"جسر على نهر
درينا" ظهرت عام 1945 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ونجد فيها تاريخ البوسنة
منذ الاحتلال التركي لها، بمن فيها من سلاف مسلمين وصرب أرثوذكس وكروات كاثوليك،
وأتراك ورهبان فرنسيسكان ويهود وغجر ومهاجرين.
في أثناء دراسته
الجامعية اعتقل المؤلف لانتمائه إلى إحدى الجمعيات الثورية، ثم خرج وأكمل دراسته
حتى نال الدكتوراة عن رسالة عنوانها "الحياة الفكرية في البوسنة والهرسك في عهد
السيطرة التركية".
بعد ذلك عمل
دبلوماسيا في عدة عواصم أوربية. ومترجم روايته "جسر على نهر درينا" عمل أيضا
دبلوماسيا، هو الأديب والسفير السوري الراحل د. سامي الدروبي. كانت يوغسلافيا
(ومعناها السلاف الجنوبيون) جمهورية فيدرالية اشتراكية، يقع معظمها في شبه جزيرة
البلقان، سطحها جبلي، تألفت من ست جمهوريات متمتعة بالحكم الذاتي هي: صربيا،
كرواتيا، بوسنة وهرسك، الجبل الأسود، مقدونية (وهي غير مقدونيا اليونانية بلد
الإسكندر الأكبر).
صربيا ولاية
عثمانية
صربيا عاصمتها
بلجراد، جزء منها يقع في سهل نهر الدانوب الأزرق، أما بقية أرضها فأكثرها جبلي
وعر.
في القرنين
السادس والسابع اعتنق الصرب المسيحية الأرثوذكسية، ثم وقعوا تحت سيادة الإمبراطورية
البيزنطية التي كانت عاصمتها القسطنطينية (اسطنبول الآن). ثم نجحوا في تكوين مملكة
مستقلة بلغت أوجها في القرن 14، وفي عام 1389 وقعت تحت هيمنة الأتراك الذين فرضوا
عليها الجزية أولا ثم ضموها إلى سلطنتهم سنة 1459.
ظلت صربيا ولاية
عثمانية لأكثر من ثلاثة قرون، حتى تسلل الضعف إلى الإمبراطورية التركية فعاد الأمل
في الحرية يداعب الصرب، ودخلوا في حرب عصابات دامية، إلى أن أكرهت روسيا القيصرية
عام 1828 السلطان التركي على اعتبار صربيا ولاية خاضعة له اسما وإمارة مستقلة
فعلا.
لكنها لم تتقدم
أو تزدهر، فسرعان ما وقعت في حروب أهلية مجنونة، حتى تم وضعها عام 1856 (بعد حرب
القرم) تحت وصاية الدول الأوربية الكبرى. وبعد جلاء آخر الكتائب التركية سنة 1867
حكمها الأمير "مبلان" حكما دستوريا، وقام بتأييد ثورة البوسنة والهرسك ضد الأتراك،
فدخل معهم من جديد في معارك ومناوشات.
مزيد من
الصراع
عام 1913 صارت
صربيا الدولة السلافية الأولى في البلقان، والتي شملت أيضا أقاليم الجبل الأسود
والبوسنة والهرسك. لكن مشاكلها لم تتوقف، فقد أخذت النمسا منها البوسنة والهرسك،
فاشتعل التوتر بينها وبين صربيا.
ثم تسبب رجل صربي
في إشعال الحرب العالمية الأولى، عندما اغتال الأرشيدوق النمساوي "فرنسيس فرديناند"
ونكلت النمسا بالصرب والسلاف مما دفعهم إلى التكاتف، وأعلنت الشعوب السلافية عام
1918 قيام اتحاد كرواتيا وسلوفانيا والجبل الأسود بزعامة صربيا. وهذا الاتحاد كان
نواة جمهورية يوغسلافيا الفيدرالية فيما بعد.. فهل نعموا بالسلام؟
اصطدم هذا
الاتحاد بإيطاليا ثم المجر وبلغاريا، ثم انحاز إلى دولتي المحور (ألمانيا النازية
وإيطاليا الفاشية)، ثم انقلب ضدهما لينتهي كل ذلك بإعادة تمزيقه من جديد، بعد أن
احتلته قوات - ألمانيا والمجر وإيطاليا وبلغاريا، فصارت كرواتيا وصربيا دولتين
هامشيتين، ووزعت بقية المناطق على الغزاة.
لهذا اشتعلت حرب
تحرير شرسة بقيادة تيتو وزعيم آخر، أخفق جنود هتلر في إخمادها، ثم انقلبت حرب
الثوار إلى حرب أهلية بين أنصار هذين الزعيمين انتصر فيها تيتو. وبمعاونة الاتحاد
السوفييتي والحلفاء استقلت الدولة، وأعلن تيتو الدستور اليوغسلافي، وفيه صارت صربيا
إحدى جمهوريات الاتحاد، بعد أن سلخ منها مقدونية والجبل الأسود والبوسنة والهرسك،
والتي صارت جمهوريات يوغسلافية تتمتع بالحكم الذاتي.
فلما انقلب حلفاء
الحرب العالمية الثانية إلى فرقاء، فيما عرف بالكتلتين الشرقية والغربية، جاهد تيتو
في الحفاظ على استقلالية بلاده فيما بينهما طوال فترة حكمه، كما نجح في إعادة
تعميرها بشكل فائق.
أما البوسنة فقد
أقام بها الصرب في القرن السابع، وظهرت كبلاد مستقلة من القرن 12. وفي أواخر القرن
14 صارت مملكة حرة ولكن تحت حماية ملوك المجر، الذين ضموا إليها الهرسك وكانت تابعة
لصربيا، فصار الإقليم كله يعرف باسم "بوسنة وهرسك". وحتى ذلك الوقت لم يكن بها
مسلمون، فشب النزاع الطائفي بين الكاثوليك والأرثوذكس، الأمر الذي أضعفها فاحتلها
الأتراك.
جبال
الأحقاد
مع استقرار
الاستعمار العثماني استوطنها بعض الأتراك وأسلم بعض النبلاء والأهالي، أو كما كان
يقال وقتها تتركوا أي صاروا مسلمين مثل الأتراك. وفاز بعضهم بامتيازات وظيفية وبعض
الثروة مما أثار أحقاد الآخرين، ثم سرعان ما عانوا جميعا من حروب وصراعات دموية
استمرت مئات السنين، حروب ضد المستعمرين، وأخرى داخلية بين الأديان، وبين المذاهب
داخل الدين الواحد، حروب من أجل التكتل وأخرى من أجل التفرق. مما جعل جبال الأحقاد
تتراكم، وكل قومية أو طائفة تزعم أن لها حقوقا تاريخية في أراضي الغير. اختفت هذه
النزاعات تحت زعامة تيتو القوية، فما أن مات حتى عاد الشقاق والتشرذم في شكل عنصرية
وحشية.
والملاحظ أن
البوسنة والهرسك لم يشملها التطور إلا بطيئا بسبب انعزالها طويلا عن العالم، ولأن
الوصول إليها كان صعبا، حتى أن فلاحيها لم يتحرروا نهائيا من العبودية إلا في عام
1918.
النهر
بعض هذه الصراعات
الدامية المتواصلة نتعرف عليها من خلال رواية "جسر على نهر درينا" التي نشرها
مؤلفها في العام الأول لقيام الاتحاد اليوغسلافي عام 1945 دون أن يخطر على باله
لحظة واحدة أن هذا الاتحاد سيتعرض للأهوال بعد وفاة تيتو بأعوام قليلة، وإن كانت
بذور الشقاق موجودة داخل الرواية. يقدم لنا "إيفو أندريتش" في روايته عاشت الحكايات
الإنسانية عن أشخاص وعائلات عاشت في هذه المنطقة، من خلال جسر تم تشييده على نهر
درينا ليربط ضفتي بلدة فيشيجراد من إقليم البوسنة.
ضريبة
الدم
تبدأ الرواية
الضخمة بحكاية بناء الجسر في القرن 16 حيث كانت البوسنة والهرسك واقعة تحت الاحتلال
العثماني.
بدأت فكرة إقامة
الجسر في خيال صبي في العاشرة من عمره من قرية مجاورة، إذ حدث ذات صباح من شهر
نوفمبر البارد من عام 1516 أن "وصلت قافلة من الخيول المحملة إلى الضفة اليسرى من
النهر، ولبثت هناك لقضاء الليل. كان أغا الحرس عائدا مع كتيبته المسلحة إلى مدينة
تساريجراد بعد أن جمع من قرى البوسنة الشرقية العدد المعين من الأطفال المسيحيين،
تنفيذا لما كان يطلق عليه اسم ضريبة الدم".
تساريجراد هو
الاسم الصربي لمدينة اسطنبول عاصمة الإمبراطورية العثمانية، والتي كانت دول البلقان
وجميع البلدان العربية خاضعة لها.
أما ضريبة الدم
فنتعرف عليها من كتب التاريخ، فبعد تكرار تمرد الجيش التركي واغتياله لعدد من
السلاطين، فكروا في إنشاء الجيش الإمبراطوري من غير الأتراك لتجنب الانقلابات. وكان
رأيهم أن شبان البلقان أكثر شجاعة وصمودا في القتال من العرب. فأقروا قانون ضريبة
الدم، وهو أخذ طفل عنوة من كل أسرة بلقانية لها أكثر من ثلاثة أطفال، يأخذون هذا
الطفل ويرحلونه إلى اسطنبول ويودعونه لدى أسرة تركية تتولى تنشئته نشأة إسلامية
وعسكرية، فيشب ويكبر وهو يجهل تماما أصله وموطنه، فلا يدين بالولاء إلا للقوم الذين
ربوه ووضعوا بين يديه الثروة والجاه، وجعلوه من قادة الجيش التركي أو من حكام
الولايات.
نعود إلى
الرواية: كانت قد انقضت ست سنين على آخر مرة جبيت فيها ضريبة الدم هذه، لذلك كان
الاختيار سهلا وافرا، فقد أمكن العثور بسهولة على العدد المطلوب من الأولاد الذكور
الأصحاء الأذكياء الأقوياء.. هؤلاء الأطفال شحنوا على أفراس صغيرة في قافلة طويلة،
وكل فرس تحمل سلتين من الأغصان المضفورة مثل سلال الفاكهة، وفي كل سلة وضع طفل، معه
صرة وقرص من الفطائر هي آخر حلوى يحملها هؤلاء الأطفال من بيوت آبائهم. كنت ترى
الوجوه الغضة المذعورة وقد أخرجوا أنوفهم من السلال، ينظرون النظرات الأخيرة من فوق
أرداف الخيل إلى البلد الذي ولدوا فيه. وعلى مسافة وراء آخر الأفراس الآباء
والأمهات والأقرباء باكين لاهثين يشيعون هؤلاء الصبيان الذين أخذوا إلى غير رجعة،
وكتب عليهم أن يعيشوا في عالم أجنبي وأن يعتنقوا الإسلام، وأن يقضوا بقية حياتهم في
كتائب حرس السلطان أو في إدارة عليا.
كان من بين هؤلاء
الصبية ولد أسمر في العاشرة من عمره، بات مع الكتيبة على ضفة نهر درينا في انتظار
الصباح، كي يعبروا النهر عن طريق المعدية الوحيدة، فتمنى لو كان في هذا الموضع جسر
يربط بين الضفتين.
كبر هذا الصبي في
اسطنبول وصار ضابطا في بلاط السلطان اسمه "محمد باشا سوكولي" فقائدا خاض ثلاث حروب
في ثلاث قارات انتصر فيها لصالح مولاه. خدم ثلاثة سلاطين وصار وزيرا.
في شيخوخته تذكر
حلمه القديم، وقرر إنشاء جسر يربط قرية فيشيجراد بشرق النهر ليسهل الطريق إلى
اسطنبول، وعلى نفقته كعمل خيري.
بالفعل بدأ
التنفيذ برئاسة تابع له اسمها "عابد أغا" كان فظا قاسيا سارقا، قام بتسخير أهالي
القرية في بناء الجسر مدة ثلاث سنوات، لا يتوقف العمل إلا في شهور تساقط
الجليد.
وكان أتراك
المدينة يلتزمون قواعد الدين التزاما دقيقا، خاصة أنهم استتركوا من عهد قريب. ورغم
قسوة عابد أغا فإن المنازعات كانت تنشب بين العمال المجلوبين من قرى عديدة، وكثرت
حوادث السرقة في البساتين والبيوت. وقال أتراك المدينة لأنفسهم: جميل أن ينتمي
المرء إلى الدين الصحيح، وأن يكون لنا في اسطنبول وزير من وطننا، وأن يبني جسرا فوق
النهر، لكن المدينة استحالت إلى جحيم، دخان وغبار وصياح وسرقات لا نرى لها
نهاية.
غير أن فلاحا
صربيا من الفلاحين المسخرين للعام الثالث اسمه "راديسلاف" يقود حركة سرية لتخريب
أعمال البناء، تحت زعم أن الجن لا تريد للجسر أن يتم. لكن عابد أغا لا يصدق حكاية
الجن، وينجح في الإمساك براديسلاف، ويعذبه ليعترف على شركائه، ثم يقرر عليه عقوبة
الموت بالخوزقة.
ذاكرة
الأجيال
وقت التنفيذ تجمع
الناس ليشاهدوا الخوزقة لأول مرة، وجاء الجلاد الغجري ومعه مساعده بمطرقة وخازوق من
خشب السنديان، مثل مسمار طويل جدا. والمفروض أن يخترق الخازوق جسم الضحية من مؤخرته
حتى ينفذ من فمه مارا بأحشائه، لكن عابد أغا يريد للمتمرد عذابا مضاعفا، فيدفع ستة
دنانير للغجري كي يجعل الخازوق لا يمر بقلب الضحية ليظل حيا في عذاب حتى
المساء.
الوصف طويل
وفظيع، وتمت عملية الخوزقة، وتم تعليق الفلاح فوق أعلى سقالة من سقالات البناء ليدب
الذعر في قلوب الأهالي. ثم جاء الجليد وتوقف ا لعمل، وعرف الوزير بسرقات وقسوة عابد
أغا، فاسترد منه الأموال المسروقة ونفاه، ليحل محله في العامين الرابع والخامس رئيس
آخر، دائم الابتسام. وبعد انتهاء العمل رأى الناس الجسر قويا رائعا لا مثيل لجماله،
له اتساعان في وسطه على جانبي طريق العربات، وضعت فيهما مقاعد حجرية، وهذا الجزء
اسمه كابيا.
صارت هذه الكابيا
مكانا لجلوس الأهالي والتسامر ليلا. أما الفلاح القتيل راديسلاف فقد اعتبره الصرب
شهيدا وبنوا له فيما بعد قبرا. مع تعاقب الأجيال وضعف الذاكرة راح أحفاد الصرب
يزعمون أن القبر لزعيم صربي قوي خضع له جميع الناس، بينما زعم أحفاد المسلمين أنه
قبر ولي من الأولياء اسمه الشيخ تركمان استشهد في سبيل الله بعد أن حارب
الكفار.
جاء القرن 17
ليتحدث الناس وهم فوق الكابيا عن جلاء تركيا عن المجر. وتتوالى الأجيال حتى القرن
18 ويتحدثون عما سمعوه عن حروب قام بها الصرب ضد. الاحتلال العثماني، بدأت في
بلجراد البعيدة ثم اقتربت من حدود البوسنة.
وكان جزء كبير من
الجيوش العثمانية المرسلة إلى صربيا يجتاز المدينة والجسر، فيطلب القادة من مسلمي
البوسنة الأثرياء تقديم المزيد من المتطوعين والمال، ويفرضون على صرب البوسنة الذين
صاروا مطاردين غرامات أكثر من الماضي.
وعلى الجانب
الآخر كانت تصل من صربيا أسر تركية أحرق الثوار جميع ما تملك، فكانت هذه الأسر تشيع
الكره وتطالب بالثأر. واقترب الصرب حتى سمع البعض مدافع قائدهم "قره
جورج".
الجسر تحت
الخطر
جاءت فصيلة جنود
تركية ورابطت فوق الجسر لحمايته، شيدت في منتصفه متراسا من الخشب، عبارة عن منزل
صغير من طابق واحد لإقامة الحامية، وقام بعض المتطوعين بالقبض على فلاح صربي سمعوه
يغني: "حين كان قره جورج في ريعان شبابه كانت فتاة تحمل رايته" وأصل هذه الأغنية
"حين كان علي بك في ريعان شبابه، كانت فتاة تحمل رايته".
يقول المؤلف: "في
خلال ذلك الصراع الكبير الغريب الذي طال مئات السنين في بلاد البوسنة هذه بين
عقيدتين، من أجل الأرض والسلطة، كان الخصمان لا يسلب أحدهما الآخر خيلا ونساء
وسلاحا فقط، بل يسلبه كذلك أغاني وأشعارا، وهكذا انتقل شعر كثير من فريق إلى الآخر
كغنيمة ثمينة!".
بعد أن هدأت
الحال بهزيمة الصرب فقد المتراس علة وجوده، إلى أن شب فيه حريق فاسترد الجسر منظره
القديم، وعادت الكابيا مجلسا لسمر الأهالي.
صراعات
أخرى
نحن الآن في
منتصف القرن 19 والإمبراطورية التركية تحتضر في بطء. لقد اعترف السلطان تحت ضغط
قيصر روسيا باستقلال ولاية بلجراد. ومثل كل صراع هربت زهاء 120 أسرة مسلمة من
صربيا، واصل معظمها السير إلى سراييفو، وبقيت نحو 15 أسرة في مدينة فيشيجراد التي
ما زالت تحت الحكم التركي، وقال أحدهم للجالسين على كابيا الجسر: إنكم جالسون هنا
تتسلون، ها نحن نلتجئ إلى أرض تركية، ولكن إلى أين تهربون ونهرب حين يجيء دور
بلدكم؟.
وكأنه كان يقرأ
الغيب. في بداية صيف 1878 جلا الأتراك عن البوسنة وبلا مقاومة، وجاء مفتي إحدى
المدن يحث الأهالي على مقاومة النمسا العدو الجديد، لكنه كان يعرف أن "أهالي البلدة
يفضلون أن يعيشوا حياة مجنونة على أن يموتوا موتا مجنونا!".
وصار على وجهاء
المدينة أن يستقبلوا جيش الاحتلال الجديد فوق الجسر، جيش النمسا، وتكون وفد
الاستقبال من ملا إبراهيم وحسين أغا المدرس والقس نقولا والحاخام داود ليفي!..
فجلسوا معا يقتلون الوقت بالتساؤلات القلقة.
ورأى الأهالي
جيشا مختلفا منظما، جاء ومعه المهندسون الذين أناروا الطرق لأول مرة، ومدوا أنابيب
الصرف الصحي، وطبقوا قواعد النظافة العامة. فلما أخذ النمساويون بعض شبان المدينة
لتجنيدهم في فيينا خرجت النسوة لوداعهم نائحات: "في البوسنة كل أم حزينة من فراق
ابنها".
انتهاء
العزلة
هذه المرة توارت
الخلافات العرقية وتحالف الصرب والهرسك معا ضد الاحتلال النمساوي، فوضع النمساويون
متراسا جديدا وسط الجسر لحراسته، ونجحوا في إخماد الثورة، فهرب بعض المسلمين إلى
تركيا، وهرب بعض الصرب إلى الجبل الأسود.
ثم جاء المهندسون
من النمسا ورمموا الجسر عام 1900 ثم مدوا بعد سنوات خطا حديديا من سراييفو إلى
الصرب (بلجراد) مارا بمدينة فيشيجراد التي تبدل حالها وصار أهلها يقرأون الصحف
والمجلات، وسمعوا عن الاشتراكية. انتهت عزلتهم بفضل القطار.
وصارت في سراييفو
أحزاب ومنظمات دينية ووطنية (وكان عمر المؤلف 16 عاما، وكان عضوا في منظمة. ثورية).
وسرعان ما أصبح لهذه الجمعيات فروع في المدينة، أعضاؤها من شباب الصرب
والمسلمين.
وبعد أن كانت
سلطات الاحتلال النمساوي تراقب سلوك كل فرد صارت تراقب معتقداته وآراءه.
في عام 1908 قامت
ثورة حزب تركيا الفتاة، فخاف النمساويون من تجدد الحرب وزرعوا الألغام في وسط الجسر
لنسفه عند اللزوم.
النهاية
عام 1913 هزمت
تركيا في حرب البلقان، ثم كان الصيف التالي حدا فاصلا بين عهدين في أوربا، حين نقل
حكامها رعاياهم من مقار الانتخابات إلى ميدان القتال. اشتعلت الحرب العالمية
الأولى، وانهالت قذائف صربيا على ثكنات النمساويين وعلى حامية الجسر، فهاجر الأهالي
بجميع طوائفهم، وبقي تاجر عجوز اسمه علي خجا.
تهدمت البيوت،
ونهبت الأملاك، وظل الجسر صامدا عدة أيام، ثم تناثرت حجارته مع تفجر الألغام
والقذف.
بنهايته تنتهي
الرواية، والعجوز البائس الصامد علي خجا يبكي مدينته، ويتعجب من هؤلاء البشر الذين
يبنون ويصلحون وينظفون من أجل أن ينسفوا ويهدموا.
يقول لنفسه
مواسيا: "ليكن ما يكون. إذا كان الناس هنا يهدمون، فربما كانت لا تزال في الأرض
بلاد هانئة وأناس عقلاء يحترمون إرادة الله".
والآن: هل نجد
بعض العقلاء الذين يحترمون إرادة الله؟
إن العنصرية
بجميع صورها تصيب صاحبها بعمى البصر والبصيرة، ولا بد من ردع العنصريين أينما
وجدوا.