«المولودة»... سيرة ذاتية لمناضلة أثارت الجدل «نصف يهودية» تروي قصة كفاحها مع الهويّة المصرية

«المولودة»... سيرة ذاتية لمناضلة أثارت الجدل  «نصف يهودية» تروي قصة كفاحها مع الهويّة المصرية

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الجدل‭ ‬الذي‭ ‬أثاره‭ ‬كتاب‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬‮«‬المولودة‮»‬،‭ ‬الصادر‭ ‬عام‭ ‬2018‭ ‬عن‭ ‬‮«‬دار‭ ‬الكرمة‭ ‬للنشر‮»‬‭ ‬بالقاهرة‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬الثقافية‭ ‬المصرية،‭ ‬لكون‭ ‬البطلة‭ ‬تحكي‭ ‬مستخدمةً‭ ‬‮«‬العامية‭ ‬القاهرية‮»‬،‭ ‬عن‭ ‬سيرة‭ ‬حياة‭ ‬مناضلة‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬اليسار‭ ‬المصري،‭ ‬تعلن‭ ‬فيها‭ ‬أنّها‭ ‬اختارت‭ ‬الهويّة‭ ‬الوطنية‭ ‬المصرية‭ - ‬دون‭ ‬أية‭ ‬هويّة‭ ‬أوربيّة‭ ‬أو‭ ‬آسيوية‭ ‬أخرى‭ - ‬شعارًا‭ ‬لحياتها،‭ ‬وأنها‭ ‬ناضلت‭ ‬ودفعت‭ ‬ثمنًا‭ ‬باهظًا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الهوية،‭ ‬أقول‭ ‬إنّه‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الجدل،‭ ‬فإنّني‭ ‬أظنّ‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬دار‭ ‬من‭ ‬نقاش‭ ‬حول‭ ‬عاميّة‭ ‬لغتها،‭ ‬أو‭ ‬جرأتها‭ ‬في‭ ‬كشف‭ ‬جوانب‭ ‬من‭ ‬ألغاز‭ ‬اليسار‭ ‬المصري‭ ‬على‭ ‬أهمّيته‭ ‬لا‭ ‬يوفّي‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬السيرة‭ ‬المدهشة‭ ‬حقّها‭ ‬من‭ ‬الاهتمام،‭ ‬نظرًا‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الروايات‭ ‬من‭ ‬متعة‭ ‬خيالية‭ ‬مدهشة،‭ ‬وما‭ ‬في‭ ‬السِّير‭ ‬الذاتية‭ ‬من‭ ‬آلام‭ ‬شخصية‭ ‬مؤسفة،‭ ‬وما‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬السياسي‭ ‬من‭ ‬مراراتٍ،‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬بعضها‭ ‬عالقًا‭ ‬في‭ ‬الحلوق‭.‬

عن‭ ‬نفسي،‭ ‬أنا‭ ‬ممّن‭ ‬يظنون‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬السيرة‭ ‬الذاتية‮»‬،‭ ‬بما‭ ‬تسرده‭ ‬من‭ ‬وقائع‭ ‬وما‭ ‬تحكيه‭ ‬من‭ ‬أحداث،‭ ‬عن‭ ‬شعور‭ ‬امرأة‭ ‬مصرية‭ ‬قحّة‭ ‬بهويتها‭ ‬الوطنية‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬الأربعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬هي‭ ‬نموذج‭ ‬جدير‭ ‬بالتقديم‭ ‬للمواطن‭ ‬العربي،‭ ‬باعتباره‭ ‬سندًا‭ ‬على‭ ‬انتشار‭ ‬ثقافة‭ ‬التعايش‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وأنا‭ ‬أرشِّحه‭ ‬لكتّاب‭ ‬الدراما‭ ‬وصنَّاع‭ ‬السينما‭ ‬المحترفين،‭ ‬ليكون‭ ‬شهادةً‭ ‬فنية‭ ‬حيّة‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬على‭ ‬تغلغل‭ ‬ثقافة‭ ‬التسامح‭ ‬الديني،‭ ‬ونضج‭ ‬‮«‬مفهوم‭ ‬الهوية‮»‬‭ ‬عند‭ ‬شريحة‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬المصريين،‭ ‬لا‭ ‬فرق‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بين‭ ‬مسلم‭ ‬أو‭ ‬مسيحي‭ ‬أو‭ ‬يهودي،‭ ‬ها‭ ‬هي‭ ‬امرأة‭ ‬مصرية‭ ‬تأتي‭ ‬بكل‭ ‬جسارة‭ ‬من‭ ‬الماضي،‭ ‬لتخبرنا‭ ‬أنّ‭ ‬محاولات‭ ‬فرض‭ ‬ثقافة‭ ‬الصحراء‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬هي‭ ‬مجرد‭ ‬محاولات‭ ‬محكوم‭ ‬عليها‭ - ‬ولا‭ ‬شكّ‭ - ‬بالفناء‭.‬

‮«‬المولودة‮»‬،‭ ‬قصة‭ ‬حياة‭ ‬ماري‭ ‬إيلي‭ ‬روزنتال،‭ ‬أمّ‭ ‬الكاتبة‭ ‬نادية‭ ‬كامل،‭ ‬سجّلتها‭ ‬الأم‭ ‬عام‭ ‬2002‭ ‬صوتيًا‭ ‬على‭ ‬شرائط‭ ‬كاسيت،‭ ‬بلُغة‭ ‬عاميّة‭ ‬قاهريّة‭ ‬بسيطة،‭ ‬لتروي‭ ‬في‭ ‬سنواتها‭ ‬الأخيرة‭ ‬جوانب‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬عاصرتها،‭ ‬منذ‭ ‬ولدت‭ ‬طفلة‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬الثلاثينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬لأسرة‭ ‬يهودية‭ ‬الأب‭ ‬مسيحية‭ ‬الأم،‭ ‬تحكي‭ ‬كيف‭ ‬عاشت‭ ‬ابنتهما‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬شبابها‭ ‬أواخر‭ ‬عقد‭ ‬الأربعينيات،‭ ‬كيف‭ ‬تعلّمت‭ ‬وعملت‭ ‬بالسياسة‭ ‬وأحبَّت،‭ ‬وكيف‭ ‬تزوجت‭ ‬من‭ ‬شابٍ‭ ‬مثقفٍ‭ ‬مسلم،‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬تستكمل‭ ‬حياتها‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬البلد‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬عشقته‭.‬

مَن‭ ‬يصدِّق‭ ‬أصلًا‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬الغريبة،‭ ‬عن‭ ‬رجل‭ ‬يهودي‭ ‬مصري‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬تركي،‭ ‬يلتقي‭ ‬امرأة‭ ‬مسيحية‭ ‬إيطالية‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬عند‭ ‬منتصف‭ ‬عشرينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬ويتزوجان‭ ‬بعد‭ ‬قصة‭ ‬حب،‭ ‬وينجبان‭ ‬هذه‭ ‬الابنة‭ ‬ماري،‭ ‬التي‭ ‬رفضت‭ ‬أن‭ ‬تغادر‭ ‬مصر،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬تستطيع‭ - ‬مثلما‭ ‬فعل‭ ‬أفراد‭ ‬أسرتها‭ ‬وأغلب‭ ‬أقاربها‭ ‬مطلع‭ ‬عقد‭ ‬الخمسينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ - ‬أن‭ ‬تطلب‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬بلد‭ ‬أوربّي‭ ‬تشاء،‭ ‬إلّا‭ ‬أنها‭ ‬فضَّلت‭ - ‬بمحض‭ ‬إرادتها‭ - ‬البقاء،‭ ‬وهي‭ ‬تحكي‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السيرة‭ ‬كم‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬أمرًا‭ ‬عظيمًا‭ ‬ومكلفًا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭. ‬كيف‭ ‬كان‭ ‬الطريق‭ ‬لاكتشاف‭ ‬هوّيتها‭ ‬شاقًا‭ ‬ومضنيًا،‭ ‬لم‭ ‬يخلُ‭ ‬من‭ ‬قسوة‭ ‬الزنازين‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬المراقبة‭ ‬الأمنية‭ ‬الصارمة‭ ‬أحيانًا،‭ ‬مثلما‭ ‬كان‭ ‬طريقًا‭ - ‬أيضًا‭ - ‬للمقاومة،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬اكتشاف‭ ‬أعمق‭ ‬أعماق‭ ‬‮«‬الهوية‭ ‬المصرية‮»‬‭.‬

 

خيار‭ ‬مثالي

لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬تقاليد‭ ‬أسرية‭ ‬صارمة‭ ‬تريد‭ ‬ماري‭ ‬التمرّد‭ ‬عليها‭ ‬داخل‭ ‬الأسرة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المحيط‭ ‬بها،‭ ‬بل،‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬تمامًا،‭ ‬تقول‭ ‬إنها‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬وجدت‭ ‬النشاط‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الملائم‭ ‬لها،‭ ‬حين‭ ‬التحقت‭ ‬بالعمل‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬سنّ‭ ‬صغيرة،‭ ‬ثم‭ ‬دخلت‭ ‬السجن‭ ‬شابة،‭ ‬عدة‭ ‬مرات‭ ‬على‭ ‬ذمة‭ ‬قضايا‭ ‬‮«‬تنظيم‭ ‬خلية‭ ‬شيوعية‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬التحقت‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الحركة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬للتحرر‭ ‬الوطني‮»‬‭ (‬حدتو‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تستهدف‭ ‬بالأساس‭ ‬قضايا‭ ‬التحرّر‭ ‬من‭ ‬الاستعمار،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬تحلُم‭ ‬بتغيير‭ ‬حياة‭ ‬البسطاء‭ ‬عبر‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬الاستعمار‭ ‬الإنجليزي‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬اليسار،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬‮«‬حدتو‮»‬،‭ ‬الخيار‭ ‬المثالي‭ ‬لفتاة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تهتم‭ ‬بتحديد‭ ‬هويّتها‭ ‬الدينية،‭ ‬ربما‭ ‬لأنّها‭ ‬ابنة‭ ‬شبكة‭ ‬هويات‭ ‬دينية‭ ‬معقّدة‭ ‬جدًا،‭ ‬فرأت‭ ‬أن‭ ‬تعامل‭ ‬كل‭ ‬الأديان‭ ‬بحيادٍ‭ ‬تام،‭ ‬مفضلة‭ ‬الانتماء‭ ‬للبسطاء‭ ‬أيًا‭ ‬كان‭ ‬دينهم،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أن‭ ‬جزءًا‭ ‬أصيلًا‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬اختياراتها‭ ‬السياسية،‭ ‬أنها‭ ‬وُلدت‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬‮«‬أزمة‭ ‬الكساد‭ ‬العالمي‮»‬،‭ ‬والتي‭ ‬أثّرت‭ ‬على‭ ‬حال‭ ‬ذلك‭ ‬البيت‭ ‬الصغير،‭ ‬الموجود‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬العشماوي،‭ ‬قريبًا‭ ‬من‭ ‬‮«‬جامع‭ ‬الكخيا‮»‬‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭.‬

تبدو‭ ‬شوارع‭ ‬القاهرة‭ ‬كما‭ ‬تحكيها‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬الثلاثينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬كأنها‭ ‬مدينة‭ ‬مولودة‭ ‬مثلها‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬والحكاية‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تذكّرنا‭ ‬بالحقيقة‭ ‬التي‭ ‬طمست،‭ ‬تحدثت‭ ‬عن‭ ‬الحارات‭ ‬الضيقة‭ ‬والشوارع‭ ‬الواسعة،‭ ‬وصفت‭ ‬المدارس‭ ‬الواسعة‭ ‬والنوادي‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الفاخرة‭ ‬المخصصة‭ ‬للجاليات‭ ‬الأجنبية،‭ ‬متنقلة‭ ‬من‭ ‬حارة‭ ‬نعيم‭ ‬في‭ ‬بولاق‭ ‬أبو‭ ‬العلا‭ ‬إلى‭ ‬النادي‭ ‬الإيطالي‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬شريف،‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬‮«‬المدابغ‮»‬‭ ‬وحيّ‭ ‬الدقي‭.‬

 

هويّات‭ ‬متصارعة

السّمة‭ ‬الأهم‭ ‬في‭ ‬‮«‬المولودة‮»‬‭ ‬أنها‭ ‬استطاعت،‭ ‬بما‭ ‬تملك‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬سهلة‭ ‬وخبرات‭ ‬واسعة،‭ ‬أن‭ ‬تعيد‭ ‬تركيب‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬القاهرة،‭ ‬لا‭ ‬لتصبح‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬أو‭ ‬لترسم‭ ‬صورة‭ ‬طبق‭ ‬الأصل‭ ‬من‭ ‬الماضي،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الحكاية‭ ‬تعيد‭ ‬إلى‭ ‬الشوارع‭ ‬بريقها‭ ‬الناصع‭ ‬وألوانها‭ ‬الزاهية،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يحوِّل‭ ‬هذا‭ ‬الماضي‭ ‬البعيد‭ ‬إلى‭ ‬صورة‭ ‬مشرقة‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬موجودًا،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬الأماكن‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬على‭ ‬حالها‭ ‬تبدو‭ ‬كأنها‭ ‬بقاياه،‭ ‬والشوارع‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تحمل‭ ‬الأسماء‭ ‬نفسها‭ ‬تبدو‭ ‬كأنها‭ ‬حطام‭ ‬هذا‭ ‬الماضي،‭ ‬تشعر‭ ‬بعد‭ ‬قراءة‭ ‬هذه‭ ‬السيرة‭ ‬أن‭ ‬بريقًا‭ ‬انطفأ‭ ‬ذات‭ ‬مرّة‭ ‬فحوّل‭ ‬هذه‭ ‬الشوارع‭ ‬المشرقة‭ ‬للماضي‭ ‬إلى‭ ‬مسوخٍ‭ ‬شائهة،‭ ‬تدهمنا‭ ‬كل‭ ‬صباح‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحاضر‭ ‬المرعب‭ ‬الذي‭ ‬نعيشه‭.‬

حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬كاتب‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬لا‭ ‬يعد‭ ‬قارئه‭ ‬سوى‭ ‬بالحقيقة،‭ ‬ولا‭ ‬يروي‭ ‬سوى‭ ‬ما‭ ‬رآه،‭ ‬بلا‭ ‬أية‭ ‬مساحة‭ ‬للخيال،‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬‮«‬المولودة‮»‬‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تقدم‭ ‬نوعًا‭ ‬جديدًا‭ ‬من‭ ‬الخيال‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬خيال‭ ‬النوستالجيا‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬خيال‭ ‬استعادي‭ ‬يعيد‭ ‬وصف‭ ‬الماضي‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬موجودًا،‭ ‬فتتخلق‭ ‬مساحات‭ ‬من‭ ‬الخيال‭ ‬والإدهاش،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬خيالًا‭ ‬مَحضًا‭ ‬أن‭ ‬تصف‭ ‬لنا‭ ‬الكاتبة‭ ‬مشهد‭ ‬خطف‭ ‬غراب‭ ‬قطعة‭ ‬‮«‬جاتوه‮»‬‭ ‬من‭ ‬يدها،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬طفلة‭ ‬تتمشّى‭ ‬مع‭ ‬أمها‭ ‬بين‭ ‬ميدان‭ ‬الأوبرا‭ ‬وشارع‭ ‬فؤاد‭.‬

 

صرخة‭ ‬دفاع‭ ‬عن‭ ‬الذات

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬صاحبة‭ ‬السيرة‭ ‬تربط‭ ‬خصوصيتها‭ ‬الفردية‭ ‬دائمًا‭ ‬باتجاه‭ ‬جمعي‭ ‬وبفعالية‭ ‬الآخرين،‭ ‬عاكسةً‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الزهد‭ ‬في‭ ‬الأضواء‭ ‬أو‭ ‬الشهرة،‭ ‬فإنها‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬تكتفي‭ ‬بالحكاية‭ ‬الشخصية،‭ ‬بل‭ ‬تقدّم‭ ‬أيضًا‭ ‬تأريخًا‭ ‬سياسيًا‭ ‬للمرحلة‭ ‬التي‭ ‬عاشتها،‭ ‬وجعلت‭ ‬من‭ ‬سيرتها‭ ‬مدونة‭ ‬متخصصة‭ ‬في‭ ‬حفظ‭ ‬المنسي‭ ‬والمُهدر‭ ‬من‭ ‬الذكريات،‭ ‬أو‭ ‬صوت‭ ‬من‭ ‬تم‭ ‬إسكاتهم‭ - ‬عن‭ ‬عَمْد‭ - ‬حيث‭ ‬أصبح‭ ‬وجودهم‭ ‬غير‭ ‬مرغوب‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬الجميع،‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬مؤسسات‭ ‬اليسار‭ ‬المصري‭.‬

والحكاية‭ ‬تشبه‭ ‬صرخة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬الذات،‭ ‬ولكيلا‭ ‬تموت‭ ‬نائلة‭ ‬كامل‭ (‬زوجة‭ ‬المفكر‭ ‬اليساري‭ ‬سعد‭ ‬كامل،‭ ‬مؤسس‭ ‬‮«‬الثقافة‭ ‬الجماهيرية‮»‬‭) ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تترك‭ ‬حكايتها‭ ‬شديدة‭ ‬الثراء‭ ‬لأحفادها،‭ ‬كأوّل‭ ‬امرأة‭ ‬في‭ ‬العالَم‭ ‬تتزوج‭ ‬بموافقة‭ ‬بابا‭ ‬الفاتيكان‭ ‬وشيخ‭ ‬الأزهر‭ ‬معًا،‭ ‬وربما‭ ‬لأنّها‭ ‬كانت‭ ‬تتوقّع‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬تشويه‭ ‬قصتها‭ ‬بعد‭ ‬رحيلها،‭ ‬أو‭ ‬يحاول‭ ‬أحد‭ ‬ما‭ ‬تشويه‭ ‬تاريخها‭ ‬الوطني‭ ‬أمام‭ ‬أحفادها،‭ ‬فكتبت‭ ‬بمنطق‭ ‬‮«‬بيدي‭ ‬لا‭ ‬بيد‭ ‬عمرو‮»‬‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬مناخ‭ ‬‮«‬الهويات‭ ‬المتصارعة‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تعيشه‭ ‬ماري‭ ‬إيلي‭ ‬روزنتال،‭ ‬في‭ ‬طور‭ ‬نشأتها،‭ ‬فإنّ‭ ‬نص‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬التي‭ ‬تركتها‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬المصرية‮»‬‭ - ‬ولاحظ‭ ‬أن‭ ‬النص‭ ‬كُتب‭ ‬بالعامية‭ - ‬كانت‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬وجدانها‭ ‬وعقلها،‭ ‬وضوحًا‭ ‬جعلها‭ ‬تختار‭ ‬أن‭ ‬تناضل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬بسطاء‭ ‬هذا‭ ‬الوطن،‭ ‬سواء‭ ‬بالعمل‭ ‬الطوعي‭ ‬في‭ ‬التمريض،‭ ‬خلال‭ ‬وباء‭ ‬الكوليرا‭ ‬عام‭ ‬1947،‭ ‬أو‭ ‬بالسجن‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬الخمسينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬أو‭ ‬بالعمل‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬محرّرة‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬حواء،‭ ‬كأنها‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬الهوية‭ ‬المصرية‭ ‬هي‭ ‬المكون‭ ‬الوحيد‭ ‬لشخصيتها،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬مرّت‭ ‬ببعض‭ ‬اللحظات‭ ‬العسيرة‭ ‬التي‭ ‬جعلتها‭ ‬أحيانًا‭ ‬‮«‬هوية‭ ‬شبه‭ ‬مفقودة‮»‬،‭ ‬حينما‭ ‬طلب‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬أن‭ ‬تختار‭ ‬بلدًا‭ ‬تُرحَّل‭ ‬إليه،‭ ‬ساعتها‭ ‬فقط‭ ‬قالت‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬مصرية‭ ‬وماليش‭ ‬بلد‭ ‬غير‭ ‬مصر‮»‬‭.‬

 

محاولة‭ ‬أصيلة

لك‭ ‬أن‭ ‬تتخيل‭ ‬كيف‭ ‬اختارت‭ ‬ماري‭ ‬مصريّتها،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تجيد‭ ‬الكتابة‭ ‬بالعربية‭ ‬بعد،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الحديث‭ ‬باللهجة‭ ‬العامية‭ ‬إلّا‭ ‬بعد‭ ‬دخولها‭ ‬السجن‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬وكانت‭ ‬دون‭ ‬العشرين‭.    

لقد‭ ‬أشارت‭ ‬مرارًا‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬إتقانها‭ ‬الكتابة‭ ‬بالعربية،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬تحتاج‭ ‬دائمًا‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬مراجعة‭ ‬صياغة‮»‬،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬تتقن‭ ‬الإيطالية‭ ‬والإنجليزية،‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬وهي‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬تعدُّد‭ ‬مرات‭ ‬سفرها‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا،‭ ‬بعدما‭ ‬انتقل‭ ‬والدها‭ ‬ووالدتها‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬هناك‭ ‬أواخر‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

كتابة‭ ‬السيرة‭ ‬هي‭ - ‬بمعنى‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ - ‬نوع‭ ‬من‭ ‬المكاشفة‭ ‬والفضح‭ ‬والتعرِّي،‭ ‬تعكس‭ ‬محاولة‭ ‬أصيلة‭ ‬لصياغة‭ ‬هوية‭ ‬متماسكة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سرد‭ ‬الحكاية‭ ‬التي‭ ‬أنتجت‭ ‬هذه‭ ‬الذات،‭ ‬والتي‭ ‬تتكشف‭ ‬فيها‭ - ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا‭ - ‬مساحات‭ ‬من‭ ‬الألم‭ ‬والظلم‭ ‬والقمع‭ ‬السياسي‭ ‬والنفسي‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬جنبًا‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬مساحات‭ ‬تحقق‭ ‬ونجاح‭ ‬وإنجاز‭ ‬مشروع‭ ‬‮«‬زواج‭ ‬ناجح‮»‬،‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬يسارية‭ ‬معروفة،‭ ‬هو‭ ‬الكاتب‭ ‬والمفكر‭ ‬اليساري‭ ‬سعد‭ ‬كامل،‭ ‬ابن‭ ‬شقيقة‭ ‬الكاتب‭ ‬فتحي‭ ‬رضوان‭ (‬وزير‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬الخمسينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭)‬،‭ ‬وأحد‭ ‬وجوه‭ ‬اليسار‭ ‬المصري‭ ‬البارزة،‭ ‬وأثمر‭ ‬هذا‭ ‬الزواج‭ ‬ابنتين؛‭ ‬نادية‭ ‬ودينا،‭ ‬من‭ ‬ثم‭ ‬الأحفاد‭ ‬الذين‭ ‬وجهت‭ ‬إليهم‭ ‬الإهداء‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬السيرة‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬آدم‭ ‬ونبيل‭ ‬ودينا‮»‬‭.‬

لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ننسى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬صراع‭ ‬الهوية‮»‬‭ ‬كان‭ ‬حاضرًا‭ ‬دومًا‭ ‬في‭ ‬ميراث‭ ‬السّير‭ ‬الذاتية‭ ‬العربي‭ ‬الحديث،‭ ‬منذ‭ ‬‮«‬الساق‭ ‬على‭ ‬الساق‭ ‬فيما‭ ‬هو‭ ‬الفارياق‮»‬،‭ ‬لفارس‭ ‬يوسف‭ ‬الشدياق،‭ ‬المسيحي‭ ‬الماروني‭ ‬الذي‭ ‬تخلّى‭ ‬عن‭ ‬مارونيته‭ ‬ليعتنق‭ ‬الإسلام،‭ ‬وأصبح‭ ‬أحمد‭ ‬فارس‭ ‬الشدياق،‭ ‬مثلما‭ ‬كان‭ ‬حاضرًا‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬مذكرات‭ ‬لويس‭ ‬عوض‭: ‬‮«‬مذكرات‭ ‬طالب‭ ‬بعثة‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬بالعامية‭ ‬المصرية‭ ‬أيضًا‭. ‬كما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ننسى‭ ‬العامية‭ ‬السهلة‭ ‬التي‭ ‬كتبت‭ ‬بها‭ ‬السيرة،‭ ‬والتي‭ ‬تذكرنا‭ ‬بعاميّة‭ ‬‮«‬قنطرة‭ ‬الذي‭ ‬كفر‮»‬،‭ ‬للدكتور‭ ‬مصطفى‭ ‬مشرفة‭ ‬مثلًا‭.‬

 

السيرة‭ ‬النسائية

الحق‭ ‬أن‭ ‬صاحبة‭ ‬هذه‭ ‬السيرة‭ ‬لم‭ ‬تلجأ‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لجأت‭ ‬إليه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬النسائية‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬والتي‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬مصوبةً‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬تتعرّض‭ ‬له‭ ‬النساء‭ ‬من‭ ‬قهرٍ‭ ‬مضاعف،‭ ‬فهي‭ ‬مقموعة‭ ‬داخل‭ ‬البيت‭ ‬من‭ ‬الرجل،‭ ‬وخارجه‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تكونت‭ ‬لدى‭ ‬الكاتبات‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬مرارة‭ ‬مُعلنة،‭ ‬تتناسب‭ ‬عكسيًا‭ ‬مع‭ ‬خجل‭ ‬النساء‭ ‬من‭ ‬إعلان‭ ‬عيوبهن‭ ‬في‭ ‬اعترافات‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية،‭ ‬وإذا‭ ‬حدث‭ ‬فعليك‭ ‬أن‭ ‬تتوقّع‭ - ‬أحيانًا‭ - ‬اعترافات‭ ‬مفجعة‭ ‬وصادمة‭ ‬للمجتمع،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬فعلت‭ ‬المغربية‭ ‬فاطمة‭ ‬عمروش،‭ ‬صاحبة‭ ‬‮«‬قصة‭ ‬حياتي‮»‬،‭ (‬نشرت‭ ‬عام‭ ‬1946‭)‬،‭ ‬أول‭ ‬سيرة‭ ‬نسائية‭ ‬مغربية،‭ ‬تحكي‭ ‬فيها‭ ‬الكاتبة‭ ‬ببساطة‭ ‬كيف‭ ‬أحبّت‭ ‬أمّها‭ (‬الشابة‭ ‬زوجة‭ ‬الرجل‭ ‬المسنّ‭) ‬شابًا‭ ‬وحملت‭ ‬منه،‭ ‬هذا‭ ‬الحمل‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬فاطمة‭ ‬عمروش‭ ‬ذاتها،‭ ‬والسّيرة‭ ‬هي‭ ‬قصة‭ ‬كفاح‭ ‬فتاة‭ ‬لقيطة،‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬المجتمع‭ ‬الاعتراف‭ ‬بها‭.‬

مثلما‭ ‬هو‭ ‬واضح،‭ ‬فإنّ‭ ‬مكانة‭ ‬الأم‭ ‬في‭ ‬السيرة‭ ‬النسائية‭ ‬العربية‭ ‬و‮«‬غير‭ ‬العربية‮»‬،‭ ‬تبدو‭ ‬كبيرة‭ ‬جدًا،‭ ‬وأعظم‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬‮«‬المولودة‮»‬،‭ ‬فالكاتبة‭ ‬نادية‭ ‬كامل‭ ‬تعيد‭ ‬صياغة‭ ‬حكاية‭ ‬الأم‭ ‬ماري‭ ‬روزنتال،‭ ‬التي‭ ‬تروي‭ ‬بدورها‭ ‬قصة‭ ‬حياتها‭ ‬وحياة‭ ‬أمّها‭ ‬الإيطالية،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬الأحفاد‭ ‬حقيقة‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأمهات‭ ‬اللائي‭ ‬تسلّمن‭ ‬رايات‭ ‬كفاح‭ ‬وسلّمنها‭ ‬بأمانة‭ ‬لأحفادهن،‭ ‬والحكاية‭ ‬هنا‭ ‬كأنها‭ ‬راية‭ ‬من‭ ‬رايات‭ ‬الكفاح‭■

ماري‭ ‬مع‭ ‬ابنتها‭ ‬دينا‭ ‬وحفيدها‭ ‬آدم‭ ‬سنة‭ ‬2009