الحياة... صور منسيّة
في هاتفك بضعة آلاف من الصور..
في حاسوبك الآلاف غيرها.
تلتقط كلّ يوم المزيد، لأنّ الكاميرا في جيبك تتّسع للمزيد، وتتطور التقنية لتمنحك ذاكرات أشد اتساعًا في هاتفك الذي لم يعد هاتفًا، بل مجموعة أجهزة تحملها مثنى وثلاثًا.
تصوّر، وتصوّر، وتصوّر المزيد والمزيد... إنما لا تنتبه لشيء واحد مهم: ذاكرتك لا تتّسع لتتذكر كل ذلك وإن اتسعت ذاكرات هواتفك المتغيّرة والمتبدلة.
في كل ضغطة زرّ تريد أن توثّق لحظة تراها مهمة لتبقى، تلتقط أكثر من صورة، وتحاول أن تبقي الأفضل، ثم تنسى، وتتكدس الأرقام، وتحاول بعد حين من الذاكرة أن تمسح ما استطعت، ضاغطًا على أعصابك لتقبل بذلك، ولو على مضض، فستبقي الأكثر، وكأنك لم تكن أنت الذي تعب في التقاط كل تلك الأعداد المهولة، بحسابات زمن الكاميرا قبل نحو عقدين أو أكثر.
إنّما السؤال: لتبقى إلى متى؟ من أجل ماذا؟! والسؤال الذي تحسبه مجرد (واحد فقط) تتفرّع منه أخرى، وبينها: هل وجدت الوقت لتعود إلى بعضها ولو قليلًا، أم أنك مندفع لتحتفظ بمئات أخرى، وتضيق المساحة، وترمي الهاتف، هذا إذا لم تفقده أصلًا، لتأتي بالآخر، وتكرّ مسبحة الصور إلى ما لا نهاية، وربما لا تبقى حتى صورتك في هواتف أقرب أصدقائك إلّا لفترة من الوفاء، ثم تلحقك إلى العدم، لتصبح نسيًا منسيًّا، لما التقطته من عشرات الآلاف من الصور، وما التقطوه لك صورة كاملة، أو ظاهرًا في جزء من المشهد، قد يبقى في ذاكرة «فيسبوك» وإخوته، لكن مَن يملك الوقت ليستعيد؟!
من المثير أننا نحتفظ بالصور القادمة من السبعينيات وما بعدها، ذاكرة الورق التي لا تغدر رغم ضعف إمكاناتها، حيث لكلّ صورة ثمن، الفيلم الذي قيمته نحو ريال واحد، وبه 24 صورة، ثم تطوّرت إلى 36 صورة، وغالبًا لا تظهر كلها بعد التحميض والطباعة، والتي لها ثمنها أيضًا.
لكنّنا لا نرى على الورق صور اليوم، نكتفي ببقائها افتراضية خلف الشاشة، مع أنّ حضورها على الورق له عبق لا يعرفه إلّا من عاش لذة إمساكه بـ «كدس» صور بين يديه يقرأها لوحة لوحة، هذه حلوة، هذه مهزوزة، هذه بالكاد نعرف مَن فيها، وهكذا، وكانت الوجوه تكاد تنطق بملامح اللحظة التي كبست على الزرّ في وقت ما لتوثّقه بعاطفة يكاد القلب يقولها.
كانت الصور قليلة جدًا، واكتسبت قيمتها من تلك «القلّة»، فكلّ رقم محسوب، وحينما تكاثرت فقدت تلك القيمة، مع أنها لا تقارن من حيث الجودة بما كانت عليه سابقاتها زمن (البولارويد) الفورية، أو ذات الأفلام التي تسكن قلبها كجنين أو حزمة مطوية على سواد سينطق بضوء الصورة في لحظة ما.
تذكرت صديقًا حصل على صورة صغيرة جدًا بالأبيض والأسود لبنت من بنات قريتهم، كان سعيدًا يخبئ الصورة، باعتبارها «الحيازة اللاجسدية»، كما وصفها إيتالو كالفينو في روايته «لو أنّ مسافرًا في ليلة شتاء».
رشّة أخيرة:
صلاتك محرابي.
كيف أنسى..
ركعتين بين يديك.
أو أنسى، حين لا تبقى ذاكرة...
تسبيحة عشق
قرأتهما في عينيك؟! ■