وداعًا قائد العمل الإنساني

وداعًا قائد العمل الإنساني

كان صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد – يرحمه الله – من أبرز رجالات الحُكم في تاريخ الكويت المعاصر، الذين امتزجت رؤاهم السياسية والحضارية بمواقفهم الوطنية والقومية، واجتهدوا في تحقيق الغايات والأهداف التي التقت عليها إرادة الشعب الكويتي، تلك الغايات والأهداف التي تنطلق من ذلك التواصل الحميم بين أبناء الكويت من ناحية، والأسرة الحاكمة من ناحية أخرى،
فأثمر كل ذلك عمقًا في العلاقات وقوةً في التماسك والتلاحم كشفت عنه مسيرة حافلة بالإنجاز والتميز.
لم يقتصر الأثر الذي تركه الأمير الراحل على النطاق المحلي، بل تجاوز ذلك إلى النطاق الإقليمي والدولي؛ ففي عهده تضاعفت المساهمات التطوعية للكويت في المنظمات الدولية المختلفة، وخصوصًا تلك المعنية بالشأن الإنساني، وازداد حجم المساعدات الإغاثية للدول المتضررة من الحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية، واستضافت الكويت ثلاثة مؤتمرات للمانحين لدعم الوضع الإنساني في سورية (2013 - 2016م)، وشاركت في مؤتمر رابع بلندن لهذا الغرض، وكان مجمل ما قدمته الكويت في هذا المجال نحو 1.6 مليار دولار.
واستضافت الكويت في يوليو عام 2017 «مؤتمر الكويت الدولي لإعادة إعمار وتنمية العراق»، الذي تعهدت فيه بتقديم ملياري دولار لهذا الغرض.
وهذه النماذج التي قدّمناها ليست سوى غيض من فيض العطاء الذي قدمته الكويت خلال حكم سمو الأمير الراحل، والتي استحق عنها، بجدارة، لقب «قائد العمل الإنساني»، كما استحقت الكويت أن تُعدَّ «مركز العمل الإنساني»، وهو أول زعيم دولة ينال هذا اللقب من قبل منظمة الأمم المتحدة، وتنال دولته هذه التسمية.
وُلد سمو الشيخ صباح الأحمد عام 1929م، وتلقى تعليمه الأوّلي في المدرسة المباركية، وهي أول مدرسة نظامية بالكويت، وقد اهتمّ والده بتثقيفه ثقافة عالية على أيدي أساتذة مختصين استقدمهم لأجل أبنائه، وفي أول شبابه أوفده والده مع أخيه الشيخ جابر إلى عدد من دول العالم لاكتساب الخبرات والمهارات السياسية وتَعرُّف الأنظمة السياسية والاجتماعية في الدول المختلفة.
وفي عام 1954م بدأ سمو الشيخ صباح تمرسه في العمل العام، عندما أصدر المغفور له، سمو الشيخ عبدالله السالم الصباح، أمرًا بتعيينه عضوًا في اللجنة التنفيذية العليا، التي عُهد إليها بمهمة تنظيم مصالح الحكومة ودوائرها الرسمية ووضع خطط عملها، ومتابعة تنفيذ تلك الخطط، ومن الاطلاع على محاضر تلك اللجنة وقراءة ملاحظاته التي أبداها على ما عُرض عليها من أمور، تتضح لنا معالم تلك الشخصية وقدراتها العملية، وكل ذلك ظهر جليًا فيما بعد حينما أسندت إليه مهام بعينها؛ من مثل دائرة الشؤون الاجتماعية، ودائرة المطبوعات والنشر، وبعد ذلك وزارة الإرشاد والأنباء، ووزارة الخارجية التي تقلدها عام 1963م، وقد أهّلته السنوات التي قضاها في هذه الوزارة لكي يكون بلا جدال رجل السياسة الخارجية الكويتية الأول، وعميد الدبلوماسية على مستوى العالم؛ ليس بسبب المدة الطويلة التي قضاها في هذا العمل فحسب، بل وللخبرة المميزة التي عُرف بها بين نُظَرائه في دول العالم كافة. 
وفي عام 2003م، تم تكليفه تشكيل الوزارة، فأصبح رئيسًا للسلطة التنفيذية في البلاد، وبعد نحو ثلاث سنوات، أصبح أميرًا للكويت، في 29 يناير 2006م، وكانت مرحلة تاريخية جديدة من حياته العملية جعلت الكويت جميعها تزداد يقينًا بقدراته وتتلاقى على محبته، لما قدّمه من عطاء وطني خلال ممارسته مسؤولياته السابقة على مدى ما يزيد على أربعة عقود من تاريخ الكويت المعاصر.

أبرز أعماله
من الصعب الإحاطة بأعمال رجل قضى معظم سنوات عمره في العمل الإداري والسياسي، وترك بصمات قوية في مختلف نواحي الحياة بالكويت، إضافة إلى مساهمته على المستوى الدولي في العمل السياسي الذي يشهد له بالكفاءة والعطاء. وسيقتصر حديثنا هنا على بيان آثاره على الجانبين الثقافي والسياسي.

أولًا: الجانب الثقافي 
حينما نتكلم عمّا قدمه سمو الأمير الراحل في مجال الثقافة، لا بدّ لنا من العودة إلى خمسينيات القرن الماضي حينما كان مديرًا لدائرة المطبوعات والنشر، فقد استقطب من خلال تلك الدائرة خيرة المثقفين من الكويت ومن الوطن العربي، وقد تم تحت إشرافه المباشر:
- إصدار جريدة «الكويت اليوم» الرسمية التي توثق القرارات الحكومية وتعلنها وتبينها للناس.
- إنشاء لجنة لتدوين تاريخ الكويت برئاسته عام 1958م، بهدف إصدار أول تاريخ رسمي للبلاد.
- إنشاء مطبعة حديثة هي «مطبعة الحكومة»، التي كانت في وقتها من أفضل المطابع وأكبرها في الشرق الأوســـط، والحرص على أن تكون إدارتها بأيدي عدد من الشباب الكويتيين تم إرسالهم إلى ألمانيا للتدريب على تشغيل تلك الآلات والتعامل معها.
- إنشاء مجلة العربي واستقطاب خيرة الأقلام العربية لها، حتى أصبحت المجلة الثقافية الأولى في الوطن العربي، لما تحويه من مقالات واستطلاعات لمناطق مختلفة من أرجاء الوطن العربي وخارجه، واستقطبت لها خيرة الأقلام العربية، وقد بدأ إصدار هذه المجلة في عام 1958م، وما زالت مستمرة في عطائها إلى يومنا هذا.
- إصدار السلسلة التراثية التي ضمت عشرات كتب التراث العربي.
- كان الداعم للمواسم الثقافية التي أقيمت بالكويت في أواخر خمسينيات وأوائل ستينيات القرن الماضي، التي دُعي إليها علماء وباحثون من كل أرجاء الوطن العربي. وتم إصدار عدة مجلدات حَوَتْ محاضراتهم وأبحاثهم، وكان ذلك هو أول تجمّع ثقافي من نوعه في الخليج العربي.
- كان على الدوام في مقدمة المكرِّمين للباحثين والفائزين بالجوائز العلمية والثقافية، وكان يحرص، رغم مشاغله الكثيرة والكبيرة، على استقبال كل من يود أن يهدي إليه كتابًا أو عملًا علميًا.

ثانيًا: الجانب السياسي 
اتسمت السياسة الكويتية الخارجية في عهد سمو الشيخ صباح الأحمد بنهج قويم في أسلوب تعاملها مع شتى القضايا والمشكلات، وهو نهج التفاوض والمساعي الحميدة، مما جعل الكويت مفاوضًا ووسيطًا مشهودًا له بالنجاح.
وفي مقدمة العوامل التي صاغت هذا النهج المصداقية في السلوك وفق مواثيق المنظمات الإقليمية والدولية، تلك المصداقية التي أكسبت الكويت احترامًا دوليًا ومكانة رفيعة، إضافة إلى عدم ارتهان السياسة الكويتية لأي جهة أو اتجاه، مما جعل تحرُّكها السياسي وفق المبادئ والمُثل المعلنة تحركًا حرًا لا تحده قيود، ولا يخضع لأي توجهات غير وطنية، مما أقنع الأطراف المتعاملة معها بالاطمئنان إلى سلامة الموقف والسلوك.
وبفضل موهبة الشيخ صباح الأحمد وخبرته الطويلة وصداقته التي عقدها مع عديد من زعماء العالم ومسؤوليه، والثقة التي نالها نتيجة مصداقية تحركاته، تحقق له التوفيق في حل العديد من النزاعات وإدارة الحوار مع الأطراف فيها، وقد اضطلع بكل ذلك مؤكدًا نهجه الثابت في أن الحوار والتفاوض هما الأسلوب الأنسب للوصول إلى النتائج المأمولة.
ويذكر في هذا المجال دوره الكبير في إنشاء اتحاد الإمارات العربية، وفي تحقيق استقلال البحرين، وجهوده في الوساطة بين باكستان وبنغلادش، ودوره في لجنة المساعي الحميدة لحل الأزمة اللبنانية، ودوره في المسألة اليمنية، وغير ذلك من الأعمال الهادفة إلى نشر الأمن والسلام وتغليب روح الحوار البنّاء.
ولقد كان لي شرف العمل مع أميرنا الراحل في فترتين وزاريتين، ووجدت فيه الأب والأخ الكبير، فكان يمد كل من حوله بالنصح والإرشاد، ويزرع فيهم الثقة، ويحضُّهم على العمل، وكان حريصًا على المواطنين في جميع شؤونهم ومتطلباتهم، وكان اهتمامه بموضوع التعليم من الأمور التي يحرص عليها ويؤكدها كلما سنحت الاجتماعات معه، وكان اهتمامه بجمعية المعلمين وأنشطتها من الأشياء التي لا تغادر أجندته العملية.
وحينما أصبحت في مركز البحوث والدراســـات الكويتية وجدت فيه أكبر الداعمين لهذا المركز وتوجهاته التي تتفق مع اهتمامه بتوثيق تاريخ الكويت ومسارها الحضاري.
ولا أنسى سعادته بحصولي على جائزة مؤسسة الملك فيصل العالمية، وقــد عبّر عن ذلك بقوله «إنني فـــرح أكثر منــك يا عبدالله».
رحمــــه الله وغــــفر له وأسكـــنه فســـيح جنــــاته ■