التراث في فنون الإمارات نجاة مكي نموذجًا
كرّست الفنانة التشكيلية الإماراتية نجاة مكي لنفسها مكانة كبيرة راسخة في المشهد التشكيلي الإماراتي على امتداد أربعة عقود، فإلى جانب وجودها العربي والدولي، غاصت في شفرات الفنون الشعبية المرتبطة بالأجواء التراثية والنسائية، وتحديدًا فنون الزخارف والرقش والمنمنمات التي يحاول كثير منها أن يستبطن خفايا المرأة وجمالياتها، في وقت تُعيد تأكيد تميمة جمالية تتصل بعوالم أرحب وأخفى، فالمرأة عندها حاضنة لأسرار روحانية لها معانٍ وأبعاد كبرى.
يؤكد المؤلف والمبدع الروائي الكبير د. عمر عبدالعزيز في أحدث إصداراته «التراث في فنون الإمارات... نجاة مكي نموذجًا» الصادر عن «مكتبة الموروث» التي بدأت - وفق تصريح رئيس معهد الشارقة للتراث د. عبدالعزيز المسلم في مقدمة الكتاب - بالتركيز على الكلمة في البحث والدراسة، ثم أدخلت الرسوم التوضيحية والصور لتهتمّ بنشر كتب مصورة بالكامل، كذلك الأطالس والفهارس والموسوعات. وكأنها تهتم بإغراء القارئ بالثقافة الشعبية، والتراث الثقافي، بالصورة التي يحبّها. ذلك كله لأنّ القائمين على الإصدارات مهتمون بحفظ أدب الإمارات الشعبي، وتقاليدهم ومعارفهم الشعبية، فالتوثيق محاولة لصيانة التراث، لترسيخ الهوية الوطنية، وتناميها في الروح والوجدان.
المقارنات والتناصّات
يُوضح د. عمر في ثنايا مؤلفه أن الزخارف والمنمنمات والرقش عند الفنانة نجاة مكي ليست مجرد أنساق جمالية شعبية، لكنّها موسيقى وجودية تتصل بفنون الغناء والأفراح والحرف والحيوات اليومية للمرأة الإماراتية، تلك الزخارف الصادرة من بحار الزرقة وأقواس قزح الشتائية، والمقيمة في سرائر البخور والعطور الصابرة على غياب رفيق الحياة في رحلات الضنى البحرية الطويلة.
بهذا الكتاب الشائق يطرح د. عبدالعزيز الأبعاد الأفقية لتجربة مكي، وأثناء ذلك الطرح للتجربة المميزة المختلفة يستعين المؤلف بالمنهج المقارن، فيعقد مقارنات بين تجربتها وتجارب أسماء وقامات فنية رفيعة لها حضورها النوعي في الساحة الفنية الإماراتية.
الهدف من تلك المقارنات أن يتلمّس بعض القواسم المشتركة الدالة على التراسلات والتناصّات الفنية، وبذلك يقدّم للقارئ إطلالة ممتعة خصبة وثرية على تجربة الفن التشكيلي في الإمارات بكلّ ما فيه من ترميزات وإيحاءات وافتراضات وخيالات ووجدانيات، ومن هؤلاء الفنانين؛ عبدالقادر الريس، وعبدالرحيم سالم، وفاطمة لوتاه، وحسن البدوي، وحيدر إدريس، وآمنة النصيري.
المعرفة والموهبة
لفهم خصوصية تجربة مكي، يمزج المؤلف بين مداخل عدة للدراسة، وهو لا يُنكر دور المعارف التراتبية كمحطة انطلاق للفنان، وأهمية العلم الأكاديمي منطلقًا، لكنّه يتوقف أمام الموهبة الكامنة في أعماق اللاشعور، مؤكدًا لحظات الإلهام القصوى في معادلتي الوجدان والتأمل ودورهما في إبداع سردية بصرية لامتناهية تُعيد إنتاج جوّانياته.
هذه الموهبة، والإيمان بأن الإنسان والفنان ابن بيئته، جعلا د. عبدالعزيز يرتد لطفولة الفنانة مكي متقصيًّا آثار تلك الطفولة على مشوارها الفني الخصب، ومتكشفًا أثر دكان العطار الذي يخصّ والدها على ذاكرتها البصرية وحواسها، فالصورة الفوتوغرافية موروثة ومتأثرة بتلك الأيام في الربع الأول من الألفية الثانية الميلادية. منظر العطار الشارد في تأملاته الميتافيزيقية، القابع في قلب المعادلات الدائرية للألوان والروائح، الرائي للجهات الست المتوجهة بالقوارير الشفافة الناصعة والمحتويات الدوائية الطبيعية.
الدهشة الأولى
يقين بليغ يغرسه المؤلف بأنّ محل والدها بمحتوياتـــه كـــان يُمثــل نقطة الدهشة الأولى عند مكي، «فالانتظامات السيميترية لجُل أعمالها الفنية تُومئ إلى المصفوفات النسقية التي كان والدها يحرص عليها في تنظيم مواد المحل. كذلك مادة الأزرق النيلي كانت وسيلتها في تلك الأيام للتعرّف إلى اللون. ثم دور الوالد في إشباع هذا الشغف، مثلما كان الحضور البحري، وإن من طرف خفي، يُنعش في عوالمها الداخلية ذلك المزاج الأزرق الذي كان ومازال حاضرًا في متواليات إنتاجها الفني البانورامي».
حياتها ونشأتها، على الأخص بالطفولة، وفق تحليل عبدالعزيز، جعلتها «تُقيم في زمن البحر وجمالياته، وتنعكس حالات الشوف والانتظار والتوقعات في مصفوفة واسعة من أعمالها الفنية التي تزدهي بالأزرق والأخضر والأصفر. عندها تصبح الزخارف شكلًا من أشكال التداعي الحر... فالفراغات كالتلال الصحراوية المتكسرة، وأوراق النباتات المتناثرة في الفلاة رمز موحٍ بأبعاد متباينة. كذلك التزاحمات في الرقش مثل تقلّبات الأيام على مدّها وجزرها الدائمين».
من هنا تأتي أهميـة تفسير د. عمر للحضـــور الاستثنـــائي لــلأزرق وظــلاله الخضـــراء والصفراء في لوحات مكي. مثلما يؤكد الروائي مؤلف الكتاب أن الفنانة الإماراتية تتميـز بقدرتها على الاشتغال الصبور على الموسيقى البصرية المرتبطة بتوقيع الخضاب والحنّاء والزخارف وفنون السدو الصحراوي، ولوازم التواتــرات التلقائية في المنحوتات الشعبية المرافقة لفنون الحرف والصناعات اليدوية.
أما الملامح الإسلامية، فتتبدّى من خلال التجريد في الخطوط، فوفق نظرته التحليلية الممتعة - والمشجعة على القراءة - أن تلك الغنائيات الواضحة في زخارفها الصحراوية والشعبية تنزاح رويدًا رويدًا صوب التجريد بوصفه عمق أعماق الغنائية الملتبسة، أو فن فنون الغنائية البصرية.
نوافذ للتأويل
يقع الكتاب في 110 صفحات، به 8 عناوين كبرى تندرج تحتها عناوين فرعية؛ تبدأ من التمهيد عن الطفولة ومرئيات الفنانة، ثم تأصيل لمجموعة مفاهيم مثل: النقطة، والفراغ، واللغة، والتجريب، والنص، حيث يُبرر د. عمر توقّفه عندها لضرورة ملحّة، فهو أثناء متابعته للمشاهد البصرية بمشغل الفنانة مكي جال بخاطره أن «الاستدعاءات عندها تُومئ ولا تقول، تُشير ولا تُفصل».
من هذا المنطلق تأتي وقفته التمهيدية حول تلك المفاهيم العامة - التي مزجها بنظرة صوفية ولمحات فلسفية كعادته - حول الفن، وهي بدورها تساعد القارئ والمتأمل لإبداعات مكي، وتسهم في فتح نوافذ أخرى للتأويل والإيحاءات واستيعاب جمالياتها.
أما اللافت في شروح واختيارات المؤلف أنه يمزج بين الفنون، فيستعين تارة بفن الرواية والقصة القصيرة، وتارة أخرى بمبدعي السينما الكبار وأشهر عظمائها بفن الإخراج ومن اشتهروا بالتجريب الإبداعي.
من هنا يتضح بقوة مبرر أن يكون العنوان «التراث في فنون الإمارات... نجاة علي نموذجًا»، فالمؤلف قرّر استخدام كلمة «فنون» لا «فن»، لأنّه سيتحدّث بعمق وثراء عن العمارة الإسلامية، وفن الخط، والتشكيل، وفن الشعر، والموسيقى، والمسرح والسينما، وعلم اللغة وعلماء الألسنيّات، عارجًا على كثير من آراء الشيخ محيي الدين بن عربي، ومنها ما ذهب إليه عن الحرف وتطبيق رؤيته على كل صورة مرئية، وهو الأمر الذي يُوظفه المؤلف ويُطبّقه بوضوح وسلاسة على إبداعات مكي، ثم يمزج كل ذلك بالتأليف، وآراء جاك دريدا، ورولان بارت وقضية «موت المؤلف»، ومنهما ينطلق إلى فنون التجريب في الفنون وصنوفها كافة، وفي مقدمتها الفن السابع، مستعينًا بتجربة فيلليني، وإيزنشتين، وفيسكونتي، وسلفادور دالي، ومن المسرح يستعين بتجربة برتولد بريشت. ثم من جميع تلك الأمثلة المتعددة يُحيلنا إلى افتراضات تتعلّق بالتجريب عند الفنانة مكـــي، الذي «يستقيم حصرًا على التحولات التجريبية المقرونة بالأداء المتواتر، والمثابرة غير الناظرة لاستباق المنجز، والعمل اليومي الذي تحوّل إلى لازمة جبرية في حياتها».
مدارج الدائرة
الأمر اللافت في الكتاب أن الفصول لا تكتفي بأن تُكمل بعضها بعضًا. يمكنك قراءة كل فصل منفصل، لكن الفصـــول بمعــزل عن بعضها تفقد كثيرًا من معناها ودلالتها. قراءة الفصول بذات الترتيب تلعب دورًا مهمًا في تكوين دائرة اكتمال المعنى الشامل عن الفنانة مكي وفق الرؤية التي يطرحها د. عبدالعزيز، فعلى سبيل المثال الفصل المعنون بـ «مرئيات حكيم»، هو فصل شديد الجمال في حدّ ذاته وبمعزل عن الفصول الأخرى، يمكنك قراءته والاستمتاع بفلسفته والأبيات الشعرية الواردة فيه، لكن يُصبح للفصل معانٍ إضافية مكتسبة عندما تقرأ الفصل السابق عليه «استعادة وامضة»، حيث يتحدّث المؤلف عن كتاب «مدرج الدائـرة»، الــذي شاركــت نجــاة فــي تأليفــه، ومــن خلاله طُرحت قضــية التنـاصّ الإبداعي انطلاقًا من اتّساق النظرة الصوفية للوجود والظواهر.
يتجلّى مسمى «مدارج الدائرة» بحسب الرؤية الصوفية، كما يقول محيي الدين بن عربي، تعبيرًا عن «أعيان الممكنات»، والتعبير هو ترميز للوجود المرئي الذي يبدأ من الصفر. وحالما يتكابر يصبــح دائـــرة تتّسع باتسـاع الوجود، وحينمــا تتصاغر الدائرة تصبــح نقطــة، والتصاغر هنا لا ينمّ عن الضعــف، فالنقطة أقوى من الدائرة، والصفر أقوى من بقية الأرقام.
ويقدّم المؤلف دليله على شروحاته، ليثبت أن النقطة هي الأصل في الفن، ومنها ينطلق لمواصلة ثنائيات المقارنة التي اتّبعها طوال الكتاب، ومناطق التناصّ بيـن نجــاة مكي وآخرين، لكن هذه المرة قرب ختام مؤلفه يكون التناص بينها وبين الشعراء، ليفتح بابًا جديدًا لفكرة جوهرية بإبداعات مكي في علاقتها بفلسفة الوجود والغيب معًا ■
الفنانة نجاة مكي في أحد معارضها الفنية