التراث في فنون الإمارات نجاة مكي نموذجًا

التراث في فنون الإمارات نجاة مكي نموذجًا

كرّست‭ ‬الفنانة‭ ‬التشكيلية‭ ‬الإماراتية‭ ‬نجاة‭ ‬مكي‭ ‬لنفسها‭ ‬مكانة‭ ‬كبيرة‭ ‬راسخة‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬التشكيلي‭ ‬الإماراتي‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬أربعة‭ ‬عقود،‭ ‬فإلى‭ ‬جانب‭ ‬وجودها‭ ‬العربي‭ ‬والدولي،‭ ‬غاصت‭ ‬في‭ ‬شفرات‭ ‬الفنون‭ ‬الشعبية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالأجواء‭ ‬التراثية‭ ‬والنسائية،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬فنون‭ ‬الزخارف‭ ‬والرقش‭ ‬والمنمنمات‭ ‬التي‭ ‬يحاول‭ ‬كثير‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬يستبطن‭ ‬خفايا‭ ‬المرأة‭ ‬وجمالياتها،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬تُعيد‭ ‬تأكيد‭ ‬تميمة‭ ‬جمالية‭ ‬تتصل‭ ‬بعوالم‭ ‬أرحب‭ ‬وأخفى،‭ ‬فالمرأة‭ ‬عندها‭ ‬حاضنة‭ ‬لأسرار‭ ‬روحانية‭ ‬لها‭ ‬معانٍ‭ ‬وأبعاد‭ ‬كبرى‭. ‬

يؤكد‭ ‬المؤلف‭ ‬والمبدع‭ ‬الروائي‭ ‬الكبير‭ ‬د‭. ‬عمر‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬في‭ ‬أحدث‭ ‬إصداراته‭ ‬‮«‬التراث‭ ‬في‭ ‬فنون‭ ‬الإمارات‭... ‬نجاة‭ ‬مكي‭ ‬نموذجًا‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬‮«‬مكتبة‭ ‬الموروث‮»‬‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ - ‬وفق‭ ‬تصريح‭ ‬رئيس‭ ‬معهد‭ ‬الشارقة‭ ‬للتراث‭ ‬د‭. ‬عبدالعزيز‭ ‬المسلم‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬الكتاب‭ - ‬بالتركيز‭ ‬على‭ ‬الكلمة‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬والدراسة،‭ ‬ثم‭ ‬أدخلت‭ ‬الرسوم‭ ‬التوضيحية‭ ‬والصور‭ ‬لتهتمّ‭ ‬بنشر‭ ‬كتب‭ ‬مصورة‭ ‬بالكامل،‭ ‬كذلك‭ ‬الأطالس‭ ‬والفهارس‭ ‬والموسوعات‭. ‬وكأنها‭ ‬تهتم‭ ‬بإغراء‭ ‬القارئ‭ ‬بالثقافة‭ ‬الشعبية،‭ ‬والتراث‭ ‬الثقافي،‭ ‬بالصورة‭ ‬التي‭ ‬يحبّها‭. ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬لأنّ‭ ‬القائمين‭ ‬على‭ ‬الإصدارات‭ ‬مهتمون‭ ‬بحفظ‭ ‬أدب‭ ‬الإمارات‭ ‬الشعبي،‭ ‬وتقاليدهم‭ ‬ومعارفهم‭ ‬الشعبية،‭ ‬فالتوثيق‭ ‬محاولة‭ ‬لصيانة‭ ‬التراث،‭ ‬لترسيخ‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية،‭ ‬وتناميها‭ ‬في‭ ‬الروح‭ ‬والوجدان‭. ‬

 

المقارنات‭ ‬والتناصّات‭ ‬

يُوضح‭ ‬د‭. ‬عمر‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬مؤلفه‭ ‬أن‭ ‬الزخارف‭ ‬والمنمنمات‭ ‬والرقش‭ ‬عند‭ ‬الفنانة‭ ‬نجاة‭ ‬مكي‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬أنساق‭ ‬جمالية‭ ‬شعبية،‭ ‬لكنّها‭ ‬موسيقى‭ ‬وجودية‭ ‬تتصل‭ ‬بفنون‭ ‬الغناء‭ ‬والأفراح‭ ‬والحرف‭ ‬والحيوات‭ ‬اليومية‭ ‬للمرأة‭ ‬الإماراتية،‭ ‬تلك‭ ‬الزخارف‭ ‬الصادرة‭ ‬من‭ ‬بحار‭ ‬الزرقة‭ ‬وأقواس‭ ‬قزح‭ ‬الشتائية،‭ ‬والمقيمة‭ ‬في‭ ‬سرائر‭ ‬البخور‭ ‬والعطور‭ ‬الصابرة‭ ‬على‭ ‬غياب‭ ‬رفيق‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬رحلات‭ ‬الضنى‭ ‬البحرية‭ ‬الطويلة‭. ‬

بهذا‭ ‬الكتاب‭ ‬الشائق‭ ‬يطرح‭ ‬د‭. ‬عبدالعزيز‭ ‬الأبعاد‭ ‬الأفقية‭ ‬لتجربة‭ ‬مكي،‭ ‬وأثناء‭ ‬ذلك‭ ‬الطرح‭ ‬للتجربة‭ ‬المميزة‭ ‬المختلفة‭ ‬يستعين‭ ‬المؤلف‭ ‬بالمنهج‭ ‬المقارن،‭ ‬فيعقد‭ ‬مقارنات‭ ‬بين‭ ‬تجربتها‭ ‬وتجارب‭ ‬أسماء‭ ‬وقامات‭ ‬فنية‭ ‬رفيعة‭ ‬لها‭ ‬حضورها‭ ‬النوعي‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الفنية‭ ‬الإماراتية‭. ‬

الهدف‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المقارنات‭ ‬أن‭ ‬يتلمّس‭ ‬بعض‭ ‬القواسم‭ ‬المشتركة‭ ‬الدالة‭ ‬على‭ ‬التراسلات‭ ‬والتناصّات‭ ‬الفنية،‭ ‬وبذلك‭ ‬يقدّم‭ ‬للقارئ‭ ‬إطلالة‭ ‬ممتعة‭ ‬خصبة‭ ‬وثرية‭ ‬على‭ ‬تجربة‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬في‭ ‬الإمارات‭ ‬بكلّ‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬ترميزات‭ ‬وإيحاءات‭ ‬وافتراضات‭ ‬وخيالات‭ ‬ووجدانيات،‭ ‬ومن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الفنانين؛‭ ‬عبدالقادر‭ ‬الريس،‭ ‬وعبدالرحيم‭ ‬سالم،‭ ‬وفاطمة‭ ‬لوتاه،‭ ‬وحسن‭ ‬البدوي،‭ ‬وحيدر‭ ‬إدريس،‭ ‬وآمنة‭ ‬النصيري‭. ‬

 

المعرفة‭ ‬والموهبة

لفهم‭ ‬خصوصية‭ ‬تجربة‭ ‬مكي،‭ ‬يمزج‭ ‬المؤلف‭ ‬بين‭ ‬مداخل‭ ‬عدة‭ ‬للدراسة،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يُنكر‭ ‬دور‭ ‬المعارف‭ ‬التراتبية‭ ‬كمحطة‭ ‬انطلاق‭ ‬للفنان،‭ ‬وأهمية‭ ‬العلم‭ ‬الأكاديمي‭ ‬منطلقًا،‭ ‬لكنّه‭ ‬يتوقف‭ ‬أمام‭ ‬الموهبة‭ ‬الكامنة‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬اللاشعور،‭ ‬مؤكدًا‭ ‬لحظات‭ ‬الإلهام‭ ‬القصوى‭ ‬في‭ ‬معادلتي‭ ‬الوجدان‭ ‬والتأمل‭ ‬ودورهما‭ ‬في‭ ‬إبداع‭ ‬سردية‭ ‬بصرية‭ ‬لامتناهية‭ ‬تُعيد‭ ‬إنتاج‭ ‬جوّانياته‭. ‬

هذه‭ ‬الموهبة،‭ ‬والإيمان‭ ‬بأن‭ ‬الإنسان‭ ‬والفنان‭ ‬ابن‭ ‬بيئته،‭ ‬جعلا‭ ‬د‭. ‬عبدالعزيز‭ ‬يرتد‭ ‬لطفولة‭ ‬الفنانة‭ ‬مكي‭ ‬متقصيًّا‭ ‬آثار‭ ‬تلك‭ ‬الطفولة‭ ‬على‭ ‬مشوارها‭ ‬الفني‭ ‬الخصب،‭ ‬ومتكشفًا‭ ‬أثر‭ ‬دكان‭ ‬العطار‭ ‬الذي‭ ‬يخصّ‭ ‬والدها‭ ‬على‭ ‬ذاكرتها‭ ‬البصرية‭ ‬وحواسها،‭ ‬فالصورة‭ ‬الفوتوغرافية‭ ‬موروثة‭ ‬ومتأثرة‭ ‬بتلك‭ ‬الأيام‭ ‬في‭ ‬الربع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الألفية‭ ‬الثانية‭ ‬الميلادية‭. ‬منظر‭ ‬العطار‭ ‬الشارد‭ ‬في‭ ‬تأملاته‭ ‬الميتافيزيقية،‭ ‬القابع‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬المعادلات‭ ‬الدائرية‭ ‬للألوان‭ ‬والروائح،‭ ‬الرائي‭ ‬للجهات‭ ‬الست‭ ‬المتوجهة‭ ‬بالقوارير‭ ‬الشفافة‭ ‬الناصعة‭ ‬والمحتويات‭ ‬الدوائية‭ ‬الطبيعية‭.‬

 

الدهشة‭ ‬الأولى

يقين‭ ‬بليغ‭ ‬يغرسه‭ ‬المؤلف‭ ‬بأنّ‭ ‬محل‭ ‬والدها‭ ‬بمحتوياتـــه‭ ‬كـــان‭ ‬يُمثــل‭ ‬نقطة‭ ‬الدهشة‭ ‬الأولى‭ ‬عند‭ ‬مكي،‭ ‬‮«‬فالانتظامات‭ ‬السيميترية‭ ‬لجُل‭ ‬أعمالها‭ ‬الفنية‭ ‬تُومئ‭ ‬إلى‭ ‬المصفوفات‭ ‬النسقية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬والدها‭ ‬يحرص‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬مواد‭ ‬المحل‭. ‬كذلك‭ ‬مادة‭ ‬الأزرق‭ ‬النيلي‭ ‬كانت‭ ‬وسيلتها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬للتعرّف‭ ‬إلى‭ ‬اللون‭. ‬ثم‭ ‬دور‭ ‬الوالد‭ ‬في‭ ‬إشباع‭ ‬هذا‭ ‬الشغف،‭ ‬مثلما‭ ‬كان‭ ‬الحضور‭ ‬البحري،‭ ‬وإن‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬خفي،‭ ‬يُنعش‭ ‬في‭ ‬عوالمها‭ ‬الداخلية‭ ‬ذلك‭ ‬المزاج‭ ‬الأزرق‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ومازال‭ ‬حاضرًا‭ ‬في‭ ‬متواليات‭ ‬إنتاجها‭ ‬الفني‭ ‬البانورامي‮»‬‭. ‬

حياتها‭ ‬ونشأتها،‭ ‬على‭ ‬الأخص‭ ‬بالطفولة،‭ ‬وفق‭ ‬تحليل‭ ‬عبدالعزيز،‭ ‬جعلتها‭ ‬‮«‬تُقيم‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬البحر‭ ‬وجمالياته،‭ ‬وتنعكس‭ ‬حالات‭ ‬الشوف‭ ‬والانتظار‭ ‬والتوقعات‭ ‬في‭ ‬مصفوفة‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬أعمالها‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬تزدهي‭ ‬بالأزرق‭ ‬والأخضر‭ ‬والأصفر‭. ‬عندها‭ ‬تصبح‭ ‬الزخارف‭ ‬شكلًا‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬التداعي‭ ‬الحر‭... ‬فالفراغات‭ ‬كالتلال‭ ‬الصحراوية‭ ‬المتكسرة،‭ ‬وأوراق‭ ‬النباتات‭ ‬المتناثرة‭ ‬في‭ ‬الفلاة‭ ‬رمز‭ ‬موحٍ‭ ‬بأبعاد‭ ‬متباينة‭. ‬كذلك‭ ‬التزاحمات‭ ‬في‭ ‬الرقش‭ ‬مثل‭ ‬تقلّبات‭ ‬الأيام‭ ‬على‭ ‬مدّها‭ ‬وجزرها‭ ‬الدائمين‮»‬‭.‬

  ‬من‭ ‬هنا‭ ‬تأتي‭ ‬أهميـة‭ ‬تفسير‭ ‬د‭. ‬عمر‭ ‬للحضـــور‭ ‬الاستثنـــائي‭ ‬لــلأزرق‭ ‬وظــلاله‭ ‬الخضـــراء‭ ‬والصفراء‭ ‬في‭ ‬لوحات‭ ‬مكي‭. ‬مثلما‭ ‬يؤكد‭ ‬الروائي‭ ‬مؤلف‭ ‬الكتاب‭ ‬أن‭ ‬الفنانة‭ ‬الإماراتية‭ ‬تتميـز‭ ‬بقدرتها‭ ‬على‭ ‬الاشتغال‭ ‬الصبور‭ ‬على‭ ‬الموسيقى‭ ‬البصرية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بتوقيع‭ ‬الخضاب‭ ‬والحنّاء‭ ‬والزخارف‭ ‬وفنون‭ ‬السدو‭ ‬الصحراوي،‭ ‬ولوازم‭ ‬التواتــرات‭ ‬التلقائية‭ ‬في‭ ‬المنحوتات‭ ‬الشعبية‭ ‬المرافقة‭ ‬لفنون‭ ‬الحرف‭ ‬والصناعات‭ ‬اليدوية‭.‬

أما‭ ‬الملامح‭ ‬الإسلامية،‭ ‬فتتبدّى‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التجريد‭ ‬في‭ ‬الخطوط،‭ ‬فوفق‭ ‬نظرته‭ ‬التحليلية‭ ‬الممتعة‭ - ‬والمشجعة‭ ‬على‭ ‬القراءة‭ - ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الغنائيات‭ ‬الواضحة‭ ‬في‭ ‬زخارفها‭ ‬الصحراوية‭ ‬والشعبية‭ ‬تنزاح‭ ‬رويدًا‭ ‬رويدًا‭ ‬صوب‭ ‬التجريد‭ ‬بوصفه‭ ‬عمق‭ ‬أعماق‭ ‬الغنائية‭ ‬الملتبسة،‭ ‬أو‭ ‬فن‭ ‬فنون‭ ‬الغنائية‭ ‬البصرية‭. ‬

 

نوافذ‭ ‬للتأويل

يقع‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬110‭ ‬صفحات،‭ ‬به‭ ‬8‭ ‬عناوين‭ ‬كبرى‭ ‬تندرج‭ ‬تحتها‭ ‬عناوين‭ ‬فرعية؛‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬التمهيد‭ ‬عن‭ ‬الطفولة‭ ‬ومرئيات‭ ‬الفنانة،‭ ‬ثم‭ ‬تأصيل‭ ‬لمجموعة‭ ‬مفاهيم‭ ‬مثل‭: ‬النقطة،‭ ‬والفراغ،‭ ‬واللغة،‭ ‬والتجريب،‭ ‬والنص،‭ ‬حيث‭ ‬يُبرر‭ ‬د‭. ‬عمر‭ ‬توقّفه‭ ‬عندها‭ ‬لضرورة‭ ‬ملحّة،‭ ‬فهو‭ ‬أثناء‭ ‬متابعته‭ ‬للمشاهد‭ ‬البصرية‭ ‬بمشغل‭ ‬الفنانة‭ ‬مكي‭ ‬جال‭ ‬بخاطره‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الاستدعاءات‭ ‬عندها‭ ‬تُومئ‭ ‬ولا‭ ‬تقول،‭ ‬تُشير‭ ‬ولا‭ ‬تُفصل‮»‬‭.‬

  ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬تأتي‭ ‬وقفته‭ ‬التمهيدية‭ ‬حول‭ ‬تلك‭ ‬المفاهيم‭ ‬العامة‭ - ‬التي‭ ‬مزجها‭ ‬بنظرة‭ ‬صوفية‭ ‬ولمحات‭ ‬فلسفية‭ ‬كعادته‭ - ‬حول‭ ‬الفن،‭ ‬وهي‭ ‬بدورها‭ ‬تساعد‭ ‬القارئ‭ ‬والمتأمل‭ ‬لإبداعات‭ ‬مكي،‭ ‬وتسهم‭ ‬في‭ ‬فتح‭ ‬نوافذ‭ ‬أخرى‭ ‬للتأويل‭ ‬والإيحاءات‭ ‬واستيعاب‭ ‬جمالياتها‭. ‬

أما‭ ‬اللافت‭ ‬في‭ ‬شروح‭ ‬واختيارات‭ ‬المؤلف‭ ‬أنه‭ ‬يمزج‭ ‬بين‭ ‬الفنون،‭ ‬فيستعين‭ ‬تارة‭ ‬بفن‭ ‬الرواية‭ ‬والقصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬وتارة‭ ‬أخرى‭ ‬بمبدعي‭ ‬السينما‭ ‬الكبار‭ ‬وأشهر‭ ‬عظمائها‭ ‬بفن‭ ‬الإخراج‭ ‬ومن‭ ‬اشتهروا‭ ‬بالتجريب‭ ‬الإبداعي‭.‬

من‭ ‬هنا‭ ‬يتضح‭ ‬بقوة‭ ‬مبرر‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬العنوان‭ ‬‮«‬التراث‭ ‬في‭ ‬فنون‭ ‬الإمارات‭... ‬نجاة‭ ‬علي‭ ‬نموذجًا‮»‬،‭ ‬فالمؤلف‭ ‬قرّر‭ ‬استخدام‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬فنون‮»‬‭ ‬لا‭ ‬‮«‬فن‮»‬،‭ ‬لأنّه‭ ‬سيتحدّث‭ ‬بعمق‭ ‬وثراء‭ ‬عن‭ ‬العمارة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وفن‭ ‬الخط،‭ ‬والتشكيل،‭ ‬وفن‭ ‬الشعر،‭ ‬والموسيقى،‭ ‬والمسرح‭ ‬والسينما،‭ ‬وعلم‭ ‬اللغة‭ ‬وعلماء‭ ‬الألسنيّات،‭ ‬عارجًا‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬آراء‭ ‬الشيخ‭ ‬محيي‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬عربي،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬عن‭ ‬الحرف‭ ‬وتطبيق‭ ‬رؤيته‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬صورة‭ ‬مرئية،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يُوظفه‭ ‬المؤلف‭ ‬ويُطبّقه‭ ‬بوضوح‭ ‬وسلاسة‭ ‬على‭ ‬إبداعات‭ ‬مكي،‭ ‬ثم‭ ‬يمزج‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬بالتأليف،‭ ‬وآراء‭ ‬جاك‭ ‬دريدا،‭ ‬ورولان‭ ‬بارت‭ ‬وقضية‭ ‬‮«‬موت‭ ‬المؤلف‮»‬،‭ ‬ومنهما‭ ‬ينطلق‭ ‬إلى‭ ‬فنون‭ ‬التجريب‭ ‬في‭ ‬الفنون‭ ‬وصنوفها‭ ‬كافة،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭ ‬الفن‭ ‬السابع،‭ ‬مستعينًا‭ ‬بتجربة‭ ‬فيلليني،‭ ‬وإيزنشتين،‭ ‬وفيسكونتي،‭ ‬وسلفادور‭ ‬دالي،‭ ‬ومن‭ ‬المسرح‭ ‬يستعين‭ ‬بتجربة‭ ‬برتولد‭ ‬بريشت‭. ‬ثم‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬تلك‭ ‬الأمثلة‭ ‬المتعددة‭ ‬يُحيلنا‭ ‬إلى‭ ‬افتراضات‭ ‬تتعلّق‭ ‬بالتجريب‭ ‬عند‭ ‬الفنانة‭ ‬مكـــي،‭ ‬الذي‭ ‬‮«‬يستقيم‭ ‬حصرًا‭ ‬على‭ ‬التحولات‭ ‬التجريبية‭ ‬المقرونة‭ ‬بالأداء‭ ‬المتواتر،‭ ‬والمثابرة‭ ‬غير‭ ‬الناظرة‭ ‬لاستباق‭ ‬المنجز،‭ ‬والعمل‭ ‬اليومي‭ ‬الذي‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬لازمة‭ ‬جبرية‭ ‬في‭ ‬حياتها‮»‬‭. ‬

 

مدارج‭ ‬الدائرة

الأمر‭ ‬اللافت‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬أن‭ ‬الفصول‭ ‬لا‭ ‬تكتفي‭ ‬بأن‭ ‬تُكمل‭ ‬بعضها‭ ‬بعضًا‭. ‬يمكنك‭ ‬قراءة‭ ‬كل‭ ‬فصل‭ ‬منفصل،‭ ‬لكن‭ ‬الفصـــول‭ ‬بمعــزل‭ ‬عن‭ ‬بعضها‭ ‬تفقد‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬معناها‭ ‬ودلالتها‭. ‬قراءة‭ ‬الفصول‭ ‬بذات‭ ‬الترتيب‭ ‬تلعب‭ ‬دورًا‭ ‬مهمًا‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬دائرة‭ ‬اكتمال‭ ‬المعنى‭ ‬الشامل‭ ‬عن‭ ‬الفنانة‭ ‬مكي‭ ‬وفق‭ ‬الرؤية‭ ‬التي‭ ‬يطرحها‭ ‬د‭. ‬عبدالعزيز،‭ ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬الفصل‭ ‬المعنون‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬مرئيات‭ ‬حكيم‮»‬،‭ ‬هو‭ ‬فصل‭ ‬شديد‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬حدّ‭ ‬ذاته‭ ‬وبمعزل‭ ‬عن‭ ‬الفصول‭ ‬الأخرى،‭ ‬يمكنك‭ ‬قراءته‭ ‬والاستمتاع‭ ‬بفلسفته‭ ‬والأبيات‭ ‬الشعرية‭ ‬الواردة‭ ‬فيه،‭ ‬لكن‭ ‬يُصبح‭ ‬للفصل‭ ‬معانٍ‭ ‬إضافية‭ ‬مكتسبة‭ ‬عندما‭ ‬تقرأ‭ ‬الفصل‭ ‬السابق‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬استعادة‭ ‬وامضة‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬يتحدّث‭ ‬المؤلف‭ ‬عن‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬مدرج‭ ‬الدائـرة‮»‬،‭ ‬الــذي‭ ‬شاركــت‭ ‬نجــاة‭ ‬فــي‭ ‬تأليفــه،‭ ‬ومــن‭ ‬خلاله‭ ‬طُرحت‭ ‬قضــية‭ ‬التنـاصّ‭ ‬الإبداعي‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬اتّساق‭ ‬النظرة‭ ‬الصوفية‭ ‬للوجود‭ ‬والظواهر‭. ‬

يتجلّى‭ ‬مسمى‭ ‬‮«‬مدارج‭ ‬الدائرة‮»‬‭ ‬بحسب‭ ‬الرؤية‭ ‬الصوفية،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬محيي‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬عربي،‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬‮«‬أعيان‭ ‬الممكنات‮»‬،‭ ‬والتعبير‭ ‬هو‭ ‬ترميز‭ ‬للوجود‭ ‬المرئي‭ ‬الذي‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬الصفر‭. ‬وحالما‭ ‬يتكابر‭ ‬يصبــح‭ ‬دائـــرة‭ ‬تتّسع‭ ‬باتسـاع‭ ‬الوجود،‭ ‬وحينمــا‭ ‬تتصاغر‭ ‬الدائرة‭ ‬تصبــح‭ ‬نقطــة،‭ ‬والتصاغر‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬ينمّ‭ ‬عن‭ ‬الضعــف،‭ ‬فالنقطة‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬الدائرة،‭ ‬والصفر‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬بقية‭ ‬الأرقام‭.‬

ويقدّم‭ ‬المؤلف‭ ‬دليله‭ ‬على‭ ‬شروحاته،‭ ‬ليثبت‭ ‬أن‭ ‬النقطة‭ ‬هي‭ ‬الأصل‭ ‬في‭ ‬الفن،‭ ‬ومنها‭ ‬ينطلق‭ ‬لمواصلة‭ ‬ثنائيات‭ ‬المقارنة‭ ‬التي‭ ‬اتّبعها‭ ‬طوال‭ ‬الكتاب،‭ ‬ومناطق‭ ‬التناصّ‭ ‬بيـن‭ ‬نجــاة‭ ‬مكي‭ ‬وآخرين،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬قرب‭ ‬ختام‭ ‬مؤلفه‭ ‬يكون‭ ‬التناص‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬الشعراء،‭ ‬ليفتح‭ ‬بابًا‭ ‬جديدًا‭ ‬لفكرة‭ ‬جوهرية‭ ‬بإبداعات‭ ‬مكي‭ ‬في‭ ‬علاقتها‭ ‬بفلسفة‭ ‬الوجود‭ ‬والغيب‭ ‬معًا‭ ‬‭■

الفنانة‭ ‬نجاة‭ ‬مكي‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬معارضها‭ ‬الفنية‭ ‬