نهرُ النّيل العظيم قصةُ حياة وأغنيةٌ على الشّفاه
حيثما يمّم المرء وجهَه في التاريخ وجغرافيا العالم، يجد نهر النيل العظيم بارزًا وحاضرًا في كل مضمار، يحتفظ بسلطانه وجبروته، رغم مرور ملايين السنين، لم تكن مسيرته من المنبع إلى المصب تدفّقًا للمياه من جهة إلى أخرى وحسب، إنما في حقيقتها حياة إنسانية زاخرة بالمعاني والقيم، ومهما طالعنا في التاريخ والأدب من مأثورات، فإنّنا نجده متجذرًا في كثير منها، بل خرجت من أحشائه قطع ودُرر فريدة في عالَم الفنون والإبداع، مثلما تواترت على ضفّتيه حضارات ومعالم تاريخية بارزة... حقًا هو منحة نادرة من مِنَح الله تعالى على الدول التي يشقّ أراضيها والشعوب التي تسكن ضفافه.
تبجيلًا وانتفاعًا بهذه المنحة الربانية، نحا الكثيرون إلى تقديس النهر العظيم، لكونه باعثًا للحياة ومغذيًا للأرواح، ومبعثًا للتفكر الكوني والديني، والألفة والحب، وينبوعًا لإلهام المبدعين.
يقول الشاعر علي التنقاري في «نيل الحياة»، التي يصدح بها المطرب عبدالعزيز داؤود:
أنت ينبـوعٌ من دنان
يتهادى في رقة وحنان
أنت في تُربـك جمـان
أنــت لشعــبك أمــــــان
أنت من قِــدم الزمان
أنـت شـــريان الحــــياة
من الذاكرة
لما كان لنهر النيل الخالد تأثير عميق في نفوس وطبائع وأيديولوجيات الأمم التي تقطن ضفافه، ولما لهم من عُرى وثيقة به لكونه إكسير حياتهم نجد أنفسنا أمام رغبة جارفة للتطواف على بعض شواطئه في بلاد السودان، بقدر استطاعتنا، بيد أن الأمر لا يكتمل إلا بذاكرة ماضوية، ونوستاليجيا حادّة إلى سنوات خلت، لا سيما وأن ارتباط أهل القرى والأرياف بالنيل في الراهن لا يختلف كثيرًا عن الماضي، حينما كنا نذهب ونحن صغار مع الجدة للوالدة (الحبوبة) في نهار الشمس المحرقة صوب النهر، الذي يناديه السودانيون مجازاً بـ «البحر»، كنا نركض وراءها مندفعين ثلاثة؛ طفلان وطفلة، ونحن أكثر شوقًا وتحرّقًا للوصول قبلها، كي نرتع ونمرح على الرمال الناعمة، أو بين الحقول المترامية، أو الوقوف خلسة على ضفته الشرقية مثل الكبار، في حين كانت تصطحبنا لا للّهو والتمتّع برؤيته وهو يتلوّى كالثعبان زاحفًا نحو الشمال، وإنما لنقتطع معها حطب الوقود، والحشائش للأغنام التي تربّيها، وجلب بعض الخضراوات المتاحة المبذولة، وهو فعل يتجدد نهار كل يوم، لا يتوقّف إلا لطارئ أو لعلّة تمنعها من الذهاب للضفة.
كنّا وما زلنا في مسيرتنا نحو النهر نمر قرب مدافن الموتى في طرف المدينة الغربي، ولإيماني الطفولي بأنها طرق اللا عودة، ونهاية الدنيا، لم يدُر بخلدي أن وراءها دنيا أخرى جديدة واقعية، أجمل وأصفى مما نعيشها بين المساكن، إلّا بعد أن عرفنا الطريق للنيل. ولعلّ أشد ما يسترعي الانتباه أن المقابر بين أماكن السُّكنى والشاطئ في كثير من المناطق المحاذية للنيل، وهي في كل اتجاهاتها أكثر قربًا منه على عكس مساكن الأحياء. وكثيرًا ما يثيرني فضول الطفولة لأتساءل: أهذا مصادفة؟ أم ثمة اعتقاد جمعي سائد؟ أم تقاليد مجتمعية قديمة قام بها الأسلاف منذ عهود سحيقة؟ أم قضى رضا وعطف الطبيعة على الراحلين بأن يكون مرقدهم الأبدي بقرب النهر الخالد؟
وما إن يبتعد المرء قليلًا عنها حتى تتبدى مظاهر الدنيا الجديدة، حياة ما بعد النهاية، بانتقال وئيد من لهيب الشمس، إلى النسيم العليل المشبع برائحة النباتات والثمار الفائح من جهة النهر، وسماع تغريد الطيور وشقشقة العصافير، وثغاء الشياه، وخوار الثيران، وأزيز رافعات المياه (الوابورات) وخرير الجداول. أصوات مختلطة خافتة كأنها تخرج من جوف صمت الموتى، ووقتئذٍ يدرك المرء أنّه دنا من الدنيا الجديدة وقيمتها على الشاطئ، ولا عجب إن تغنّى المطرب خضر بشير بـ «شكل الغزالة» للشاعر محمد بشير عتيق:
والشمس للنيل يا خـدين
ترسل خيوط متبهرجين
زي تبري ذائب في لـُجين
والروضة في ندى وارتشاح
الكون ثميل... من طيبها يتوشّح وشاح
لذّة العمـل
يرتاد الناس نهر النيل عادة في المدن والقرى والنجوع الواقعة على ضفافه في السودان، إما للعمل في الحقول والبساتين الزراعية، أو لاصطياد أسماك البلطي، والقرموط، والبياض، والشلبايا، وخشم البنات، وأصناف أخرى عديدة، أو لجلب بعض خيراته أو للتنزّه والترفيه، وهم يشبهون بعضهم البعض في أشياء كثيرة، ويختلفون في أخرى، حتى بالنسبة لألعاب النيل عند الصغار، وبالكاد يكون واقعهم الحياتي والمعيشي متشابهًا لحد كبير، ليس فيه موضع للشكوى والتبرم، ولا مظهر من مظاهر البؤس والشقاء، مهما اشتدت وطأة الحياة وتألّبت عليهم المحن، طالما هي مغطاة بثياب الصبر والرضا بما قسمت به الأقدار.
هكذا حال السواد الأعظم من سكان الضفتين، وغالبيتهم من الزرّاع الذين يكدون صباحًا ومساءً، ويعتمدون في معيشتهم على حصصهم من حصادهم الزراعي، ويشعرون بلذّة العمل في الحقول، مُذ سلكوا هذا الطريق بالتوارث من سنوات طوال، حتى بات مكوث بعضهم بين الحقول أكثر من بيوتهم، وتقوّست ظهورهم من الانحناء في حرث الأرض وغرس الشتلات، ودائمًا ما تتعالى صيحاتهم من على البعد جذلى «تعال... امش... اقرع الموية... يا ولد اعمل حسابك». ويكمل المشهد الروائي العالمي الطيب صالح في روايته «بندر شاه»: «وتتناهى الأصوات من شاطئ إلى شاطئ ضعيفة لا تميّزها الآذان، ولكنّهم كانوا يعلمون ما يجري عبر النهر، كأن الضفتين جسور غير مرئية. يعلمون من سقى زرعه بالليل ومن سقى بالنهار، من مرِض ومن وَلِد، ومن مات ومن تزوّج، ومن الذي باع ومن الذي اشترى، وكانت تربطهم بعضهم ببعض أواصر وقرابات وأنساب، وتجمعهم الأسواق والمعاملات، يتبادلون بذور (التيراب) وشتلات
النخل وفحول البقر والحمير، ويجمع بينهم المداحون والمغنون وحفظة القرآن الكريم، هكذا حالهم من ملتقى النيلين إلى ما وراء حدود مصر».
ولا شك في أن هذا النشاط الجماعي الذي يعتمد على التآلف والتعاون والمحبة جبلهم على مجابهة الشدائد، والمشاركة في درء الكوارث حتى يومنا هذا، وربما هذا من أسرار عشق النيل وبهائه اللذين لا يجفّان.
الأفعى الفضّي
يقينًا كان أكبر همّنا نحن الصغار أن نقف على ضفة النهر (قيف البحر)، والتأمل في الأفعى الفضي وهو يتلوى في الفجاج... لا أعرف لماذا؟ هل يا ترى لأن أهلينا كانوا يحرّمون علينا الخروج لمشاهدته وحدنا، والممنوع مرغوب؟ أم للمناظر الشائقة التي تدعو المرء إلى التفرس فيها بإمعان؟ أم لأننا نسمع من خلال الراديو أغنيات كثيرة تتغنى به، مثل «يقظة شعب» للشاعر النوبي مرسي صالح سراج، بصوت مواطنه المطرب محمد وردي؟
هامَ ذاك النّهرُ يستلهـمُ حُسنا
فإذا عــــــبْرَ بـلادي ما تـمنّى
طــرِبَ النّــــيلُ لَدَيْــها فتثـــنَّىَ
فاروِ يا تاريخ للأجـيالِ عنَّا
كلها أغانٍ آسرة بعربية فصيحة وعامية متفصحة، نتذوق موسيقاها ونفهم معانيها عند حدود إدراكنا، خاصة حينما يغني المطرب أحمد المصطفى:
ها هو النيل حيالي
صفــوه يزكي خيالي
يتــــــــهــادى باخــــتـــيالٍ
بين رفــق وجـــــلال
ولولة النســـاء
نعم للنيل عشق خاص يستولي على الكثيرين، ويأخذهم إلى عوالم لا نهائية، في حين كان الوقوف على شاطئه هو المحفّز الرئيس للذهاب مع الجدة، ولعلّ هذا ما يجعل إصابتنا بالأمراض تغضبنا أكثر مما تؤلمنا، وكنّا نمرض لمرضها، ونخشى عليها من عاديات الأيام، وكلّ ما يمنعها الذهاب أو يحرمنا من مرافقتها إليه، مع أنها كانت تحذّرنا من الوقوف على الشاطئ (القيف)، ولا أنسى كلماتها وهي تنتهرنا كلما اقترب أحد منا من الضفة (أوعك تنزل البحر، لو جيت هدومك مبللة تاني ما بجيبك معاي). وهو التحذير الوحيد الذي يكبح جماح تمرّدنا، في حين كانت تطلقه بخوف وقلق، يصلان إلي بقية الأطفال الذين يلعبون معنا، والواقع كانت هي وغيرها يتحاشون اقتراب الصغار من النهر كي لا يتعرضوا للأخطار المتوقعة وغير المتوقعة (الهدام)، لا سيما وقد يخفي النهر في بعض الأحيان وراء هدوئه غضبًا ماكرًا، وكم مضوا من جوفه غرة إلى النهايات القريبة (العالم الآخَر) بلا أوبة، ونحن بمنزلة أمانة لا تفرّط فيها.
كان الغيظ يملأنا عندما نرى مَن هم أكبر منّا بقليل، وبعض الهاربين من المدارس، وجحيم التسكع والفراغ يسبحون في النهر من غير ضابط أو رابط، أو نرى غيرهم يحشدون صنانيرهم وينصبون شباكهم لصيد الأسماك. وذاك الغيظ دائمًا ما يبدده جلبة الرجال وولولة النساء بأن فلانًا أو ابن فلان غرق، وانغماس العارفين ببواطن البحر للبحث عن الجثة، والولولة في مثل هذه الحالات أمر طبيعي ولا شعوري، يؤكده الشاعر جيلي عبدالرحمن في قصيدته «عـبري».
ويوم غرقــتُ في النهــر
وأختي ولولت تجري
وصاح الناس من هــول
وماج الجمـع في ذعر
وأنقذني من الموت فتى
قــد هالـــه أمــــــري
يحزن الجميع لحالات الغرق، ولو يدري الغريق ما يصيبنا لما قدِمَ، أو اختار مكانًا آخر، لكنها مشيئة الله. ومن أجل أقدار البعض، وصدمة الحدث يصبّ الأهالي جام غضبهم ويعلنون الحرب على الصغار، وتتناقل الشائعات والحكايات، ويُحظر علينا الذهاب للنهر لعدة أيام، كأننا نحن أغرقناه، ولا ندري أيهما غرق في حب الآخر.
كما كان يبدد الغيظ في أحايين أخرى كثيرة سماع زغاريد النسوة وصياح الأطفال وتغني الفتيات بأهزوجة:
ﻋﺮﻳﺴﻨﺎ ﻭﺭﺩ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﻳﺎ ﻋﺪﻳﻠﺔ
ﻭﻗﻄﻊ ﺟﺮﺍيد ﺍﻟﻨﺨﻞ ﺍﻟﻠﻴﻠﺔ ﺯﻳﻨﺔ
تلك الأصوات الفرِحة التي تحملها الرياح إلى الآذان من نواحٍ بعيدة، يعقبها بعد حين أصوات عربات قديمة مختلفة تختلط أدخنتها مع الغبار، قادمة في بطونها السَيرة (الزفة) لزيارة البحر، سواء كان عريسًا وعروسته أو طفل مختون أو امرأة في النفاس، والطريف أنهم يتغنون بتلك الأهزوجة حتى في زفّة المرأة النفساء، لكونها حصرية على هذه الطقوس. وهنا يتحدث
لـ «العربي» مدير مركز تسجيل وتوثيق الحياة السودانية واللغات بوزارة الثقافة والإعلام الباحث د. أسعد عبدالرحمن: «ما زال هذا الأمر مستمرًا منذ عصور قديمة وإلى اليوم، وكل الطقوس المرتبطة بالنيل ولديها صلة بالعادات والتقاليد أصبحت تمارَس كقيمة ثقافية، وليس كمعتقد ديني كما كان في السابق. وهي مرتبطة بدورة حياة الإنسان من الميلاد حتى الموت، فعندما يولد الطفل وتكمل المرأة النفساء الأربعين يومًا يذهبون بها إلي النيل لتغسل وجهها ووجه مولودها، كما يتم الذهاب بالطفل المختون إلى النيل بـ «سيرة»، مع حمل جريد النخيل، وكذلك الحال عند الزواج، وحتى عندما تكمل المرأة التي توفي زوجها العدّةَ تذهب إلى نهر النيل، بشرط أن تغطي وجهها، وتحرص ألّا ترى شخصًا في طريقها إليه حتى تغسل يديها ووجهها، ثم ترجع إلى منزلها وتباشر حياتها بشكل طبيعي، لأنّ ثمة معتقدًا بأن الشخص الذي تراه ربما يموت في اليوم نفسه. وكانت هذه العادات تمارس حتى زمان ليس ببعيد، ولا أخفي عليك أنني عشت هذه التجربة عندما توفى أبي قبل سنوات، وقامت والدتي بهذه الطقوس.
وتظل هذه العادات والتقاليد ثابتة مهما تقدمت الحياة وتطورت، لأنها جزء من الموروث وثقافة الناس. وإن تراجعت بنحو لافت في المدن، لكنّها في القرى والأرياف المتاخمة للنهر ما زالت موجودة».
وعندما تأتي «السيرة»، يجد الأطفال فرصتهم، فيتركون ألعابهم وينطلقون للوقوف على «القيف» مع زمرة القادمين، وهم يغسلون أياديهم ووجوههم تبركًا بماء النيل على إيقاع الطبول والدلوكة وأنغام الأهزوجة الحصرية، وما جادت به القرائح في مثل هذه المناسبات، حتى انتهاء المراسم قبل أن تغرق الدنيا في غسق المساء.
الرابط الأعظـم
لقد اعتاد الناس لملمة كل ما جمعوه من خيرات النيل، تزامنًا مع لملمة الشمس خيوطَها الذهبية من المروج الخضراء، واحمرارها على سطح الثّعبان الفضي، للعودة إلى الديار قبل أذان المغرب. أما الصغار فيرجعون بنفوس ليست راغبة في العودة، وبأرجل غير التي ذهبوا بها، إما مغبّرة أو مغطاة بالطين، أو ملطخة بدم طعن الأشواك، ووجوه غير التي خرجوا بها، ورؤوس مثقلة بالحطب أو القشّ، أو أصناف عدة من الخضراوات، وكلها من فضل الله جاد بها البحر، ومن بعده الزُراع على القادمين بمحبة ونفوس راضية، خصوصًا أن الوشائج المجتمعية بين أصحاب الحقول وبقية الناس تحتم مثل هذا الجود، وحتى الذين لا مورد لهم يجدون ما يسوق الرزق، ويقيهم ذلّ المسغبة.
لعل أكثر ما يدهش الناس في طريق العودة صوب منازلهم الرهط الكبير من البشر رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا، كأنهم داخلون للحلّة من باب واحد، البعض على أرجلهم، والبعض على الحمير، وغيرهم على الدرّاجات الهوائية، كل آتٍ بما قسمه الله له، يستحيل أن يكون بينهم من رجع خالي الوفاض، ويخطئ من يقول ثمّة من عاد مكدّر الوجه والمزاج، لو لم يحدث عارض قدَري. وهنالك غيرهم من الشباب وكبار السنّ في طريقهم للبحر، ليبدأوا حياة ما بعد الغروب، إذ يعتبر عالمًا رحبًا للذين يأنسون الهدوء والتأمل، وكذلك الذين يستمتعون بحلاوة الصيد في الليل.
وما زال أكثر ما يتعب الصغار ويقضّ مضاجعهم «حمو النيل» (التهاب جلدي يظهر عند الفيضان في الصيف)، و«النمتي» (حشرات صغيرة لادغة توجد بكثرة في أماسيّ الشتاء، ودائمًا ما تظهر بالقرب من أماكن الزراعة)، لكنهما لم يمنعا من الذهاب للنهر، إذ كان الرابط الأعظم وجدانيًا ولا غير.
النـيل في المـنام
بعد العودة للمنزل، وقبل أن نستسلم لسلطان النوم، كثيرًا ما تسيطر الخواطر والأسئلة، من أين يبدأ وأين ينتهي هذا البحر؟ وهل نهايته مع امتزاج زرقته بزرقة السماء كما يتبدى لنا؟ وهل يلعب ويمرح الذين في مثل أعمارنا على شاطئيه مثل ألعابنا؟ وهل ثمّة بشر من وراء هذا العالم؟ كنت أحد المتعطشين إلى الإحاطة بتلك الحقائق! وحتى بعد أن يدهمني «السلطان» كنت أرى النيل أحيانًا في المنام يجري وأنا أجري بقربه، وأشباح من الموتى، وصور غريبة لا أجد لها تفسيرًا. ألم يتساءل من قبل الشاعر إدريس جماع في «رحلة النيل»:
وادٍ من السحر أم ماء وشـطآن؟
أم جــنة زفّــها للناس رضــوان؟
كل الحــياة ربيع مشــرقٌ نَضِــر
فــي جانبـيه وكل العمــر ريعـــان
وتساءل قبله الشاعر المصري أحمد شوقي:
مِنْ أَيِّ عَهدٍ في القُرَى تتَدَفَّقُ؟
وبأَيِّ كَفٍّ في المدائن تُغْدِقُ؟
ومن السماءِ نزلتَ أَم فُجِّرتَ من
علْيا الجـِنان جَداوِلًا تتَرقرقُ؟
كانت أولى الإجابات عن تلك الأسئلة عند الذهاب لأول مرة إلى مدينة أم درمان في الضفة الغربية للنيل عبر جسر شمبات، ولعل أكثر ما يدهش المتأمل مناظر الحقول والمروج الخضراء الممتدة على ضفتيه، وتتملكه الحيرة لما يرى المياه متدفقة على مدّ البصر جنوبًا وشمالًا، أما عندما يعبر مدينة بحري إلى الخرطوم عبر جسر النيل الأزرق، فيراه قادمًا من الشرق نحو الغرب باندفاع رهيب، ليتدفّق سيل آخر من الأسئلة، هل ذيّاك نهر جديد، وأين يصب؟ أين تذهب كل هذه المياه المتدفقة؟ كلها أسئلة لم نجد لها إجابات تفصيلية إلّا بعد التحاقنا بالمدرسة.
في المدرسة
كما كان النيل مصاحبًا لنا في الواقع وفي الأحلام، فمازال يصاحب الدارسين في مراحلهم الدراسية، يجري معهم من مدرسة إلى مدرسة، ومن فصل إلى فصل، جغرافية وتاريخًا، وروايات تروى، وقصائد تجري على الشفاه، ومع كل درس يزداد عظمة ورسوخًا، ويزداد الطلاب إدراكًا والتصاقًا به، وكانت قصيدة «النهـر» على عهدنا هي بداية التعرّف إليه بمنهاج.
انظــر أخــي للنهــر
فيه المــياه تجــري
تجري على استمرار
بالـــلـــــــــــــــــيل والـــنهـــــــــار
ولما تقدّمنا في الدراسة عرفنا كيف يكون النيل جسرًا للمحبة والتواصل، ورابطًا وجدانيًا بين الشعوب من خلال قصيدة «صديقنا منقو» - من جنوب السودان قبل الانفصال - للشاعر عبداللطيف عبدالرحمن:
نحــن روحــــان حلـلــــنا بدنا
منقــو قل لا عاش من يفصلنا
ها هــو النـــيل الذي أرضعــنا
وسقى الوادي بكاسـات المنى
فسعــدنـا ونعمنـــا ها هنــــــا
وجعلــنا الحـــب عهـدًا بيننــا
ومادام للنيل ارتباط عميق بحياة الناس، فقد ظلّت قصائده السامية مدرجة ضمن المقررات الدراسية حتى الآن.
سلـيل الفراديــس
ثم أدركنا من بعد أن النيل عالَم فيه الكثير من كل شيء، وأي شيء فيه مدهش مثير، وأشارت الأدبيات والدراسات المتراكمة إلى أن له مسميات عدة، وأن الاسم اشتُق من الكلمة اليونانية نيلوس (Nilus)، وهي ذات أصل لاتيني، وكان الفراعنة قد أطلقوا عليه قديماً اسم «أتروعا»، وتعني النهر العظيم، كما ناداه قدماء المصريين باسم «آر» (Ar) أو (Aur)، أي الأسود، إشارة إلى لون الرواسب التي يحملها عندما يفيض، ويُعدّ اسم كيم (Kem) أو (Kemi) من أقدم أسماء النيل، ويعني الأسود، ويرمز للظلام.
ومهما تعددت الأسماء واختلفت، فإنه ليس بمستغرب أن يكون النيل محور كتابات المؤلفين والعلماء والرحّالة والمستكشفين والباحثين، ولو انسابت كلماتهم متدفقة لغدت نهرًا ثانيًا، وكلما أفاضوا أفادوا وصرنا أكثر معرفة به، وبجغرافيته، وأوقات صفائه، وثورته، وهدوئه وغضبه، وعرفنا ثمة نيلًا آخر غيره، كما حدثنا ابن منظور (ت: 1311م) في مؤلفه «لسان العرب» بقوله «نَهْرُ مِصْرَ، حَمَاهَا اللَّهُ وَصَانَهَا، وَفِي الصِّحَاحِ: فَيْضُ مِصْرَ، ونِيل... نَهْرٌ بِالْكُوفَةِ». وجاء في معجم المعاني «نهرُ مِصْرَ والسُّودان، ونَهْرُ النِّيلِ نَهْرٌ من أُنْهُرِ إِفْريقِيا».
أما الرحّالة الطنجي شمس الدين أبي عبدالله محمد، المعروف بابن بطوطة
(1304 - 1377م)، فقد دوَّن: «ونيل مصر يفضل أنهار الأرض عذوبة مذاق واتساع قطر وعظم منفعة. والمدن والقرى بضفتيه منتظمة، ليس في المعمورة مثلها. ولا يعلم نهر يزرع عليه ما يزرع على النيل. وليس في الأرض نهر يسمى بحرًا غيره. قال الله تعالى: «فإذا خفت عليه فألقيه في اليم» فسمّاه يمًّا، وهو البحر. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله [ ليلة الإسراء إلى سدرة المنتهى، فإذا في أصلها أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان، فسأل عنها جبريل عليه السلام فقال: «أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات». كما أنبأنا مرتضى الزَّبيدي (ت: 1791م) في معجمه «تاج العروس» بأن «النِّيْلُ، بالكسرِ: نَهْرُ مِصْرَ، وهو أَحَدُ الأَنْهارِ الأرْبَعة المَشْهورَةِ، بارَكَ اللهُ فيها، امْتدَادُه مِن جِبالِ القَمَرِ يفيضُ منها إلى الشلالات جِبالٌ بأَعْلَى الصَّعِيدِ، ثم منها إلى مِصْرَ إلى شلقان، ثم يَنْشعبُ شعْبَتَيْن، إِحْداهُما تَصُبُّ في بَحْرِ دِمْياط، والثانيةُ في بحْرِ رَشيدٍ»، وأشارإلى أن «النِّيْلُ قرية بالكُوفةِ في سَوادِها يَخْترقُها خَلِيجٌ كبيرٌ مِن الفُراتِ».
والحديث عن نهر النيل يفتح الأبواب لمزيد من المعرفة، إذ يقول العالم القزويني زكريا بن محمد في «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات»، عن مسيرة النهر الخالد من منابعه إلى مصبه. «ليس في الدنيا نهر أطول من النيل؛ لأنّه مسيرة شهر في بلاد الإسلام، وشهران في بلاد النوبة، وأربعة أشهر في الخراب، إلى أن يخرج ببلاد القمر خلف خط الاستواء، وليس في الدنيا نهر يصب من الجنوب إلى الشمال ويمدّ في شدة الحر حين تنقص الأنهار كلها، ويزيد بترتيب وينقص بترتيب».
أما ما جادت به قرائح الشعراء من القصائد فلا تُحصى ولا تُعد، ويصفه الشاعر التيجاني يوسف بشير في «محراب النيل» التي يغنيها المطرب عثمان حسين بقوله:
أنت يا نيــل يا سلـــيل الفراديــس
نبيـــــــل موفّــــق فـي مَســـابك
مـــلءُ أوفاضـــك الجـلال فمرحى
بالجلال المفيــض من أنســــابك
حضنـتك الأمـلاك في جـنّة الخلـد
ورفـــت علــى وضـيء عـــــبابك
دراسة حديثة
ورغم تناول الأقلام وإبداع الملهمين، فإن النيل على الأرض يعتبر من أطول أنهار الدنيا، بطول يبلغ حوالي 6650 كيلومترًا، وأشارت دراسة حديثة قام بها باحثون من جامعة تكساس الأمريكية بالتعاون مع باحثين في جامعات أخرى (حسب دورية نيتشر نيوسيانس، بتاريخ 11 نوفمبر 2019م) إلى أنهم توصلوا إلى أن «نهر النيل هو أطول أنهار العالم، ويقدر طوله بـ 6800 كيلومترًا». وهو ينبع من البحيرات العظمى في داخل القارة الإفريقية، ونهر روفيرونزا في بورندي هو النطفة أو بداية انطلاقته ليصبّ في بحيرة نيانزا، ثاني أكبر بحيرة عذبة في العالم، وكان أوّل من وصلها مستكشفًا، البريطاني جون هانينغ سبيك (1827 - 1864)، وسماها فكتوريا على ملكة بريطانيا، وتقع على خط الاستواء متاخمة لدول تنزانيا وكينيا وأوغندا، لنتذكر قول المؤرخ العلامة عبدالرحمن بن محمد (ابن خلدون) (1332 - 1406م): «أما النيل فمبدؤه من جبل عظيم وراء خط الاستواء بست عشرة درجة، ويسمّى جبل القمر، ولا يعلم في الأرض جبل أعلى منه»، ومنها يخرج «نيل فكتوريا» متجهًا شمالًا حتى يصل إلى بحيرة كيوجا، ومنها يسري ناحية الشمال الغربي ليصبّ في بحيرة البرت، ثم ينطلق «نيل البرت» شمالًا حتى يصل إلى جمهورية جنوب السودان، متجهًا عبر مدينة نمولي نحو الشمال باسم «بحر الجبل» حتى منطقة السدود، لينشق بحر الزراف ويتجه شمالًا ليلتقي بنهر السوباط المنحدر من المرتفعات الإثيوبية في الشرق، كما يواصل بحر الجبل (بحر الرجاف) مساره في الاتجاه نفسه حتى بحيرة نو، حيث يتصل ببحر الغزال القادم من الغرب، بعد أن يتغذى ببحر العرب، ثم يواصل جريانه ليتحد مع بحر الزراف عند مدينة ملكال، ومن ثمَّ يجري نحو الشمال تحت مسمى النيل الأبيض (بحر أبيض) لابيضاض مائه المائل إلى الصُفرة حتى يصل إلى جمهورية السودان.
والناظر للنيل الأبيض يلاحظ بطء جريانه في المجرى المتسع مكوناً واحدة من أكبر الجزر (جزيرة أبا) في طريقه إلى الشمال حتى يقترن بـ «النيل الأزرق» (بحر أزرق) للون مائه الأزرق السماوي، إذ بينت تلك الدراسة أن منبعه «من بحيرة تانا في الهضبة الإثيوبية ثابت منذ حوالي 30 مليون سنة، خلافًا لتقديرات العلماء السابقة التي تتراوح بين 6 و10 ملايين سنة»، ثم ينحدر مندفعًا داخل أراضي السودان باتجاه الجنوب الغربي، ليغيّر مساره ناحية الشمال الغربي، متغذيًا من نهري الدندر والرهد، ويمضي في اندفاعه حتى نقطة الاقتران في مدينة الخرطوم.
وكان العالم الجغرافي أبوعبدالله محمد القرطبي الملقّب بالإدريسي (1100 - 1165م) قد سبق الجميع بقوله في كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»: «والقسم الثاني من النيل يمر من جهة المشرق إلى أقصى المغرب، وعلى هذا القسم من النيل جميع بلاد السودان».
عناق مدينتين
بعد أن وصلنا هذه المرة إلى أرض مقرن النيلين برفقة المصور مبارك، (الشهير
بـ «حتة»)، إذ بنا أمام مشهد لا يستطيع المرء الوقوف عنده دون أن يمجّد الخالق متأملًا الألق والجمال والروح التي سبغتها الطبيعة في هذه البقعة، وإلي أيّ حدّ امتدت يد القُدرة ليتعانق النيلان، وكلاهما من عرق مختلف (أحدهما حبشي والآخر من أدغال إفريقيا) التقيا بحميمية مذهلة، جعلت أرضهما مسرحًا للخلق والإبداع.
يقول الشاعر المصري صلاح عبدالصبور (1931 - 1981) في أغنية غنّاها المطرب السوداني سيد خليفة:
يا قــدران في مجــرى
تبارك ذلك المجري
فيمــناه على اليُسـرى
ويسراه على الأخرى
فهـــذا الأزرق العـاتي
تدفق خالـــدا حـــــرا
وهذا الأبيض الهـادي
يضـم الأزرق الصـدرا
لا انفصلا ولا انحسرا
ولا اختلفا ولا اشتجرا
ولا هـــــذى ولا تلــك
ولا الدنيـــــا بمـا فيها
تساوى ملتقى النيلين
في الخرطوم يا سمرا
وفي هذا الموقع الفريد تعانق مدينة أم درمان الخرطومَ في منظر لا شبيه له، غناه المطرب حسن عطية في أغنية «الخرطوم» للشاعر الملحن عبدالرحمن الريح:
في المقرن تشوف الأشجار صفوف
والنيل حولها كالعابد يطوف
تشرب من زلال من خمر حلال
ويعم الجلال طولها وعرضها
وهذا العناق الأزلي الدائم جعل لكل مدينة وجهًا جماليًا في الصباح وآخر في الليل يختلفان عن بعضهما في الروعة، حيث تبلغ ذروتها ناحية الخرطوم التي تمثّل في حقيقتها شبه جزيرة.
يقول الشاعر التيجاني الحاج موسى، في أغنية تغنيها مجموعة عقد الجلاد:
يا جمال النيل والخرطوم بالليل
يا راضعة من نيلين حضنوك من أزمان
يا قبلة الزائرين يا درّة السودان
أما الناظر لطبيعة اقتران النيلين من جسر النيل الأبيض الذي يربط بين المدينتين، فلا يرى إلّا كما رأى الشاعر عبدالصبور، ومن قبله الأديب السوداني معاوية محمد نور، بل يحس بأنه «في شبه حلم، ويعجب لهذا الالتقاء الهادئ الطبيعي، وذلك التصافح العجيب من غير إثارة ضجة ولا صوت، فكأنما النيلان افترقا في البدء على علم منهما، وهنا يتلاقيان كما يلتقي الحبيبان ويندمجان نيلًا واحدًا، فما ندري أنهما كانا نيلين من قبل، ولا ترى في موضع الالتقاء ما يشير إلى شيء من المزاحمة أو عدم الاستقرار، مما يلاحظ عادة في التقاء ما بين جهتين مختلفتين، وإنما هناك عناق هادئ ليّن، وانبساط ساكن حزين».
بينما عبّر عن ذاك الالتقاء الربّاني الراقي الشاعر خالد أبو الروس والمطرب أحمد المصطفى في «ساعات اللقاء»:
كيــف يا وديع فـي الملتـــقى
شوف الطبيعــــة ورونقه
نيليـــنا كيــــف متعانقـــــــة
شوف النخــــيل الباسـقة
وفي «مناجاة» للشاعر مسعد حنفي، تغنّى المطرب صلاح مصطفى:
هل تذكري نزهتنا في المقرن سوى؟
وسط الزهـــور نتساقـى كاسات الهــوى
هل تذكري النيلين عناقهم كيف بــدا؟
زي احتضــــان الوردة لــي بلل النــــدى
على ذكر هذه «المناجاة»، كم من تناجوا وفاض بهم الحنين إلى ضفافه، وقد شهِد النيل من قصص العشق والغرام ما لا يشهده غيره، ولو قُدّر له أن يبوح بها لما توقّف عن الكلام حتى الآن، يقول الشاعر محمد سعد دياب في أغنية «رسالة شوق»: «بعيد يا غالية بتذكر ضفاف النيل/ وليلة حب ما عاشها الزمان زي حالها ما فكر/ بتذكر.. ضفاف النيل»، ما يؤكد أنّ للنيل مقامًا نفسانيًا خطيرًا في النفوس، يثير الوجدان ويحرّك الحنين وأشواق العودة للوطن الذي يمخر أراضيه، وهو حالة من حالات العشق للربوع التي ترتوي من فيضه، ولنا أن نستمع للمطرب سيد خليفة يغنّي للشاعر إبراهيم رجب:
بتذكّر فيك عهـد صبايا... على شاطئ النيل
حبيبي جالس معايا... أسمر وجميل
أنا هنا شبيت يا وطني
زيك ما لقــيت يا وطني
في وجودي أحبك وغيابي
عجائب الدنيا
من عجائب الدنيا أن يلتقي هذان العنصران المختلفان، ويمتزجان ليشكلا قبل أكثر من 500 سنة جزيرة توتي، مما أكسبها موقعًا بهيًا ساحرًا بين مدن الخرطوم وأم درمان وبحري، إذ يحفّها الأزرق من الشرق والجنوب، ملتحمًا مع الأبيض في الجهة الغربية (أولى مراحل تكوين نهر النيل)، ليلتقيا بعد مئات الأمتار بالفرع الشرقي للأزرق، ليضفي عليها هذا السوار المائي النادر تميّزًا قلّ أن تجود به الطبيعة، أغناها بعشرات الآلاف من البشر من قبيلة المحس التي ترجع أصولها إلى أنصار الخزرج بالمدينة المنورة (كما تشير المصادر)، والبساتين المخضرة المنتجة للخضر والفاكهة بأنواعها المختلفة، والمناظر التي تبهر الناظرين، مما جعلها قِبلة للسياح والزوّار، وكثير من الطيور المتنوعة، فضلًا عن كونها منبعًا مهمًا للإبداع.
يقول الشاعر التيجاني يوسف بشير في «توتي في الصباح»:
يا درةً حفّها النيل واحتواها البر
صحى الدجي وتغشاك في الإسرة فجر
وصاح بين الربى الغرّ عبقري أغرّ
وطاف حولك ركبٌ من الكراكي أغر
وفي صورة أخرى رسمها الشاعر أبو الروس، وعكسها المطرب إبراهيم الكاشف:
شوف توتي يا المحبوب بدت
كالطفلــــة باكــــــــية تنــهدت
ضماها ذاك النـــــيل الشــفوق
والطير عمل في نخيلها سـوق
ومن جماليات المنظر الكوني في هذه البقعة، خروج النيل باندفاع كأنه منسلٌّ من رحم توتي، كما الطفل الوليد، كائنًا مكتملًا نادر الوجود، منطلقًا نحو الشمال بلون جديد وطعم جديد، وروح جديد، وأسماء عدّة هي نهر النيل أو النيل أو البحر، أو بحر النيل.
شلالات وحضارات
المتابع لنهر النيل في مسيرته شمالًا حيثما جالت عيناه لا يرى سوى الأشجار والغابات والحقول المخضرّة على ضفتيه، وأناس خُلقوا ليكونوا بقربه على الدوام، حيث تتوزع القصص والحكايات، والخرافات والأساطير والمعتقدات، والحضارات القديمة والضاربة في القِدم، مثلما تتوزّع المدن والقرى والجزر والشلالات، والثقافات والعادات والتقاليد والفنون على جانبيه حتى مصبّه، بدءًا بحضارة الشهيناب (4500 - 3000 ق. م) التي عمّرت ضفافه الغربية عند مدينة أم درمان، تقابلها بالشرق حضارة ملوك العبدلاب في مدينتي حلفاية الملوك وقَرِي (1505 - 1821م)، ثم تظهر للعيان وعلى بعد 90 كلم تقريبًا إحدى المناطق السياحية المهمة، هي «الشلال السادس»، المعروف بـ «شلال السبلوقة»، ثم يجري شمالًا حتى يصل إلى مدينة عطبرة في ولاية نهر النيل، ليتغذى بـنهر عطبرة (الأتبراوي) القادم من جبال الحبشة، ثم يواصل جريانه شمالًا، مرورًا بـ «الشلال الخامس» المسمّى «شلال وادي الحمار» حتى مدينة أبوحمد في الولاية نفسها، ليتخذ النهر الخالد مسارًا جديدًا ناحية الجنوب الغربي فيما يُعرف بـ «المنحنى»، أو «انحناءة النيل العظيم»، في منطقة الرباطاب الغنية بالجزر الساحرة، وأشهرها جزيرة مقرات، ثم يمرّ بمناطق الشايقية، مكونًا أرخبيلًا من الجزر الوافرة يماثل تعدادها حبّات عقد المسبحة.
ثم يعود النهر بعد مسيرة 150 كيلومترًا تقريبًا لمساره الأول نحو الشمال، ضاربًا الصحراء في الولاية الشمالية، وعابرًا للواحات حتى بلاد النوبة. ومن عظمة النهر على طول امتداده في هذه البقاع، أنه يضيق ويتسع بمعناه العميق فيه عنفوان وقوة، مضفيًا عليها حياة وتاريخًا وحضارة، ومؤكدًا أنه نسيج وحده، وليس لجلاله مثيل، يقول الشاعر إدريس جماع:
ما ملّ طــول الســـرى يومـًـا وقـد
دفنت على المدارج أزمان وأزمان
ينساب من روضة عذراء ضاحكة
فـي كل مغنـــى بها للسحــر إيوان
غير أنّ المتابع مسيرة النيل في مجراه أقصى الشمال يجد كثيرًا من الجزر الصغيرة والكبيرة، مثل جزر بدين ومقاصر وأرقو في منطقة دنقلا، ومروارتي، ثم صاي في عبري ببلاد النوبة، وهي جزر غنيّة بالسكان، ولأهلها غرام مع النيل لا يدانيه غرام، يقول الشاعر جيلي عبدالرحمن:
أنا ظمــــآن يا عــبري
إلى الأمــواه والطـــير
إلى كثـــبانك الغرقــى
هناك على حافة النهر
ولا تخلو مسيرته في هذه المناطق من صعاب، إذ تعترضه كثير من الجنادل والصخور الصغيرة والكبيرة، مثل الشلال الرابع في منطقة الشايقية، والشلال الثالث في منطقة كرمة، ثم الثاني عند مدينة حلفا حتى الشلال الأول عند مدينة أسوان في صعيد مصر.
من جهة أخرى، تتميز هذه المناطق دون غيرها بتلاقٍ تاريخي وحضاري عميق، أبرز شواهده المعابد وأعمال الهندسة المعمارية والآثار التي اكتنزها السودان الشمالي على الضفاف منذ آلاف السنين، وقد شكلت مع مصر «حضارة وادي النيل»، كواحدة من أعرق الحضارات في العالم، وهي غنية بالمظاهر الاجتماعية، والدينية، والاقتصادية، والسياسية، ومختلف مجالات الفكر والإبداع الإنساني، خصوصًا أن الحضارة النوبية الكوشية، أو «مملكة كوش» أو «المملكة النوبية» هي أول الممالك الإفريقية في القرن الخامس، وعرفها العالم منذ أكثر من 2500 قبل الميلاد، وكانت عاصمتها كرمة (2400 - 1500 ق.م.)، (حضارة كرمة)، إحدى أهم مراكز حضارة وادي النيل، ثم تمركزت في مدينة نبتة، (حضارة نبتة: 1000 - 300 ق. م)، وتحولت لمدينة مروي (حضارة مروي: 300 ق. م. - 300 م)، ثم قامت على أنقاضها في النصف الثاني من القرن السادس الممالك المسيحية، وهي «نوباتيا»، التي تمتد من الشلال الأول إلى الثالث، وعاصمتها فرس (543م)، ومملكة «المقرة»، التي تمتد حتى مدينة كبوشية الحالية، وعاصمتها دنقلا العجوز (569 م)، ثم قامت جنوبها على ضفاف النيل الأزرق مملكة «علوة» وعاصمتها مدينة سوبا.
أساطير وحكايا
منذ تفجّر النيل قبل ملايين السنين، قطنت ضفافه أمم عديدة مختلفة الألوان والأشكال، سود وبيض وسمر، عرب وعجم، خليط من الأعراق والأجناس، وانتشرت حول حوضه الذي يشمل إحدى عشرة دولة، بدءًا ببوروندي، ورواندا، وتنزانيا، والكونغو، وأوغندا، وكينيا، وجنوب السودان، وإثيوبيا، والسودان، ومصر، إضافة إلى دولة إريتريا، وتوزعت كما الأشجار ونشرت حضاراتها وثقافاتها وعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها وفنونها من المنبع إلى المصب، إلّا أن كثيرًا منها لم يُكتشف بعد، وما فتئ كل شبر حوله ينطوي على سرّ عظيم، تحاصره القصص والحكايات والأساطير، وهي - كما تحدث لـ «العربي» الباحث والمؤلف محمد شريف أحمد: «تختلف من منطقة لأخرى، لكنّها تتشارك في جماليات الأسطورة والخرافة وقوة تأثيرها على الناس ومعتقداتهم، وخير مثال لذلك تلك الأسطورة النوبية التي تشير إلى «سيلا» بنت أحد ملوك النوبة التي كانت تجلس على الشاطئ وتطعم التماسيح بصفة دائمة، حيث إن قصر والدها كان مشرفًا على النيل، وجرت العادة بأن يقترعوا لاختيار فتاة لتقديمها قربانًا للنيل، فوقعت القُرعة ذات مرة على أميرتهم المحبوبة سيلا، فما كان منهم إلّا أن قاموا بإلقائها في النيل، لكنّ التماسيح التي كانت تطعمها، في وفاء عجيب، أخرجتها من النيل، وقد تكررت العملية عدة مرات، وفي كل مرة تخرج التماسيح الأميرة إلى الشاطئ، وفي المرة الأخيرة طاردت التماسيح الكهنة، فما كان منهم إلا أن تركوها وشأنها، واختاروا غيرها قربانًا مقبلًا. وكانوا يحذّرون أبناءهم من الاقتراب من النيل والاستحمام فيه ساعة الغروب، وذلك ربما لوجود اعتقاد ديني قديم بأنّ الأرواح الشريرة تنطلق في تلك الساعة من الزمن وتكون أكثر فتكًا بالإنسان في ضفافه».
وتكثر التماسيح في هذه المنطقة بشكل ملحوظ، وللناس قصص كثيرة عن حياتها وتصرفاتها.
أما تقديس النيل وتمجيده وتقديم القرابين له فأمر ليس قاصرًا على شعوب منطقة دون أخرى، وقد كتب الكاتب الجنوسوداني
د. شول دينق يونق مقالًا عن «قرابين النيل» عند القبائل الجنوبية في دولة جنوب السودان:
«إن عروس النيل التي كانت تقدّم للنيل في مصر الفرعونية كانت تقدم عند القبائل النيلية بأسماء مختلفة. فالدينكا يسمونها نانكير، أي (بنت النيل)، وكانت تقدّم لإله النهر، قبل أن يتحول القربان إلى عالم الحيوان».
ويمضي ذاكرًا «العابرون للنهر عند الدينكا لا يعبرون بأبقارهم من الضفة الشرقية إلى الغربية دون تقديم قربان للإله الذي يطلب منه السماح بعبور المواشي والناس دون أذية من مخلوقات البحر التي يتحكّم فيها. وفي الصباح الباكر يذهب الجميع بأبقارهم إلى النهر بصدد العبور، وهنا يتقدّم أفراد من الأسر التي تقوم بطقوس العبور، حيث يكون في معيّتهم خروف أو ماعز أو ثور، وتربط أطرافه ثم يرمى في النهر».
ويضيف د. يونق «إن القرابين تقدّم للنيل طلبًا للطُّهر والإخصاب، فالمرأة التي تتأخر في الإنجاب تؤخذ إلى النهر للطهر وطرد الأرواح الشريرة، كما أن المولود الجديد يذهب به إلى النهر ليبارك بالماء».
هذه القصص والأساطير سائرة على امتداد عمر النيل وطول شطآنه، إلّا أنها تكتسب خصوصية وأهمية قصوى في دولتي وادي النيل (السودان ومصر)، لما لهما من حضارة إنسانية عميقة، وتاريخ مشترك ورباط وجداني وثيق، مما أحكم عرى الحياة بمشمولاتها بين شعبيهما منذ الأزل، دلّل عليه كثير من المفكرين والباحثين والأدباء، وها هو الشاعر السوداني مبارك المغربي (1928 - 1982م) يكتب: «أخي في الشمال» لتغنيه المغنية فائزة أحمد (1930 - 1983م) بألحان رياض السنباطي:
جرى النيـلُ في أرضِنا كوثرا
فـأجرى المودةَ لمّـا جرى
وغنـّتْ مـع المــوجِ شُــطآنهُ
تُـوثّقُ بين القلـوبِ العُرى
كـأني بدمياط رغـــمَ النـــوى
يـعانقُ فـي لـهفةٍ عطبـرة
فيضان النيل
في أثناء تجوالنا على ضفاف النيلين الأزرق والأبيض ونهر النيل في العاصمة الخرطوم، أكثر ما يلفت الأنظار تغيّر مظاهر الحياة بفضل دوران عجلة الزمان، ومقتضيات العصر والتطور، خاصة في النواحي المعمارية والسياحية، حتى شملت ألعاب الأطفال في عرض النيل، في حين لا تزال الحقول والمروج الخضراء على طبيعتها، وإن تخللتها بعض الأبنية السكنية الراقية، وما زال الجلوس على الضفاف يحرّر النفس من القيود التي تكبّلها، وما زال النيل ملاذًا رحبًا وآسرًا للكثيرين، وله تأثير في السلوك والذوق والمشاعر.
كما لاحظنا أن إدارة الدفاع المدني تعدّ العدة لموسم الأمطار وما يصاحبه من فيضان للنهر بفرعيه الأبيض والأزرق، حين تكون الأمواج غير الأمواج التي يراها الناس عادة، كما الوحوش المجنونة، وآنئذٍ يتساوى جميع مَن حوله في مهددات الخطر الذي يعرفونه ويخشونه، إذ يفيض ويصبح عنصرًا مخربًا للزراعة، ومقلقًا للذين يجاورونه، ويسامرونه، ولعاشقيه ومن يحومون حوله، كأنه لم يراعِ للأصدقاء والأعداء عهدًا.
ولعلّ من محنه الفظيعة في جنوب الوادي أن الفيضان دائمًا ما يأتي مقرونًا بالسيول لهطول الأمطار بغزارة في موسم الخريف من كل عام، مما يؤدي إلى تدمير وإغراق بعض القرى، واجتياح آلاف المنازل، فيوسع أهلها تشريدًا وقتلًا، كما لو كان يثأر لعزوف الناس عن تقديم القرابين، أو عملًا بمبدأ الأخذ والعطاء، أو لعلّه شيء من إرواء الكبرياء، أو حب السيطرة وإخضاع من يحيطون حوله، تدليلًا على قوّته وجبروته، أو ربما حالة من الجوع تعتريه العام تلو العام، كما يقول الشاعر فضيلي جماع في قصيدة مطولة:
وقد يأكل النِّيل أبناءه.. إذ يجوع!
وهذا أمر سيظل خافيًا، أو كما يقول المثل «سرّه في بَطنه»، وفيه ما يجعل الجميع يخافونه ويرهبونه.
لكن كلّما طفح النيل فاضت القرائح، يقول الشاعر محمد الحسن سالم (حميد):
يفيض النيل نحيض نحن
يظل حال البلد واقف تقع محنة
لا النيل القديم ياهو.. ولا يانا
نعاين في الجروف تنهد.. ولا يانا
رقاب تمر الجدود تنقَص.. ﻭﻻ ﻳﺎﻧﺎ
ويبقى الناس على اختلاف مستوياتهم لا حيلة لهم سوى التفاف بعضهم مع بعض، كما يقال «المصائب يجمعن المصابينا»، مظهرين صورًا نادرة من التلاحم والتضامن، تفيض حناجرهم بأهازيج الحماسة، وخاصة الأهزوجة الشعبية التي يحفظها السودانيون عن ظهر القلب، ويرددونها في أوقات الفيضان «عجبوني الليل جوا ترسوا البحر صددوا/ عجبوني أولاد الفرسان ملصوا البدل والقمصان/ وصبوا البحر خيرصان» لأجل تشييد المتاريس بأكياس الرمل حول مهارب المياه، وبذل كل ما بوسعهم حتى يدرأوا الخطر.
بعد أن يغلب على المشهد الفجيعة والصبر، وتقوم الناس ولا تقعد على وقع الكوارث، تمتدّ الأيادي في الداخل والخارج لدرء آثارها، وما دام الناس على قناعة بأن نهرهم ليس حقودًا لديه شهوة الانتقام، فمهما أسرفوا في الأسى سرعان ما تهدأ النفوس، ويرجعون إلى ترميم وتشييد مساكنهم في أماكنها من جديد، ويظل النيل هو عشقهم الذي لا ينمحي، يقول الشاعر المغني خليل فرح:
يا مهبط النور والحياة
يا معدن الذوق والحـيا
أرواحـــنا دونك ها هي
مبذولة تفــديك زاهــية
يحدثنا الأديب صالح عن فيضان النهر عند المنحنى العظيم في رائعته «عرس الزين» فيقول: «ينتفخ صدر النيل، كما يمتلئ صدر الرجال بالغيظ. ويسيل الماء على الضفتين، فيغطي الأرض المزروعة حتى يصل إلى حافة الصحراء عند أسفل البيوت، تنق الضفادع بالليل، وتهب من الشمال ريح رطبة مغمسة بالندى تحمل رائحة هي مزيج من أريج زهر الطلح، ورائحة الحطب المبتل ورائحة الأرض الخصبة الظمأى حين ترتوي بالماء، ورائحة الأسماك الميتة التي يلقيها الموج على الرمل. وفي الليالي المقمرة حين يستدير وجه القمر، يتحول الماء إلى مرآة ضخمة مضيئة تتحرك فوق صفحتها ظلال النخل وأغصان الشجر. والماء يحمل الأصوات إلى أبعاد كبيرة، فإذا أقيم حفل عرس على بعد ميلين تسمع زغاريده ودقّ طبوله وعزف طنابيره ومزاميره، كأنه إلى يمين دارك. ويتنفّس النيل الصعداء، وتستيقظ ذات يوم، فإذا صدر النيل قد هبط، وإذا الماء قد انحسر عن الجانبين، يستقر في مجرى واحد كبير، يمتد شرقًا وغربًا، تطلع منه الشمس في الصباح وتغطس فيه عند المغيب. وتنظر، فإذا أرض ممتدة ريانة ملساء ترك عليها الماء دروبًا رشيقة مصقولة في هروبه إلى مجراه الطبيعي»، حتى يصل إلى بحيرة ناصر جنوب جمهورية مصر، ومنها يجري في الأراضي المصرية ليصل إلى القاهرة، وينشطر شمالها إلي دمياط شرقًا، ورشيد غربًا، ليواصلا جريانهما شمالًا حتى يلتحقا بالبحر الأبيض المتوسط.
بالتالي، مهما توالت أخطار النيل على حياة الناس، وشهدوا من دمار وعذابات، فهم معه في تصالح ومحبة مستمرة، ولو يعاقبوه على ما اقترف من فظائع وفواجع، لما اقترب أحد من ضفافه، بل يرون أن ما يصيبهم من عوارض وأضرار هي أقل كثيرًا من خيراته، وما هي إلّا تصاريف الأقدار.
يقول الشاعر سيف الدين الدسوقي:
والنيل إن فاض أروتنا جداوله
وإن تراجع جاد النخلُ بالرُّطب
صفوة القول، أنه مهما تحدثنا عن النيل العظيم فلن نفي، فهو عميق محاط بهالة كثيفة من الأسرار، ولم تُسبَر أغواره، ويظل على الدوام ينبوعًا للعلم والمعرفة والفكر والثقافة والأدب والحنين، ورمزًا للجود والكرم، يجزل الوئام والمحبة للشعوب، وأجدني أستعطف الشاعر عمرو بن الأهتم المنقري لأقول:
لعَمرُك ما ضاق النيل يوماً بأهله
ولكنّ أخلاق الرجال تضيق ■
من هنا يبدأ نهر النيل العظيم
متحف السودان القومي على شط النيل الأزرق
يخرجون فرادى ويعودون أفواجاً أفواجاً من عند شاطئ النيل
لحظات تأمل في الخرطوم بحري على زورق شراعي
المراكب في الشوارع بسبب الفيضان
في رضا وصبر وتأمل
النيل يخرج عن المألوف ويتخطى الحواجز
سحر الطبيعة وحياة الناس وعشق النهر الخالد
الفرح وسط مياه النهر