نهرُ النّيل العظيم قصةُ حياة وأغنيةٌ على الشّفاه

نهرُ النّيل العظيم قصةُ حياة وأغنيةٌ على الشّفاه

حيثما‭ ‬يمّم‭ ‬المرء‭ ‬وجهَه‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬وجغرافيا‭ ‬العالم،‭ ‬يجد‭ ‬نهر‭ ‬النيل‭ ‬العظيم‭ ‬بارزًا‭ ‬وحاضرًا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مضمار،‭ ‬يحتفظ‭ ‬بسلطانه‭ ‬وجبروته،‭ ‬رغم‭ ‬مرور‭ ‬ملايين‭ ‬السنين،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مسيرته‭ ‬من‭ ‬المنبع‭ ‬إلى‭ ‬المصب‭ ‬تدفّقًا‭ ‬للمياه‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭ ‬وحسب،‭ ‬إنما‭ ‬في‭ ‬حقيقتها‭ ‬حياة‭ ‬إنسانية‭ ‬زاخرة‭ ‬بالمعاني‭ ‬والقيم،‭ ‬ومهما‭ ‬طالعنا‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬والأدب‭ ‬من‭ ‬مأثورات،‭ ‬فإنّنا‭ ‬نجده‭ ‬متجذرًا‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬منها،‭ ‬بل‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬أحشائه‭ ‬قطع‭ ‬ودُرر‭ ‬فريدة‭ ‬في‭ ‬عالَم‭ ‬الفنون‭ ‬والإبداع،‭ ‬مثلما‭ ‬تواترت‭ ‬على‭ ‬ضفّتيه‭ ‬حضارات‭ ‬ومعالم‭ ‬تاريخية‭ ‬بارزة‭... ‬حقًا‭ ‬هو‭ ‬منحة‭ ‬نادرة‭ ‬من‭ ‬مِنَح‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬يشقّ‭ ‬أراضيها‭ ‬والشعوب‭ ‬التي‭ ‬تسكن‭ ‬ضفافه‭.‬

تبجيلًا‭ ‬وانتفاعًا‭ ‬بهذه‭ ‬المنحة‭ ‬الربانية،‭ ‬نحا‭ ‬الكثيرون‭ ‬إلى‭ ‬تقديس‭ ‬النهر‭ ‬العظيم،‭ ‬لكونه‭ ‬باعثًا‭ ‬للحياة‭ ‬ومغذيًا‭ ‬للأرواح،‭ ‬ومبعثًا‭ ‬للتفكر‭ ‬الكوني‭ ‬والديني،‭ ‬والألفة‭ ‬والحب،‭ ‬وينبوعًا‭ ‬لإلهام‭ ‬المبدعين‭.‬

يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬علي‭ ‬التنقاري‭ ‬في‭ ‬‮«‬نيل‭ ‬الحياة‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬يصدح‭ ‬بها‭ ‬المطرب‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬داؤود‭:‬

أنت‭ ‬ينبـوعٌ‭ ‬من‭ ‬دنان

يتهادى‭ ‬في‭ ‬رقة‭ ‬وحنان

أنت‭ ‬في‭ ‬تُربـك‭ ‬جمـان

أنــت‭ ‬لشعــبك‭ ‬أمــــــان

أنت‭ ‬من‭ ‬قِــدم‭ ‬الزمان

أنـت‭ ‬شـــريان‭ ‬الحــــياة

من‭ ‬الذاكرة

    ‬لما‭ ‬كان‭ ‬لنهر‭ ‬النيل‭ ‬الخالد‭ ‬تأثير‭ ‬عميق‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬وطبائع‭ ‬وأيديولوجيات‭ ‬الأمم‭ ‬التي‭ ‬تقطن‭ ‬ضفافه،‭ ‬ولما‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬عُرى‭ ‬وثيقة‭ ‬به‭ ‬لكونه‭ ‬إكسير‭ ‬حياتهم‭ ‬نجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬أمام‭ ‬رغبة‭ ‬جارفة‭ ‬للتطواف‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬شواطئه‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬السودان،‭ ‬بقدر‭ ‬استطاعتنا،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يكتمل‭ ‬إلا‭ ‬بذاكرة‭ ‬ماضوية،‭ ‬ونوستاليجيا‭ ‬حادّة‭ ‬إلى‭ ‬سنوات‭ ‬خلت،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬وأن‭ ‬ارتباط‭ ‬أهل‭ ‬القرى‭ ‬والأرياف‭ ‬بالنيل‭ ‬في‭ ‬الراهن‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬كثيرًا‭ ‬عن‭ ‬الماضي،‭ ‬حينما‭ ‬كنا‭ ‬نذهب‭ ‬ونحن‭ ‬صغار‭ ‬مع‭ ‬الجدة‭ ‬للوالدة‭ (‬الحبوبة‭) ‬في‭ ‬نهار‭ ‬الشمس‭ ‬المحرقة‭ ‬صوب‭ ‬النهر،‭ ‬الذي‭ ‬يناديه‭ ‬السودانيون‭ ‬مجازاً‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬البحر‮»‬،‭ ‬كنا‭ ‬نركض‭ ‬وراءها‭ ‬مندفعين‭ ‬ثلاثة؛‭ ‬طفلان‭ ‬وطفلة،‭ ‬ونحن‭ ‬أكثر‭ ‬شوقًا‭ ‬وتحرّقًا‭ ‬للوصول‭ ‬قبلها،‭ ‬كي‭ ‬نرتع‭ ‬ونمرح‭ ‬على‭ ‬الرمال‭ ‬الناعمة،‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬الحقول‭ ‬المترامية،‭ ‬أو‭ ‬الوقوف‭ ‬خلسة‭ ‬على‭ ‬ضفته‭ ‬الشرقية‭ ‬مثل‭ ‬الكبار،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬تصطحبنا‭ ‬لا‭ ‬للّهو‭ ‬والتمتّع‭ ‬برؤيته‭ ‬وهو‭ ‬يتلوّى‭ ‬كالثعبان‭ ‬زاحفًا‭ ‬نحو‭ ‬الشمال،‭ ‬وإنما‭ ‬لنقتطع‭ ‬معها‭ ‬حطب‭ ‬الوقود،‭ ‬والحشائش‭ ‬للأغنام‭ ‬التي‭ ‬تربّيها،‭ ‬وجلب‭ ‬بعض‭ ‬الخضراوات‭ ‬المتاحة‭ ‬المبذولة،‭ ‬وهو‭ ‬فعل‭ ‬يتجدد‭ ‬نهار‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬لا‭ ‬يتوقّف‭ ‬إلا‭ ‬لطارئ‭ ‬أو‭ ‬لعلّة‭ ‬تمنعها‭ ‬من‭ ‬الذهاب‭ ‬للضفة‭.‬

كنّا‭ ‬وما‭ ‬زلنا‭ ‬في‭ ‬مسيرتنا‭ ‬نحو‭ ‬النهر‭ ‬نمر‭ ‬قرب‭ ‬مدافن‭ ‬الموتى‭ ‬في‭ ‬طرف‭ ‬المدينة‭ ‬الغربي،‭ ‬ولإيماني‭ ‬الطفولي‭ ‬بأنها‭ ‬طرق‭ ‬اللا‭ ‬عودة،‭ ‬ونهاية‭ ‬الدنيا،‭ ‬لم‭ ‬يدُر‭ ‬بخلدي‭ ‬أن‭ ‬وراءها‭ ‬دنيا‭ ‬أخرى‭ ‬جديدة‭ ‬واقعية،‭ ‬أجمل‭ ‬وأصفى‭ ‬مما‭ ‬نعيشها‭ ‬بين‭ ‬المساكن،‭ ‬إلّا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عرفنا‭ ‬الطريق‭ ‬للنيل‭. ‬ولعلّ‭ ‬أشد‭ ‬ما‭ ‬يسترعي‭ ‬الانتباه‭ ‬أن‭ ‬المقابر‭ ‬بين‭ ‬أماكن‭ ‬السُّكنى‭ ‬والشاطئ‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المناطق‭ ‬المحاذية‭ ‬للنيل،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬اتجاهاتها‭ ‬أكثر‭ ‬قربًا‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬مساكن‭ ‬الأحياء‭. ‬وكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يثيرني‭ ‬فضول‭ ‬الطفولة‭ ‬لأتساءل‭: ‬أهذا‭ ‬مصادفة؟‭ ‬أم‭ ‬ثمة‭ ‬اعتقاد‭ ‬جمعي‭ ‬سائد؟‭ ‬أم‭ ‬تقاليد‭ ‬مجتمعية‭ ‬قديمة‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬الأسلاف‭ ‬منذ‭ ‬عهود‭ ‬سحيقة؟‭ ‬أم‭ ‬قضى‭ ‬رضا‭ ‬وعطف‭ ‬الطبيعة‭ ‬على‭ ‬الراحلين‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬مرقدهم‭ ‬الأبدي‭ ‬بقرب‭ ‬النهر‭ ‬الخالد؟

‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬يبتعد‭ ‬المرء‭ ‬قليلًا‭ ‬عنها‭ ‬حتى‭ ‬تتبدى‭ ‬مظاهر‭ ‬الدنيا‭ ‬الجديدة،‭ ‬حياة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬النهاية،‭ ‬بانتقال‭ ‬وئيد‭ ‬من‭ ‬لهيب‭ ‬الشمس،‭ ‬إلى‭ ‬النسيم‭ ‬العليل‭ ‬المشبع‭ ‬برائحة‭ ‬النباتات‭ ‬والثمار‭ ‬الفائح‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬النهر،‭ ‬وسماع‭ ‬تغريد‭ ‬الطيور‭ ‬وشقشقة‭ ‬العصافير،‭ ‬وثغاء‭ ‬الشياه،‭ ‬وخوار‭ ‬الثيران،‭ ‬وأزيز‭ ‬رافعات‭ ‬المياه‭ (‬الوابورات‭) ‬وخرير‭ ‬الجداول‭. ‬أصوات‭ ‬مختلطة‭ ‬خافتة‭ ‬كأنها‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬جوف‭ ‬صمت‭ ‬الموتى،‭ ‬ووقتئذٍ‭ ‬يدرك‭ ‬المرء‭ ‬أنّه‭ ‬دنا‭ ‬من‭ ‬الدنيا‭ ‬الجديدة‭ ‬وقيمتها‭ ‬على‭ ‬الشاطئ،‭ ‬ولا‭ ‬عجب‭ ‬إن‭ ‬تغنّى‭ ‬المطرب‭ ‬خضر‭ ‬بشير‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬شكل‭ ‬الغزالة‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬محمد‭ ‬بشير‭ ‬عتيق‭:‬

والشمس‭ ‬للنيل‭ ‬يا‭ ‬خـدين

ترسل‭ ‬خيوط‭ ‬متبهرجين

زي‭ ‬تبري‭ ‬ذائب‭ ‬في‭ ‬لـُجين

والروضة‭ ‬في‭ ‬ندى‭ ‬وارتشاح

الكون‭ ‬ثميل‭... ‬من‭ ‬طيبها‭ ‬يتوشّح‭ ‬وشاح

 

لذّة‭ ‬العمـل

يرتاد‭ ‬الناس‭ ‬نهر‭ ‬النيل‭ ‬عادة‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬والقرى‭ ‬والنجوع‭ ‬الواقعة‭ ‬على‭ ‬ضفافه‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬إما‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬الحقول‭ ‬والبساتين‭ ‬الزراعية،‭ ‬أو‭ ‬لاصطياد‭ ‬أسماك‭ ‬البلطي،‭ ‬والقرموط،‭ ‬والبياض،‭ ‬والشلبايا،‭ ‬وخشم‭ ‬البنات،‭ ‬وأصناف‭ ‬أخرى‭ ‬عديدة،‭ ‬أو‭ ‬لجلب‭ ‬بعض‭ ‬خيراته‭ ‬أو‭ ‬للتنزّه‭ ‬والترفيه،‭ ‬وهم‭ ‬يشبهون‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض‭ ‬في‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة،‭ ‬ويختلفون‭ ‬في‭ ‬أخرى،‭ ‬حتى‭ ‬بالنسبة‭ ‬لألعاب‭ ‬النيل‭ ‬عند‭ ‬الصغار،‭ ‬وبالكاد‭ ‬يكون‭ ‬واقعهم‭ ‬الحياتي‭ ‬والمعيشي‭ ‬متشابهًا‭ ‬لحد‭ ‬كبير،‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬موضع‭ ‬للشكوى‭ ‬والتبرم،‭ ‬ولا‭ ‬مظهر‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬البؤس‭ ‬والشقاء،‭ ‬مهما‭ ‬اشتدت‭ ‬وطأة‭ ‬الحياة‭ ‬وتألّبت‭ ‬عليهم‭ ‬المحن،‭ ‬طالما‭ ‬هي‭ ‬مغطاة‭ ‬بثياب‭ ‬الصبر‭ ‬والرضا‭ ‬بما‭ ‬قسمت‭ ‬به‭ ‬الأقدار‭.‬

هكذا‭ ‬حال‭ ‬السواد‭ ‬الأعظم‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬الضفتين،‭ ‬وغالبيتهم‭ ‬من‭ ‬الزرّاع‭ ‬الذين‭ ‬يكدون‭ ‬صباحًا‭ ‬ومساءً،‭ ‬ويعتمدون‭ ‬في‭ ‬معيشتهم‭ ‬على‭ ‬حصصهم‭ ‬من‭ ‬حصادهم‭ ‬الزراعي،‭ ‬ويشعرون‭ ‬بلذّة‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬الحقول،‭ ‬مُذ‭ ‬سلكوا‭ ‬هذا‭ ‬الطريق‭ ‬بالتوارث‭ ‬من‭ ‬سنوات‭ ‬طوال،‭ ‬حتى‭ ‬بات‭ ‬مكوث‭ ‬بعضهم‭ ‬بين‭ ‬الحقول‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬بيوتهم،‭ ‬وتقوّست‭ ‬ظهورهم‭ ‬من‭ ‬الانحناء‭ ‬في‭ ‬حرث‭ ‬الأرض‭ ‬وغرس‭ ‬الشتلات،‭ ‬ودائمًا‭ ‬ما‭ ‬تتعالى‭ ‬صيحاتهم‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬البعد‭ ‬جذلى‭ ‬‮«‬تعال‭... ‬امش‭... ‬اقرع‭ ‬الموية‭... ‬يا‭ ‬ولد‭ ‬اعمل‭ ‬حسابك‮»‬‭. ‬ويكمل‭ ‬المشهد‭ ‬الروائي‭ ‬العالمي‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬بندر‭ ‬شاه‮»‬‭: ‬‮«‬وتتناهى‭ ‬الأصوات‭ ‬من‭ ‬شاطئ‭ ‬إلى‭ ‬شاطئ‭ ‬ضعيفة‭ ‬لا‭ ‬تميّزها‭ ‬الآذان،‭ ‬ولكنّهم‭ ‬كانوا‭ ‬يعلمون‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬عبر‭ ‬النهر،‭ ‬كأن‭ ‬الضفتين‭ ‬جسور‭ ‬غير‭ ‬مرئية‭. ‬يعلمون‭ ‬من‭ ‬سقى‭ ‬زرعه‭ ‬بالليل‭ ‬ومن‭ ‬سقى‭ ‬بالنهار،‭ ‬من‭ ‬مرِض‭ ‬ومن‭ ‬وَلِد،‭ ‬ومن‭ ‬مات‭ ‬ومن‭ ‬تزوّج،‭ ‬ومن‭ ‬الذي‭ ‬باع‭ ‬ومن‭ ‬الذي‭ ‬اشترى،‭ ‬وكانت‭ ‬تربطهم‭ ‬بعضهم‭ ‬ببعض‭ ‬أواصر‭ ‬وقرابات‭ ‬وأنساب،‭ ‬وتجمعهم‭ ‬الأسواق‭ ‬والمعاملات،‭ ‬يتبادلون‭ ‬بذور‭ (‬التيراب‭) ‬وشتلات‭ ‬
النخل‭ ‬وفحول‭ ‬البقر‭ ‬والحمير،‭ ‬ويجمع‭ ‬بينهم‭ ‬المداحون‭ ‬والمغنون‭ ‬وحفظة‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬هكذا‭ ‬حالهم‭ ‬من‭ ‬ملتقى‭ ‬النيلين‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬حدود‭ ‬مصر‮»‬‭.‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النشاط‭ ‬الجماعي‭ ‬الذي‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬التآلف‭ ‬والتعاون‭ ‬والمحبة‭ ‬جبلهم‭ ‬على‭ ‬مجابهة‭ ‬الشدائد،‭ ‬والمشاركة‭ ‬في‭ ‬درء‭ ‬الكوارث‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬وربما‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬أسرار‭ ‬عشق‭ ‬النيل‭ ‬وبهائه‭ ‬اللذين‭ ‬لا‭ ‬يجفّان‭.‬

 

الأفعى‭ ‬الفضّي

يقينًا‭ ‬كان‭ ‬أكبر‭ ‬همّنا‭ ‬نحن‭ ‬الصغار‭ ‬أن‭ ‬نقف‭ ‬على‭ ‬ضفة‭ ‬النهر‭ (‬قيف‭ ‬البحر‭)‬،‭ ‬والتأمل‭ ‬في‭ ‬الأفعى‭ ‬الفضي‭ ‬وهو‭ ‬يتلوى‭ ‬في‭ ‬الفجاج‭... ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬لماذا؟‭ ‬هل‭ ‬يا‭ ‬ترى‭ ‬لأن‭ ‬أهلينا‭ ‬كانوا‭ ‬يحرّمون‭ ‬علينا‭ ‬الخروج‭ ‬لمشاهدته‭ ‬وحدنا،‭ ‬والممنوع‭ ‬مرغوب؟‭ ‬أم‭ ‬للمناظر‭ ‬الشائقة‭ ‬التي‭ ‬تدعو‭ ‬المرء‭ ‬إلى‭ ‬التفرس‭ ‬فيها‭ ‬بإمعان؟‭ ‬أم‭ ‬لأننا‭ ‬نسمع‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الراديو‭ ‬أغنيات‭ ‬كثيرة‭ ‬تتغنى‭ ‬به،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬يقظة‭ ‬شعب‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬النوبي‭ ‬مرسي‭ ‬صالح‭ ‬سراج،‭ ‬بصوت‭ ‬مواطنه‭ ‬المطرب‭ ‬محمد‭ ‬وردي؟

هامَ‭ ‬ذاك‭ ‬النّهرُ‭ ‬يستلهـمُ‭ ‬حُسنا

فإذا‭ ‬عــــــبْرَ‭ ‬بـلادي‭ ‬ما‭ ‬تـمنّى

طــرِبَ‭ ‬النّــــيلُ‭ ‬لَدَيْــها‭ ‬فتثـــنَّىَ

فاروِ‭ ‬يا‭ ‬تاريخ‭ ‬للأجـيالِ‭ ‬عنَّا

 

كلها‭ ‬أغانٍ‭ ‬آسرة‭ ‬بعربية‭ ‬فصيحة‭ ‬وعامية‭ ‬متفصحة،‭ ‬نتذوق‭ ‬موسيقاها‭ ‬ونفهم‭ ‬معانيها‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬إدراكنا،‭ ‬خاصة‭ ‬حينما‭ ‬يغني‭ ‬المطرب‭ ‬أحمد‭ ‬المصطفى‭:‬

ها‭ ‬هو‭ ‬النيل‭ ‬حيالي‭    

صفــوه‭ ‬يزكي‭ ‬خيالي

يتــــــــهــادى‭ ‬باخــــتـــيالٍ‭  

بين‭ ‬رفــق‭ ‬وجـــــلال

 

ولولة‭ ‬النســـاء‭ ‬

نعم‭ ‬للنيل‭ ‬عشق‭ ‬خاص‭ ‬يستولي‭ ‬على‭ ‬الكثيرين،‭ ‬ويأخذهم‭ ‬إلى‭ ‬عوالم‭ ‬لا‭ ‬نهائية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬شاطئه‭ ‬هو‭ ‬المحفّز‭ ‬الرئيس‭ ‬للذهاب‭ ‬مع‭ ‬الجدة،‭ ‬ولعلّ‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬إصابتنا‭ ‬بالأمراض‭ ‬تغضبنا‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬تؤلمنا،‭ ‬وكنّا‭ ‬نمرض‭ ‬لمرضها،‭ ‬ونخشى‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬عاديات‭ ‬الأيام،‭ ‬وكلّ‭ ‬ما‭ ‬يمنعها‭ ‬الذهاب‭ ‬أو‭ ‬يحرمنا‭ ‬من‭ ‬مرافقتها‭ ‬إليه،‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تحذّرنا‭ ‬من‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬الشاطئ‭ (‬القيف‭)‬،‭ ‬ولا‭ ‬أنسى‭ ‬كلماتها‭ ‬وهي‭ ‬تنتهرنا‭ ‬كلما‭ ‬اقترب‭ ‬أحد‭ ‬منا‭ ‬من‭ ‬الضفة‭ (‬أوعك‭ ‬تنزل‭ ‬البحر،‭ ‬لو‭ ‬جيت‭ ‬هدومك‭ ‬مبللة‭ ‬تاني‭ ‬ما‭ ‬بجيبك‭ ‬معاي‭). ‬وهو‭ ‬التحذير‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬يكبح‭ ‬جماح‭ ‬تمرّدنا،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬تطلقه‭ ‬بخوف‭ ‬وقلق،‭ ‬يصلان‭ ‬إلي‭ ‬بقية‭ ‬الأطفال‭ ‬الذين‭ ‬يلعبون‭ ‬معنا،‭ ‬والواقع‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬وغيرها‭ ‬يتحاشون‭ ‬اقتراب‭ ‬الصغار‭ ‬من‭ ‬النهر‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يتعرضوا‭ ‬للأخطار‭ ‬المتوقعة‭ ‬وغير‭ ‬المتوقعة‭ (‬الهدام‭)‬،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬وقد‭ ‬يخفي‭ ‬النهر‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬وراء‭ ‬هدوئه‭ ‬غضبًا‭ ‬ماكرًا،‭ ‬وكم‭ ‬مضوا‭ ‬من‭ ‬جوفه‭ ‬غرة‭ ‬إلى‭ ‬النهايات‭ ‬القريبة‭ (‬العالم‭ ‬الآخَر‭) ‬بلا‭ ‬أوبة،‭ ‬ونحن‭ ‬بمنزلة‭ ‬أمانة‭ ‬لا‭ ‬تفرّط‭ ‬فيها‭.‬

كان‭ ‬الغيظ‭ ‬يملأنا‭ ‬عندما‭ ‬نرى‭ ‬مَن‭ ‬هم‭ ‬أكبر‭ ‬منّا‭ ‬بقليل،‭ ‬وبعض‭ ‬الهاربين‭ ‬من‭ ‬المدارس،‭ ‬وجحيم‭ ‬التسكع‭ ‬والفراغ‭ ‬يسبحون‭ ‬في‭ ‬النهر‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬ضابط‭ ‬أو‭ ‬رابط،‭ ‬أو‭ ‬نرى‭ ‬غيرهم‭ ‬يحشدون‭ ‬صنانيرهم‭ ‬وينصبون‭ ‬شباكهم‭ ‬لصيد‭ ‬الأسماك‭. ‬وذاك‭ ‬الغيظ‭ ‬دائمًا‭ ‬ما‭ ‬يبدده‭ ‬جلبة‭ ‬الرجال‭ ‬وولولة‭ ‬النساء‭ ‬بأن‭ ‬فلانًا‭ ‬أو‭ ‬ابن‭ ‬فلان‭ ‬غرق،‭ ‬وانغماس‭ ‬العارفين‭ ‬ببواطن‭ ‬البحر‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬الجثة،‭ ‬والولولة‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحالات‭ ‬أمر‭ ‬طبيعي‭ ‬ولا‭ ‬شعوري،‭ ‬يؤكده‭ ‬الشاعر‭ ‬جيلي‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬‮«‬عـبري‮»‬‭.‬

ويوم‭ ‬غرقــتُ‭ ‬في‭ ‬النهــر‭   

وأختي‭ ‬ولولت‭ ‬تجري

وصاح‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬هــول‭   

وماج‭ ‬الجمـع‭ ‬في‭ ‬ذعر

وأنقذني‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬فتى‭    

قــد‭ ‬هالـــه‭ ‬أمــــــري

 

يحزن‭ ‬الجميع‭ ‬لحالات‭ ‬الغرق،‭ ‬ولو‭ ‬يدري‭ ‬الغريق‭ ‬ما‭ ‬يصيبنا‭ ‬لما‭ ‬قدِمَ،‭ ‬أو‭ ‬اختار‭ ‬مكانًا‭ ‬آخر،‭ ‬لكنها‭ ‬مشيئة‭ ‬الله‭. ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬أقدار‭ ‬البعض،‭ ‬وصدمة‭ ‬الحدث‭ ‬يصبّ‭ ‬الأهالي‭ ‬جام‭ ‬غضبهم‭ ‬ويعلنون‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬الصغار،‭ ‬وتتناقل‭ ‬الشائعات‭ ‬والحكايات،‭ ‬ويُحظر‭ ‬علينا‭ ‬الذهاب‭ ‬للنهر‭ ‬لعدة‭ ‬أيام،‭ ‬كأننا‭ ‬نحن‭ ‬أغرقناه،‭ ‬ولا‭ ‬ندري‭ ‬أيهما‭ ‬غرق‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬الآخر‭.‬

كما‭ ‬كان‭ ‬يبدد‭ ‬الغيظ‭ ‬في‭ ‬أحايين‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة‭ ‬سماع‭ ‬زغاريد‭ ‬النسوة‭ ‬وصياح‭ ‬الأطفال‭ ‬وتغني‭ ‬الفتيات‭ ‬بأهزوجة‭:‬

ﻋﺮﻳﺴﻨﺎ‭ ‬ﻭﺭﺩ‭ ‬ﺍﻟﺒﺤﺮ‭ ‬ﻳﺎ‭ ‬ﻋﺪﻳﻠﺔ

ﻭﻗﻄﻊ‭ ‬ﺟﺮﺍيد‭ ‬ﺍﻟﻨﺨﻞ‭ ‬ﺍﻟﻠﻴﻠﺔ‭ ‬ﺯﻳﻨﺔ

تلك‭ ‬الأصوات‭ ‬الفرِحة‭ ‬التي‭ ‬تحملها‭ ‬الرياح‭ ‬إلى‭ ‬الآذان‭ ‬من‭ ‬نواحٍ‭ ‬بعيدة،‭ ‬يعقبها‭ ‬بعد‭ ‬حين‭ ‬أصوات‭ ‬عربات‭ ‬قديمة‭ ‬مختلفة‭ ‬تختلط‭ ‬أدخنتها‭ ‬مع‭ ‬الغبار،‭ ‬قادمة‭ ‬في‭ ‬بطونها‭ ‬السَيرة‭ (‬الزفة‭) ‬لزيارة‭ ‬البحر،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬عريسًا‭ ‬وعروسته‭ ‬أو‭ ‬طفل‭ ‬مختون‭ ‬أو‭ ‬امرأة‭ ‬في‭ ‬النفاس،‭ ‬والطريف‭ ‬أنهم‭ ‬يتغنون‭ ‬بتلك‭ ‬الأهزوجة‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬زفّة‭ ‬المرأة‭ ‬النفساء،‭ ‬لكونها‭ ‬حصرية‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الطقوس‭. ‬وهنا‭ ‬يتحدث‭ ‬
لـ‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬مدير‭ ‬مركز‭ ‬تسجيل‭ ‬وتوثيق‭ ‬الحياة‭ ‬السودانية‭ ‬واللغات‭ ‬بوزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬والإعلام‭ ‬الباحث‭ ‬د‭. ‬أسعد‭ ‬عبدالرحمن‭: ‬‮«‬ما‭ ‬زال‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬مستمرًا‭ ‬منذ‭ ‬عصور‭ ‬قديمة‭ ‬وإلى‭ ‬اليوم،‭ ‬وكل‭ ‬الطقوس‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالنيل‭ ‬ولديها‭ ‬صلة‭ ‬بالعادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬أصبحت‭ ‬تمارَس‭ ‬كقيمة‭ ‬ثقافية،‭ ‬وليس‭ ‬كمعتقد‭ ‬ديني‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬السابق‭. ‬وهي‭ ‬مرتبطة‭ ‬بدورة‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬الميلاد‭ ‬حتى‭ ‬الموت،‭ ‬فعندما‭ ‬يولد‭ ‬الطفل‭ ‬وتكمل‭ ‬المرأة‭ ‬النفساء‭ ‬الأربعين‭ ‬يومًا‭ ‬يذهبون‭ ‬بها‭ ‬إلي‭ ‬النيل‭ ‬لتغسل‭ ‬وجهها‭ ‬ووجه‭ ‬مولودها،‭ ‬كما‭ ‬يتم‭ ‬الذهاب‭ ‬بالطفل‭ ‬المختون‭ ‬إلى‭ ‬النيل‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬سيرة‮»‬،‭ ‬مع‭ ‬حمل‭ ‬جريد‭ ‬النخيل،‭ ‬وكذلك‭ ‬الحال‭ ‬عند‭ ‬الزواج،‭ ‬وحتى‭ ‬عندما‭ ‬تكمل‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬توفي‭ ‬زوجها‭ ‬العدّةَ‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬نهر‭ ‬النيل،‭ ‬بشرط‭ ‬أن‭ ‬تغطي‭ ‬وجهها،‭ ‬وتحرص‭ ‬ألّا‭ ‬ترى‭ ‬شخصًا‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬إليه‭ ‬حتى‭ ‬تغسل‭ ‬يديها‭ ‬ووجهها،‭ ‬ثم‭ ‬ترجع‭ ‬إلى‭ ‬منزلها‭ ‬وتباشر‭ ‬حياتها‭ ‬بشكل‭ ‬طبيعي،‭ ‬لأنّ‭ ‬ثمة‭ ‬معتقدًا‭ ‬بأن‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬تراه‭ ‬ربما‭ ‬يموت‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬نفسه‭. ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬العادات‭ ‬تمارس‭ ‬حتى‭ ‬زمان‭ ‬ليس‭ ‬ببعيد،‭ ‬ولا‭ ‬أخفي‭ ‬عليك‭ ‬أنني‭ ‬عشت‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬عندما‭ ‬توفى‭ ‬أبي‭ ‬قبل‭ ‬سنوات،‭ ‬وقامت‭ ‬والدتي‭ ‬بهذه‭ ‬الطقوس‭.‬

وتظل‭ ‬هذه‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬ثابتة‭ ‬مهما‭ ‬تقدمت‭ ‬الحياة‭ ‬وتطورت،‭ ‬لأنها‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الموروث‭ ‬وثقافة‭ ‬الناس‭. ‬وإن‭ ‬تراجعت‭ ‬بنحو‭ ‬لافت‭ ‬في‭ ‬المدن،‭ ‬لكنّها‭ ‬في‭ ‬القرى‭ ‬والأرياف‭ ‬المتاخمة‭ ‬للنهر‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬موجودة‮»‬‭.‬

وعندما‭ ‬تأتي‭ ‬‮«‬السيرة‮»‬،‭ ‬يجد‭ ‬الأطفال‭ ‬فرصتهم،‭ ‬فيتركون‭ ‬ألعابهم‭ ‬وينطلقون‭ ‬للوقوف‭ ‬على‭ ‬‮«‬القيف‮»‬‭ ‬مع‭ ‬زمرة‭ ‬القادمين،‭ ‬وهم‭ ‬يغسلون‭ ‬أياديهم‭ ‬ووجوههم‭ ‬تبركًا‭ ‬بماء‭ ‬النيل‭ ‬على‭ ‬إيقاع‭ ‬الطبول‭ ‬والدلوكة‭ ‬وأنغام‭ ‬الأهزوجة‭ ‬الحصرية،‭ ‬وما‭ ‬جادت‭ ‬به‭ ‬القرائح‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المناسبات،‭ ‬حتى‭ ‬انتهاء‭ ‬المراسم‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تغرق‭ ‬الدنيا‭ ‬في‭ ‬غسق‭ ‬المساء‭.‬

 

الرابط‭ ‬الأعظـم

لقد‭ ‬اعتاد‭ ‬الناس‭ ‬لملمة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬جمعوه‭ ‬من‭ ‬خيرات‭ ‬النيل،‭ ‬تزامنًا‭ ‬مع‭ ‬لملمة‭ ‬الشمس‭ ‬خيوطَها‭ ‬الذهبية‭ ‬من‭ ‬المروج‭ ‬الخضراء،‭ ‬واحمرارها‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬الثّعبان‭ ‬الفضي،‭ ‬للعودة‭ ‬إلى‭ ‬الديار‭ ‬قبل‭ ‬أذان‭ ‬المغرب‭. ‬أما‭ ‬الصغار‭ ‬فيرجعون‭ ‬بنفوس‭ ‬ليست‭ ‬راغبة‭ ‬في‭ ‬العودة،‭ ‬وبأرجل‭ ‬غير‭ ‬التي‭ ‬ذهبوا‭ ‬بها،‭ ‬إما‭ ‬مغبّرة‭ ‬أو‭ ‬مغطاة‭ ‬بالطين،‭ ‬أو‭ ‬ملطخة‭ ‬بدم‭ ‬طعن‭ ‬الأشواك،‭ ‬ووجوه‭ ‬غير‭ ‬التي‭ ‬خرجوا‭ ‬بها،‭ ‬ورؤوس‭ ‬مثقلة‭ ‬بالحطب‭ ‬أو‭ ‬القشّ،‭ ‬أو‭ ‬أصناف‭ ‬عدة‭ ‬من‭ ‬الخضراوات،‭ ‬وكلها‭ ‬من‭ ‬فضل‭ ‬الله‭ ‬جاد‭ ‬بها‭ ‬البحر،‭ ‬ومن‭ ‬بعده‭ ‬الزُراع‭ ‬على‭ ‬القادمين‭ ‬بمحبة‭ ‬ونفوس‭ ‬راضية،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أن‭ ‬الوشائج‭ ‬المجتمعية‭ ‬بين‭ ‬أصحاب‭ ‬الحقول‭ ‬وبقية‭ ‬الناس‭ ‬تحتم‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الجود،‭ ‬وحتى‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬مورد‭ ‬لهم‭ ‬يجدون‭ ‬ما‭ ‬يسوق‭ ‬الرزق،‭ ‬ويقيهم‭ ‬ذلّ‭ ‬المسغبة‭.‬

لعل‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يدهش‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬العودة‭ ‬صوب‭ ‬منازلهم‭ ‬الرهط‭ ‬الكبير‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬رجالًا‭ ‬ونساءً،‭ ‬كبارًا‭ ‬وصغارًا،‭ ‬كأنهم‭ ‬داخلون‭ ‬للحلّة‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬واحد،‭ ‬البعض‭ ‬على‭ ‬أرجلهم،‭ ‬والبعض‭ ‬على‭ ‬الحمير،‭ ‬وغيرهم‭ ‬على‭ ‬الدرّاجات‭ ‬الهوائية،‭ ‬كل‭ ‬آتٍ‭ ‬بما‭ ‬قسمه‭ ‬الله‭ ‬له،‭ ‬يستحيل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بينهم‭ ‬من‭ ‬رجع‭ ‬خالي‭ ‬الوفاض،‭ ‬ويخطئ‭ ‬من‭ ‬يقول‭ ‬ثمّة‭ ‬من‭ ‬عاد‭ ‬مكدّر‭ ‬الوجه‭ ‬والمزاج،‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬عارض‭ ‬قدَري‭. ‬وهنالك‭ ‬غيرهم‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬وكبار‭ ‬السنّ‭ ‬في‭ ‬طريقهم‭ ‬للبحر،‭ ‬ليبدأوا‭ ‬حياة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الغروب،‭ ‬إذ‭ ‬يعتبر‭ ‬عالمًا‭ ‬رحبًا‭ ‬للذين‭ ‬يأنسون‭ ‬الهدوء‭ ‬والتأمل،‭ ‬وكذلك‭ ‬الذين‭ ‬يستمتعون‭ ‬بحلاوة‭ ‬الصيد‭ ‬في‭ ‬الليل‭.‬

وما‭ ‬زال‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يتعب‭ ‬الصغار‭ ‬ويقضّ‭ ‬مضاجعهم‭ ‬‮«‬حمو‭ ‬النيل‮»‬‭ (‬التهاب‭ ‬جلدي‭ ‬يظهر‭ ‬عند‭ ‬الفيضان‭ ‬في‭ ‬الصيف‭)‬،‭ ‬و«النمتي‮»‬‭ (‬حشرات‭ ‬صغيرة‭ ‬لادغة‭ ‬توجد‭ ‬بكثرة‭ ‬في‭ ‬أماسيّ‭ ‬الشتاء،‭ ‬ودائمًا‭ ‬ما‭ ‬تظهر‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬أماكن‭ ‬الزراعة‭)‬،‭ ‬لكنهما‭ ‬لم‭ ‬يمنعا‭ ‬من‭ ‬الذهاب‭ ‬للنهر،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬الرابط‭ ‬الأعظم‭ ‬وجدانيًا‭ ‬ولا‭ ‬غير‭.‬

 

النـيل‭ ‬في‭ ‬المـنام

بعد‭ ‬العودة‭ ‬للمنزل،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬نستسلم‭ ‬لسلطان‭ ‬النوم،‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬تسيطر‭ ‬الخواطر‭ ‬والأسئلة،‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬يبدأ‭ ‬وأين‭ ‬ينتهي‭ ‬هذا‭ ‬البحر؟‭ ‬وهل‭ ‬نهايته‭ ‬مع‭ ‬امتزاج‭ ‬زرقته‭ ‬بزرقة‭ ‬السماء‭ ‬كما‭ ‬يتبدى‭ ‬لنا؟‭ ‬وهل‭ ‬يلعب‭ ‬ويمرح‭ ‬الذين‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬أعمارنا‭ ‬على‭ ‬شاطئيه‭ ‬مثل‭ ‬ألعابنا؟‭ ‬وهل‭ ‬ثمّة‭ ‬بشر‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬هذا‭ ‬العالم؟‭ ‬كنت‭ ‬أحد‭ ‬المتعطشين‭ ‬إلى‭ ‬الإحاطة‭ ‬بتلك‭ ‬الحقائق‭! ‬وحتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يدهمني‭ ‬‮«‬السلطان‮»‬‭ ‬كنت‭ ‬أرى‭ ‬النيل‭ ‬أحيانًا‭ ‬في‭ ‬المنام‭ ‬يجري‭ ‬وأنا‭ ‬أجري‭ ‬بقربه،‭ ‬وأشباح‭ ‬من‭ ‬الموتى،‭ ‬وصور‭ ‬غريبة‭ ‬لا‭ ‬أجد‭ ‬لها‭ ‬تفسيرًا‭. ‬ألم‭ ‬يتساءل‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الشاعر‭ ‬إدريس‭ ‬جماع‭ ‬في‭ ‬‮«‬رحلة‭ ‬النيل‮»‬‭:‬

وادٍ‭ ‬من‭ ‬السحر‭ ‬أم‭ ‬ماء‭ ‬وشـطآن؟

أم‭ ‬جــنة‭ ‬زفّــها‭ ‬للناس‭ ‬رضــوان؟

كل‭ ‬الحــياة‭ ‬ربيع‭ ‬مشــرقٌ‭ ‬نَضِــر

فــي‭ ‬جانبـيه‭ ‬وكل‭ ‬العمــر‭ ‬ريعـــان

وتساءل‭ ‬قبله‭ ‬الشاعر‭ ‬المصري‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭:‬

مِنْ‭ ‬أَيِّ‭ ‬عَهدٍ‭ ‬في‭ ‬القُرَى‭ ‬تتَدَفَّقُ؟

وبأَيِّ‭ ‬كَفٍّ‭ ‬في‭ ‬المدائن‭ ‬تُغْدِقُ؟

ومن‭ ‬السماءِ‭ ‬نزلتَ‭ ‬أَم‭ ‬فُجِّرتَ‭ ‬من

علْيا‭ ‬الجـِنان‭ ‬جَداوِلًا‭ ‬تتَرقرقُ؟

 

كانت‭ ‬أولى‭ ‬الإجابات‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الأسئلة‭ ‬عند‭ ‬الذهاب‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬أم‭ ‬درمان‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬للنيل‭ ‬عبر‭ ‬جسر‭ ‬شمبات،‭ ‬ولعل‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يدهش‭ ‬المتأمل‭ ‬مناظر‭ ‬الحقول‭ ‬والمروج‭ ‬الخضراء‭ ‬الممتدة‭ ‬على‭ ‬ضفتيه،‭ ‬وتتملكه‭ ‬الحيرة‭ ‬لما‭ ‬يرى‭ ‬المياه‭ ‬متدفقة‭ ‬على‭ ‬مدّ‭ ‬البصر‭ ‬جنوبًا‭ ‬وشمالًا،‭ ‬أما‭ ‬عندما‭ ‬يعبر‭ ‬مدينة‭ ‬بحري‭ ‬إلى‭ ‬الخرطوم‭ ‬عبر‭ ‬جسر‭ ‬النيل‭ ‬الأزرق،‭ ‬فيراه‭ ‬قادمًا‭ ‬من‭ ‬الشرق‭ ‬نحو‭ ‬الغرب‭ ‬باندفاع‭ ‬رهيب،‭ ‬ليتدفّق‭ ‬سيل‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬الأسئلة،‭ ‬هل‭ ‬ذيّاك‭ ‬نهر‭ ‬جديد،‭ ‬وأين‭ ‬يصب؟‭ ‬أين‭ ‬تذهب‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المياه‭ ‬المتدفقة؟‭ ‬كلها‭ ‬أسئلة‭ ‬لم‭ ‬نجد‭ ‬لها‭ ‬إجابات‭ ‬تفصيلية‭ ‬إلّا‭ ‬بعد‭ ‬التحاقنا‭ ‬بالمدرسة‭.‬

 

في‭ ‬المدرسة

كما‭ ‬كان‭ ‬النيل‭ ‬مصاحبًا‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬وفي‭ ‬الأحلام،‭ ‬فمازال‭ ‬يصاحب‭ ‬الدارسين‭ ‬في‭ ‬مراحلهم‭ ‬الدراسية،‭ ‬يجري‭ ‬معهم‭ ‬من‭ ‬مدرسة‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة،‭ ‬ومن‭ ‬فصل‭ ‬إلى‭ ‬فصل،‭ ‬جغرافية‭ ‬وتاريخًا،‭ ‬وروايات‭ ‬تروى،‭ ‬وقصائد‭ ‬تجري‭ ‬على‭ ‬الشفاه،‭ ‬ومع‭ ‬كل‭ ‬درس‭ ‬يزداد‭ ‬عظمة‭ ‬ورسوخًا،‭ ‬ويزداد‭ ‬الطلاب‭ ‬إدراكًا‭ ‬والتصاقًا‭ ‬به،‭ ‬وكانت‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬النهـر‮»‬‭ ‬على‭ ‬عهدنا‭ ‬هي‭ ‬بداية‭ ‬التعرّف‭ ‬إليه‭ ‬بمنهاج‭.‬

انظــر‭ ‬أخــي‭ ‬للنهــر‭    

فيه‭ ‬المــياه‭ ‬تجــري

تجري‭ ‬على‭ ‬استمرار‭    

بالـــلـــــــــــــــــيل‭ ‬والـــنهـــــــــار

 

ولما‭ ‬تقدّمنا‭ ‬في‭ ‬الدراسة‭ ‬عرفنا‭ ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬النيل‭ ‬جسرًا‭ ‬للمحبة‭ ‬والتواصل،‭ ‬ورابطًا‭ ‬وجدانيًا‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬صديقنا‭ ‬منقو‮»‬‭ - ‬من‭ ‬جنوب‭ ‬السودان‭ ‬قبل‭ ‬الانفصال‭ - ‬للشاعر‭ ‬عبداللطيف‭ ‬عبدالرحمن‭:‬

نحــن‭ ‬روحــــان‭ ‬حلـلــــنا‭ ‬بدنا

منقــو‭ ‬قل‭ ‬لا‭ ‬عاش‭ ‬من‭ ‬يفصلنا

ها‭ ‬هــو‭ ‬النـــيل‭ ‬الذي‭ ‬أرضعــنا

وسقى‭ ‬الوادي‭ ‬بكاسـات‭ ‬المنى

فسعــدنـا‭ ‬ونعمنـــا‭ ‬ها‭ ‬هنــــــا

وجعلــنا‭ ‬الحـــب‭ ‬عهـدًا‭ ‬بيننــا

 

ومادام‭ ‬للنيل‭ ‬ارتباط‭ ‬عميق‭ ‬بحياة‭ ‬الناس،‭ ‬فقد‭ ‬ظلّت‭ ‬قصائده‭ ‬السامية‭ ‬مدرجة‭ ‬ضمن‭ ‬المقررات‭ ‬الدراسية‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭.‬

 

سلـيل‭ ‬الفراديــس

ثم‭ ‬أدركنا‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬النيل‭ ‬عالَم‭ ‬فيه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وأي‭ ‬شيء‭ ‬فيه‭ ‬مدهش‭ ‬مثير،‭ ‬وأشارت‭ ‬الأدبيات‭ ‬والدراسات‭ ‬المتراكمة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬له‭ ‬مسميات‭ ‬عدة،‭ ‬وأن‭ ‬الاسم‭ ‬اشتُق‭ ‬من‭ ‬الكلمة‭ ‬اليونانية‭ ‬نيلوس‭ (‬Nilus‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬ذات‭ ‬أصل‭ ‬لاتيني،‭ ‬وكان‭ ‬الفراعنة‭ ‬قد‭ ‬أطلقوا‭ ‬عليه‭ ‬قديماً‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬أتروعا‮»‬،‭ ‬وتعني‭ ‬النهر‭ ‬العظيم،‭ ‬كما‭ ‬ناداه‭ ‬قدماء‭ ‬المصريين‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬آر‮»‬‭ ‬‭ (‬Ar‭) ‬أو‭ (‬Aur‭)‬،‭ ‬أي‭ ‬الأسود،‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬لون‭ ‬الرواسب‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭ ‬عندما‭ ‬يفيض،‭ ‬ويُعدّ‭ ‬اسم‭ ‬كيم‭ (‬Kem‭) ‬أو‭ (‬Kemi‭) ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬أسماء‭ ‬النيل،‭ ‬ويعني‭ ‬الأسود،‭ ‬ويرمز‭ ‬للظلام‭.‬

ومهما‭ ‬تعددت‭ ‬الأسماء‭ ‬واختلفت،‭ ‬فإنه‭ ‬ليس‭ ‬بمستغرب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬النيل‭ ‬محور‭ ‬كتابات‭ ‬المؤلفين‭ ‬والعلماء‭ ‬والرحّالة‭ ‬والمستكشفين‭ ‬والباحثين،‭ ‬ولو‭ ‬انسابت‭ ‬كلماتهم‭ ‬متدفقة‭ ‬لغدت‭ ‬نهرًا‭ ‬ثانيًا،‭ ‬وكلما‭ ‬أفاضوا‭ ‬أفادوا‭ ‬وصرنا‭ ‬أكثر‭ ‬معرفة‭ ‬به،‭ ‬وبجغرافيته،‭ ‬وأوقات‭ ‬صفائه،‭ ‬وثورته،‭ ‬وهدوئه‭ ‬وغضبه،‭ ‬وعرفنا‭ ‬ثمة‭ ‬نيلًا‭ ‬آخر‭ ‬غيره،‭ ‬كما‭ ‬حدثنا‭ ‬ابن‭ ‬منظور‭ (‬ت‭: ‬1311م‭)  ‬في‭ ‬مؤلفه‭ ‬‮«‬لسان‭ ‬العرب‮»‬‭ ‬بقوله‭ ‬‮«‬نَهْرُ‭ ‬مِصْرَ،‭ ‬حَمَاهَا‭ ‬اللَّهُ‭ ‬وَصَانَهَا،‭ ‬وَفِي‭ ‬الصِّحَاحِ‭: ‬فَيْضُ‭ ‬مِصْرَ،‭ ‬ونِيل‭... ‬نَهْرٌ‭ ‬بِالْكُوفَةِ‮»‬‭. ‬وجاء‭ ‬في‭ ‬معجم‭ ‬المعاني‭ ‬‮«‬نهرُ‭ ‬مِصْرَ‭ ‬والسُّودان،‭ ‬ونَهْرُ‭ ‬النِّيلِ‭ ‬نَهْرٌ‭ ‬من‭ ‬أُنْهُرِ‭ ‬إِفْريقِيا‮»‬‭.‬

أما‭ ‬الرحّالة‭ ‬الطنجي‭ ‬شمس‭ ‬الدين‭ ‬أبي‭ ‬عبدالله‭ ‬محمد،‭ ‬المعروف‭ ‬بابن‭ ‬بطوطة
‭ (‬1304 ‭- ‬1377م‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬دوَّن‭: ‬‮«‬ونيل‭ ‬مصر‭ ‬يفضل‭ ‬أنهار‭ ‬الأرض‭ ‬عذوبة‭ ‬مذاق‭ ‬واتساع‭ ‬قطر‭ ‬وعظم‭ ‬منفعة‭. ‬والمدن‭ ‬والقرى‭ ‬بضفتيه‭ ‬منتظمة،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬المعمورة‭ ‬مثلها‭. ‬ولا‭ ‬يعلم‭ ‬نهر‭ ‬يزرع‭ ‬عليه‭ ‬ما‭ ‬يزرع‭ ‬على‭ ‬النيل‭. ‬وليس‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬نهر‭ ‬يسمى‭ ‬بحرًا‭ ‬غيره‭. ‬قال‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭: ‬‮«‬فإذا‭ ‬خفت‭ ‬عليه‭ ‬فألقيه‭ ‬في‭ ‬اليم‮»‬‭ ‬فسمّاه‭ ‬يمًّا،‭ ‬وهو‭ ‬البحر‭. ‬وفي‭ ‬الحديث‭ ‬الصحيح‭ ‬أن‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬‭[‬‭ ‬ليلة‭ ‬الإسراء‭ ‬إلى‭ ‬سدرة‭ ‬المنتهى،‭ ‬فإذا‭ ‬في‭ ‬أصلها‭ ‬أربعة‭ ‬أنهار‭: ‬نهران‭ ‬ظاهران،‭ ‬ونهران‭ ‬باطنان،‭ ‬فسأل‭ ‬عنها‭ ‬جبريل‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬أما‭ ‬الباطنان‭ ‬ففي‭ ‬الجنة،‭ ‬وأما‭ ‬الظاهران‭ ‬فالنيل‭ ‬والفرات‮»‬‭. ‬كما‭ ‬أنبأنا‭ ‬مرتضى‭ ‬الزَّبيدي‭ (‬ت‭: ‬1791م‭) ‬في‭ ‬معجمه‭ ‬‮«‬تاج‭ ‬العروس‮»‬‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬النِّيْلُ،‭ ‬بالكسرِ‭: ‬نَهْرُ‭ ‬مِصْرَ،‭ ‬وهو‭ ‬أَحَدُ‭ ‬الأَنْهارِ‭ ‬الأرْبَعة‭ ‬المَشْهورَةِ،‭ ‬بارَكَ‭ ‬اللهُ‭ ‬فيها،‭ ‬امْتدَادُه‭ ‬مِن‭ ‬جِبالِ‭ ‬القَمَرِ‭ ‬يفيضُ‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬الشلالات‭ ‬جِبالٌ‭ ‬بأَعْلَى‭ ‬الصَّعِيدِ،‭ ‬ثم‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬مِصْرَ‭ ‬إلى‭ ‬شلقان،‭ ‬ثم‭ ‬يَنْشعبُ‭ ‬شعْبَتَيْن،‭ ‬إِحْداهُما‭ ‬تَصُبُّ‭ ‬في‭ ‬بَحْرِ‭ ‬دِمْياط،‭ ‬والثانيةُ‭ ‬في‭ ‬بحْرِ‭ ‬رَشيدٍ‮»‬،‭ ‬وأشارإلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬النِّيْلُ‭ ‬قرية‭ ‬بالكُوفةِ‭ ‬في‭ ‬سَوادِها‭ ‬يَخْترقُها‭ ‬خَلِيجٌ‭ ‬كبيرٌ‭ ‬مِن‭ ‬الفُراتِ‮»‬‭.‬

والحديث‭ ‬عن‭ ‬نهر‭ ‬النيل‭ ‬يفتح‭ ‬الأبواب‭ ‬لمزيد‭ ‬من‭ ‬المعرفة،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭ ‬العالم‭ ‬القزويني‭ ‬زكريا‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬في‭ ‬‮«‬عجائب‭ ‬المخلوقات‭ ‬وغرائب‭ ‬الموجودات‮»‬،‭ ‬عن‭ ‬مسيرة‭ ‬النهر‭ ‬الخالد‭ ‬من‭ ‬منابعه‭ ‬إلى‭ ‬مصبه‭. ‬‮«‬ليس‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬نهر‭ ‬أطول‭ ‬من‭ ‬النيل؛‭ ‬لأنّه‭ ‬مسيرة‭ ‬شهر‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الإسلام،‭ ‬وشهران‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬النوبة،‭ ‬وأربعة‭ ‬أشهر‭ ‬في‭ ‬الخراب،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬ببلاد‭ ‬القمر‭ ‬خلف‭ ‬خط‭ ‬الاستواء،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬نهر‭ ‬يصب‭ ‬من‭ ‬الجنوب‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‭ ‬ويمدّ‭ ‬في‭ ‬شدة‭ ‬الحر‭ ‬حين‭ ‬تنقص‭ ‬الأنهار‭ ‬كلها،‭ ‬ويزيد‭ ‬بترتيب‭ ‬وينقص‭ ‬بترتيب‮»‬‭.‬

أما‭ ‬ما‭ ‬جادت‭ ‬به‭ ‬قرائح‭ ‬الشعراء‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬فلا‭ ‬تُحصى‭ ‬ولا‭ ‬تُعد،‭ ‬ويصفه‭ ‬الشاعر‭ ‬التيجاني‭ ‬يوسف‭ ‬بشير‭ ‬في‭ ‬‮«‬محراب‭ ‬النيل‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يغنيها‭ ‬المطرب‭ ‬عثمان‭ ‬حسين‭ ‬بقوله‭:‬

أنت‭ ‬يا‭ ‬نيــل‭ ‬يا‭ ‬سلـــيل‭ ‬الفراديــس

نبيـــــــل‭ ‬موفّــــق‭ ‬فـي‭ ‬مَســـابك

مـــلءُ‭ ‬أوفاضـــك‭ ‬الجـلال‭ ‬فمرحى

بالجلال‭ ‬المفيــض‭ ‬من‭ ‬أنســــابك

حضنـتك‭ ‬الأمـلاك‭ ‬في‭ ‬جـنّة‭ ‬الخلـد

ورفـــت‭ ‬علــى‭ ‬وضـيء‭ ‬عـــــبابك

 

دراسة‭ ‬حديثة

ورغم‭ ‬تناول‭ ‬الأقلام‭ ‬وإبداع‭ ‬الملهمين،‭ ‬فإن‭ ‬النيل‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬يعتبر‭ ‬من‭ ‬أطول‭ ‬أنهار‭ ‬الدنيا،‭ ‬بطول‭ ‬يبلغ‭ ‬حوالي‭ ‬6650‭ ‬كيلومترًا،‭ ‬وأشارت‭ ‬دراسة‭ ‬حديثة‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬باحثون‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬تكساس‭ ‬الأمريكية‭ ‬بالتعاون‭ ‬مع‭ ‬باحثين‭ ‬في‭ ‬جامعات‭ ‬أخرى‭ (‬حسب‭ ‬دورية‭ ‬نيتشر‭ ‬نيوسيانس،‭ ‬بتاريخ‭ ‬11‭ ‬نوفمبر‭ ‬2019م‭) ‬إلى‭ ‬أنهم‭ ‬توصلوا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬نهر‭ ‬النيل‭ ‬هو‭ ‬أطول‭ ‬أنهار‭ ‬العالم،‭ ‬ويقدر‭ ‬طوله‭ ‬بـ‭ ‬6800  ‬كيلومترًا‮»‬‭. ‬وهو‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬البحيرات‭ ‬العظمى‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬القارة‭ ‬الإفريقية،‭ ‬ونهر‭ ‬روفيرونزا‭ ‬في‭ ‬بورندي‭ ‬هو‭ ‬النطفة‭ ‬أو‭ ‬بداية‭ ‬انطلاقته‭ ‬ليصبّ‭ ‬في‭ ‬بحيرة‭ ‬نيانزا،‭ ‬ثاني‭ ‬أكبر‭ ‬بحيرة‭ ‬عذبة‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وكان‭ ‬أوّل‭ ‬من‭ ‬وصلها‭ ‬مستكشفًا،‭ ‬البريطاني‭ ‬جون‭ ‬هانينغ‭ ‬سبيك‭ (‬1827 ‭- ‬1864‭)‬،‭ ‬وسماها‭ ‬فكتوريا‭ ‬على‭ ‬ملكة‭ ‬بريطانيا،‭ ‬وتقع‭ ‬على‭ ‬خط‭ ‬الاستواء‭ ‬متاخمة‭ ‬لدول‭ ‬تنزانيا‭ ‬وكينيا‭ ‬وأوغندا،‭ ‬لنتذكر‭ ‬قول‭ ‬المؤرخ‭ ‬العلامة‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ (‬ابن‭ ‬خلدون‭) (‬1332‭ - ‬1406م‭): ‬‮«‬أما‭ ‬النيل‭ ‬فمبدؤه‭ ‬من‭ ‬جبل‭ ‬عظيم‭ ‬وراء‭ ‬خط‭ ‬الاستواء‭ ‬بست‭ ‬عشرة‭ ‬درجة،‭ ‬ويسمّى‭ ‬جبل‭ ‬القمر،‭ ‬ولا‭ ‬يعلم‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬جبل‭ ‬أعلى‭ ‬منه‮»‬،‭ ‬ومنها‭ ‬يخرج‭ ‬‮«‬نيل‭ ‬فكتوريا‮»‬‭ ‬متجهًا‭ ‬شمالًا‭ ‬حتى‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬بحيرة‭ ‬كيوجا،‭ ‬ومنها‭ ‬يسري‭ ‬ناحية‭ ‬الشمال‭ ‬الغربي‭ ‬ليصبّ‭ ‬في‭ ‬بحيرة‭ ‬البرت،‭ ‬ثم‭ ‬ينطلق‭ ‬‮«‬نيل‭ ‬البرت‮»‬‭ ‬شمالًا‭ ‬حتى‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬جمهورية‭ ‬جنوب‭ ‬السودان،‭ ‬متجهًا‭ ‬عبر‭ ‬مدينة‭ ‬نمولي‭ ‬نحو‭ ‬الشمال‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬بحر‭ ‬الجبل‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬منطقة‭ ‬السدود،‭ ‬لينشق‭ ‬بحر‭ ‬الزراف‭ ‬ويتجه‭ ‬شمالًا‭ ‬ليلتقي‭ ‬بنهر‭ ‬السوباط‭ ‬المنحدر‭ ‬من‭ ‬المرتفعات‭ ‬الإثيوبية‭ ‬في‭ ‬الشرق،‭ ‬كما‭ ‬يواصل‭ ‬بحر‭ ‬الجبل‭ (‬بحر‭ ‬الرجاف‭) ‬مساره‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬نفسه‭ ‬حتى‭ ‬بحيرة‭ ‬نو،‭ ‬حيث‭ ‬يتصل‭ ‬ببحر‭ ‬الغزال‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬الغرب،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يتغذى‭ ‬ببحر‭ ‬العرب،‭ ‬ثم‭ ‬يواصل‭ ‬جريانه‭ ‬ليتحد‭ ‬مع‭ ‬بحر‭ ‬الزراف‭ ‬عند‭ ‬مدينة‭ ‬ملكال،‭ ‬ومن‭ ‬ثمَّ‭ ‬يجري‭ ‬نحو‭ ‬الشمال‭ ‬تحت‭ ‬مسمى‭ ‬النيل‭ ‬الأبيض‭ (‬بحر‭ ‬أبيض‭) ‬لابيضاض‭ ‬مائه‭ ‬المائل‭ ‬إلى‭ ‬الصُفرة‭ ‬حتى‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬جمهورية‭ ‬السودان‭.‬

والناظر‭ ‬للنيل‭ ‬الأبيض‭ ‬يلاحظ‭ ‬بطء‭ ‬جريانه‭ ‬في‭ ‬المجرى‭ ‬المتسع‭ ‬مكوناً‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬الجزر‭ (‬جزيرة‭ ‬أبا‭) ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‭ ‬حتى‭ ‬يقترن‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬النيل‭ ‬الأزرق‮»‬‭ (‬بحر‭ ‬أزرق‭) ‬للون‭ ‬مائه‭ ‬الأزرق‭ ‬السماوي،‭ ‬إذ‭ ‬بينت‭ ‬تلك‭ ‬الدراسة‭ ‬أن‭ ‬منبعه‭ ‬‮«‬من‭ ‬بحيرة‭ ‬تانا‭ ‬في‭ ‬الهضبة‭ ‬الإثيوبية‭ ‬ثابت‭ ‬منذ‭ ‬حوالي‭ ‬30‭ ‬مليون‭ ‬سنة،‭ ‬خلافًا‭ ‬لتقديرات‭ ‬العلماء‭ ‬السابقة‭ ‬التي‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬6‭ ‬و10‭ ‬ملايين‭ ‬سنة‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬ينحدر‭ ‬مندفعًا‭ ‬داخل‭ ‬أراضي‭ ‬السودان‭ ‬باتجاه‭ ‬الجنوب‭ ‬الغربي،‭ ‬ليغيّر‭ ‬مساره‭ ‬ناحية‭ ‬الشمال‭ ‬الغربي،‭ ‬متغذيًا‭ ‬من‭ ‬نهري‭ ‬الدندر‭ ‬والرهد،‭ ‬ويمضي‭ ‬في‭ ‬اندفاعه‭ ‬حتى‭ ‬نقطة‭ ‬الاقتران‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الخرطوم‭.‬

وكان‭ ‬العالم‭ ‬الجغرافي‭ ‬أبوعبدالله‭ ‬محمد‭ ‬القرطبي‭ ‬الملقّب‭ ‬بالإدريسي‭  (‬1100‭ - ‬1165م‭) ‬قد‭ ‬سبق‭ ‬الجميع‭ ‬بقوله‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬نزهة‭ ‬المشتاق‭ ‬في‭ ‬اختراق‭ ‬الآفاق‮»‬‭: ‬‮«‬والقسم‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬النيل‭ ‬يمر‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬المشرق‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬المغرب،‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬القسم‭ ‬من‭ ‬النيل‭ ‬جميع‭ ‬بلاد‭ ‬السودان‮»‬‭.‬

 

عناق‭ ‬مدينتين‭ ‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬وصلنا‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬مقرن‭ ‬النيلين‭ ‬برفقة‭ ‬المصور‭ ‬مبارك،‭ (‬الشهير‭ ‬
بـ‭ ‬‮«‬حتة‮»‬‭)‬،‭ ‬إذ‭ ‬بنا‭ ‬أمام‭ ‬مشهد‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬المرء‭ ‬الوقوف‭ ‬عنده‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يمجّد‭ ‬الخالق‭ ‬متأملًا‭ ‬الألق‭ ‬والجمال‭ ‬والروح‭ ‬التي‭ ‬سبغتها‭ ‬الطبيعة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البقعة،‭ ‬وإلي‭ ‬أيّ‭ ‬حدّ‭ ‬امتدت‭ ‬يد‭ ‬القُدرة‭ ‬ليتعانق‭ ‬النيلان،‭ ‬وكلاهما‭ ‬من‭ ‬عرق‭ ‬مختلف‭ (‬أحدهما‭ ‬حبشي‭ ‬والآخر‭ ‬من‭ ‬أدغال‭ ‬إفريقيا‭) ‬التقيا‭ ‬بحميمية‭ ‬مذهلة،‭ ‬جعلت‭ ‬أرضهما‭ ‬مسرحًا‭ ‬للخلق‭ ‬والإبداع‭.‬

يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬المصري‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ (‬1931‭ - ‬1981‭) ‬في‭ ‬أغنية‭ ‬غنّاها‭ ‬المطرب‭ ‬السوداني‭ ‬سيد‭ ‬خليفة‭:‬

يا‭ ‬قــدران‭ ‬في‭ ‬مجــرى‭ ‬

تبارك‭ ‬ذلك‭ ‬المجري

فيمــناه‭ ‬على‭ ‬اليُسـرى‭ ‬

ويسراه‭ ‬على‭ ‬الأخرى

فهـــذا‭ ‬الأزرق‭ ‬العـاتي‭ ‬

تدفق‭ ‬خالـــدا‭ ‬حـــــرا

وهذا‭ ‬الأبيض‭ ‬الهـادي

يضـم‭ ‬الأزرق‭ ‬الصـدرا

لا‭ ‬انفصلا‭ ‬ولا‭ ‬انحسرا‭ ‬

ولا‭ ‬اختلفا‭ ‬ولا‭ ‬اشتجرا

ولا‭ ‬هـــــذى‭ ‬ولا‭ ‬تلــك‭ ‬

ولا‭ ‬الدنيـــــا‭ ‬بمـا‭ ‬فيها

تساوى‭ ‬ملتقى‭ ‬النيلين

في‭ ‬الخرطوم‭ ‬يا‭ ‬سمرا

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الموقع‭ ‬الفريد‭ ‬تعانق‭ ‬مدينة‭ ‬أم‭ ‬درمان‭ ‬الخرطومَ‭ ‬في‭ ‬منظر‭ ‬لا‭ ‬شبيه‭ ‬له،‭ ‬غناه‭ ‬المطرب‭ ‬حسن‭ ‬عطية‭ ‬في‭ ‬أغنية‭ ‬‮«‬الخرطوم‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬الملحن‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬الريح‭:‬

في‭ ‬المقرن‭ ‬تشوف‭ ‬الأشجار‭ ‬صفوف

والنيل‭ ‬حولها‭ ‬كالعابد‭ ‬يطوف

تشرب‭ ‬من‭ ‬زلال‭ ‬من‭ ‬خمر‭ ‬حلال

ويعم‭ ‬الجلال‭ ‬طولها‭ ‬وعرضها‭ ‬

 

وهذا‭ ‬العناق‭ ‬الأزلي‭ ‬الدائم‭ ‬جعل‭ ‬لكل‭ ‬مدينة‭ ‬وجهًا‭ ‬جماليًا‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬وآخر‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬يختلفان‭ ‬عن‭ ‬بعضهما‭ ‬في‭ ‬الروعة،‭ ‬حيث‭ ‬تبلغ‭ ‬ذروتها‭ ‬ناحية‭ ‬الخرطوم‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬في‭ ‬حقيقتها‭ ‬شبه‭ ‬جزيرة‭.‬

يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬التيجاني‭ ‬الحاج‭ ‬موسى،‭ ‬في‭ ‬أغنية‭ ‬تغنيها‭ ‬مجموعة‭ ‬عقد‭ ‬الجلاد‭:‬

يا‭ ‬جمال‭ ‬النيل‭ ‬والخرطوم‭ ‬بالليل

يا‭ ‬راضعة‭ ‬من‭ ‬نيلين‭ ‬حضنوك‭ ‬من‭ ‬أزمان

يا‭ ‬قبلة‭ ‬الزائرين‭ ‬يا‭ ‬درّة‭ ‬السودان

 

أما‭ ‬الناظر‭ ‬لطبيعة‭ ‬اقتران‭ ‬النيلين‭ ‬من‭ ‬جسر‭ ‬النيل‭ ‬الأبيض‭ ‬الذي‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬المدينتين،‭ ‬فلا‭ ‬يرى‭ ‬إلّا‭ ‬كما‭ ‬رأى‭ ‬الشاعر‭ ‬عبدالصبور،‭ ‬ومن‭ ‬قبله‭ ‬الأديب‭ ‬السوداني‭ ‬معاوية‭ ‬محمد‭ ‬نور،‭ ‬بل‭ ‬يحس‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬في‭ ‬شبه‭ ‬حلم،‭ ‬ويعجب‭ ‬لهذا‭ ‬الالتقاء‭ ‬الهادئ‭ ‬الطبيعي،‭ ‬وذلك‭ ‬التصافح‭ ‬العجيب‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬إثارة‭ ‬ضجة‭ ‬ولا‭ ‬صوت،‭ ‬فكأنما‭ ‬النيلان‭ ‬افترقا‭ ‬في‭ ‬البدء‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬منهما،‭ ‬وهنا‭ ‬يتلاقيان‭ ‬كما‭ ‬يلتقي‭ ‬الحبيبان‭ ‬ويندمجان‭ ‬نيلًا‭ ‬واحدًا،‭ ‬فما‭ ‬ندري‭ ‬أنهما‭ ‬كانا‭ ‬نيلين‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ولا‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬الالتقاء‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬المزاحمة‭ ‬أو‭ ‬عدم‭ ‬الاستقرار،‭ ‬مما‭ ‬يلاحظ‭ ‬عادة‭ ‬في‭ ‬التقاء‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬جهتين‭ ‬مختلفتين،‭ ‬وإنما‭ ‬هناك‭ ‬عناق‭ ‬هادئ‭ ‬ليّن،‭ ‬وانبساط‭ ‬ساكن‭ ‬حزين‮»‬‭.‬

بينما‭ ‬عبّر‭ ‬عن‭ ‬ذاك‭ ‬الالتقاء‭ ‬الربّاني‭ ‬الراقي‭ ‬الشاعر‭ ‬خالد‭ ‬أبو‭ ‬الروس‭ ‬والمطرب‭ ‬أحمد‭ ‬المصطفى‭ ‬في‭ ‬‮«‬ساعات‭ ‬اللقاء‮»‬‭:‬

كيــف‭ ‬يا‭ ‬وديع‭ ‬فـي‭ ‬الملتـــقى

شوف‭ ‬الطبيعــــة‭ ‬ورونقه

نيليـــنا‭ ‬كيــــف‭ ‬متعانقـــــــة

شوف‭ ‬النخــــيل‭ ‬الباسـقة

 

وفي‭ ‬‮«‬مناجاة‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬مسعد‭ ‬حنفي،‭ ‬تغنّى‭ ‬المطرب‭ ‬صلاح‭ ‬مصطفى‭: ‬

هل‭ ‬تذكري‭ ‬نزهتنا‭ ‬في‭ ‬المقرن‭ ‬سوى؟

وسط‭ ‬الزهـــور‭ ‬نتساقـى‭ ‬كاسات‭ ‬الهــوى

هل‭ ‬تذكري‭ ‬النيلين‭ ‬عناقهم‭ ‬كيف‭ ‬بــدا؟

زي‭ ‬احتضــــان‭ ‬الوردة‭ ‬لــي‭ ‬بلل‭ ‬النــــدى

 

على‭ ‬ذكر‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬المناجاة‮»‬،‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬تناجوا‭ ‬وفاض‭ ‬بهم‭ ‬الحنين‭ ‬إلى‭ ‬ضفافه،‭ ‬وقد‭ ‬شهِد‭ ‬النيل‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬العشق‭ ‬والغرام‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يشهده‭ ‬غيره،‭ ‬ولو‭ ‬قُدّر‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يبوح‭ ‬بها‭ ‬لما‭ ‬توقّف‭ ‬عن‭ ‬الكلام‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬محمد‭ ‬سعد‭ ‬دياب‭ ‬في‭ ‬أغنية‭ ‬‮«‬رسالة‭ ‬شوق‮»‬‭: ‬‮«‬بعيد‭ ‬يا‭ ‬غالية‭ ‬بتذكر‭ ‬ضفاف‭ ‬النيل‭/ ‬وليلة‭ ‬حب‭ ‬ما‭ ‬عاشها‭ ‬الزمان‭ ‬زي‭ ‬حالها‭ ‬ما‭ ‬فكر‭/ ‬بتذكر‭.. ‬ضفاف‭ ‬النيل‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬أنّ‭ ‬للنيل‭ ‬مقامًا‭ ‬نفسانيًا‭ ‬خطيرًا‭ ‬في‭ ‬النفوس،‭ ‬يثير‭ ‬الوجدان‭ ‬ويحرّك‭ ‬الحنين‭ ‬وأشواق‭ ‬العودة‭ ‬للوطن‭ ‬الذي‭ ‬يمخر‭ ‬أراضيه،‭ ‬وهو‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬العشق‭ ‬للربوع‭ ‬التي‭ ‬ترتوي‭ ‬من‭ ‬فيضه،‭ ‬ولنا‭ ‬أن‭ ‬نستمع‭ ‬للمطرب‭ ‬سيد‭ ‬خليفة‭ ‬يغنّي‭ ‬للشاعر‭ ‬إبراهيم‭ ‬رجب‭:‬

بتذكّر‭ ‬فيك‭ ‬عهـد‭ ‬صبايا‭... ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬النيل

حبيبي‭ ‬جالس‭ ‬معايا‭... ‬أسمر‭ ‬وجميل

أنا‭ ‬هنا‭ ‬شبيت‭ ‬يا‭ ‬وطني

زيك‭ ‬ما‭ ‬لقــيت‭ ‬يا‭ ‬وطني

في‭ ‬وجودي‭ ‬أحبك‭ ‬وغيابي

 

عجائب‭ ‬الدنيا

من‭ ‬عجائب‭ ‬الدنيا‭ ‬أن‭ ‬يلتقي‭ ‬هذان‭ ‬العنصران‭ ‬المختلفان،‭ ‬ويمتزجان‭ ‬ليشكلا‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬500‭ ‬سنة‭ ‬جزيرة‭ ‬توتي،‭ ‬مما‭ ‬أكسبها‭ ‬موقعًا‭ ‬بهيًا‭ ‬ساحرًا‭ ‬بين‭ ‬مدن‭ ‬الخرطوم‭ ‬وأم‭ ‬درمان‭ ‬وبحري،‭ ‬إذ‭ ‬يحفّها‭ ‬الأزرق‭ ‬من‭ ‬الشرق‭ ‬والجنوب،‭ ‬ملتحمًا‭  ‬مع‭ ‬الأبيض‭ ‬في‭ ‬الجهة‭ ‬الغربية‭ (‬أولى‭ ‬مراحل‭ ‬تكوين‭ ‬نهر‭ ‬النيل‭)‬،‭ ‬ليلتقيا‭ ‬بعد‭ ‬مئات‭ ‬الأمتار‭ ‬بالفرع‭ ‬الشرقي‭ ‬للأزرق،‭ ‬ليضفي‭ ‬عليها‭ ‬هذا‭ ‬السوار‭ ‬المائي‭ ‬النادر‭ ‬تميّزًا‭ ‬قلّ‭ ‬أن‭ ‬تجود‭ ‬به‭ ‬الطبيعة،‭ ‬أغناها‭ ‬بعشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬من‭ ‬قبيلة‭ ‬المحس‭ ‬التي‭ ‬ترجع‭ ‬أصولها‭ ‬إلى‭ ‬أنصار‭ ‬الخزرج‭ ‬بالمدينة‭ ‬المنورة‭ (‬كما‭ ‬تشير‭ ‬المصادر‭)‬،‭ ‬والبساتين‭ ‬المخضرة‭ ‬المنتجة‭ ‬للخضر‭ ‬والفاكهة‭ ‬بأنواعها‭ ‬المختلفة،‭ ‬والمناظر‭ ‬التي‭ ‬تبهر‭ ‬الناظرين،‭ ‬مما‭ ‬جعلها‭ ‬قِبلة‭ ‬للسياح‭ ‬والزوّار،‭ ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬الطيور‭ ‬المتنوعة،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬كونها‭ ‬منبعًا‭ ‬مهمًا‭ ‬للإبداع‭.‬

يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬التيجاني‭ ‬يوسف‭ ‬بشير‭ ‬في‭ ‬‮«‬توتي‭ ‬في‭ ‬الصباح‮»‬‭:‬

يا‭ ‬درةً‭ ‬حفّها‭ ‬النيل‭ ‬واحتواها‭ ‬البر

صحى‭ ‬الدجي‭ ‬وتغشاك‭ ‬في‭ ‬الإسرة‭ ‬فجر

وصاح‭ ‬بين‭ ‬الربى‭ ‬الغرّ‭ ‬عبقري‭ ‬أغرّ

وطاف‭ ‬حولك‭ ‬ركبٌ‭ ‬من‭ ‬الكراكي‭ ‬أغر

 

وفي‭ ‬صورة‭ ‬أخرى‭ ‬رسمها‭ ‬الشاعر‭ ‬أبو‭ ‬الروس،‭ ‬وعكسها‭ ‬المطرب‭ ‬إبراهيم‭ ‬الكاشف‭:‬

شوف‭ ‬توتي‭ ‬يا‭ ‬المحبوب‭ ‬بدت

كالطفلــــة‭ ‬باكــــــــية‭ ‬تنــهدت

ضماها‭ ‬ذاك‭ ‬النـــــيل‭ ‬الشــفوق

والطير‭ ‬عمل‭ ‬في‭ ‬نخيلها‭ ‬سـوق

ومن‭ ‬جماليات‭ ‬المنظر‭ ‬الكوني‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البقعة،‭ ‬خروج‭ ‬النيل‭ ‬باندفاع‭ ‬كأنه‭ ‬منسلٌّ‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬توتي،‭ ‬كما‭ ‬الطفل‭ ‬الوليد،‭ ‬كائنًا‭ ‬مكتملًا‭ ‬نادر‭ ‬الوجود،‭ ‬منطلقًا‭ ‬نحو‭ ‬الشمال‭ ‬بلون‭ ‬جديد‭ ‬وطعم‭ ‬جديد،‭ ‬وروح‭ ‬جديد،‭ ‬وأسماء‭ ‬عدّة‭ ‬هي‭ ‬نهر‭ ‬النيل‭ ‬أو‭ ‬النيل‭ ‬أو‭ ‬البحر،‭ ‬أو‭ ‬بحر‭ ‬النيل‭.‬

 

شلالات‭ ‬وحضارات

المتابع‭ ‬لنهر‭ ‬النيل‭ ‬في‭ ‬مسيرته‭ ‬شمالًا‭ ‬حيثما‭ ‬جالت‭ ‬عيناه‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬سوى‭ ‬الأشجار‭ ‬والغابات‭ ‬والحقول‭ ‬المخضرّة‭ ‬على‭ ‬ضفتيه،‭ ‬وأناس‭ ‬خُلقوا‭ ‬ليكونوا‭ ‬بقربه‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬حيث‭ ‬تتوزع‭ ‬القصص‭ ‬والحكايات،‭ ‬والخرافات‭ ‬والأساطير‭ ‬والمعتقدات،‭ ‬والحضارات‭ ‬القديمة‭ ‬والضاربة‭ ‬في‭ ‬القِدم،‭ ‬مثلما‭ ‬تتوزّع‭ ‬المدن‭ ‬والقرى‭ ‬والجزر‭ ‬والشلالات،‭ ‬والثقافات‭ ‬والعادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬والفنون‭ ‬على‭ ‬جانبيه‭ ‬حتى‭ ‬مصبّه،‭ ‬بدءًا‭ ‬بحضارة‭ ‬الشهيناب‭ (‬4500‭ - ‬3000‭ ‬ق‭. ‬م‭) ‬التي‭ ‬عمّرت‭ ‬ضفافه‭ ‬الغربية‭ ‬عند‭ ‬مدينة‭ ‬أم‭ ‬درمان،‭ ‬تقابلها‭ ‬بالشرق‭ ‬حضارة‭ ‬ملوك‭ ‬العبدلاب‭ ‬في‭ ‬مدينتي‭ ‬حلفاية‭ ‬الملوك‭ ‬وقَرِي‭ (‬1505‭ - ‬1821م‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬تظهر‭ ‬للعيان‭ ‬وعلى‭ ‬بعد‭ ‬90‭ ‬كلم‭ ‬تقريبًا‭ ‬إحدى‭ ‬المناطق‭ ‬السياحية‭ ‬المهمة،‭ ‬هي‭ ‬‮«‬الشلال‭ ‬السادس‮»‬،‭ ‬المعروف‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬شلال‭ ‬السبلوقة‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬يجري‭ ‬شمالًا‭ ‬حتى‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬عطبرة‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬نهر‭ ‬النيل،‭ ‬ليتغذى‭ ‬بـنهر‭ ‬عطبرة‭ (‬الأتبراوي‭) ‬القادم‭ ‬من‭ ‬جبال‭ ‬الحبشة،‭ ‬ثم‭ ‬يواصل‭ ‬جريانه‭ ‬شمالًا،‭ ‬مرورًا‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الشلال‭ ‬الخامس‮»‬‭ ‬المسمّى‭ ‬‮«‬شلال‭ ‬وادي‭ ‬الحمار‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬مدينة‭ ‬أبوحمد‭ ‬في‭ ‬الولاية‭ ‬نفسها،‭ ‬ليتخذ‭ ‬النهر‭ ‬الخالد‭ ‬مسارًا‭ ‬جديدًا‭ ‬ناحية‭ ‬الجنوب‭ ‬الغربي‭ ‬فيما‭ ‬يُعرف‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬المنحنى‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬انحناءة‭ ‬النيل‭ ‬العظيم‮»‬،‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الرباطاب‭ ‬الغنية‭ ‬بالجزر‭ ‬الساحرة،‭ ‬وأشهرها‭ ‬جزيرة‭ ‬مقرات،‭ ‬ثم‭ ‬يمرّ‭ ‬بمناطق‭ ‬الشايقية،‭ ‬مكونًا‭ ‬أرخبيلًا‭ ‬من‭ ‬الجزر‭ ‬الوافرة‭ ‬يماثل‭ ‬تعدادها‭ ‬حبّات‭ ‬عقد‭ ‬المسبحة‭.‬

ثم‭ ‬يعود‭ ‬النهر‭ ‬بعد‭ ‬مسيرة‭ ‬150‭ ‬كيلومترًا‭ ‬تقريبًا‭ ‬لمساره‭ ‬الأول‭ ‬نحو‭ ‬الشمال،‭ ‬ضاربًا‭ ‬الصحراء‭ ‬في‭ ‬الولاية‭ ‬الشمالية،‭ ‬وعابرًا‭ ‬للواحات‭ ‬حتى‭ ‬بلاد‭ ‬النوبة‭. ‬ومن‭ ‬عظمة‭ ‬النهر‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬امتداده‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البقاع،‭ ‬أنه‭ ‬يضيق‭ ‬ويتسع‭ ‬بمعناه‭ ‬العميق‭ ‬فيه‭ ‬عنفوان‭ ‬وقوة،‭ ‬مضفيًا‭ ‬عليها‭ ‬حياة‭ ‬وتاريخًا‭ ‬وحضارة،‭ ‬ومؤكدًا‭ ‬أنه‭ ‬نسيج‭ ‬وحده،‭ ‬وليس‭ ‬لجلاله‭ ‬مثيل،‭ ‬يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬إدريس‭ ‬جماع‭:‬

ما‭ ‬ملّ‭ ‬طــول‭ ‬الســـرى‭ ‬يومـًـا‭ ‬وقـد

دفنت‭ ‬على‭ ‬المدارج‭ ‬أزمان‭ ‬وأزمان

ينساب‭ ‬من‭ ‬روضة‭ ‬عذراء‭ ‬ضاحكة

فـي‭ ‬كل‭ ‬مغنـــى‭ ‬بها‭ ‬للسحــر‭ ‬إيوان

 

غير‭ ‬أنّ‭ ‬المتابع‭ ‬مسيرة‭ ‬النيل‭ ‬في‭ ‬مجراه‭ ‬أقصى‭ ‬الشمال‭ ‬يجد‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الجزر‭ ‬الصغيرة‭ ‬والكبيرة،‭ ‬مثل‭ ‬جزر‭ ‬بدين‭ ‬ومقاصر‭ ‬وأرقو‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬دنقلا،‭ ‬ومروارتي،‭ ‬ثم‭ ‬صاي‭ ‬في‭ ‬عبري‭ ‬ببلاد‭ ‬النوبة،‭ ‬وهي‭ ‬جزر‭ ‬غنيّة‭ ‬بالسكان،‭ ‬ولأهلها‭ ‬غرام‭ ‬مع‭ ‬النيل‭ ‬لا‭ ‬يدانيه‭ ‬غرام،‭ ‬يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬جيلي‭ ‬عبدالرحمن‭:‬

أنا‭ ‬ظمــــآن‭ ‬يا‭ ‬عــبري‭   

إلى‭ ‬الأمــواه‭ ‬والطـــير

إلى‭ ‬كثـــبانك‭ ‬الغرقــى‭    

هناك‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬النهر

 

ولا‭ ‬تخلو‭ ‬مسيرته‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المناطق‭ ‬من‭ ‬صعاب،‭ ‬إذ‭ ‬تعترضه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الجنادل‭ ‬والصخور‭ ‬الصغيرة‭ ‬والكبيرة،‭ ‬مثل‭ ‬الشلال‭ ‬الرابع‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الشايقية،‭ ‬والشلال‭ ‬الثالث‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬كرمة،‭ ‬ثم‭ ‬الثاني‭ ‬عند‭ ‬مدينة‭ ‬حلفا‭ ‬حتى‭ ‬الشلال‭ ‬الأول‭ ‬عند‭ ‬مدينة‭ ‬أسوان‭ ‬في‭ ‬صعيد‭ ‬مصر‭.‬

من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬تتميز‭ ‬هذه‭ ‬المناطق‭ ‬دون‭ ‬غيرها‭ ‬بتلاقٍ‭ ‬تاريخي‭ ‬وحضاري‭ ‬عميق،‭ ‬أبرز‭ ‬شواهده‭ ‬المعابد‭ ‬وأعمال‭ ‬الهندسة‭ ‬المعمارية‭ ‬والآثار‭ ‬التي‭ ‬اكتنزها‭ ‬السودان‭ ‬الشمالي‭ ‬على‭ ‬الضفاف‭ ‬منذ‭ ‬آلاف‭ ‬السنين،‭ ‬وقد‭ ‬شكلت‭ ‬مع‭ ‬مصر‭ ‬‮«‬حضارة‭ ‬وادي‭ ‬النيل‮»‬،‭ ‬كواحدة‭ ‬من‭ ‬أعرق‭ ‬الحضارات‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وهي‭ ‬غنية‭ ‬بالمظاهر‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬والدينية،‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬والسياسية،‭ ‬ومختلف‭ ‬مجالات‭ ‬الفكر‭ ‬والإبداع‭ ‬الإنساني،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أن‭ ‬الحضارة‭ ‬النوبية‭ ‬الكوشية،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬مملكة‭ ‬كوش‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬المملكة‭ ‬النوبية‮»‬‭ ‬هي‭ ‬أول‭ ‬الممالك‭ ‬الإفريقية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الخامس،‭ ‬وعرفها‭ ‬العالم‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬2500‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬وكانت‭ ‬عاصمتها‭ ‬كرمة‭ (‬2400‭ - ‬1500‭ ‬ق‭.‬م‭.)‬،‭ (‬حضارة‭ ‬كرمة‭)‬،‭ ‬إحدى‭ ‬أهم‭ ‬مراكز‭ ‬حضارة‭ ‬وادي‭ ‬النيل،‭ ‬ثم‭ ‬تمركزت‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬نبتة،‭ (‬حضارة‭ ‬نبتة‭: ‬1000‭ - ‬300‭ ‬ق‭. ‬م‭)‬،‭ ‬وتحولت‭ ‬لمدينة‭ ‬مروي‭ (‬حضارة‭ ‬مروي‭: ‬300‭ ‬ق‭. ‬م‭. - ‬300‭ ‬م‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬قامت‭ ‬على‭ ‬أنقاضها‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬الممالك‭ ‬المسيحية،‭ ‬وهي‭ ‬‮«‬نوباتيا‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تمتد‭ ‬من‭ ‬الشلال‭ ‬الأول‭ ‬إلى‭ ‬الثالث،‭ ‬وعاصمتها‭ ‬فرس‭ (‬543م‭)‬،‭ ‬ومملكة‭ ‬‮«‬المقرة‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تمتد‭ ‬حتى‭ ‬مدينة‭ ‬كبوشية‭ ‬الحالية،‭ ‬وعاصمتها‭ ‬دنقلا‭ ‬العجوز‭ (‬569‭ ‬م‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬قامت‭ ‬جنوبها‭ ‬على‭ ‬ضفاف‭ ‬النيل‭ ‬الأزرق‭ ‬مملكة‭ ‬‮«‬علوة‮»‬‭ ‬وعاصمتها‭ ‬مدينة‭ ‬سوبا‭.‬

 

أساطير‭ ‬وحكايا

منذ‭ ‬تفجّر‭ ‬النيل‭ ‬قبل‭ ‬ملايين‭ ‬السنين،‭ ‬قطنت‭ ‬ضفافه‭ ‬أمم‭ ‬عديدة‭ ‬مختلفة‭ ‬الألوان‭ ‬والأشكال،‭ ‬سود‭ ‬وبيض‭ ‬وسمر،‭ ‬عرب‭ ‬وعجم،‭ ‬خليط‭ ‬من‭ ‬الأعراق‭ ‬والأجناس،‭ ‬وانتشرت‭ ‬حول‭ ‬حوضه‭ ‬الذي‭ ‬يشمل‭ ‬إحدى‭ ‬عشرة‭ ‬دولة،‭ ‬بدءًا‭ ‬ببوروندي،‭ ‬ورواندا،‭ ‬وتنزانيا،‭ ‬والكونغو،‭ ‬وأوغندا،‭ ‬وكينيا،‭ ‬وجنوب‭ ‬السودان،‭ ‬وإثيوبيا،‭ ‬والسودان،‭ ‬ومصر،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬إريتريا،‭ ‬وتوزعت‭ ‬كما‭ ‬الأشجار‭ ‬ونشرت‭ ‬حضاراتها‭ ‬وثقافاتها‭ ‬وعاداتها‭ ‬وتقاليدها‭ ‬ومعتقداتها‭ ‬وفنونها‭ ‬من‭ ‬المنبع‭ ‬إلى‭ ‬المصب،‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬كثيرًا‭ ‬منها‭ ‬لم‭ ‬يُكتشف‭ ‬بعد،‭ ‬وما‭ ‬فتئ‭ ‬كل‭ ‬شبر‭ ‬حوله‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬سرّ‭ ‬عظيم،‭ ‬تحاصره‭ ‬القصص‭ ‬والحكايات‭ ‬والأساطير،‭ ‬وهي‭ - ‬كما‭ ‬تحدث‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬الباحث‭ ‬والمؤلف‭ ‬محمد‭ ‬شريف‭ ‬أحمد‭: ‬‮«‬تختلف‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬لأخرى،‭ ‬لكنّها‭ ‬تتشارك‭ ‬في‭ ‬جماليات‭ ‬الأسطورة‭ ‬والخرافة‭ ‬وقوة‭ ‬تأثيرها‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬ومعتقداتهم،‭ ‬وخير‭ ‬مثال‭ ‬لذلك‭ ‬تلك‭ ‬الأسطورة‭ ‬النوبية‭ ‬التي‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬سيلا‮»‬‭ ‬بنت‭ ‬أحد‭ ‬ملوك‭ ‬النوبة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تجلس‭ ‬على‭ ‬الشاطئ‭ ‬وتطعم‭ ‬التماسيح‭ ‬بصفة‭ ‬دائمة،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬قصر‭ ‬والدها‭ ‬كان‭ ‬مشرفًا‭ ‬على‭ ‬النيل،‭ ‬وجرت‭ ‬العادة‭ ‬بأن‭ ‬يقترعوا‭ ‬لاختيار‭ ‬فتاة‭ ‬لتقديمها‭ ‬قربانًا‭ ‬للنيل،‭ ‬فوقعت‭ ‬القُرعة‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬على‭ ‬أميرتهم‭ ‬المحبوبة‭ ‬سيلا،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منهم‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬قاموا‭ ‬بإلقائها‭ ‬في‭ ‬النيل،‭ ‬لكنّ‭ ‬التماسيح‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تطعمها،‭ ‬في‭ ‬وفاء‭ ‬عجيب،‭ ‬أخرجتها‭ ‬من‭ ‬النيل،‭ ‬وقد‭ ‬تكررت‭ ‬العملية‭ ‬عدة‭ ‬مرات،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬تخرج‭ ‬التماسيح‭ ‬الأميرة‭ ‬إلى‭ ‬الشاطئ،‭ ‬وفي‭ ‬المرة‭ ‬الأخيرة‭ ‬طاردت‭ ‬التماسيح‭ ‬الكهنة،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منهم‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تركوها‭ ‬وشأنها،‭ ‬واختاروا‭ ‬غيرها‭ ‬قربانًا‭ ‬مقبلًا‭. ‬وكانوا‭ ‬يحذّرون‭ ‬أبناءهم‭ ‬من‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬النيل‭ ‬والاستحمام‭ ‬فيه‭ ‬ساعة‭ ‬الغروب،‭ ‬وذلك‭ ‬ربما‭ ‬لوجود‭ ‬اعتقاد‭ ‬ديني‭ ‬قديم‭ ‬بأنّ‭ ‬الأرواح‭ ‬الشريرة‭ ‬تنطلق‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الساعة‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬وتكون‭ ‬أكثر‭ ‬فتكًا‭ ‬بالإنسان‭ ‬في‭ ‬ضفافه‮»‬‭.‬

وتكثر‭ ‬التماسيح‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬بشكل‭ ‬ملحوظ،‭ ‬وللناس‭ ‬قصص‭ ‬كثيرة‭ ‬عن‭ ‬حياتها‭ ‬وتصرفاتها‭.‬

أما‭ ‬تقديس‭ ‬النيل‭ ‬وتمجيده‭ ‬وتقديم‭ ‬القرابين‭ ‬له‭ ‬فأمر‭ ‬ليس‭ ‬قاصرًا‭ ‬على‭ ‬شعوب‭ ‬منطقة‭ ‬دون‭ ‬أخرى،‭ ‬وقد‭ ‬كتب‭ ‬الكاتب‭ ‬الجنوسوداني‭ ‬
د‭. ‬شول‭ ‬دينق‭ ‬يونق‭ ‬مقالًا‭ ‬عن‭ ‬‮«‬قرابين‭ ‬النيل‮»‬‭ ‬عند‭ ‬القبائل‭ ‬الجنوبية‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬جنوب‭ ‬السودان‭:‬

‮«‬إن‭ ‬عروس‭ ‬النيل‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقدّم‭ ‬للنيل‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬الفرعونية‭ ‬كانت‭ ‬تقدم‭ ‬عند‭ ‬القبائل‭ ‬النيلية‭ ‬بأسماء‭ ‬مختلفة‭. ‬فالدينكا‭ ‬يسمونها‭ ‬نانكير،‭ ‬أي‭ (‬بنت‭ ‬النيل‭)‬،‭ ‬وكانت‭ ‬تقدّم‭ ‬لإله‭ ‬النهر،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬القربان‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الحيوان‮»‬‭.‬

ويمضي‭ ‬ذاكرًا‭ ‬‮«‬العابرون‭ ‬للنهر‭ ‬عند‭ ‬الدينكا‭ ‬لا‭ ‬يعبرون‭ ‬بأبقارهم‭ ‬من‭ ‬الضفة‭ ‬الشرقية‭ ‬إلى‭ ‬الغربية‭ ‬دون‭ ‬تقديم‭ ‬قربان‭ ‬للإله‭ ‬الذي‭ ‬يطلب‭ ‬منه‭ ‬السماح‭ ‬بعبور‭ ‬المواشي‭ ‬والناس‭ ‬دون‭ ‬أذية‭ ‬من‭ ‬مخلوقات‭ ‬البحر‭ ‬التي‭ ‬يتحكّم‭ ‬فيها‭. ‬وفي‭ ‬الصباح‭ ‬الباكر‭ ‬يذهب‭ ‬الجميع‭ ‬بأبقارهم‭ ‬إلى‭ ‬النهر‭ ‬بصدد‭ ‬العبور،‭ ‬وهنا‭ ‬يتقدّم‭ ‬أفراد‭ ‬من‭ ‬الأسر‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بطقوس‭ ‬العبور،‭ ‬حيث‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬معيّتهم‭ ‬خروف‭ ‬أو‭ ‬ماعز‭ ‬أو‭ ‬ثور،‭ ‬وتربط‭ ‬أطرافه‭ ‬ثم‭ ‬يرمى‭ ‬في‭ ‬النهر‮»‬‭.‬

ويضيف‭ ‬د‭. ‬يونق‭ ‬‮«‬إن‭ ‬القرابين‭ ‬تقدّم‭ ‬للنيل‭ ‬طلبًا‭ ‬للطُّهر‭ ‬والإخصاب،‭ ‬فالمرأة‭ ‬التي‭ ‬تتأخر‭ ‬في‭ ‬الإنجاب‭ ‬تؤخذ‭ ‬إلى‭ ‬النهر‭ ‬للطهر‭ ‬وطرد‭ ‬الأرواح‭ ‬الشريرة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬المولود‭ ‬الجديد‭ ‬يذهب‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬النهر‭ ‬ليبارك‭ ‬بالماء‮»‬‭.‬

هذه‭ ‬القصص‭ ‬والأساطير‭ ‬سائرة‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬عمر‭ ‬النيل‭ ‬وطول‭ ‬شطآنه،‭ ‬إلّا‭ ‬أنها‭ ‬تكتسب‭ ‬خصوصية‭ ‬وأهمية‭ ‬قصوى‭ ‬في‭ ‬دولتي‭ ‬وادي‭ ‬النيل‭ (‬السودان‭ ‬ومصر‭)‬،‭ ‬لما‭ ‬لهما‭ ‬من‭ ‬حضارة‭ ‬إنسانية‭ ‬عميقة،‭ ‬وتاريخ‭ ‬مشترك‭ ‬ورباط‭ ‬وجداني‭ ‬وثيق،‭ ‬مما‭ ‬أحكم‭ ‬عرى‭ ‬الحياة‭ ‬بمشمولاتها‭ ‬بين‭ ‬شعبيهما‭ ‬منذ‭ ‬الأزل،‭ ‬دلّل‭ ‬عليه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬والباحثين‭ ‬والأدباء،‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬الشاعر‭ ‬السوداني‭ ‬مبارك‭ ‬المغربي‭ (‬1928‭ - ‬1982م‭) ‬يكتب‭: ‬‮«‬أخي‭ ‬في‭ ‬الشمال‮»‬‭ ‬لتغنيه‭ ‬المغنية‭ ‬فائزة‭ ‬أحمد‭ (‬1930‭ - ‬1983م‭) ‬بألحان‭ ‬رياض‭ ‬السنباطي‭:‬

جرى‭ ‬النيـلُ‭ ‬في‭ ‬أرضِنا‭ ‬كوثرا‭   

فـأجرى‭ ‬المودةَ‭ ‬لمّـا‭ ‬جرى

وغنـّتْ‭ ‬مـع‭ ‬المــوجِ‭ ‬شُــطآنهُ‭   

تُـوثّقُ‭ ‬بين‭ ‬القلـوبِ‭ ‬العُرى

كـأني‭ ‬بدمياط‭ ‬رغـــمَ‭ ‬النـــوى‭   

يـعانقُ‭ ‬فـي‭ ‬لـهفةٍ‭ ‬عطبـرة

 

فيضان‭ ‬النيل

في‭ ‬أثناء‭ ‬تجوالنا‭ ‬على‭ ‬ضفاف‭ ‬النيلين‭ ‬الأزرق‭ ‬والأبيض‭ ‬ونهر‭ ‬النيل‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬الخرطوم،‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يلفت‭ ‬الأنظار‭ ‬تغيّر‭ ‬مظاهر‭ ‬الحياة‭ ‬بفضل‭ ‬دوران‭ ‬عجلة‭ ‬الزمان،‭ ‬ومقتضيات‭ ‬العصر‭ ‬والتطور،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬النواحي‭ ‬المعمارية‭ ‬والسياحية،‭ ‬حتى‭ ‬شملت‭ ‬ألعاب‭ ‬الأطفال‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬النيل،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬الحقول‭ ‬والمروج‭ ‬الخضراء‭ ‬على‭ ‬طبيعتها،‭ ‬وإن‭ ‬تخللتها‭ ‬بعض‭ ‬الأبنية‭ ‬السكنية‭ ‬الراقية،‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬الجلوس‭ ‬على‭ ‬الضفاف‭ ‬يحرّر‭ ‬النفس‭ ‬من‭ ‬القيود‭ ‬التي‭ ‬تكبّلها،‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬النيل‭ ‬ملاذًا‭ ‬رحبًا‭ ‬وآسرًا‭ ‬للكثيرين،‭ ‬وله‭ ‬تأثير‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬والذوق‭ ‬والمشاعر‭.‬

كما‭ ‬لاحظنا‭ ‬أن‭ ‬إدارة‭ ‬الدفاع‭ ‬المدني‭ ‬تعدّ‭ ‬العدة‭ ‬لموسم‭ ‬الأمطار‭ ‬وما‭ ‬يصاحبه‭ ‬من‭ ‬فيضان‭ ‬للنهر‭ ‬بفرعيه‭ ‬الأبيض‭ ‬والأزرق،‭ ‬حين‭ ‬تكون‭ ‬الأمواج‭ ‬غير‭ ‬الأمواج‭ ‬التي‭ ‬يراها‭ ‬الناس‭ ‬عادة،‭ ‬كما‭ ‬الوحوش‭ ‬المجنونة،‭ ‬وآنئذٍ‭ ‬يتساوى‭ ‬جميع‭ ‬مَن‭ ‬حوله‭ ‬في‭ ‬مهددات‭ ‬الخطر‭ ‬الذي‭ ‬يعرفونه‭ ‬ويخشونه،‭ ‬إذ‭ ‬يفيض‭ ‬ويصبح‭ ‬عنصرًا‭ ‬مخربًا‭ ‬للزراعة،‭ ‬ومقلقًا‭ ‬للذين‭ ‬يجاورونه،‭ ‬ويسامرونه،‭ ‬ولعاشقيه‭ ‬ومن‭ ‬يحومون‭ ‬حوله،‭ ‬كأنه‭ ‬لم‭ ‬يراعِ‭ ‬للأصدقاء‭ ‬والأعداء‭ ‬عهدًا‭.‬

ولعلّ‭ ‬من‭ ‬محنه‭ ‬الفظيعة‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬الوادي‭ ‬أن‭ ‬الفيضان‭ ‬دائمًا‭ ‬ما‭ ‬يأتي‭ ‬مقرونًا‭ ‬بالسيول‭ ‬لهطول‭ ‬الأمطار‭ ‬بغزارة‭ ‬في‭ ‬موسم‭ ‬الخريف‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام،‭ ‬مما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تدمير‭ ‬وإغراق‭ ‬بعض‭ ‬القرى،‭ ‬واجتياح‭ ‬آلاف‭ ‬المنازل،‭ ‬فيوسع‭ ‬أهلها‭ ‬تشريدًا‭ ‬وقتلًا،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يثأر‭ ‬لعزوف‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ‬تقديم‭ ‬القرابين،‭ ‬أو‭ ‬عملًا‭ ‬بمبدأ‭ ‬الأخذ‭ ‬والعطاء،‭ ‬أو‭ ‬لعلّه‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬إرواء‭ ‬الكبرياء،‭ ‬أو‭ ‬حب‭ ‬السيطرة‭ ‬وإخضاع‭ ‬من‭ ‬يحيطون‭ ‬حوله،‭ ‬تدليلًا‭ ‬على‭ ‬قوّته‭ ‬وجبروته،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الجوع‭ ‬تعتريه‭ ‬العام‭ ‬تلو‭ ‬العام،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬فضيلي‭ ‬جماع‭  ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬مطولة‭: ‬

وقد‭ ‬يأكل‭ ‬النِّيل‭ ‬أبناءه‭.. ‬إذ‭ ‬يجوع‭!‬

وهذا‭ ‬أمر‭ ‬سيظل‭ ‬خافيًا،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬المثل‭ ‬‮«‬سرّه‭ ‬في‭ ‬بَطنه‮»‬،‭ ‬وفيه‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الجميع‭ ‬يخافونه‭ ‬ويرهبونه‭.‬

لكن‭ ‬كلّما‭ ‬طفح‭ ‬النيل‭ ‬فاضت‭ ‬القرائح،‭ ‬يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬محمد‭ ‬الحسن‭ ‬سالم‭ (‬حميد‭):‬

يفيض‭ ‬النيل‭ ‬نحيض‭ ‬نحن

يظل‭ ‬حال‭ ‬البلد‭ ‬واقف‭ ‬تقع‭ ‬محنة

لا‭ ‬النيل‭ ‬القديم‭ ‬ياهو‭.. ‬ولا‭ ‬يانا

نعاين‭ ‬في‭ ‬الجروف‭ ‬تنهد‭.. ‬ولا‭ ‬يانا

رقاب‭ ‬تمر‭ ‬الجدود‭ ‬تنقَص‭.. ‬ﻭﻻ‭ ‬ﻳﺎﻧﺎ

 

ويبقى‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬مستوياتهم‭ ‬لا‭ ‬حيلة‭ ‬لهم‭ ‬سوى‭ ‬التفاف‭ ‬بعضهم‭ ‬مع‭ ‬بعض،‭ ‬كما‭ ‬يقال‭ ‬‮«‬المصائب‭ ‬يجمعن‭ ‬المصابينا‮»‬،‭ ‬مظهرين‭ ‬صورًا‭ ‬نادرة‭ ‬من‭ ‬التلاحم‭ ‬والتضامن،‭ ‬تفيض‭ ‬حناجرهم‭ ‬بأهازيج‭ ‬الحماسة،‭ ‬وخاصة‭ ‬الأهزوجة‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬يحفظها‭ ‬السودانيون‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬القلب،‭ ‬ويرددونها‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬الفيضان‭ ‬‮«‬عجبوني‭ ‬الليل‭ ‬جوا‭ ‬ترسوا‭ ‬البحر‭ ‬صددوا‭/ ‬عجبوني‭ ‬أولاد‭ ‬الفرسان‭ ‬ملصوا‭ ‬البدل‭ ‬والقمصان‭/ ‬وصبوا‭ ‬البحر‭ ‬خيرصان‮»‬‭ ‬لأجل‭ ‬تشييد‭ ‬المتاريس‭ ‬بأكياس‭ ‬الرمل‭ ‬حول‭ ‬مهارب‭ ‬المياه،‭ ‬وبذل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬بوسعهم‭ ‬حتى‭ ‬يدرأوا‭ ‬الخطر‭.‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬يغلب‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬الفجيعة‭ ‬والصبر،‭ ‬وتقوم‭ ‬الناس‭ ‬ولا‭ ‬تقعد‭ ‬على‭ ‬وقع‭ ‬الكوارث،‭ ‬تمتدّ‭ ‬الأيادي‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج‭ ‬لدرء‭ ‬آثارها،‭ ‬وما‭ ‬دام‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬قناعة‭ ‬بأن‭ ‬نهرهم‭ ‬ليس‭ ‬حقودًا‭ ‬لديه‭ ‬شهوة‭ ‬الانتقام،‭ ‬فمهما‭ ‬أسرفوا‭ ‬في‭ ‬الأسى‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تهدأ‭ ‬النفوس،‭ ‬ويرجعون‭ ‬إلى‭ ‬ترميم‭ ‬وتشييد‭ ‬مساكنهم‭ ‬في‭ ‬أماكنها‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬ويظل‭ ‬النيل‭ ‬هو‭ ‬عشقهم‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينمحي،‭ ‬يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬المغني‭ ‬خليل‭ ‬فرح‭:‬

يا‭ ‬مهبط‭ ‬النور‭ ‬والحياة

يا‭ ‬معدن‭ ‬الذوق‭ ‬والحـيا

أرواحـــنا‭ ‬دونك‭ ‬ها‭ ‬هي

مبذولة‭ ‬تفــديك‭ ‬زاهــية

 

يحدثنا‭ ‬الأديب‭ ‬صالح‭ ‬عن‭ ‬فيضان‭ ‬النهر‭ ‬عند‭ ‬المنحنى‭ ‬العظيم‭ ‬في‭ ‬رائعته‭ ‬‮«‬عرس‭ ‬الزين‮»‬‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬ينتفخ‭ ‬صدر‭ ‬النيل،‭ ‬كما‭ ‬يمتلئ‭ ‬صدر‭ ‬الرجال‭ ‬بالغيظ‭.‬‭ ‬ويسيل‭ ‬الماء‭ ‬على‭ ‬الضفتين،‭ ‬فيغطي‭ ‬الأرض‭ ‬المزروعة‭ ‬حتى‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬حافة‭ ‬الصحراء‭ ‬عند‭ ‬أسفل‭ ‬البيوت،‭ ‬تنق‭ ‬الضفادع‭ ‬بالليل،‭ ‬وتهب‭ ‬من‭ ‬الشمال‭ ‬ريح‭ ‬رطبة‭ ‬مغمسة‭ ‬بالندى‭ ‬تحمل‭ ‬رائحة‭ ‬هي‭ ‬مزيج‭ ‬من‭ ‬أريج‭ ‬زهر‭ ‬الطلح،‭ ‬ورائحة‭ ‬الحطب‭ ‬المبتل‭ ‬ورائحة‭ ‬الأرض‭ ‬الخصبة‭ ‬الظمأى‭ ‬حين‭ ‬ترتوي‭ ‬بالماء،‭ ‬ورائحة‭ ‬الأسماك‭ ‬الميتة‭ ‬التي‭ ‬يلقيها‭ ‬الموج‭ ‬على‭ ‬الرمل‭. ‬وفي‭ ‬الليالي‭ ‬المقمرة‭ ‬حين‭ ‬يستدير‭ ‬وجه‭ ‬القمر،‭ ‬يتحول‭ ‬الماء‭ ‬إلى‭ ‬مرآة‭ ‬ضخمة‭ ‬مضيئة‭ ‬تتحرك‭ ‬فوق‭ ‬صفحتها‭ ‬ظلال‭ ‬النخل‭ ‬وأغصان‭ ‬الشجر‭. ‬والماء‭ ‬يحمل‭ ‬الأصوات‭ ‬إلى‭ ‬أبعاد‭ ‬كبيرة،‭ ‬فإذا‭ ‬أقيم‭ ‬حفل‭ ‬عرس‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬ميلين‭ ‬تسمع‭ ‬زغاريده‭ ‬ودقّ‭ ‬طبوله‭ ‬وعزف‭ ‬طنابيره‭ ‬ومزاميره،‭ ‬كأنه‭ ‬إلى‭ ‬يمين‭ ‬دارك‭. ‬ويتنفّس‭ ‬النيل‭ ‬الصعداء،‭ ‬وتستيقظ‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬فإذا‭ ‬صدر‭ ‬النيل‭ ‬قد‭ ‬هبط،‭ ‬وإذا‭ ‬الماء‭ ‬قد‭ ‬انحسر‭ ‬عن‭ ‬الجانبين،‭ ‬يستقر‭ ‬في‭ ‬مجرى‭ ‬واحد‭ ‬كبير،‭ ‬يمتد‭ ‬شرقًا‭ ‬وغربًا،‭ ‬تطلع‭ ‬منه‭ ‬الشمس‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬وتغطس‭ ‬فيه‭ ‬عند‭ ‬المغيب‭. ‬وتنظر،‭ ‬فإذا‭ ‬أرض‭ ‬ممتدة‭ ‬ريانة‭ ‬ملساء‭ ‬ترك‭ ‬عليها‭ ‬الماء‭ ‬دروبًا‭ ‬رشيقة‭ ‬مصقولة‭ ‬في‭ ‬هروبه‭ ‬إلى‭ ‬مجراه‭ ‬الطبيعي‮»‬،‭ ‬حتى‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬بحيرة‭ ‬ناصر‭ ‬جنوب‭ ‬جمهورية‭ ‬مصر،‭ ‬ومنها‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬الأراضي‭ ‬المصرية‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة،‭ ‬وينشطر‭ ‬شمالها‭ ‬إلي‭ ‬دمياط‭ ‬شرقًا،‭ ‬ورشيد‭ ‬غربًا،‭ ‬ليواصلا‭ ‬جريانهما‭ ‬شمالًا‭ ‬حتى‭ ‬يلتحقا‭ ‬بالبحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭.‬

بالتالي،‭ ‬مهما‭ ‬توالت‭ ‬أخطار‭ ‬النيل‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬الناس،‭ ‬وشهدوا‭ ‬من‭ ‬دمار‭ ‬وعذابات،‭ ‬فهم‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬تصالح‭ ‬ومحبة‭ ‬مستمرة،‭ ‬ولو‭ ‬يعاقبوه‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬اقترف‭ ‬من‭ ‬فظائع‭ ‬وفواجع،‭ ‬لما‭ ‬اقترب‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬ضفافه،‭ ‬بل‭ ‬يرون‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يصيبهم‭ ‬من‭ ‬عوارض‭ ‬وأضرار‭ ‬هي‭ ‬أقل‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬خيراته،‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬إلّا‭ ‬تصاريف‭ ‬الأقدار‭. ‬

يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬سيف‭ ‬الدين‭ ‬الدسوقي‭:‬

والنيل‭ ‬إن‭ ‬فاض‭ ‬أروتنا‭ ‬جداوله

وإن‭ ‬تراجع‭ ‬جاد‭ ‬النخلُ‭ ‬بالرُّطب

صفوة‭ ‬القول،‭ ‬أنه‭ ‬مهما‭ ‬تحدثنا‭ ‬عن‭ ‬النيل‭ ‬العظيم‭ ‬فلن‭ ‬نفي،‭ ‬فهو‭ ‬عميق‭ ‬محاط‭ ‬بهالة‭ ‬كثيفة‭ ‬من‭ ‬الأسرار،‭ ‬ولم‭ ‬تُسبَر‭ ‬أغواره،‭ ‬ويظل‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬ينبوعًا‭ ‬للعلم‭ ‬والمعرفة‭ ‬والفكر‭ ‬والثقافة‭ ‬والأدب‭ ‬والحنين،‭ ‬ورمزًا‭ ‬للجود‭ ‬والكرم،‭ ‬يجزل‭ ‬الوئام‭ ‬والمحبة‭ ‬للشعوب،‭ ‬وأجدني‭ ‬أستعطف‭ ‬الشاعر‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬الأهتم‭ ‬المنقري‭ ‬لأقول‭: ‬

لعَمرُك‭ ‬ما‭ ‬ضاق‭ ‬النيل‭ ‬يوماً‭ ‬بأهله

ولكنّ‭ ‬أخلاق‭ ‬الرجال‭ ‬تضيق ■

من‭ ‬هنا‭ ‬يبدأ‭ ‬نهر‭ ‬النيل‭ ‬العظيم

متحف‭ ‬السودان‭ ‬القومي‭ ‬على‭ ‬شط‭ ‬النيل‭ ‬الأزرق

يخرجون‭ ‬فرادى‭ ‬ويعودون‭ ‬أفواجاً‭ ‬أفواجاً‭ ‬من‭ ‬عند‭ ‬شاطئ‭ ‬النيل

لحظات‭ ‬تأمل‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭ ‬بحري‭ ‬على‭ ‬زورق‭ ‬شراعي

المراكب‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬بسبب‭ ‬الفيضان

في‭ ‬رضا‭ ‬وصبر‭ ‬وتأمل

النيل‭ ‬يخرج‭ ‬عن‭ ‬المألوف‭ ‬ويتخطى‭ ‬الحواجز

سحر‭ ‬الطبيعة‭ ‬وحياة‭ ‬الناس‭ ‬وعشق‭ ‬النهر‭ ‬الخالد‭ ‬

الفرح‭ ‬وسط‭ ‬مياه‭ ‬النهر