«الثورة الرقمية... ثورة ثقافية» كيف تغيّر التكنولوجيا نظرتنا للحياة؟

«الثورة الرقمية... ثورة ثقافية» كيف تغيّر التكنولوجيا نظرتنا للحياة؟

يعمد‭ ‬معظم‭ ‬المؤرخين‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الإعلامي،‭ ‬إلى‭ ‬وسم‭ ‬التطور‭ ‬التكنولوجي‭ ‬الذي‭ ‬شهده‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة‭ ‬بأنه‭ ‬بمنزلة‭ ‬ثورة‭ ‬صناعية‭ ‬ثالثة،‭ ‬مرتبطة‭ ‬بتكنولوجيا‭ ‬الإعلام‭ ‬والتواصل،‭ ‬حيث‭ ‬يعتبرون‭ ‬أن‭ ‬المجتمع‭ ‬الإنساني‭ ‬مرّ‭ ‬بثورة‭ ‬صناعية‭ ‬أولى،‭ ‬ارتكزت‭ ‬على‭ ‬تطوير‭ ‬الآلة‭ ‬البخارية‭ ‬والسكك‭ ‬الحديدية،‭ ‬ثم‭ ‬ثورة‭ ‬ثانية‭ ‬اعتمدت‭ ‬على‭ ‬استغلال‭ ‬الكهرباء‭ ‬والبترول‭.‬

أمام‭ ‬هذا‭ ‬التصنيف‭ ‬يمكننا‭ ‬طرح‭ ‬إشكالات‭ ‬عدّة‭ ‬تتعلّق‭ ‬بأثر‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬على‭ ‬المجتمع،‭ ‬فكما‭ ‬هو‭ ‬معلوم‭ ‬أن‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أثر‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬المجتمع،‭ ‬بل‭ ‬غيّرت‭ ‬ملامحه‭ ‬إلى‭ ‬الأبد،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬أثّر‭ ‬في‭ ‬وعي‭ ‬الناس‭ ‬ونظرهم‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬والكون‭.‬

كان‭ ‬لذلك‭ ‬تأثير‭ ‬على‭ ‬جوانب‭ ‬أخرى‭ ‬متعلّقة‭ ‬بالإنسان،‭ ‬سواء‭ ‬الجوانب‭ ‬الإبداعية‭ ‬أو‭ ‬العلمية،‭ ‬فلا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬للثورة‭ ‬الرقمية‭ ‬دورها‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التغيير،‭ ‬قد‭ ‬نكون‭ ‬نحن‭ ‬المستهلكين‭ ‬لهذه‭ ‬التكنولوجيا،‭ ‬داخل‭ ‬منطقة‭ ‬معتمة،‭ ‬ولذلك‭ ‬يصعب‭ ‬علينا‭ ‬تبيُّن‭ ‬أوجه‭ ‬التغيرات‭ ‬التي‭ ‬أحدثتها‭ ‬هذه‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬على‭ ‬مناحي‭ ‬حياتنا،‭ ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬عدم‭ ‬حدوثها‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬يأتي‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬سنحاول‭ ‬تقديم‭ ‬قراءة‭ ‬فيه،‭ ‬والذي‭ ‬أصدرته‭ ‬سلسلة‭ ‬عالم‭ ‬المعرفة‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬الثورة‭ ‬الرقمية‭... ‬ثورة‭ ‬ثقافية‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬تأليف‭ ‬الكاتب‭ ‬وعالم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الفرنسي‭ ‬ريمي‭ ‬ريفيل،‭ ‬الذي‭ ‬يدرّس‭ ‬اجتماعيات‭ ‬الإعلام‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬باريس‭ ‬الثانية‭.‬

‭ ‬يناقش‭ ‬الكتاب‭ ‬تأثير‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬على‭ ‬ثقافتنا،‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬إلى‭ ‬عام‭  ‬سنة‭ ‬صدور‭ ‬الكتاب‭ ‬باللغة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬والذي‭ ‬نقله‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬المترجم‭ ‬المغربي‭ ‬سعيد‭ ‬بلمبخوت،‭ ‬ونشر‭ ‬في‭ ‬طبعته‭ ‬العربية‭ ‬شهر‭ ‬يوليو‭ ‬ضمن‭ ‬سلسلة‭ ‬عالم‭ ‬المعرفة،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬الكتاب‭ ‬صدر‭ ‬قبل‭  ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬صدوره‭ ‬بالعربية،‭ ‬فإن‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬يتناولها‭ ‬لا‭ ‬تفقد‭ ‬راهنتيها،‭ ‬وذلك‭ ‬لأنّ‭ ‬مظاهر‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الحديثة‭ ‬قد‭ ‬تتغير،‭ ‬لكنها‭ ‬تظل‭ ‬تحت‭ ‬الأهداف‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬من‭ ‬أجلها‭.‬

قبل‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬محاور‭ ‬الكتاب‭ ‬الأساسية،‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬التعريف‭ ‬بمفهوم‭ ‬الثقافة‭ ‬كما‭ ‬يورده‭ ‬المؤلف،‭ ‬وكذلك‭ ‬أنواع‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬ويب‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يقصدها‭ ‬الكاتب‭ ‬بدراسته،‭ ‬يعرف‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬الكتاب‭ ‬الثقافة‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬جهاز‭ ‬للقيم‭ ‬والتمثيلات،‭ ‬ومجموعة‭ ‬من‭ ‬الإنتاجات‭ ‬والممارسات‭ ‬الثقافية‭ ‬والفنية،‭ ‬التي‭ ‬تصف‭ ‬مجتمعًا‭ ‬معيّنًا‮»‬،‭ ‬فغرض‭ ‬الكاتب‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يتناول‭ ‬بالتحليل‭ ‬أثر‭ ‬الثورة‭ ‬التكنولوجية‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المنتجات‭ ‬الثقافية،‭ ‬مثل‭ ‬الكتاب،‭ ‬والسينما،‭ ‬والموسيقى‭... ‬إلخ،‭ ‬وأثر‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬جهاز‭ ‬القيم‭ ‬ككل،‭ ‬والتمثّلات‭ ‬التي‭ ‬يؤمن‭ ‬بها‭ ‬مجتمع‭ ‬ما،‭ ‬فهو‭ ‬بذلك‭ ‬يرصد‭ ‬موضوعًا‭ ‬حساسًا‭ ‬جدًا‭.‬

أما‭ ‬أنواع‭ ‬الويب‭ ‬التي‭ ‬يقصدها‭ ‬المؤلف‭ ‬فهي‭ ‬ثلاثة‭ ‬أنواع،‭ ‬الويب‭ ‬الاجتماعية‭ ‬أو‭ ‬العلائقية،‭ ‬والوثائقية‭ ‬التي‭ ‬تشمل‭ ‬قواعد‭ ‬المعلومات،‭ ‬والويب‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬يقصده‭ ‬هو‭ ‬ويب‭ ‬الأخبار،‭ ‬مثل‭ ‬المواقع‭ ‬الإخبارية‭ ‬المستقلة‭.‬

‭ ‬ستكون‭ ‬محاور‭ ‬هذه‭ ‬الورقة‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭  ‬أسئلة‭ ‬هي‭ ‬مضمون‭ ‬الكتاب،‭ ‬فبداية‭ ‬يطرح‭ ‬الكاتب‭ ‬إشكالية‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬الرقمي‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا،‭ ‬سواء‭ ‬كأفراد‭ ‬أو‭ ‬كمجتمع؟‭ ‬ثم‭ ‬يتساءل‭ ‬بعد‭ ‬عمّا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يغيّره‭ ‬هذا‭ ‬الرقمي‭ ‬عند‭ ‬دخوله‭ ‬إلى‭ ‬المعرفة‭ ‬والمعلومات،‭ ‬مثلًا‭ ‬هل‭ ‬يشجع‭ ‬شكلًا‭ ‬جديدًا‭ ‬للإبداع؟‭ ‬وفي‭ ‬الأخير‭ ‬يتساءل‭ ‬عمّا‭ ‬يغيّره‭ ‬الرقمي‭ ‬عند‭ ‬وصوله‭ ‬للخبر،‭ ‬وهل‭ ‬يساهم‭ ‬حقًا‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬الحوار‭ ‬وتوسيع‭ ‬المجال‭ ‬العمومي‭ ‬والديمقراطية‭ ‬التشاركية‭ ‬مثلًا؟

 

ما‭ ‬هو‭ ‬الرقمي؟

بداية،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬أن‭ ‬الرقمي‭ ‬يشكّل‭ ‬سياقًا‭ ‬تكنولوجيًا‭ ‬واقتصاديًا‭ ‬جديدًا،‭ ‬سياق‭ ‬يصبح‭ ‬فيه‭ ‬الإبداع‭ ‬والمعالجة‭ ‬وانتقال‭ ‬المعلومة‭ ‬مصدرًا‭ ‬رئيسيًا‭ ‬للسلطة‭ ‬والإنتاجية،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬تاريخ‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬التقليدية،‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬تطورات‭ ‬عبر‭ ‬مُدد‭ ‬زمنية‭ ‬مختلفة‭.‬

ويختلف‭ ‬الاصطلاح‭ ‬الفرنسي‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬اللغات‭ ‬الأخرى،‭ ‬فجميع‭ ‬اللغات‭ ‬تقريبًا‭ ‬أخذت‭ ‬المفردة‭ ‬من‭ ‬النعت‭ ‬اللاتيني‭ ‬Digitus،‭ ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬الأصبع،‭ ‬وذلك‭ ‬لتحديد‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الحديثة‭ ‬Digital‭ ‬technology،‭ ‬وهي‭ ‬بذلك‭ ‬كما‭ ‬يورد‭ ‬صاحب‭ ‬الكتاب‭ ‬تفضل‭ ‬معنى‭ ‬اللمس،‭ ‬أما‭ ‬المصطلح‭ ‬الفرنسي‭ ‬فهو‭ ‬مأخوذ‭ ‬من‭ ‬كلمة‭ ‬Numerus،‭ ‬بمعنى‭ ‬الرقم،‭ ‬وهذه‭ ‬المفردة‭ ‬تحيل‭ ‬إلى‭ ‬معنى‭ ‬الحساب،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الرقمي‭ ‬لا‭ ‬يختزل‭ ‬في‭ ‬تقنية‭ ‬بسيطة،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬ينقل‭ ‬التمثيلات‭ ‬الأكثر‭ ‬تعددًا‭ ‬وفقًا‭ ‬للقطاع‭ ‬المعني،‭ ‬ويشكّل‭ ‬رمزًا‭ ‬للآمال‭ ‬أحيانًا،‭ ‬ومصدرًا‭ ‬للقلق‭ ‬والمخاوف‭ ‬أحيانًا‭ ‬أخرى،‭ ‬كما‭ ‬يورد‭ ‬صاحب‭ ‬الكتاب،‭ ‬وبذلك‭ ‬يصبح‭ ‬فهم‭ ‬الخيال‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الذي‭ ‬يمرّره‭ ‬الرقمي‭ ‬بمختلف‭ ‬أشكاله،‭ ‬رهانًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬لفهم‭ ‬أبعاد‭ ‬الثورة‭ ‬الرقمية‭.‬

ولفهم‭ ‬أكثر‭ ‬شمولية‭ ‬لمعنى‭ ‬الرقمي،‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬تحليل‭ ‬بعض‭ ‬مكوناته،‭ ‬وأهمها‭ ‬الشبكة‭ ‬العنكبوتية،‭ ‬أو‭ ‬الإنترنت،‭ ‬والتي‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬نتيجة‭ ‬التقاء‭ ‬عالمين‭ ‬مختلفين،‭ ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬أنهما‭ ‬متضادان،‭ ‬عالم‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬العسكري،‭ ‬وعالم‭ ‬مكون‭ ‬من‭ ‬باحثين‭ ‬في‭ ‬الإعلاميات،‭ ‬وهذا‭ ‬المجتمع‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬ابتكر‭ ‬أول‭ ‬الحواسيب،‭ ‬معتمدين‭ ‬على‭ ‬التنسيق‭ ‬فيما‭ ‬بينهم،‭ ‬وموظفين‭ ‬لمهارتين‭ ‬أساسيتين،‭ ‬الذكاء‭ ‬والابتكار،‭ ‬والرقمي‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرة‭ ‬فلسفية،‭ ‬يعكس‭ ‬وجه‭ ‬الشبكة،‭ ‬والتي‭ ‬يقتضي‭ ‬الانخراط‭ ‬فيها‭ ‬الارتكاز‭ ‬على‭ ‬أربعة‭ ‬أشكال‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تصور‭ ‬الإنترنت،‭ ‬أولًا‭ ‬فكرة‭ ‬الخدمة،‭ ‬التي‭ ‬تتوقف‭ ‬على‭ ‬المزايا،‭ ‬ثانيًا‭ ‬فكرة‭ ‬الاحتجاب،‭ ‬حيث‭ ‬يصبح‭ ‬الرقمي‭ ‬بيئة‭ ‬معيشية،‭ ‬أما‭ ‬الفكرة‭ ‬الثالثة‭ ‬فهي‭ ‬متعلّقة‭ ‬بمفهوم‭ ‬اختلال‭ ‬الإنترنت،‭ ‬الذي‭ ‬تصبح‭ ‬فيه‭ ‬سهولة‭ ‬تداول‭ ‬المعلومة،‭ ‬وكذلك‭ ‬مصادرتها‭ ‬أمرًا‭ ‬سريعًا،‭ ‬وأما‭ ‬الفكرة‭ ‬الرابعة‭ ‬فهي‭ ‬تتعلّق‭ ‬بتجربة‭ ‬المعرفة‭ ‬التي‭ ‬تعتبر‭ ‬أصيلة‭ ‬وغير‭ ‬مسبوقة‭.‬

 

علاقة‭ ‬الرقمي‭ ‬بالمجتمع

بعد‭ ‬تحديد‭ ‬معنى‭ ‬الرقمي،‭ ‬يشير‭ ‬الكاتب‭ ‬إلى‭ ‬علاقة‭ ‬الرقمي‭ ‬بالمجتمع،‭ ‬ويؤكد‭ ‬أنهما‭ ‬يتداخلان‭ ‬بشكل‭ ‬وثيق‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الرقمي،‭ ‬وبذلك‭ ‬يصبح‭ ‬للتقني‭ ‬دور‭ ‬في‭ ‬ثقافتنا،‭ ‬ويصبح‭ ‬للرقمي‭ ‬دور‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬عميق‭ ‬لمعارفنا‭ ‬ومدركاتنا،‭ ‬ويصبح‭ ‬للتكنولوجيا‭ ‬طابع‭ ‬على‭ ‬ذواتنا،‭ ‬وهذا‭ ‬ربما‭ ‬أصبح‭ ‬الآن‭ ‬أكثر‭ ‬اتضاحًا‭ ‬من‭ ‬ذي‭ ‬قبل،‭ ‬حيث‭ ‬أصبح‭ ‬الإنسان‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬في‭ ‬المرتبة‭ ‬الأولى،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الحجْر‭ ‬الصحي‭.‬

والتكنولوجيا‭ ‬والمجتمع،‭ ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬الكاتب،‭ ‬هما‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تفاعل‭ ‬مستمر‭ ‬ودائم،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬ظهور‭ ‬ما‭ ‬يُطلق‭ ‬عليه‭ ‬بالفردانية‭ ‬المرتبطة،‭ ‬وذلك‭ ‬بفضل‭ ‬التحولات‭ ‬التي‭ ‬تطرأ‭ ‬على‭ ‬المجتمع،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬أعطت‭ ‬للفرد‭ ‬الفاعل‭ ‬حريّة‭ ‬إثبات‭ ‬ذاته‭ ‬والتعبير‭ ‬عنها،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تصفّح‭ ‬المدونات‭ ‬والمواقع‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬المعلومة‭ ‬التي‭ ‬يريد‭.‬

أما‭ ‬علاقة‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الجديدة‭ ‬بالاقتصاد،‭ ‬فيرى‭ ‬الكاتب‭ ‬أنها‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬ظهور‭ ‬أشكال‭ ‬جديدة‭ ‬للتسويق،‭ ‬وهي‭ ‬ما‭ ‬أصبح‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬السوق‭ ‬الرقمية،‭ ‬حيث‭ ‬أصبحت‭ ‬لهذه‭ ‬السوق‭ ‬مميزاتها‭ ‬الخاصة،‭ ‬أهمّها‭ ‬وفرة‭ ‬العرض،‭ ‬وذلك‭ ‬أنها‭ ‬تضع‭ ‬أمام‭ ‬المستهلك‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المنتجات‭ ‬الثقافية‭ ‬الأكثر‭ ‬انتشارًا،‭ ‬وذلك‭ ‬بتوظيف‭ ‬جاذبية‭ ‬المواقع،‭ ‬مثل‭ ‬أمازون‭ ‬ويوتيوب،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬السوق‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬استراتيجية‭ ‬معيّنة‭ ‬في‭ ‬التسويق،‭ ‬أهمها‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬تقييم‭ ‬التسجيلات،‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬تقديم‭ ‬العرض‭ ‬وفق‭ ‬منطق‭ ‬الخدمة،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬سيظهر‭ ‬ما‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬اقتصاد‭ ‬الاهتمام،‭ ‬الذي‭ ‬يركز‭ ‬على‭ ‬المستهلك‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬في‭ ‬أعين‭ ‬المنتجين‭ ‬مساهمًا‭ ‬حقيقيًا‭ ‬ومروّجًا‭ ‬للمعلومة‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬السوق‭ ‬تعتمد‭ ‬بالأساس‭ ‬على‭ ‬الرؤية،‭ ‬حيث‭ ‬يصبح‭ ‬شعار‭ ‬‮«‬ليس‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬إبداعيًا‭ ‬أو‭ ‬أصيلًا،‭ ‬بل‭ ‬الأهم‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مرئيًا‮»‬‭ ‬له‭ ‬أهميته،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬السوق‭ ‬تخلق‭ - ‬بلا‭ ‬شك‭ - ‬فارقًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الدخول،‭ ‬وبذلك‭ ‬فليس‭ ‬الجميع‭ ‬يملك‭ ‬الأهلية‭ ‬للاستفادة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المنتجات‭ ‬الرقمية‭ ‬المتوافرة‭.‬

 

قطيعة‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة

‭ ‬يرصد‭ ‬الكاتب،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجانب،‭ ‬ظهور‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الشبكات‭ ‬التي‭ ‬بدأ‭ ‬ظهورها‭ ‬مع‭ ‬نهاية‭ ‬التسعينيات،‭ ‬والتي‭ ‬يطلق‭ ‬عليها‭ ‬الشبكات‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬سيسيو‭ ‬ثقافية‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تُعرف‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬مواقع‭ ‬للتواصل،‭ ‬حيث‭ ‬تشجع‭ ‬المستخدمين‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬بياناتهم‭ ‬الشخصية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بتعريف‭ ‬فريد،‭ ‬حتى‭ ‬يستطيع‭ ‬الآخرون‭ ‬الاطلاع‭ ‬عليها،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬يمكنهم‭ ‬بدورهم‭ ‬إضافة‭ ‬بعض‭ ‬المضامين‭.‬

ويورد‭ ‬الكاتب‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الملاحظين‭ ‬يرون‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الشبكات‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬سيسيو‭ ‬ثقافية‮»‬‭ ‬تخلق‭ ‬قطيعة‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬مع‭ ‬الطرق‭ ‬العلائقية‭ ‬السابقة،‭ ‬حيث‭ ‬بدأت‭ ‬تظهر‭ ‬أنواع‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬العلائق‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬كالمؤانسة،‭ ‬والتي‭ ‬ساهمت‭ ‬فيها‭ ‬أدوات‭ ‬جديدة‭ ‬كأدوات‭ ‬اتصال‭ ‬المجموعات‭.‬

أهم‭ ‬هذه‭ ‬المواقع‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬تظهر‭ ‬منذ‭ ‬التسعينيات،‭ ‬هي‭ ‬المدونات،‭ ‬التي‭ ‬لفتت‭ ‬الانتباه‭ ‬إليها‭ ‬بشكل‭ ‬كبير،‭ ‬وكذلك‭ ‬النمو‭ ‬المذهل‭ ‬لوسائط‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬التي‭ ‬أعطيت‭ ‬إمكانية‭ ‬للمستعملين‭ ‬أن‭ ‬يمتلكوا‭ ‬أصدقاء‭ ‬افتراضيين‭ ‬يشاركونهم‭ ‬اهتماماتهم،‭ ‬وبذلك‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬المواقع‭ ‬أعطت‭ ‬فرصة‭ ‬جديدة‭ ‬للأشخاص‭ ‬للتعريف‭ ‬بذواتهم‭ ‬والحديث‭ ‬عنها،‭ ‬فأصبح‭ ‬الشخص،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬هويته‭ ‬الحقيقية،‭ ‬يتمتّع‭ ‬بهوية‭ ‬افتراضية،‭ ‬وبذلك‭ ‬أصبح‭ ‬في‭ ‬إمكاننا‭ ‬حجب‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬يعرفه‭ ‬الآخرون‭ ‬عنّا‭.‬

‭ ‬وعمومًا،‭ ‬فإن‭ ‬الاستخدام‭ ‬لهذه‭ ‬المواقع‭ ‬أصبح‭ ‬يتم‭ ‬وفق‭ ‬أشكال‭ ‬ثلاثة؛‭ ‬التعبيرية،‭ ‬والمنطق‭ ‬العلائقي،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬الاعتراف،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬طغيان‭ ‬النرجسية،‭ ‬لكنّ‭ ‬هذه‭ ‬الشبكات‭ ‬تبقى‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬وسيلة‭ ‬لإنشاء‭ ‬علاقات‭ ‬اجتماعية‭ ‬جديدة،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬تجاهل‭ ‬الخطورة‭ ‬المحتملة‭ ‬من‭ ‬إعطاء‭ ‬المعلومات‭ ‬الشخصية‭ ‬الوافرة،‭ ‬دون‭ ‬الاكتراث‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تستعمل‭ ‬فيه‭.‬

 

وفرة‭ ‬إبداعية

أما‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الوفرة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬فإن‭ ‬الثورة‭ ‬الرقمية‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬دور‭ ‬بارز‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬كذلك،‭ ‬حيث‭ ‬ظهرت‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المواقع‭ ‬المتعلّقة‭ ‬بتقاسم‭ ‬المضامين،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬موسيقى‭ ‬أو‭ ‬صوراً،‭ ‬أو‭ ‬فيديوهات،‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬ذلك،‭ ‬مثل‭ ‬يوتيوب،‭ ‬ديلي‭ ‬موشن،‭ ‬وكذلك‭ ‬فليكر،‭ ‬وجميع‭ ‬هذه‭ ‬المواقع‭ ‬شهدت‭ ‬نجاحًا‭ ‬باهرًا‭.‬

والفكرة‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬عليها‭ ‬هذه‭ ‬المواقع‭ ‬هي‭ ‬جعل‭ ‬المستهلك‭ ‬مساهمًا‭ ‬بدوره،‭ ‬وبذلك‭ ‬فهي‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬ظهور‭ ‬ثقافة‭ ‬التقاسم،‭ ‬مستغلة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الدخول‭ ‬الحُر‭ ‬للإنترنت‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬يتمتع‭ ‬به‭ ‬الناس،‭ ‬فظهرت‭ ‬أهم‭ ‬الابتكارات،‭ ‬وهي‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬ويكي‮»‬،‭ ‬وتعدّ‭ ‬نظامًا‭ ‬لتدبير‭ ‬مواقع‭ ‬الويب‭ ‬التشاركية،‭ ‬وهي‭ ‬آلية‭ ‬للكتابة‭ ‬تتم‭ ‬بشكل‭ ‬تعاوني،‭ ‬وتسمح‭ ‬للمستخدمين‭ ‬بالدخول‭ ‬إلى‭ ‬المحتوى‭ ‬وتغييره‭.‬

كل‭ ‬هذا‭ ‬أعطى‭ ‬فرصة‭ ‬أكثر‭ ‬لظهور‭ ‬الهواة،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬وفرة‭ ‬إبداعية‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬المجلات‭ ‬الإبداعية،‭ ‬سواء‭ ‬مجال‭ ‬الموسيقى،‭ ‬حيث‭ ‬ظهر‭ ‬موقع‭ ‬مساحتي،‭ ‬أو‭ ‬مجال‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬أو‭ ‬مجال‭ ‬الصور‭ ‬والفيديوهات،‭ ‬أو‭ ‬ألعاب‭ ‬الفيديو‭ ‬والمجموعات،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬طفرة‭ ‬ثقافية‭ ‬نوعية،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬الكاتب‭ ‬يتساءل‭: ‬هل‭ ‬شهدت‭ ‬الممارسات‭ ‬الثقافية‭ ‬الحديثة‭ ‬قطيعة‭ ‬ثقافية‭ ‬مع‭ ‬الممارسات‭ ‬الأخرى،‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬مجرد‭ ‬تحوّل،‭ ‬أو‭ ‬مرور‭ ‬تدريجي‭ ‬من‭ ‬تشكيل‭ ‬ثقافي‭ ‬إلى‭ ‬آخر؟‭ ‬ليؤكد‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬مجرد‭ ‬تحوّل،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬تحول‭ ‬عميق،‭ ‬يستدعي‭ ‬منّا‭ ‬التعامل‭ ‬معه‭ ‬بحيطة‭ ‬ووعي‭ ‬تام‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬يجعلنا‭ ‬نفكر‭ ‬أو‭ ‬نتساءل‭ ‬عن‭ ‬مصير‭ ‬الثقافة‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الرقمي،‭ ‬وأهمها‭ ‬الكتابة‭ ‬والقراءة،‭ ‬التي‭ ‬تحولت‭ ‬عبر‭ ‬عصور‭ ‬الإنسانية‭ ‬من‭ ‬النقش‭ ‬على‭ ‬الطين‭ ‬والحجر،‭ ‬إلى‭ ‬الحبر،‭ ‬ثم‭ ‬لوحات‭ ‬الكتابة‭.‬

الآن‭ ‬نعيش‭ ‬عصر‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬الشاشة،‭ ‬وغدًا‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬استعمال‭ ‬أيدينا‭ ‬للكتابة،‭ ‬بل‭ ‬يكفي‭ ‬فقط‭ ‬ربما‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬يطرح‭ ‬تحديات‭ ‬كبيرة،‭ ‬سواء‭ ‬عن‭ ‬أنماط‭ ‬القراءة‭ ‬الرقمية‭ ‬الجديدة،‭ ‬وعن‭ ‬جدواها،‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬قراءة‭ ‬متأنية‭ ‬أو‭ ‬مجرد‭ ‬قراءة‭ ‬مفتتنة،‭ ‬ثم‭ ‬التساؤل‭ ‬عن‭ ‬مستقبل‭ ‬الكتاب‭ ‬الورقي،‭ ‬بعدما‭ ‬غزا‭ ‬الرقمي‭ ‬السوق،‭ ‬خاصة‭ ‬متجر‭ ‬أمازون‭ ‬وآبل،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يجعلنا،‭ ‬أخيرًا،‭ ‬نفكر‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬الدماغ‭ ‬البشري؛‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬مستعد‭ ‬للتأقلم‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬الجديد،‭ ‬الذي‭ ‬تشير‭ ‬الدراسات‭ ‬الأخيرة‭ - ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬يورد‭ ‬المؤلف‭ - ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الدماغ‭ ‬مستعد‭ ‬لذلك؟

 

تطوّر‭ ‬باهر

لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬أمام‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬الباهر‭ ‬الذي‭ ‬شهده‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬الإنساني‭ ‬بفضل‭ ‬التكنولوجيا،‭ ‬فإن‭ ‬قطاع‭ ‬الإعلام‭ ‬بمختلف‭ ‬مجالاته‭ ‬ودوره‭ ‬في‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬الرأي‭ ‬العام،‭ ‬سيشهد‭ ‬تغيرًا‭ ‬ملحوظًا‭ ‬أيضًا،‭ ‬حيث‭ ‬عرفت‭ ‬الساحة‭ ‬الإعلامية‭ ‬منعطفات‭ ‬جديدة،‭ ‬أهمها‭ ‬ظهور‭ ‬بيئة‭ ‬إعلامية‭ ‬جديدة،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الوسائل‭ ‬التقليدية،‭ ‬مثل‭ ‬الصحف،‭ ‬والتلفاز،‭ ‬أو‭ ‬المذياع،‭ ‬هي‭ ‬الوسيط‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مصدرًا‭ ‬للخبر،‭ ‬بل‭ ‬زاحمتها‭ ‬مواقع‭ ‬إلكترونية‭ ‬عدة،‭ ‬فأصبح‭ ‬المستهلك‭ ‬للمعلومة‭ ‬يتوفّر‭ ‬على‭ ‬عدة‭ ‬مصادر،‭ ‬وهذا‭ ‬يطرح‭ ‬إشكاليات‭ ‬وتحديات‭ ‬عديدة‭ ‬أيضًا،‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬القطاعات،‭ ‬مثل‭ ‬قطاع‭ ‬الصحافة،‭ ‬الذي‭ ‬سيعرف‭ ‬تحولاً‭ ‬كبيرًا‭ ‬أيضًا‭.‬

أمام‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬المذهل،‭ ‬سعت‭ ‬الصحافة‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬موطئ‭ ‬قدم‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الساحة‭ ‬الثقافية‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬تتشكل،‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الصحافة‭ ‬ستتحول‭ ‬إلى‭ ‬صحافة‭ ‬رقمية‭ ‬بدورها،‭ ‬كما‭ ‬ستظهر‭ ‬صحافة‭ ‬رقمية‭ ‬جديدة‭ ‬أيضًا،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬ظهور‭ ‬أنواع‭ ‬من‭ ‬الصحافة،‭ ‬مثل‭ ‬الصحافة‭ ‬التجارية‭ ‬التي‭ ‬تعالج‭ ‬الموضوعات‭ ‬وفق‭ ‬تطلعات‭ ‬الجمهور،‭ ‬والصحافة‭ ‬المتعددة‭ ‬الاختصاصات،‭ ‬أو‭ ‬الصحافة‭ ‬الجالسة‭ ‬الذي‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬توفير‭ ‬المعلومة‭ ‬وتنظيمها،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تسويقها،‭ ‬وكذلك‭ ‬الصحافة‭ ‬التفاعلية،‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تنصت‭ ‬إلى‭ ‬انتقادات‭ ‬الجمهور‭ ‬وتتفاعل‭ ‬معه،‭ ‬موظّفةً‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬أو‭ ‬تقنية‭ ‬التعليق‭ ‬على‭ ‬الخبر،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬تطوّر‭ ‬التقنية،‭ ‬وخاصة‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بمواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬أعطى‭ ‬فرصة‭ ‬للجمهور‭ ‬ليمارس‭ ‬بدوره‭ ‬مهمة‭ ‬الإعلام،‭ ‬عبر‭ ‬توثيق‭ ‬ما‭ ‬يحيط‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أحداث‭.‬

في‭ ‬الأخير،‭ ‬يمكن‭ ‬التساؤل‭ ‬عن‭ ‬دور‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭ ‬التقنية‭ ‬في‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬ويورد‭ ‬الكاتب‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬فئتين،‭ ‬الأولى‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التقنية‭ ‬هي‭ ‬وسيلة‭ ‬لإعطاء‭ ‬الكلمة‭ ‬للشعوب‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬حقها،‭ ‬كما‭ ‬أنّها‭ ‬تسهّل‭ ‬عملية‭ ‬التواصل‭ ‬والحوار‭ ‬بين‭ ‬الشعب‭ ‬والنُّخب‭ ‬السياسية‭ ‬بشتى‭ ‬أطيافها،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬فئة‭ ‬ثانية،‭ ‬وهي‭ ‬أكثر‭ ‬تشاؤمًا،‭ ‬إذ‭ ‬تنظر‭ ‬بعين‭ ‬الريب‭ ‬إلى‭ ‬الوضع‭ ‬الجديد،‭ ‬وهذا‭ ‬التجاذب‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬قديم،‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬الكاتب،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الدراسات‭ ‬الحديثة‭ ‬تحاول‭ ‬تجاوز‭ ‬ذلك‭ ‬التعارض،‭ ‬بمحاولة‭ ‬فهم‭ ‬الكيفية‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بها‭ ‬أجهزة‭ ‬الربط‭ ‬بإعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬طرق‭ ‬المشاركة‭ ‬السياسية‭.‬

 

‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬والحملات‭ ‬السياسية

يورد‭ ‬الكاتب،‭ ‬في‭ ‬الأخير،‭ ‬نموذجين‭ ‬لطرق‭ ‬توظيف‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬في‭ ‬الحملات‭ ‬السياسية،‭ ‬النموذج‭ ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬المثال‭ ‬الأمريكي،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬الحملة‭ ‬الانتخابية‭ ‬الرقمية‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬السابق‭ ‬بارك‭ ‬أوباما‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬،‭ ‬والتي‭ ‬أثارت‭ ‬الانتباه‭ ‬بشأن‭ ‬التأثير‭ ‬الحاسم‭ ‬الذي‭ ‬أحدثته،‭ ‬وذلك‭ ‬بتوظيف‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬الحملة‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬شهد‭ ‬هذا‭ ‬الميدان،‭ ‬بدوره،‭ ‬تطورًا‭ ‬ملحوظًا،‭ ‬والمثال‭ ‬الثاني‭ ‬هو‭ ‬المثال‭ ‬الفرنسي‭ ‬في‭ ‬عام،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الحملة‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬الرئيس‭ ‬الفرنسي‭ ‬السابق‭ ‬نيكولا‭ ‬ساركوزي،‭ ‬والتي‭ ‬بيّنت‭ ‬الدراسات‭ ‬أيضًا‭ ‬دور‭ ‬‮«‬الإنترنت‮»‬‭ ‬في‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬الناخبين،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يوظف‭ ‬‮«‬الإنترنت‮»‬‭ ‬بغرض‭ ‬الحوار،‭ ‬بل‭ ‬وظّفت‭ ‬بغرض‭ ‬حشد‭ ‬المؤيدين،‭ ‬لمصلحة‭ ‬الرئيس،‭ ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬الكاتب‭ ‬أيضًا‭.‬

قد‭ ‬يكون‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬معلومًا‭ ‬للقارئ،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يعترف‭ ‬به‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬كتابه،‭ ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يأتِ‭ ‬بمعلومات‭ ‬جديدة،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬أعطى‭ ‬قراءة‭ ‬تركيبية‭ ‬للواقع‭ ‬الرقمي‭ ‬الجديد،‭ ‬وتأثيره‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الثقافي‭.‬

هذا‭ ‬الواقع‭ ‬الرقمي‭ ‬ربما‭ ‬تكون‭ ‬له‭ ‬مزايا‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬حياتنا،‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬يختصر‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬التعامل‭ ‬معه‭ ‬بحيطة‭ ‬وحذر،‭ ‬قد‭ ‬يصبح‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬منطقة‭ ‬معتمة،‭ ‬من‭ ‬يدخلها‭ ‬بغير‭ ‬كشّاف،‭ ‬قد‭ ‬يصعب‭ ‬عليه‭ ‬الخروج‭ ‬منها،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬ينبغي‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬ندرك‭ ‬أنّ‭ ‬أي‭ ‬وسيلة‭ ‬نستعملها‭ ‬تحمل‭ ‬بصمة‭ ‬مصممها‭ ‬ورؤيته،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬التعامل‭ ‬بحذَر‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬المنتجات‭ ‬الجديدة،‭ ‬فإننا‭ ‬نكون‭ ‬قد‭ ‬سقطنا‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬المنطقة‭ ‬المعتمة‭ ‬‭■