رمضان و«كورونا» في البيوت العربية
في مشهد أقرب إلى الخيال، وأبعد من كل التصورات التي يدركها العقل البشري، تتوقف الحياة بكل ملامحها وبأدق تفاصيلها في العالم أجمع، تتعطل المدارس والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، تُغلق المطارات العالمية، تخلو الأسواق من الباعة والمشترين، باستثناء محال البقالات ومراكز بيع الأغذية، من جراء تفشي فيروس يدعى كورونا، أو 19 - COVID، فتمتلئ أسرة المستشفيات بالمصابين من مختلف الأعمار، ويجند الأطباء من مختلف التخصصات جنبًا إلى جنب، فيصنّف المختصون بالجهاز التنفسي في الصفوف الأولى، وتليهم البقية، وتُستدعى الهيئة التمريضية من رؤسائها إلى متدربيها، والمهن الطبية كافة، والطبية المساندة، لإنقاذ أكبر قدر ممكن من الأرواح البشرية، ولتقليص عدد الوفيات منها.
بمرور الأيام تبدأ أعداد المصابين بالفيروس في الارتفاع بشكل مخيف، وعلى أثره ترتفع الخسائر البشرية، فتظهر دول ومدن عالمية منكوبة وتفقد السيطرة على أمنها الصحي، وأخرى تعمل جاهدة للسيطرة على الوضع، وإن كلّفها الأمر خسائر اقتصادية وسياسية فادحة.
تلجأ الحكومات إلى وسائل الإعلام التقليدية المرئية والمسموعة والمقروءة لبثّ رسائل التوعية للمجتمع، مخاطبة جميع فئاته العمرية وبكل مستوياته الثقافية حول طبيعة الفيروس وأعراضه، وضرورة تفادي الإصابة به من خلال اتّباع سلسلة من الإجراءات الاحترازية التي ينصح بها الأطباء في دول العالم، للوقاية من انتشاره.
وقد جرت العادة أن يلجأ الناس لحماية أنفسهم من أي نوع من الفيروسات بارتداء الأقنعة الطبية والقفازات النايلونية، وكان ذلك بالفعل أول خطوة وقائية، تسببت بنقص حادّ منهما، فاضطرت بعض الدول إلى الاستيراد، وأحيانًا التصنيع المحلي بمواصفات لا بأس بها. أما الخطوة الثانية فتمثّلت في العزل الصحي للمصابين والمشتبه بإصابتهم، وذلك في المستشفيات المتخصصة للحالات المتقدمة ولكبار السن، وفي المنازل للشباب والأصحاء بدنيًا، وقد تسبب عدم التزام البعض، في بادئ الأمر، في انتقال العدوى إلى أعداد كبيرة. لذا شددت الدول والحكومات من إجراءاتها الوقائية بفرض حظر التجوّل، بهدف الحد من زيادة أعداد المصابين، وتطبيق الحجر الصحي، ومفاده ملازمة الأصحاء، الذين لم تثبت إصابتهم بالمرض، المنزلَ، أو أي مكان يوجدون فيه خلال فترة انتشار الوباء، كالفنادق، وذلك لأطول فترة زمنية ممكنة، لتجنّب الاحتكاك بالآخرين وملامستهم، وكذلك ملامسة الأسطح والأشياء من حولهم قدر الإمكان، ليصبح الخروج من المنزل أو الحجر عمومًا للضرورة القصوى، كاقتناء الحاجات المهمّة للأسرة من طعام وأدوات تنظيف وخلافه.
تحدٍّ صعب
واجه الحجر الصحي في بداية إقراره، لدى كثير من الأسر العربية، فهمًا خاطئًا، فاستوعبه البعض على أنه البقاء في المنزل مع استقبال الضيوف والأصدقاء، حتى غدت بعض البيوت العربية تحديدًا مكانًا جامعًا وحاضنًا للأهل والجيران والأقارب. فلم يعتد العربي على إغلاق باب بيته في وجوه الآخرين خشية المرض.
ومن الواضح أن فرض حجر صحي في المنازل كان تحديًا صعبًا لدى كثير من الأسر، حيث كانت النوايا الطيبة تحوم حول هذا الفعل، فهدف المجتمعين بالحجر هو خلق أوقات ممتعة وسط الروتين الذي يتكرر كلّ يوم، وافتعال الأُنس بمواصلة التجمعات الأسبوعية التي اعتادت عليها الأسر، إلا أنّ ذلك ترك أضرارًا بالغة على كل فرد بهذا التجمع، فهم يأتون من أماكن متفرقة، منها الوبائية ومنها الصحية، وهم يختلفون في درجة تعاملهم مع هذا الوباء، فمنهم المتقيد بالإجراءات الوقائية والحريص على تطبيقها، ومنهم المستهين بها وغير المكترث لوجودها، وجميعهم يحطّون في تلك المنازل التي أبت أن تغلق أبوابها في وجه التجمعات الأسرية، التي ستكون بيئة خصبة لتفشي الفيروس بين أفرادها، وقد تُدخلهم في دائرة التقصي الوبائي للمصاب، وذلك يعني بحثًا دقيقًا حول المتسبب ناقل العدوى والأماكن التي حطّ بها، والأشخاص الذين التقاهم ولامسهم.
وتأكيدا لأهمية انكفاء الناس وابتعادهم عن التجمهر والتجمع، ظهرت في الأشهر الماضية مطالب تدعو إلى التباعد الاجتماعيSocial distancing ، أي ترك مسافة بين كل فرد وآخر (أصحاء أو مصابين أو مشتبه في حملهم الفيروس)، وقدّرت بـ 6 أقدام، أي ما يقارب 1.8 متر، سواء في المنزل أو العمل أو أي مكان آخر، وذلك للحدّ من انتشار المرض وانتقاله للأصحاء، بسبب التجمعات غير المقصودة وغير المنظمة.
ولأن «درهم وقاية خير من قنطار علاج»، فكل ما سبق من إجراءات احترازية ما هي إلّا اجتهادات مجتمعية لضمان السلامة والنجاة للبشر من الإصابة بهذا الفيروس المتوحش.
تحدّيات رمضانية
وبين الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي في مكافحة تفشي الفيروس، يحلّ علينا شهر رمضان الكريم، الذي اعتاد المسلمون على استقباله بأجواء حميمية قائمة على طقوس اجتماعية ودينية أساسها التجمعات ومخالطة الآخرين، سواء في أداء العبادات الإسلامية أو ممارسة العادات والتقاليد الاجتماعية، ويمكننا التطرق لبعض منها، على سبيل الذِّكْر لا السّرد:
- اعتاد المسلمون عمـومًا، والعرب خصوصًا، - قبل انتشار «كورونا» ـــــ على تبادل التهاني والتبريكات بالشهر الفضيل، وإذ تفرض مظاهر التهنئة المصافحة باليد والتقبيل، وأحيانًا الاحتضان لإظهار الحميمية، ويصعب تحاشيها وتجنّبها، وإلّا فإن صاحبها ينعت بالغرور والتكبر، لكن يبدو أن التهنئة في رمضان هذا العام ستكون خالية من هذه المظاهر.
وإن كانت رسائل التهنئة عبر تطبيق «واتساب» والمواقع الاجتماعية أمرًا مرفوضًا ونال كثيرًا من النقد في السنوات الماضية، إلا أنّه سيكون هذا العام سيد الموقف، إذ قد يلجأ إليه كثيرون للتخلص من حرج التواصل الاجتماعي والملامسة الجسدية.
- وجبتا الإفطار والسحور، اللتان كانتا تجمعان أكبر قدر من الأهل والأصحاب على مائدتيهما في السنوات الماضية، من الواضح أنها ستقتصر هذا العام على الأشخاص المقيمين في المنزل، فلا عزائم ولا ولائم يحتشد حولها الصائمون. كما يفترض أن «رمضان» سيشهد الحدّ من تناول الأطعمة المُعدّة خارج المنزل، والتي نجهل طهاتها وحامليها إلينا، حيث إن احتمال إصابتهم بالفيروس وارد، كما احتمال نقله إلينا وارد جدًا. ورغم قسوة هذا التغير في نفوس الكثير من المسلمين، فقد يحمل في طياته فائدة عظيمة، وهي تقليص المصروفات، والبُعد عن الإسراف والتبذير في الطعام.
ــــ من أصعب الأمور التي يواجهها المسلمون مع تفشي الفيروس، إغلاق المساجد، التي لطالما احتضنت الصلوات الخمس، فكيف الحال وقد أغلقت أبوابها في رمضان، وهي مقر الاعتكاف والتهجد والتعبّد للأفراد والجماعات، ومنها تنطلق صلاة التراويح بعد أداء صلاة العشاء، ويجتمع المصلون والمصليات من كل الأعمار لأداء صلاة القيام خلال العشر الأواخر من الشهر الكريم، والتي فيها تحرّي ليلة القدر؟
سيلزم المسلمون منازلهم ويؤدون عباداتهم فيها، حرصًا منهم على صحتهم، وإيمانًا منهم بالعمل الجماعي للحد من تفشي الفيروس.
- الأطفال والناشئة الذين اعتادوا في السنوات الماضية على السهر خلال ليالي رمضان وتعلُّم الصوم في نهاره، خاصة أولئك الذين تحتضنهم بيوت العائلة، حيث الجد والجدة، نأمل أن يلتزموا منازلهم، لأن كبار السنّ أكثر عُرضة لالتقاط الفيروس، والأكثر تأثرًا بالعواقب الوخيمة منه.
ويبدو أن الأطفال هم المتضرر الأكبر في رمضان من «كورونا»، فقد يحرمون في المجتمعات الخليجية من العادة الاجتماعية المحببة لديهم وهي «القرقيعان»، التي ينتظرها الصغار مع دخول الأيام العشرة الثانية من الشهر الفضيل، حيث التجول ليلًا بالأحياء وطَرْق أبواب المنازل لأخذ نصيبهم من الحلوى والمكسّرات، وذلك تحسبًا لمضار المخالطة بالآخرين ونقل العدوى من شخص مصاب إلى مجموعة أصحاء.
إجراءات احترازية
ووفقًا لنظرية نصف الكأس المملوءة بالماء، هناك جانب إيجابي من الإجراءات الاحترازية لتجنب الفيروس في شهر رمضان الكريم، فإلى جانب تضافر الجهود المجتمعية وعملها جنبًا إلى جنب مع الحكومات للحد من تفشي هذا الوباء الشّرس، فإنها تتيح الفرصة لأفراد الأسرة، وإن غلّفها الإلزام، بقضاء ليالي الشهر الكريم وأيامه معًا، سواء كان بالسمر وتبادل الاهتمامات والأحاديث، أو بأداء العبادات والسّنن النبوية كإقامة الصلوات بصحبة الأبناء، وتلاوة القرآن الكريم وتدبّر معانيه والتفقّه في الدين برفقتهم. ولا عجب إذ أضفى فيروس كورونا في رمضان لهذا العام بعدًا اقتصاديًا في طياته، حيث يحدّ الحظر المفروض وتواضع المخزون الغذائي من النمط الاستهلاكي لدى الأسر، والذي عادة ما يكون عماده المبالغة في الإنفاق المالي لشراء الأطعمة والكماليات التي لا حاجة إليها، ويتكرر شراؤها كل عام. هذا إضافة إلى الحد من البذخ في إقامة الولائم واستضافة الأصدقاء على وجبتي الإفطار والسحور، والتجمّع في الخيم الرمضانية والمطاعم والمقاهي، ومن ثم فإنّ الانكفاء في المنزل يخفف العبء على ربّة الأسرة، حيث يتوافد أفرادها على المطبخ، لأنه الملاذ الوحيد إليهم للتسلية وممارسة هواياتهم في إعداد المأكولات وتجهيز الطعام.
إن الإجراءات الاحترازية التي اتّخذت منذ أشهر قليلة ألقت بمنافع جمّة على الصعيدين الأسري والمجتمعي، فقد أشارت الدوائر الاجتماعية في مختلف الدول العربية والعالمية إلى انخفاض معدلات الطلاق، وشبه انعدامها في بعض الدول، وقد رجّحوا السبب في ذلك إلى تركيز الأزواج على النجاة بصحتهم وصحة أبنائهم، كما أن بقاء طرفي العلاقة في المنزل مدة طويلة أتاح لهما الوقت والمكان لمناقشة تفاصيل حياتهم ومشكلاتهم بشكل أفضل، ويمكن القول إن تفشي الوباء والانتقال السريع لعدوى «كورونا» والإصابات المرتفعة وأعداد الوفيات المتسارعة، دفعت البعض إلى إعادة التفكير وترتيب الأولويات في المشكلات التي قد تؤرّق العائلة العربية، ليس على الأسرة فقط، بل على كوكب الأرض، حيث ذكرت العديد من الدراسات، انخفاض معدلات التلوّث في عدد من مدن العالم الصناعية، التي كانت في السابق تعاني نكبات بيئية هائلة على مدى سنوات.
بل لوحظ أيضًا اعتدال الطقس في المناطق التي كان من المفترض أن تشهد حرارة عالية، كما أن الحدّ من حركة الإنسان ونشاطه في البر والبحر كشف عن ظهور بعض الحيوانات التي صنّفت على أنها نادرة وفي طور الانقراض.
ليكن شهر رمضان هذا العام مميزًا ومختلفًا، ليس بفيروس كورونا فقط، بل بمجتمعات عربية ومسلمة تتّبع عادات صحية واجتماعية واقتصادية ذات منافع جمّة آنية ومستقبلية، ولتهلّ علينا أيام مباركة حاملة البشرى بالرحمة والمغفرة، آملين من المولى أن يبلّغنا لياليها نحن والعالم أجمع بأتمّ الصحة وموفور العافية ■
آلاف المصلين في المسجد الكبير بالكويت خلال شهر رمضان من العام الماضي
تطهير المساجد وتعقيمها استعداداً لإعادة افتتاحها عقب السيطرة على الأوضاع