أوراق علمية تهدد العلم! رجب سعد السيد

أوراق علمية تهدد العلم!

قضية..
لا غنى للعلم والعلماء عن المجلة العلمية، فهي أداة ضرورية في قائمة مستلزمات البحث العلمي. لقد كان الكيميائي البريطاني "وليام جريجور" هو أول من اكتشف عنصر التيتانيوم في عام 1791. وجاء الكيميائي الألماني "مارتن كلابروث" في عام 1795 ليعثر على المعدن نفسه في خام مختلف. ولم تكن وسائل النشر العلمي متاحة بما فيه الكفاية، فمرت سنتان كاملتان قبل أن يدرك جريجور وكلابروث أنهما اكتشفا المعدن نفسه! هذه القصة تشير إلى طرف من مشكلات النشر العلمي، والمقال يشير إلى غيرها.

يرجع تاريخ ظهور أول مجلة علمية إلى ما يقرب من 300 سنة. ومع الإيقاع السريع لخطى التقدم العلمي، ونشأة علوم جديدة، تزايدت الحاجة إلى وسائل الاتصال بين العلماء، فتعاظمت أهمية المجلة العلمية، ونشطت الهيئات والمؤسسات العلمية إلى إصدار مجلاتها المتخصصة، حتى أن عدد المجلات العلمية المتداولة بين العلماء يتضاعف - منذ منتصف القرن الثامن عشر- كل خمس عشرة سنة، وبات من الصعب على العلماء متابعة كل المجلات المهتمة بتخصصاتهم الدقيقة. من هنا، ظهرت الحاجة إلى نوع جديد من المجلات يكفي لتجميع ونشر مختصرات الأبحاث والمقالات العلمية والمنشورة في عشرات المجلات العاملة في تخصص واحد، وربما في لغات مختلفة، وقد ظهرت أول مجلة علمية جامعة للمختصرات في عام 1830، عندما كان عدد المجلات العلمية لا يزيد على 300 مجلة. وفي نهاية الخمسينيات من هذا القرن، كان عدد مجلات المختصرات العلمية يزيد على ثلاثمائة مجلة.. وقد يكون من الصعب الآن حصر عدد المجلات من النوعين.

ولا شك في أن ذلك الرواج للمجلات العلمية في صالح العلماء.. ولكن.. في هذا الفيض من الأوراق والمقالات العلمية التي تنشر بالمجلات العلمية، تتخلق مشاكل مؤسفة تجيء إلى الحقيقة العلمية.

جبل التلفيق العائم

يبدو الأمر كشبكة معقدة، ولكننا يمكن أن نبدأ بأسوأ ما في الصورة: غش وتلفيق بعض الأبحاث المنشورة في بعض المجلات العلمية!. ففي خلال عقد السبعينيات إلى منتصف الثمانينيات، تم ضبط 16 حالة تزوير علمي على صفحات المجلات العلمية، ومعظمها في مجالي علوم الحياة والطب.

ولابد أن عددا أكبر من هذا لايزال خافيا عن الأعين، فنحن نميل إلى الاعتقاد بأن حجم الفساد الظاهر - في أي ناحية - مثل جبل الثلج العائم في المحيط.. خمسه فقط يعلو المياه، بينما تختفي أربعة أخماسه في ظلام الأعماق!.

لقد أباح "العلماء المتلبسون" لأنفسهم أن يقوموا بتزييف واختلاق وتلفيق، أو - على الأقل - توهم البيانات العلمية التي كانت أعمدة لمقالاتهم التي تم ضبطها منشورة على صفحات مجلات علمية ذات سمعة عالمية!.

وقيل في "تبرير" لجوء "العلماء الغشاشين" إلى هذا السلوك الشائن أنهم مصابون باضطرابات عقلية وتنتابهم حالات من الجنون الدوري، أو أنهم كانوا واقعين تحت ضغوط أودت بهم في هوة الغش العلمي، أو أن أعمالهم العلمية لم تكن محكومة بإشراف علمي كاف يعصمها من الخطأ أو الخطيئة.

وفي نهاية عام 1986، كشف بعض العلماء المدققين عن فضيحة علمية أخرى بين صفحات المجلات العلمية، وتمكنوا من رصد 13 ورقة علمية مزورة تماما، و55 ورقة أخرى مشكوكا في صحة بياناتها ونتائجها، وغير صالحة - أصلا - للنشر!. كما اكتشفوا أن طبيبا في بداية حياته العلمية بمدرسة دييجو الطبية التابعة لجامعة كاليفورنيا، قد اختلق معظم المادة العلمية لأبحاثه المنشورة بمجلة طبية شهيرة!.

وقبل ذلك، وفي عام 1985، جرب فريق من العلماء أن يراجعوا المقالات العلمية المنشورة في ست مجلات علمية ذائعة الصيت، فوجدوا أن بعض المؤلفين وقعوا أخطاء الاقتباس والنقل من المراجع بنسبة 15%.

وراقب أحد علماء جامعة أديلايد المجلات المتخصصة في علوم الحياة الصادرة في سنة واحدة، فوجد أن 2% من المقالات المنشورة فيها تمت إجازتها للنشر بعد إجراء تصحيحات جوهرية أوصى بها المحكمون. الغريب في الأمر أن بعض هذه التصحيحات جاءت بنتائج مناقضة تماما لتلك التي تضمنتها المقالات في صورتها الأولى!.

نعود إلى عام 1986 لنطالع في مجلة "Nature" تفاصيل أكبر حملة لمطاردة الغش العلمي، قادها عالمان من معهد الصحة القومي الأمريكي، قضيا أربعة أعوام في مراجعة وتدقيق 129 بحثا علميا منشورا باسم الدكتور جون دارسي الذي كان يعمل أستاذا بجامعتي أموري وهارفارد، والذي اتضح أنه وصل إلى موقعه الوظيفي والعلمي المتميز اعتمادا على بيانات ومواد علمية ملفقة، في تخصص حيوي خطير، هو علم أمراض القلب!.

وبالإضافة إلى التلفيق والتزييف في صلب مقالات الدكتور دارسي، وجد العالمان المتحريان العديد من الأخطاء التي يمكن اعتبارها أخف من الغش والتزوير، ولكنها أخطاء جوهرية بالنسبة لطريقة عرض وكتابة المقالات العلمية، وتشمل أخطاء ظاهرة وفاضحة تثير الشك في صحة نتائج البحث، وأخطاء أخرى "أصغر!"، كأن تتناقض الأرقام المثبتة في نص المقال مع تلك المصاحبة للأشكال البيانية والرسومات التوضيحية، ويؤكد العالمان المدققان أن تلك الأخطاء ليست عفوية، بل جاءت عن جهل واضح بأصول العرض العلمي للبيانات.

فهل يعقل أن يسهو عالم بمعدل 12 مرة، هي متوسط عدد الأخطاء الواردة في البحث الواحد؟!.

الأغرب من ذلك - كما يقول العالمان - أن تلك الأخطاء ليست عصية على الاكتشاف، بل يمكن للقارئ الواعي أن يرصدها بسهولة!.

إن كاتب المقال يعرف واقعة محددة، أعطى فيها أحد أعضاء لجنة تحرير مجلة علمية لنفسه الحق في "السطو" على نتائج بحوث ميدانية قام بها فريق من زملائه في المؤسسة العلمية التي تصدر المجلة، وأنشأ بها مقالا أجازه بنفسه لنفسه، ونشره باسمه على صفحات المجلة. ولما افتضح أمره وأوشك على المساءلة القانونية، أسرع بطباعة شريط ورقي صغير مكتوب عليه أن المقال عبارة عن "عرض ومناقشة"، وليس تأليفا، وجند جيشا من صغار الموظفين، قاموا بلصق الشريط في مكان اسم المؤلف، إخفاء لمعالم الجريمة!.

فكيف تأتى لمثل هذه "الحالات" أن تتسلل إلى صفحات المجلات العلمية، متخطية إجراءات التحكيم والقبول والتحرير المتعارف عليها في هذه المجلات؟.

138 مؤلفا لبحث واحد

إن صحة وسلامة المقالات العلمية وصلاحيتها للنشر مسائل يقررها كل من المحكمين والمحررين المسئولين عن النشر بالمجلات العلمية. ويدخل في دائرة المسئولية عن تلك الأمور المؤلفون المشاركون الذين يجب أن تكون مشاركتهم فعلية في تحرير ومراجعة الأوراق العلمية قبل تقديمها للنشر. ومع الأسف الشديد، فإن هؤلاء المؤلفين المشاركين - في حالات عديدة - يكتفون بالمشاركة "الشرفية"، فتظهر أسماؤهم على عدة أبحاث دون أن يكون لهم أي دور في خطوات إجرائها أو إعدادها للنشر. فإذا ظهرت عيوب أو أخطاء في الأبحاث المنشورة، فإنهم يتعرضون للمساءلة ويشاركون في تحمل المسئولية أمام المجتمع العلمي.

ومع تعدد أسماء المؤلفين، قد يكون من الصعب توجيه اللوم لواحد منهم على الأخطاء التي قد تكتشف قبل أو بعد نشر المقال. لذلك، يصر محررو بعض المجلات العلمية على تحديد دور كل من المؤلفين أصحاب البحث الواحد في إعداده.

وبغض النظر عن مساءلتهم عن الأخطاء التي يمكن أن تكتشف في مقالات لا يعرفون عنها شيئا وتتصدرها أسماؤهم، فإن سلوك هؤلاء المشاركين الشرفيين لا يخلو من نقطة ضعف أخلاقية، إذ يبيحون لأنفسهم مشاركة الآخرين نتائج كدهم دون مشاركة فعلية بالجهد، أو مكتفين بتقديم بعض التسهيلات الإدارية من خلال موقعهم الأعلى كرؤساء أقسام علمية أو كمنسقين للمشروعات البحثية، أو كمشرفين علميين - اسما - على رسائل يعدها طلاب الدراسات العليا تحت إشراف أساتذة "فاعلين".

إن كاتب المقال - من خلال عمله كسكرتير تحرير لمجلة علمية تصدر عن مركز مصري للبحث العلمي - عاين بنفسه حالات تمت فيها "إضافة" أسماء مشاركين شرفيين بعد أن تم قبول الأبحاث للنشر بأسماء أصحابها الفعليين الذين طلبوا هذه الإضافات على سبيل "المجاملة" لزملائهم، وبحجة أن "فلانا" في "ضائقة بحثية"- إذا جاز التعبير - فموعد تقدمه للترقية قد حان وليس لديه ما يكفي من الأبحاث لتقديمه إلى لجنة الترقيات!.

وعلى أي حال، فثمة وجهة نظر ترى في تعدد أسماء المؤلفين ظاهرة تمليها بعض الضروريات.. فقد ازداد اعتماد العلماء على الأجهزة المعقدة التي قد لا تتوافر في كل المختبرات، والتي قد يتطلب تشغيلها فريقا كاملا من العلماء، يناط بكل عضو فيه إنجاز جزء من البحث، مما قد يبرر، إلى حد ما، ازدياد متوسط عدد المؤلفين للبحث الواحد. ومن الإحصائيات الطريفة في هذا المجال، تخبرنا الأرقام بأن نسبة المقالات العلمية ذات المؤلف الواحد قد انخفضت من 80% في عام 1910 إلى 25% في عام 1965.

ولابد أنك ستدهش حين تعرف أكبر عدد من أسماء المؤلفين حملة بحث واحد.. لقد كان ذلك في عام 1983 حين نشرت مجلة "Physics Letters" بحثا يحمل توقيعات "138" مؤلفا "!!" ينتمون لست عشرة مؤسسة علمية.

نقائص التحكيم أم الإشراف؟

لا يختلف اثنان في أن جدية الدوريات العلمية و"نظافتها" أو خلوها من المقالات المزيفة، يعتمد بالدرجة الأولى على المحكمين. وتحرص المجلات المحترمة على سرية عملية التحكيم، كما تحرص على انتقاء من توكل إليهم مهمة الحكم على المقالات العلمية المقدمة للنشر بها، من بين الأساتذة والعلماء المشهود لهم بالكفاءة العلمية والسمعة الطيبة. ولكن عملية التحكيم، في الواقع، تخضع لملابسات تفقدها خصوصيتها في كثير من الأحيان. فمعظم العلماء الذين يقومون بالتحكيم محملون بأعباء كثيرة تجعلهم لا يقبلون على بذل الجهد المطلوب في قراءة وتدقيق المقالات المرسلة إليهم، بل إنهم قد يردونها غير مرحبين بدور المحكم، خصوصا إذا كان عائده المادي غير مجز. وقد تفلح المجلات العريقة في اجتذاب جهود المحكمين الأكفاء، في حين تكتفي المجلات من الدرجة الثانية أو الدرجة الثالثة بعمليات تحكيم شبه صورية، لا تتوافر فيها الدقة الكافية.

ويحاول بعض العاملين في مجال البحث العلمي رد جانب كبير من فوضى النشر في المجلات العلمية إلى مشاكل أساسية متصلة بعملية البحث العلمي في صميمها، وأهمها قصور وقت وجهد الأساتذة الكبار عن إدارة فرق البحث التي يشرفون عليها، فهم موزعون بين العديد من المهام العلمية والإدارية والمعيشية، ولا يتصلون بمساعديهم أو تلاميذهم إلا لدقائق قليلة كل عدة أسابيع.

إن ذلك قد يؤدي - فعلا - إلى أخطاء في العمليات التقنية نفسها، فيعطي نتائج غير حقيقية عند إعداد ورقة علمية عن بحث أجراه التلاميذ دون إشراف كاف من أستاذهم. فهل يمكن أن يؤدي الإشراف اللصيق إلى تلافي هذه المشكلة؟. إن الأستاذ المشرف، مهما كانت درجة اهتمامه بالبحث الجاري، لن يمكنه التدخل في تفاصيل العمل اليومي للتجربة التي يعكف عليها تلاميذه. ومن جهة أخرى، فإن تدخل المشرف في كل صغيرة وكبيرة يوقف نمو القدرات الذاتية وملكة الإبداع لدى تلاميذه.

ويرى أحد أساتذة الجامعة الإنجليز أن التنافس على نشر أكبر عدد ممكن من الأبحاث سبب رئيسي في ظهور أعمال التزييف والتلفيق العلمي. وعند تقديم هذه الأبحاث للترقية، فإن لجان فحص الإنتاج العلمي لأعضاء هيئات التدريس بالجامعات ومراكز البحوث تلتفت إلى الكم، وقد يشغلها ذلك عن التحقق من جودة وصدق المحتوى.

علم جديد للخروج من المأزق

والجدير بالذكر أن التفتيش في عيوب الأوراق العلمية المنشورة ليس عملا سهلا، فهو محفوف بالمخاطر. إذ إنه يتضمن تعرضا للسمعة وللأمانة العلمية، ولوما وإدانة لمن يزيفون أبحاثا علمية أو لا يتبعون القواعد المتعارف عليها وأخلاقيات النشر العلمي. لذلك، استغرق الكشف عن التزوير في أبحاث الدكتور دارسي أربع سنوات كاملة تأكد خلالها هذان العالمان من صحة اتهاماتهما له قبل إعلانها على صفحات مجلة "Nature"، وذلك خوفا من رد فعل "المتهم" الذي يمكن أن يصل إلى إقامة دعوى قذف وتشهير ضدهما.

بقي أن نشير إلى علم جديد، هو علم "قياسات التأليف"، جاء ليساعد في تقدير قيمة المؤلفات العلمية، ويعتمد على التحليل العددي للمؤلفات، فيحصى - على سبيل المثال - عدد المرات التي ذكر فيها عنوان ورقة علمية في قوائم المراجع لأوراق علمية أخرى، فيعطي مؤشرا تقريبيا على صحة وسلامة الورقة العلمية موضوع التحري. كما يتم تقدير وزن المجلة العلمية نفسها بإعطائها ما يسمى بالرقم المؤثر، وهو يساوي عدد المرات التي تم فيها الاستناد إليها في مقالات علمية منشورة بمجلات علمية أخرى، مقسوما على عدد مرات الاستناد المتبادل فيما بين المقالات المنشورة في المجلة ذاتها.

ولهذه الطريقة في التحليل عيوبها التي تجعلها محدودة القيمة. إذ إنك تجد المؤلفين يميلون كثيرا إلى الاستناد إلى التقارير والمقالات العلمية المنشورة التي اعتمد مؤلفوها على التقنيات الأحدث في تجاربهم، بينما يتجاهلون المقالات التي تعاملت مع وسائل قديمة. كما أن علماء الرياضيات اعتادوا على تبادل ذكر أعمال بعضهم بشكل متكرر، بالرغم من أنهم - من جهة أخرى - ينشرون أبحاثا أقل من الأبحاث المنشورة في علم الحيوان.. وذلك يعطي مؤشرات غير صحيحة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن التحليل العددي لتكرار مرات الاستناد إلى الأبحاث قد يظلم علماء التخصصات الحديثة التي لم يتحقق لمجلاتها الجديدة الذيوع والانتشار.

وأخيرا.. فمن منا يشك في أن التزييف العلمي والأخطاء العلمية العرضية عاملان مدمران للعلم؟.

إن التقدم العلمي يعتمد على تراكم الخبرات والحقائق العلمية، فتمثل نتائج التجربة العلمية التي يجريها أحد العلماء الآن، قاعدة لتجربة أخرى سيأتي من يقوم بها في المستقبل. فإذا كانت القاعدة واهية، تصدع البناء وتعطلت مسيرة العلم.

 

رجب سعد السيد