الثوب الفلسطيني دلالة أصالة وانتماء للأرض
لكلّ مجتمع ثقافة ولكلّ بلد تراث، والثوب الفلسطيني هو أكثر من أنه ثوب، إنّه فن وثقافة وتراث، وشعب له مثل هذا التراث هو شعب باق لن يموت. ومن الجانب الفني يعتبر الثوب الفلسطيني من أجمل الأزياء التراثية الخاصة بالمرأة حول العالم، لما يمتلكه من ألوان وأنواع مختلفة، وتنوّع كبير في التفصيلات والتقنيات المستخدمة في إنجازه، حيث نسجت خيوطها من وهج قصة المدينة أو القرية التي ينتمي لها الثوب، اشتغلته المرأة الفلسطينية بكل حب وأنوثة. سخّرت المصممة الفلسطينية مها السقا حياتها للعمل على حفظ التراث الفلسطيني، وأسست مركز التراث الفلسطيني في بيت لحم منذ عام 1991، لإحياء وتوثيق ونشر حضارة وتراث ونضال الشعب الفلسطيني، وكان من بين أبرز أشكال هذا النضال، الحفاظ على الموروث الثقافي المتمثل في الثوب الفلسطيني المميز للمرأة منذ قديم الأزل.
تمتلك السقا مجموعة نادرة من الأثواب الفلسطينية المختلفة، تجوب المخيمات والشوارع العتيقة بحثًا عن معلومات وأنواع جديدة، وتقيم مَعرضًا مفتوحًا لسلاحها الحضاري، وترى أن هذه الأثواب شهادة على الوجود والحضارة، وكلّ ثوب هو هويّة ووثيقة حضارية لكل مدينة وقرية فلسطينية، فأصبحنا نعرف من أين تلك المرأة من خلال الزخارف على ثوبها، لأنها نقلت الطبيعة ومعتقداتها عليه، من خلال الزخارف، ومثال على ذلك ثوب يافا وبيت دجن.
وتشتهر يافا ببيارات البرتقال، وكان يحيط البيارات شجر السرو، وهكذا طرزت الفلسطينية على ثوب يافا زهر البرتقال، وأحاطته بشجر السرو - كما يظهر بصورة ثوب يافا - أمّا ثوب بلدة أسدود والمجدل التي كانت تشتهر بصناعة النسيج اليدوي فيمتاز بزخرف الحجاب - مثلثان متعاكسان - وما زال شاهدًا على أن أسدود لن تكون «أشدود» كما يطلق عليها الصهاينة.
مركز السقا، الذي تمكّن من تجميع معظم الأدوات البيتية والزراعية، وتمكّن من جمع كل الأثواب التراثية وكل مستلزماتها من غطاء للرأس وحليّ وغيرها من الملبوسات من قبل عام 1948 لأجل صيانة الذاكرة الفلسطينية والحفاظ عليها.
ويحتوي المركز أيضًا على 200 لوحة تراثية للمواقع التاريخية والأثرية والدينية في فلسطين، وخاصّة خريطة أزياء فلسطين، التي نربط من خلالها البشر بالحجر، وكذلك ثوب العروس وغيره، وزيّ طلاب المدارس وشال بابا الفاتيكان بمفتاح العودة ومعاركها أدخلتْها موسوعة غينيس بثوب طوله 40م وعرضه 17 مترًا، جمعتْ فيه زخارف من يافا؛ وبيت لحم؛ والخليل؛ وحيفا؛ والمجدل؛ وغزة وغيرها من المدن والقرى الفلسطينية، ويعمل بالمركز أكثر من 40 فنانة فلسطينية بالتطريز، فهي المهنة التي تتقنها المرأة، وتعمل بها في بيتها بين أولادها وفي وقت فراغها لتساعد في إعالة عائلتها.
جزء من التراث
عن هوية الثوب الفلسطيني تقول السقا إنه اللباس التقليدي للمرأة الفلسطينية، وهو جزء من تراث هذا الشعب وهويته، حيث تتميز كل منطقة بتفاصيل مختلفة عن بقيّة المناطق.
وتعيد مها التنوع في تفاصيل الأثواب الفلسطينية إلى ما تتميز به كل منطقة وفق طبيعتها الجغرافية، حيث يختلف ثوب المناطق الساحلية عنه في الأماكن الجبلية، إضافة إلى اختلاف التراث الخاص بكل منطقة، والموروث المتنوع من العادات والتقاليد يميّز كل منطقة عن الأخرى.
ولتوضيح الاختلاف تتوسّع السقا في الشرح قائلة: أيضًا ثوب عروس بئر السبع الرائع يمتاز بالتطريز بالأشكال الهندسية الرائعة واللون الأحمر المائل إلى البرتقالي، لكن إذا أصبحت المرأة أرملة تغيّر اللون الأحمر بالتطريز إلى اللون الأزرق، أما إذا أرادت الزواج مرة ثانية، فإنّها تزيد عليه بعض الزخارف الملونة، وبعض من زخارف اللعب، لتقول إنّها تريد أن تتزوج ثانية وتنجب أولادًا، فكأن الثوب يحكي أيضًا قصة اجتماعية، حيث يعتبر بمنزلة لوحة فنية متكاملة تصلح لأن تكون فيلمًا وثائقيًا يجسّد حياة المرأة الفلسطينية في صحراء النقب وغيرها. أما ثوب نابلس الأبيض فقد كان جميلًا وفقيرًا بالتطريز، لأن المرأة بالشمال كانت تشارك الرجل بالعمل في الحقول، ولم يكن لديها الوقت الكافي للتطريز.
وتوضّح أن المهتم والمتابع يمكنه أن يميّز بسهولة إلى أي منطقة تنتمي تلك المرأة التي تلبس ثوبًا تراثيًّا، وذلك من خلال الألوان والزخارف، والأحمر الكنعاني بدرجاته، فالأحمر النبيذي لرام الله، والأحمر البرتقالي لبئر سبع، والأحمر المائل إلى البنّي لمنطقة بيت جبرين والخليل، أما اللون الأحمر المائل إلى البنفسجي، فهو لمنطقة غزّة والمجدل. وتعكس الزخارف الموجودة على كل ثوب البيئة المحيطة من أشجار وأزهار وجبال ومعتقدات وتراث.
الجائزة الأولى
تشير السقا، وهي حاصلة على الجائزة الأولى لمنظمة السياحة العالمية بين 60 دولة في العالم في مسابقة بعنوان المرأة والتراث، وذلك بلوحة أزياء فلسطين التراثية تقول إن هذه الأثواب لا تختلف بالأشكال فقط إنّما يأخذ كل ثوب شكلًا ولونًا وزخارف مختلفة ترتبط به وتميّزه عن غيره.
أما أبرز هذه الأثواب فهو ثوب الملكة التلحمي، أيقونة بيت لحم، العريق والمميز والمختلف، لأنه كان مخصصًا لملكات فلسطين قديمًا، وتشتهر به منطقة بيت لحم وسط فلسطين، وما يميّزه عن بقية الأثواب هو تطريزه بالقطبة التلحمية بالتحريرة والقصب على الصدر بزخرف يسمى القوار، وهو مزين بقطبة التحريرة والقصب، وثوب العروس، قماشه من الحرير والكتّان المخطط بألوان زاهية، ويمتاز بكثافة التطريز على القبّة، أما جوانبه فتسمى البنايق، وهي على شكل مثّلث مزدان برسومات المشربية والساعة، والأكمام (الأردان) واسعة ومطرزة، والتقصيرة (جاكيت قصير الأكمام والطول) مصنوعة من قماش المخمل ومطرّز بخيوط الحرير والقصب. أما غطاء الرأس الشطوة، فهي قطعة من مهر العروس مزيّنة بالقطع الذهبية والفضية وخرز المرجان، يتدلّى منها عقد فضّي جميل يدعى سبعة أرواح تحمي من الحسد.
وتتميز العاصمة القدس بالثوب الغباني والأساوري وأبو قطبة وثوب جنّة ونار، وهو مصنوع من الحرير الدمشقي الأصفر والأسود المخطط بالألوان الأحمر والأصفر والأسود، ويطرّز بالحرير والقصب، وهو ثوب خاص بمنطقة القدس. ويُعرف بأنه أكثر ثوب يمتاز بوجود أثر لكل العصور التي مرّت على القدس، فعلى الصدر توجد قبّة الملكات كدليل أهمية القدس العربي.
وهناك أثواب أخرى كثيرة كالثوب الدجاني، والثوب الإخضاري، وثوب الجلاية للشمال، وثوب أريحا، وثوب رام الله.
تحف فنية رائعة
ويعبّر تنوّع الأسماء والأشكال فيما بين الأثواب عن غنى التراث الفلسطيني، وتنوّع الثقافة الفلسطينية التي حملت تفاصيل كل من عاشوا على هذه الأرض على مر السنوات، ونقلته لنا على شكل تحف فنيّة رائعة كان النساء يتخذنه ملبسًا لهنّ في الأفراح والأتراح والمناسبات العامة والخاصة.
وتضيف السقا أن الزي التراثي الفلسطيني يحفظ بين طياته وزركشات خيوطه دلائل حـال الأمة وعاداتها وتقاليدها وتراثها، وهي من أكثر شواهد المأثور الشعبي تعقيدًا؛ ويستدل بها على كثير من المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ إذ تدلّ على الانتماء الطبقي، والمنزلة الاجتماعية، كما تدلّ على بلد لابسها من خلال اختلاف النقشات من بلد إلى آخر. وتؤكد أن الإقبال على طلب الثوب الفلسطيني للنساء الفلسطينيات من كل الأعمار في ازدياد مستمر.
وتحيك السقا الثوب الفلسطيني بطريقة عصرية ومُبتكرة، وتُبدع في صنعه بمركزها بطرق حديثة وعصرية لتجذب الشابات الفلسطينيات إليه، وتحببهن فيه عن طريق الدمج بين الثوب الفلسطيني القديم والفساتين الحديثة، لتخرج بتصاميم مبتكرة في قطعة إبداعية تراثية وحديثة في آن معًا، جامعةً بين عراقة الماضي وأصالة الحاضر، ومستفيدة من خبرتها الطويلة في هذا المجال، حيث بدأت تصنع الأثواب الفلسطينية قبل نحو ثلاثين عامًا، وقد شاركت في أكثر من 40 معرضًا دوليًا وعروضًا للأزياء التراثية في العالم، فالثوب الفلسطيني يمتاز بالجمال وتناسق الألوان، ويعبّر عن الجمال والأرض وأحلام المرأة ويلامس روحها، هو إلهام لكلّ فتاة فلسطينية، فهناك لكل ثوب فلسطيني قصته التي يعبّر عنها.
ربط الماضي والحاضر
وأهم ما يميز الثوب الفلسطيني عن غيره هو التطريز في أماكن متعددة على الثوب، فثمة تطريز ضمن مربّع على الصدر يُسمّى «القبة»؛ وعلى الأكمام ويسمّى «الأردان»، وعلى الجانبين ويسمى «البنايق». ويطرزون أيضًا على جوانب الثوب المناجل بمساحات مختلفة.
وترى السقا أن ارتداء الثوب لم يبقَ مقتصرًا على المناسبات، لكنّ الثوب باق يربط بين الماضي والحاضر، ويروي للأيام حكاية حضارة ضاربة في عمق التاريخ والجغرافيا جذورًا في سيدة أرض كانت وستبقى تسمّى فلسطين.
ويمتاز الثوب الفلسطيني أيضًا بالجمع بين الفن الجميل والأناقة، والزخرفة والتطريز على أنحاء الثوب، ترتسم عليه زخارف ورسومات تُخفي دلائل وتظهر أخرى مستوحاة من الحضارة التي تعيشها صاحبة هذا الثوب وتعكسها.
ويطرز الثوب الفلسطيني بتكرار الأشكال الهندسية وعناصر كالقمر والنجمة الكنعانية الثمانية والوردة والشجرة وخيمة الباشا وسنابل القمح والسرو، وهذا إن دلّ فإنّما يدلّ على الفلكلور السائد في فلسطين، وهو فلكلور زراعي، كما تستطيع أن ترى انعكاس الفصول الأربعة عبر أوراق الشجر وانتشار الورد بألوانه وأنواعه وتجلّي الطيور بأشكالها.
وتقول السقا إن الثوب الفلسطيني هو تراكُم تراث وتراكم حضارة، وإن الشعب الفلسطيني الذي راكم حضارة عمرها آلاف السنين يحقّ له، بجدارة، أن يقول «هذا وطني»، مضيفة أن التراث أساس الهوية وروح الثقافة وروح الشعب، وهو بحث تاريخي وحضاري وجغرافي، وهو ذلك المخزون الذي تحتفظ به ذاكرة الشعوب وتنقله من السلف إلى الخلف ■
ثوب عروس بيت لحم
مجموعة من اثواب فلسطين