الرَّأي... قطرة في قاموس الوعي

الرَّأي... قطرة في قاموس الوعي

مفردة‭ ‬الرَّأي‭ ‬من‭ ‬المفردات‭ ‬التي‭ ‬أخذت‭ ‬أبعادًا‭ ‬مختلفة،‭ ‬فبدءًا‭ ‬من‭ ‬معناها‭ ‬اللغوي،‭ ‬الذي‭ ‬يعكس‭ ‬أربعة‭ ‬معانٍ،‭ ‬وفق‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬تاج‭ ‬العروس‮»‬،‭ ‬هي‭ ‬النظر‭ ‬بالعين،‭ ‬والنظر‭ ‬بالتَّخيُّل‭ ‬والتَّوهُّم،‭ ‬والنظر‭ ‬بالتفكُّر،‭ ‬والنظر‭ ‬بالقلب‭... ‬ويضيف‭ ‬معنى‭ ‬العِلم‭ ‬إذا‭ ‬عُدِّي‭ ‬الفعل‭ ‬إلى‭ ‬مفعولين،‭ ‬ويضيف‭ ‬أيضًا‭ ‬الرَّأي‭: ‬الاعتقاد،‭ ‬ولهذا‭ ‬قال‭ ‬الراغب‭ ‬الأصفهاني‭: ‬الرأي‭ ‬هو‭ ‬اعتقاد‭ ‬النفس‭ ‬أحد‭ ‬النقيضين‭ ‬عن‭ ‬غلبة‭ ‬الظن‭.‬

ما‭ ‬معنى‭ ‬هذا؟

معناه‭ ‬أنَّ‭ ‬الرأي‭ ‬يتكوَّن‭ ‬عن‭ ‬حُكم‭ ‬ذاتي‭ ‬نتيجة‭ ‬مَيل‭ ‬الظَّنِّ‭ ‬إلى‭ ‬أمر‭ ‬من‭ ‬أمرين‭ ‬متناقضين‭.‬

فالظَّنُّ‭ ‬من‭ ‬مكوِّنات‭ ‬الرَّأي،‭ ‬ولا‭ ‬يكون‭ ‬الظَّنُّ‭ ‬إلّا‭ ‬بعد‭ ‬إعمال‭ ‬الفكر‭ ‬في‭ ‬التَّرجيح‭ ‬مع‭ ‬احتمال‭ ‬النَّقيض‭ ‬الآخر،‭ ‬كما‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الجرجاني‭ ‬في‭ ‬تعريفه‭ ‬للظَّنِّ،‭ ‬فلا‭ ‬يقينَ‭ ‬في‭ ‬الرَّأي‭ ‬إذن،‭ ‬وهو‭ ‬قابلٌ‭ ‬للنَّقد‭ ‬والتَّغيير،‭ ‬وهذه‭ ‬ميزة‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الرأي‭ ‬متحرِّكًا‭ ‬وناميًا‭ ‬في‭ ‬الفكر،‭ ‬وبالتّالي‭ ‬ومع‭ ‬تراكم‭ ‬الآراء‭ ‬تتجدَّد‭ ‬البشريَّة‭ ‬في‭ ‬شتَّى‭ ‬المجالات‭ ‬بفضل‭ ‬الهدم‭ ‬والبناء‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يرفضه‭ ‬الرأي،‭ ‬بعكس‭ ‬اعتقاد‭ ‬أمرٍ‭ ‬ما‭ ‬بالتلقين‭ ‬دون‭ ‬إعمال‭ ‬فِكر‭ ‬فيه،‭ ‬فهو‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬رأيًا،‭ ‬بل‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬درجة‭ ‬محدَّدة‭ ‬من‭ ‬درجات‭ ‬المعرفة‭ ‬الأوّلية،‭ ‬لا‭ ‬يصعد‭ ‬ولا‭ ‬ينزل،‭ ‬ويظلُّ‭ ‬ثابتًا‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬إلّا‭ ‬إذا‭ ‬هجمتْ‭ ‬عليه‭ ‬الظُّنون‭ ‬فسيتحوَّل‭ ‬إلى‭ ‬رأي‭ ‬عند‭ ‬صاحب‭ ‬الظَّن‭.‬

وهذا‭ ‬ما‭ ‬أكَّده‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألماني‭ ‬كانط‭ ‬حين‭ ‬قال‭: ‬الرأي‭ ‬هو‭ ‬اعتقاد‭ ‬صدق‭ ‬القضية‭ ‬مع‭ ‬الشعور‭ ‬بأنَّ‭ ‬الأسباب‭ ‬الموضوعية‭ ‬والذاتية‭ ‬لذلك‭ ‬الاعتقاد‭ ‬غير‭ ‬كافية‭.‬

ومعنى‭ ‬هذا‭ ‬التعريف‭ ‬أنَّ‭ ‬صدق‭ ‬القضية‭ ‬الذي‭ ‬يعتقد‭ ‬به‭ ‬الشخص‭ ‬هو‭ ‬صدق‭ ‬احتمالي‭ ‬واعتباري،‭ ‬وليس‭ ‬صدقًا‭ ‬مطلقًا،‭ ‬وهذا‭ ‬عائد‭ ‬إلى‭ ‬أنَّ‭ ‬هذا‭ ‬الاعتقاد‭ ‬يأخذ‭ ‬ببعض‭ ‬الأسباب‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الفقه،‭ ‬فقد‭ ‬شقَّ‭ ‬مفهوم‭ ‬الرأي‭ ‬خطًّا‭ ‬جديدًا‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الأحكام،‭ ‬فصار‭ ‬مدرسة‭ ‬وتيَّارًا‭ ‬يُشار‭ ‬إليه‭ ‬بالبَنان،‭ ‬قال‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬في‭ ‬مقدِّمته‭: ‬‮«‬وانقسم‭ ‬الفقه‭ ‬فيهم‭ ‬إلى‭ ‬طريقتين؛‭ ‬طريقة‭ ‬الرأي‭ ‬والقياس،‭ ‬وهم‭ ‬أهل‭ ‬العراق،‭ ‬وطريقة‭ ‬أهل‭ ‬الحديث‭ ‬وهم‭ ‬أهل‭ ‬الحجاز‭. ‬وكان‭ ‬الحديث‭ ‬قليلًا‭ ‬في‭ ‬أهل‭ ‬العراق‭... ‬فاستكثروا‭ ‬من‭ ‬القياس‭ ‬ومهروا‭ ‬فيه‮»‬‭.‬

ويعتبر‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬قلَّة‭ ‬رواية‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬سببًا‭ ‬لاستعمال‭ ‬الرأي‭ ‬والقياس‭ ‬في‭ ‬المسائل‭ ‬الفقهية،‭ ‬لكنَّ‭ ‬الشهرستاني‭ ‬يضيف،‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬المِلَل‭ ‬والنّحَل‮»‬،‭ ‬أسبابًا‭ ‬لنشوء‭ ‬مدرسة‭ ‬أهل‭ ‬الرأي‭ ‬لا‭ ‬تدلُّ‭ ‬على‭ ‬قلَّة‭ ‬الحديث،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬أسباب‭ ‬في‭ ‬كيفيَّة‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الحديث‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬‮«‬تحصيل‭ ‬وجه‭ ‬القياس،‭ ‬والمعنى‭ ‬المستنبط‭ ‬من‭ ‬الأحكام،‭ ‬وبناء‭ ‬الحوادث‭ ‬عليها‭...‬‮»‬،‭ ‬وكل‭ ‬هذه‭ ‬الأمور‭ ‬تكون‭ ‬من‭ ‬إعمال‭ ‬الفكر‭ ‬أمام‭ ‬النَّصِّ‭ ‬في‭ ‬عمليَّة‭ ‬التَّلقِّي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإنَّ‭ ‬الآراء‭ ‬تتعدَّد‭ ‬أمام‭ ‬النَّص‭ ‬الواحد‭ ‬بحسب‭ ‬زوايا‭ ‬النظر‭ ‬ودرجات‭ ‬الظنون،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬المنهج‭ ‬المتَّبع‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬النص‭.‬

ما‭ ‬الذي‭ ‬يقف‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬الرَّأي،‭ ‬وبعبارة‭ ‬أدق‭: ‬ما‭ ‬معوِّقات‭ ‬الرأي؟

أهمُّ‭ ‬هذه‭ ‬المعوِّقات‭ ‬غياب‭ ‬الحريَّة،‭ ‬فلا‭ ‬رأي‭ ‬بلا‭ ‬حريَّة‭ ‬تحفظ‭ ‬للإنسان‭ ‬كرامته‭ ‬وحقَّه‭ ‬في‭ ‬التَّعبير،‭ ‬والمعوِّق‭ ‬الثاني‭ ‬العناد‭ ‬في‭ ‬المتلقِّي‭ ‬عصيانًا‭ ‬وتمرُّدًا،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬تؤكِّده‭ ‬المقولة‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬لا‭ ‬رأيَ‭ ‬لمن‭ ‬لا‭ ‬يُطاعُ‮»‬؛‭ ‬ذلك‭ ‬لأنَّ‭ ‬المتلقِّي‭ ‬عنصر‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬معادلة‭ ‬الرأي،‭ ‬والثالث‭ ‬القصور‭ ‬المعرفي‭ ‬في‭ ‬التلقِّي،‭ ‬فكلّ‭ ‬قضية‭ ‬تتطلّب‭ ‬معرفة‭ ‬حتى‭ ‬نسمِّي‭ ‬من‭ ‬يبحث‭ ‬فيها‭ ‬صاحب‭ ‬رأي،‭ ‬والرابع‭ ‬النظرة‭ ‬الشخصية،‭ ‬لأنَّ‭ ‬التصالح‭ ‬مع‭ ‬الرأي‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬إبعاد‭ ‬الأمور‭ ‬الشخصية،‭ ‬والخامس‭ ‬الأيديولوجيا،‭ ‬فالإنسان‭ ‬‮«‬المؤدلَج‮»‬‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬رأي،‭ ‬لأنَّ‭ ‬الرأي‭ ‬يتطلب‭ ‬التجرُّد‭ ‬والموضوعيَّة،‭ ‬وبإمكان‭ ‬القارئ‭ ‬إضافة‭ ‬سادس‭ ‬وسابع‭.‬

نحن‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬بيئةٍ‭ ‬سويَّة‭ ‬تُؤمّنُ‭ ‬صاحب‭ ‬الرأي‭ ‬من‭ ‬مرضٍ‭ ‬اجتماعي‭ ‬نفسي،‭ ‬وتُؤمّنه‭ ‬من‭ ‬خوف،‭ ‬فهل‭ ‬سَلِم‭ ‬أصحاب‭ ‬الرأي،‭ ‬وخاصة‭ ‬الذين‭ ‬خرجوا‭ ‬على‭ ‬السائد‭ ‬بآرائهم؟‭! ‬