي أعتز بها، لكونها أتاحت لي القرب من الشيخ صباح الأحمد، فإذا بي أسعد بلقائه، على صعيد رسمي، وقد أصبحنا نضطلع بمهام وزارة الخارجية في بلدينا. 
الإنسان الذي جذبني بلطفه في الكويت لأول مرة، هو نفسه بمثل السجايا الكريمة التي ازدادت سماحة وطيبة، بتقدّم العمر واغتناء التجربة السياسية والحياتية.

السياسي الماهر
كنت أتابع جهوده ومواقفه على رأس وزارة الخارجية، بغاية الاستفادة منها، فهو السياسي الماهر، والإنسان الملتزم، وصاحب التجربة الخصبة، الذي أبلى البلاء الحسن في معترك الدبلوماسية، مدافعًا عن البلدان العربية والإسلامية. عُرِف بتفكيره الراجح، مُتصفٍ بالحكمة والتروي في اتخاذ القرار، يغلف كل تلك الصفات الصبرُ في اللحظات الحرجة، خلال التعاطي مع القضايا الساخنة وتدبير الملفات المستعصية حين عرْضها للنقاش والتداول، سواء على صعيد المنظمات الدولية أو على مستوى الهيئات الإقليمية، وفي مقدمتها جامعة الدول العربية، حيث يكون رأيه مسموعًا ومؤثرًا في زملائه، بما أسميه الصرامة الناعمة و«للباقة السلسة»، المتأصلة في طبع وأخلاق سموه. 
أتيح لي أيضًا الاتصال والتواصل مع سموه، وأنا وزير لخارجية المملكة المغربية. بتلك الصفة أنابني جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، ممثلًا عنه في عدد من القمم العربية، وقد أصبح سمو الشيخ صباح الأحمد، رئيس مجلس الوزراء، ثم أمير دولة الكويت الشقيقة. 
رأيت سموه، مصغيًا لكل الآراء، ومهتمًا بكل المبادرات والمقترحات التي تتقدم بها الدول العربية؛ فحين تكون متعارضة فيما بينها، يبحث سموه عن الخيط الناظم بينها، يستجلي عناصر الانسجام والتكامل، لينتهي إلى خلاصات توافقية، تنال في الغالب الاستحسان والقبول من القادة كافة.
وبذلك النهج في معالجة الأزمات، صار سموه مشهورًا في المحافل الدولية والإقليمية، بكونه «الخيط الأبيض» الساعي إلى خير الشعوب، والحريص على لَمِّ شملها وتجسير الخلافات البينية التي تباعد مواقفها، ناشدًا التآخي والتعاون المثمر، بإرادة لا تَكَلُّ.
لا غرابة إذن، إن استحقت تلك الجهود وذاك السجل الحافل بالمكرُمات، هذا التقدير العالمي من الأمم المتحدة في شخص أمينها العام، بمكانته التي يرمز إليها لدى الدول التي انتخبته. 
وهذه الجائزة، أو بالأحرى صفة «قائد إنساني» وما أنبلَهَا من صفة، التي منحها الأمين العام السابق، بان كي مون، باسم المنظمة العالمية، تختزل كل معاني الإشادة والتقدير وثناء المجتمع الدولي، لسمو أمير دولة الكويت، على ما قدّمه وساهم به بصدق وإيمان في سبيل خدمة الإنسانية، حيثما كان ومن شتى المواقع الرفيعة التي تبوأها.
لقد عمل سموه من أجل نشر قيم التسامح وإرساء دعائم التعايش والسلم والتقارب بين الشعوب وتقليص الهوة بين الثقافات والحضارات. 
كما حمل سموه دائما مشعل حقوق الإنسان، قبل أن تصبح هذه الثقافة إحدى المقومات، وركيزة الصرح الديمقراطي الحديث. وكدليل على هذا التوجه، تشدد سموه، وهو في سامي المسؤوليات ثم أمير للبلاد، في احترام دقيق لبنود الدستور الكويتي، مهما كان السياق السياسي الذي يوجب الاحتكامَ للوثيقة الأسمى. لم يُؤَوِّل، أمير الكويت، قطعًا مواد الدستور، لنصرة فئة سياسية على أخرى، بل كان يضع في الاعتبار المصلحة المشتركة لشعبه، وفاءً بالتزامه واحترامه وتوقيره للمؤسسات الدستورية. 

مدرسة للأجيال
هذه النزعة الديمقراطية المتوارثة بين أمراء دولة الكويت وقادتها والفاعلين في الحقول السياسية والفكرية والإعلامية بها، هي التي حمت البلاد وعززت مكانتها وحضورها المشرف في المشهد العالمي، وجعلها تعيش زخم حراك دستوري، متسم بحيوية فريدة، تنتهي جولاته في خاتمة المطاف، إلى أفضل الحلول المرضية. 
وليس من المبالغة في شيء القول إن سموه، ظل يمثل مدرسة لأجيال من الكويتيين ممن تربوا في دولتهم المستقلة وتشبعوا بذات المبادئ والقيم التي غرسها بناة الدولة ومؤسسوها، حيث كان سموه في مقدمة الطلائع الأولى، بوطنيته وذكائه وقدرته على العمل الإنساني وتوحيد الصف، في مختلف أطوار بناء الدولة الوليدة. 
وسيظل سموه، مؤسس مدرسة التعايش السلمي والديمقراطية، الراعي لاحترام حقوق الإنسان في دولة الكويت. وإن تكريمه ومنحه هذا اللقب السامي من لدُن الأمم المتحدة، هو حدث إنساني وسياسي ذو دلالة في الظروف الدولية الراهنة، حيث تستشعر الشعوب الحاجة إلى قادة إنسانيين من طراز سموه، لتتكاثف الجهود من أجل إسعاد الإنسانية ودرء الأخطار عنها.
قبل سنوات، احتفلت الكويت الشقيقة بمرور نصف قرن على تأسيسها واستقلالها. كنت أحد الذين شرفهم سموه بدعوته الكريمة لحضور الاحتفالات التي أقيمت، فشكرت الظروف التي يسرت لقائي به، وأتاحت لي - بعد نصف قرن - مشاهدةَ الحلم الكبير الذي كان سموه أحد مهندسيه.
وحينما جاء دوري للسلام والتهنئة، قلت لسمو الشيخ صباح الأحمد: «ما كنت أظن أن العمر سيمتد بي نصف قرن، حتى أعيش وأحتفي معكم بهذه اللحظة الحافلة. فقد واكبتُ خُطى سموكم وأنتم تشيدون صرح دولتكم». 
غمرني شعور مؤثر حين أخذني سموه بالحضن، فدمعت عيوننا معًا في اللحظة نفسها ■