«المولودة»... سيرة ذاتية لمناضلة أثارت الجدل «نصف يهودية» تروي قصة كفاحها مع الهويّة المصرية
على الرغم من كل هذا الجدل الذي أثاره كتاب السيرة الذاتية «المولودة»، الصادر عام 2018 عن «دار الكرمة للنشر» بالقاهرة في الأوساط الثقافية المصرية، لكون البطلة تحكي مستخدمةً «العامية القاهرية»، عن سيرة حياة مناضلة تنتمي إلى اليسار المصري، تعلن فيها أنّها اختارت الهويّة الوطنية المصرية - دون أية هويّة أوربيّة أو آسيوية أخرى - شعارًا لحياتها، وأنها ناضلت ودفعت ثمنًا باهظًا من أجل الحفاظ على هذه الهوية، أقول إنّه رغم كل هذا الجدل، فإنّني أظنّ أن ما دار من نقاش حول عاميّة لغتها، أو جرأتها في كشف جوانب من ألغاز اليسار المصري على أهمّيته لا يوفّي مثل هذه السيرة المدهشة حقّها من الاهتمام، نظرًا إلى أنها تجمع بين ما في الروايات من متعة خيالية مدهشة، وما في السِّير الذاتية من آلام شخصية مؤسفة، وما في التاريخ السياسي من مراراتٍ، لا يزال بعضها عالقًا في الحلوق.
عن نفسي، أنا ممّن يظنون أن هذه «السيرة الذاتية»، بما تسرده من وقائع وما تحكيه من أحداث، عن شعور امرأة مصرية قحّة بهويتها الوطنية في عقد الأربعينيات من القرن الماضي، هي نموذج جدير بالتقديم للمواطن العربي، باعتباره سندًا على انتشار ثقافة التعايش في مصر، وأنا أرشِّحه لكتّاب الدراما وصنَّاع السينما المحترفين، ليكون شهادةً فنية حيّة من القرن العشرين، على تغلغل ثقافة التسامح الديني، ونضج «مفهوم الهوية» عند شريحة واسعة من المصريين، لا فرق في ذلك بين مسلم أو مسيحي أو يهودي، ها هي امرأة مصرية تأتي بكل جسارة من الماضي، لتخبرنا أنّ محاولات فرض ثقافة الصحراء في مصر، هي مجرد محاولات محكوم عليها - ولا شكّ - بالفناء.
«المولودة»، قصة حياة ماري إيلي روزنتال، أمّ الكاتبة نادية كامل، سجّلتها الأم عام 2002 صوتيًا على شرائط كاسيت، بلُغة عاميّة قاهريّة بسيطة، لتروي في سنواتها الأخيرة جوانب من أحداث عاصرتها، منذ ولدت طفلة في عقد الثلاثينيات من القرن العشرين، لأسرة يهودية الأب مسيحية الأم، تحكي كيف عاشت ابنتهما في القاهرة شبابها أواخر عقد الأربعينيات، كيف تعلّمت وعملت بالسياسة وأحبَّت، وكيف تزوجت من شابٍ مثقفٍ مسلم، قررت أن تستكمل حياتها معه في البلد الوحيد الذي عشقته.
مَن يصدِّق أصلًا هذه الحكاية الغريبة، عن رجل يهودي مصري من أصل تركي، يلتقي امرأة مسيحية إيطالية في القاهرة عند منتصف عشرينيات القرن الماضي، ويتزوجان بعد قصة حب، وينجبان هذه الابنة ماري، التي رفضت أن تغادر مصر، حيث كانت تستطيع - مثلما فعل أفراد أسرتها وأغلب أقاربها مطلع عقد الخمسينيات من القرن العشرين - أن تطلب الهجرة إلى أي بلد أوربّي تشاء، إلّا أنها فضَّلت - بمحض إرادتها - البقاء، وهي تحكي لنا في هذه السيرة كم كان ذلك أمرًا عظيمًا ومكلفًا في الوقت ذاته. كيف كان الطريق لاكتشاف هوّيتها شاقًا ومضنيًا، لم يخلُ من قسوة الزنازين ولا من المراقبة الأمنية الصارمة أحيانًا، مثلما كان طريقًا - أيضًا - للمقاومة، من أجل اكتشاف أعمق أعماق «الهوية المصرية».
خيار مثالي
لم تكن هناك تقاليد أسرية صارمة تريد ماري التمرّد عليها داخل الأسرة أو في المجتمع المحيط بها، بل، على العكس تمامًا، تقول إنها سرعان ما وجدت النشاط الاجتماعي الملائم لها، حين التحقت بالعمل السياسي في سنّ صغيرة، ثم دخلت السجن شابة، عدة مرات على ذمة قضايا «تنظيم خلية شيوعية»، حيث التحقت بـ «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» (حدتو)، التي كانت تستهدف بالأساس قضايا التحرّر من الاستعمار، بينما كانت تحلُم بتغيير حياة البسطاء عبر التخلص من الاستعمار الإنجليزي.
لقد كان الانتماء إلى اليسار، وتحديدًا «حدتو»، الخيار المثالي لفتاة لم تكن تهتم بتحديد هويّتها الدينية، ربما لأنّها ابنة شبكة هويات دينية معقّدة جدًا، فرأت أن تعامل كل الأديان بحيادٍ تام، مفضلة الانتماء للبسطاء أيًا كان دينهم، خصوصًا أن جزءًا أصيلًا من أسباب اختياراتها السياسية، أنها وُلدت في ظل «أزمة الكساد العالمي»، والتي أثّرت على حال ذلك البيت الصغير، الموجود في شارع العشماوي، قريبًا من «جامع الكخيا» في القاهرة.
تبدو شوارع القاهرة كما تحكيها في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي كأنها مدينة مولودة مثلها من جديد، والحكاية تريد أن تذكّرنا بالحقيقة التي طمست، تحدثت عن الحارات الضيقة والشوارع الواسعة، وصفت المدارس الواسعة والنوادي الاجتماعية الفاخرة المخصصة للجاليات الأجنبية، متنقلة من حارة نعيم في بولاق أبو العلا إلى النادي الإيطالي في شارع شريف، إلى منطقة «المدابغ» وحيّ الدقي.
هويّات متصارعة
السّمة الأهم في «المولودة» أنها استطاعت، بما تملك من لغة سهلة وخبرات واسعة، أن تعيد تركيب الحياة في شوارع القاهرة، لا لتصبح على ما كانت عليه من قبل، أو لترسم صورة طبق الأصل من الماضي، بل إن الحكاية تعيد إلى الشوارع بريقها الناصع وألوانها الزاهية، على نحو يحوِّل هذا الماضي البعيد إلى صورة مشرقة من زمن لم يعد موجودًا، وإن كانت الأماكن التي لا تزال على حالها تبدو كأنها بقاياه، والشوارع التي لا تزال تحمل الأسماء نفسها تبدو كأنها حطام هذا الماضي، تشعر بعد قراءة هذه السيرة أن بريقًا انطفأ ذات مرّة فحوّل هذه الشوارع المشرقة للماضي إلى مسوخٍ شائهة، تدهمنا كل صباح في هذا الحاضر المرعب الذي نعيشه.
حتى لو كان كاتب السيرة الذاتية لا يعد قارئه سوى بالحقيقة، ولا يروي سوى ما رآه، بلا أية مساحة للخيال، أعتقد أن «المولودة» استطاعت أن تقدم نوعًا جديدًا من الخيال ينتمي إلى ما يمكن تسميته بـ «خيال النوستالجيا»، وهو خيال استعادي يعيد وصف الماضي على النحو الذي لم يعد موجودًا، فتتخلق مساحات من الخيال والإدهاش، وقد كان خيالًا مَحضًا أن تصف لنا الكاتبة مشهد خطف غراب قطعة «جاتوه» من يدها، بينما كانت طفلة تتمشّى مع أمها بين ميدان الأوبرا وشارع فؤاد.
صرخة دفاع عن الذات
على الرغم من أن صاحبة السيرة تربط خصوصيتها الفردية دائمًا باتجاه جمعي وبفعالية الآخرين، عاكسةً نوعًا من الزهد في الأضواء أو الشهرة، فإنها هنا لا تكتفي بالحكاية الشخصية، بل تقدّم أيضًا تأريخًا سياسيًا للمرحلة التي عاشتها، وجعلت من سيرتها مدونة متخصصة في حفظ المنسي والمُهدر من الذكريات، أو صوت من تم إسكاتهم - عن عَمْد - حيث أصبح وجودهم غير مرغوب فيه من الجميع، حتى من بعض مؤسسات اليسار المصري.
والحكاية تشبه صرخة من أجل الدفاع عن الذات، ولكيلا تموت نائلة كامل (زوجة المفكر اليساري سعد كامل، مؤسس «الثقافة الجماهيرية») قبل أن تترك حكايتها شديدة الثراء لأحفادها، كأوّل امرأة في العالَم تتزوج بموافقة بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر معًا، وربما لأنّها كانت تتوقّع أن يتم تشويه قصتها بعد رحيلها، أو يحاول أحد ما تشويه تاريخها الوطني أمام أحفادها، فكتبت بمنطق «بيدي لا بيد عمرو».
وعلى الرغم من مناخ «الهويات المتصارعة» الذي كانت تعيشه ماري إيلي روزنتال، في طور نشأتها، فإنّ نص السيرة الذاتية التي تركتها يشير إلى أن «الهوية الوطنية المصرية» - ولاحظ أن النص كُتب بالعامية - كانت واضحة في وجدانها وعقلها، وضوحًا جعلها تختار أن تناضل من أجل بسطاء هذا الوطن، سواء بالعمل الطوعي في التمريض، خلال وباء الكوليرا عام 1947، أو بالسجن في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، أو بالعمل فيما بعد محرّرة في مجلة حواء، كأنها تقول إن الهوية المصرية هي المكون الوحيد لشخصيتها، وإن كانت مرّت ببعض اللحظات العسيرة التي جعلتها أحيانًا «هوية شبه مفقودة»، حينما طلب منها في السجن أن تختار بلدًا تُرحَّل إليه، ساعتها فقط قالت: «أنا مصرية وماليش بلد غير مصر».
محاولة أصيلة
لك أن تتخيل كيف اختارت ماري مصريّتها، على الرغم من أنها لم تكن تجيد الكتابة بالعربية بعد، أو حتى الحديث باللهجة العامية إلّا بعد دخولها السجن لأول مرة، وكانت دون العشرين.
لقد أشارت مرارًا إلى عدم إتقانها الكتابة بالعربية، حيث كانت تحتاج دائمًا إلى «مراجعة صياغة»، بينما كانت تتقن الإيطالية والإنجليزية، على الأقل، وهي تشير إلى تعدُّد مرات سفرها إلى إيطاليا، بعدما انتقل والدها ووالدتها إلى الحياة هناك أواخر ستينيات القرن العشرين.
كتابة السيرة هي - بمعنى من المعاني - نوع من المكاشفة والفضح والتعرِّي، تعكس محاولة أصيلة لصياغة هوية متماسكة، من خلال سرد الحكاية التي أنتجت هذه الذات، والتي تتكشف فيها - شيئًا فشيئًا - مساحات من الألم والظلم والقمع السياسي والنفسي والاجتماعي، جنبًا إلى جنب مساحات تحقق ونجاح وإنجاز مشروع «زواج ناجح»، من شخصية يسارية معروفة، هو الكاتب والمفكر اليساري سعد كامل، ابن شقيقة الكاتب فتحي رضوان (وزير الثقافة في عقد الخمسينيات من القرن الماضي)، وأحد وجوه اليسار المصري البارزة، وأثمر هذا الزواج ابنتين؛ نادية ودينا، من ثم الأحفاد الذين وجهت إليهم الإهداء في بداية السيرة «إلى آدم ونبيل ودينا».
لا يمكن أن ننسى أن «صراع الهوية» كان حاضرًا دومًا في ميراث السّير الذاتية العربي الحديث، منذ «الساق على الساق فيما هو الفارياق»، لفارس يوسف الشدياق، المسيحي الماروني الذي تخلّى عن مارونيته ليعتنق الإسلام، وأصبح أحمد فارس الشدياق، مثلما كان حاضرًا أيضًا في مذكرات لويس عوض: «مذكرات طالب بعثة»، التي كتبها بالعامية المصرية أيضًا. كما لا يمكن أن ننسى العامية السهلة التي كتبت بها السيرة، والتي تذكرنا بعاميّة «قنطرة الذي كفر»، للدكتور مصطفى مشرفة مثلًا.
السيرة النسائية
الحق أن صاحبة هذه السيرة لم تلجأ إلى ما لجأت إليه كثير من قصص السيرة الذاتية النسائية في الثقافة العربية، والتي تكاد تكون مصوبةً نحو ما تتعرّض له النساء من قهرٍ مضاعف، فهي مقموعة داخل البيت من الرجل، وخارجه من السلطة السياسية، وبالتالي تكونت لدى الكاتبات في الثقافة العربية مرارة مُعلنة، تتناسب عكسيًا مع خجل النساء من إعلان عيوبهن في اعترافات السيرة الذاتية، وإذا حدث فعليك أن تتوقّع - أحيانًا - اعترافات مفجعة وصادمة للمجتمع، على نحو ما فعلت المغربية فاطمة عمروش، صاحبة «قصة حياتي»، (نشرت عام 1946)، أول سيرة نسائية مغربية، تحكي فيها الكاتبة ببساطة كيف أحبّت أمّها (الشابة زوجة الرجل المسنّ) شابًا وحملت منه، هذا الحمل كان هو فاطمة عمروش ذاتها، والسّيرة هي قصة كفاح فتاة لقيطة، لا يريد المجتمع الاعتراف بها.
مثلما هو واضح، فإنّ مكانة الأم في السيرة النسائية العربية و«غير العربية»، تبدو كبيرة جدًا، وأعظم دليل على ذلك هو «المولودة»، فالكاتبة نادية كامل تعيد صياغة حكاية الأم ماري روزنتال، التي تروي بدورها قصة حياتها وحياة أمّها الإيطالية، من أجل أن يعرف الأحفاد حقيقة ما حدث مع كل هؤلاء الأمهات اللائي تسلّمن رايات كفاح وسلّمنها بأمانة لأحفادهن، والحكاية هنا كأنها راية من رايات الكفاح■
ماري مع ابنتها دينا وحفيدها آدم سنة 2009