سليم زبّال... الرحلة الأخيرة

سليم زبّال... الرحلة الأخيرة

يحلّ علينا الشهر الأخير من كل عام، وتحلّ معه ذكرى انطلاق مسيرة «العربي» وصدور عددها الأول في ديسمبر 1958، وبقدر أهمية تلك المناسبة، فإن استعادتها دون إضافة نوعية تكشف مثلًا عن خبايا مرحلة التأسيس أو تبشّر بشيء قادم، لن تضيف الكثير للقراء الحريصين على قراءتها.  في هذا العدد سننقل لكم خبرًا عن رحيل واحد من أبرز شخصيات الفريق المؤسس لمجلة العربي، والتي عاصرت نشأتها الأولى، وهو المستطلع الأستاذ سليم زبّال، الذي كتب أبرز وأهمّ الاستطلاعات الصحافية التي تجاوزت حصيلتها المئة رحلة، وغطّت جميع أرجاء الوطن العربي، ليحوز عن جدارة لقب «المُستطلع الأول».

 

يصعب أن تجد حديثًا عن «العربي»، وخصوصًا في مرحلة رئيس التحرير الأول، د. أحمد زكي، يخلو من اسم سليم زبال، فقد كان زبّال وزميله المصور أوسكار متري، اسمين لا يفترقان في عشرات الاستطلاعات الصحافية التي اهتمت بتحقيق شعار «اعرف وطنك أيّها العربي» في مرحلة زمنية لم تحصل فيه الكثير من الدول العربية على استقلالها الكامل.
وعندما نقرأ ملامح تلك المرحلة المشبعة بروح القومية العربية، سنستوعب النّفَس العروبي والحماس المتقد اللذين كتب بهما سليم زبال أحرف كلماته، يقول الإعلامي والصحافي الإماراتي سعيد حمدان في مقال نُشر له في جريدة البيان عام 1999: «كانت هذه الاستطلاعات أكبر من أنها مجرّد عمل صحفي متميز، إذ كانت بالنسبة لسليم زبال رسالة إنسانية قومية، موجّهة للدول العربية، فكتب في أحد استطلاعاته: الشعب العربي في ساحل عمان في حاجة إلى كل مساعدة من كل بلد عربي؛ حكومة وشعبًا».
ذلك الحضور المميز لسليم زبال جعله حاضرًا في احتفالات مجلة العربي، فقد تم تكريمه في ذكرى تأسيسها، وذلك في يوبيلها الفضي عام 1984م، والأربعين عام 1999م، ويوبيلها الذهبي عام 2008م، وفي عام 2018م وأثناء التحضيرات الأولية للاحتفال بالذكرى الستين لصدور مجلة العربي في القاهرة، سألني سعادة سفير دولة الكويت في جمهورية مصر العربية، محمد صالح الذويخ، عن مكان وهاتف سليم زبّال لدعوته وتكريمه في احتفال المجلة، ومن هنا بدأت رحلة البحث والحكاية التي انتهت قبل أشهر قليلة.

رحلة البحث 
كان جوابي عن سؤال السفير الذويخ هو أن آخر مستقر لزبّال هو كندا، وعندما زار الكويت قبل عشر سنوات لتكريمه في عيد المجلة الخمسين، كان يبلغ من العمر 83 عامًا، وطلبت من السفير إمهالي بعض الوقت لعلّي أجد أرقام التواصل مع زبّال، ولكن من دون جدوى، ومنذ ذلك الحين ظلّ هذا الموضوع يشغلني؛ كيف أصل إلى سليم زبّال؟ وهل هو على قيد الحياة؟ وإذا كان قد رحل عن دنيانا، فكيف لا يوجد خبر واحد عنه في محرّكات البحث في «الإنترنت»؟ 
لقد اختار المستطلع الأول الاستقرار في أبعد المناطق عن الوطن العربي الذي أحبّه وكتب عنه بكل إخلاص. التقطتُ أول الخيط من أحد المغتربين العرب في كندا، وكان في زيارة لمقر المجلة بداية عام 2020، لكن من دون تفاصيل أدقّ مثل تاريخ الوفاة وخبر بهذا الوزن لا يمكن المغامرة فيه، وخصوصًا من المكان الذي عمل فيه سليم.

وسيلة الاتصال الوحيدة
المهمة لم تنته، ولحُسن الحظ أن مسار البحث في كندا عن طريق السفير المتقاعد فيصل المليفي، الذي عمل سفيرًا لدولة الكويت هناك، أثمر عن رقم هاتف فيفيان (ابنة سليم زبال)، التي تم التواصل معها لتأدية واجب العزاء، والتأكيد على حرص مجلة العربي على التواصل مع إنسان ترك بصمات مهمة ومؤثرة في تاريخها وتاريخ الصحافة العربية، وقد أكدت لنا ابنة الراحل أن والدها توفّي بتاريخ 8 أبريل 2018، في مدينة مونتريال الكندية.
لقد تذكّرت الأستاذ سعيد حمدان في صحيفة البيان الإماراتية عام 1999م عندما حاول التواصل مع سليم زبال، على أمل إجراء لقاء صحافي معه، وكانت فيفيان هي صلة التواصل مع أبيها، تلك القصة لم تخلُ من الثراء أو الطرافة:
«هذه الاستطلاعات التي قرأتُها في الكتاب دفعتني للبحث عن سيرة الصحفي سليم زبال، الذي غامر للوصول إلى هذه المنطقة والكتابة عنها بهذا الحماس، لماذا جاء؟ وبالتأكيد أن هناك ذكريات وحكايات أخرى لم يكتبها في استطلاعاته. إلّا أن سليم مات منذ زمن، ولا أحد سيجيب عن الاستفسارات، هكذا كان تصوّري والزملاء. 
في احتفالية مجلة العربي بعامها الأربعين الذي أقيم بداية هذا الأسبوع، قرأنا اسم سليم زبال من ضمن المكرّمين في هذه المناسبة العزيزة، وظننّا أن نشاهد أحد أحفاد هذا الصحفي المجاهد يتسلّم وسام التكريم، وأن نعمل معه حوارًا عن جدّه. المفاجأة أن سليم زبال حضر هذه الاحتفالية بنفسه! فالمعلومة التي أحتفظ بها والزملاء طوال هذا الوقت كانت غير صحيحة. 
فسليم زبال الذي كتب عن دولة الإمارات - قبل أن تقوم - في عام 1960، لا يزال على قيد الحياة، ولا يزال يزورها، ففيها ذكرياته، وفيها توجد ابنته.
هاتفتها، بعد أن أكد لي الإخوة في مجلة العربي أنها وسيلة الاتصال الوحيدة لديهم بأبيها، وطلبت منها سيرة شخصية لوالدها ومكان وجوده. ردّت بأنه موجود عندها اليوم فقط. حدّثته سعيدًا بالوصول له ورغبتي في لقائه، لكنه اعتذر لأنّ موعد سفره بعد ساعات، وأنه عائد إلى مقر إقامته الدائم في الغربة. ووعد بأن يلتقي بأهل هذا الوطن على الورق، أن يكتب لهم... من وحي الماضي».

أيام كندا
تقول فيفيان زبال عن أيام أبيها في المهجر، كانت أستراليا هي وجهة سليم زبال قبل كندا، وهناك مارس نشاطه المعتاد في التوثيق للصحف والمجلات الصادرة باللغة العربية وتاريخ الجاليات العربية هناك، وتلك العادة تعكس الكثير من حبّه للنشاط البحثي، وهو ما انعكس بسخاء في مادة استطلاعاته الثرية التي تحوّلت إلى مصادر مرجعية للكثير من المواضيع والدراسات ورسائل الماجستير والدكتوراه، ولا سيّما في رحلاته للقرى والبلدات المجهولة في الوطن العربي.
وفي مونتريال شارك في إلقاء المحاضرات وتلبية دعوات السفارات العربية للحديث عن ذكرياته في الدول التي زارها، وتؤكد فيفيان أنّ والدها ظل طوال حياته وحتى آخر أيامه وهو يعتّز بانتمائه لثقافته العربية وذكرياته المحفورة عن مجلة العربي ورحلاته معها وكل مَن عمل معهم وأيامه في دولة الكويت.
 
كلمات محفورة في الذاكرة
ساهمت رحلات سليم زبال المنشورة على صفحات مجلة العربي، والتي تجاوزت المئة، في تحقيق الكثير من معاني شعار «اعرف وطنك أيُّها العربي»، وقد أثرت كلماته في وجدان سكان المناطق التي زارها، وظلّت محفورة في ذاكرة الكثيرين منهم، وقد حظي اسم سليم زبال بتقدير خاص في دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان لأسباب كثيرة، من أهمّها كثرة رحلاته وتنوّعها بين قراها وجبالها وصحاريها.
عن ذلك يقول حمدان: «سليم زبال صحفي عشق مهنته، واختار منها مصاعبها، جاء مرسالًا من مجلة العربي إلى الشارقة ودبي، وأبوظبي والعين وخورفكان، إلى الساحل المتصالح في أوائل الستينيات، وعانى فيها، وكتب هذه المعاناة بالقلم والصورة، ونادى في استطلاعاته أبناء الوطن العربي الكبير إلى ضرورة النظر الى إنسان هذه الأرض».
 وفي 15 أغسطس 2015م كتب الأستاذ سمير عطا الله في جريدة الشرق الأوسط: «من أجل تعريف العرب بعضهم البعض، وضع رئيس التحرير د. أحمد زكي، زاوية شهرية بعنوان «اعرف وطنك». وأوكل كتابتها إلى الصحافي المصري سليم زبّال، الذي جاء معه من القاهرة، حيث بدأ العمل الصحافي موظفًا في أرشيف «الهلال»، وانتهى إلى مدير تحرير في صحيفة أخبار اليوم.
سوف يصبح سليم زبال أول صحافي متفرّغ للرحلات الكبرى. وبدل أن يختار السفر إلى البلدان المريحة والأماكن المعروفة، نقل القارئ إلى سومطرة، وشنقيط، وكوريا موريا (عُمان)، و... مطماطة، وهي مدينة تونسية مبنية تحت الأرض. وصار العرب ينتظرون «العربي» كل شهر لجواذب كثيرة، منها، خصوصًا، «استطلاع» سليم زبال. فقط رفض رئيس التحرير، د. أحمد زكي، استخدام مصطلح «ريبورتاج» لأعجميته، وكان أن ابتدع الاسم الجديد. وكان الرجل عالمًا من علماء العرب، في اللغة وفي الفكر. وفرض على «العربي» نظامًا شديدًا في اختيار المادة وقبولها. وكان المقال يُعرض على خمسة أشخاص قبل أن يُحال عليه».
ويواصل عطا الله: «تأثّر سليم زبال بصيغة «ناشيونال جيوغرافيك». وكان يرافقه أوسكار متري، المصوّر الذي جاء معه من القاهرة. والفريق الثلاثي، أحمد زكي، زبال، متري، كانوا من اختيار الكويتي الرائع أحمد السقّاف، أحد أركان النهضة الأدبية في البلد. وبدأ زبال رحلاته في أقرب المدن إلى الكويت، البصرة. وعاد منها مذهولًا: «إنها جنّة الله على الأرض: 23 مليون نخلة في موقع واحد»! وفي جزيرة سقطرى، نام هو والمصور على الأرض، فلما استيقظا وجدا أن الجمّالين تركوهما للفلاة! غير أن أحد الجمالين أبلغ المسؤولين، فأرسلوا إليهما النجدة. 

قراءة تاريخية ومنهجية الكتابة
وفي قراءة تاريخية كتبتها د. أحلام حمود الجهورية عن سلطنة عمان من خلال استطلاعات زبال: «وكان لعُمان نصيبٌ من استطلاعات مجلة العربي، حيث قام الصحفي سليم زبال بعمل استطلاعين تحدّثا بشكل مُباشر عن عُمان، الأول بعنوان «عُمان تتفتح على العالم بعد انغلاق دام 38 عامًا»، صدر في 1 مارس 1971م، في العدد 148، والاستطلاع الثاني بعنوان «عُمان مرة أخرى»، صدر في 1 يونيو 1971م، في العدد 151، وهناك استطلاع بعنوان «البريمي»، صدر في 1 فبراير 1962م، في العدد 39 (يعدّ من الاستطلاعات المهمة التي تُضيء على بعض الحقائق التاريخية، منها: الاسم القديم للبريمي «توام»، وأول مدرسة في البريمي حملت اسم: عُمان الابتدائية، وافتتحت في نوفمبر من عام 1960م)». 
 وعن منهجية سليم زبال في استطلاعَيه عن عُمان تقول د. أحلام الجهورية: 
«قدَّم زبال المحتوى من خلال استطلاع صحفي هو أشبه بالرحلة، والتي تعد مصدرًا من المصادر التاريخية، فقدّم وصفًا بسيطًا ودقيقًا لمراحل الرحلة والتجوال في المدن التي زارها في عُمان: (مسقط ومطرح ونزوى وسمائل وفهود وصحار والبريمي). كما استعان زبّال بالمصادر التاريخية لتوضيح بعض الأحداث، وإعطاء نُبذ مختصرة عن بعض المدن والصور التي التقطها، وهو ما يتضح من خلال النصوص التي قدّمها، وقد ذكر بعض المصادر والمراجع التاريخية التي استعان بها، مثل كتاب: «العنوان في تاريخ عُمان» للشيخ المؤرخ سالم بن حمود السيابي. 
كما نقل عمَّا كتبه الرحّالة والجغرافي ياقوت الحموي وابن بطوطة. واستعان زبال كذلك بالمقابلات الشخصية، كنوع من المصادر للمعلومات التي أوردها في الاستطلاع، حيث أجرى الكثير من المقابلات الشخصية لتكون مصدرًا موثوقًا للأوضاع التي يُغطّيها الاستطلاع، وهذا يضيف الكثير من المصداقية والموثوقية للمحتوى المُقدم. 
وتعتبر المقابلة التي أجراها زبال مع صاحب الجلالة السلطان قابوس الأكثر أهمية، سيما وأن طبيعة الاستطلاع والفترة الزمنية التي أُجري فيها تعدّ فترة انتقالية فارقة في تاريخ عُمان الحديث.
وأهم ما ميَّز الاستطلاعين كثرة الصور، مع وجود وصف تفصيلي للصورة، وتحديد الإطار الزمني لها. فمن الملاحظ غنى الاستطلاعين بالصور المُختلفة التي وثّقت الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمّت مناقشتها في الاستطلاعين، وهذا أضاف موثوقية ومصداقية أكبر للمحتوى. هذا وتغلب اللغة الصحفية على الأسلوب الذي قُدم به الاستطلاعان. ويمكن القول إن اللغة السهلة التي قدّمها زبال في استطلاعيه، والقالب الذي جاءت من خلاله، تعد وسيلة جذب للقارئ، سيّما غير المتخصص، ولا تخلو تلك اللغة من المبالغة في تصوير بعض المشاهد والأحداث. كما أن زبّال كان شاهد عيان للأحداث التي وثّقها في استطلاعيه، وهذا يضيف مصداقية أكبر للمحتوى، الذي بات اليوم وثيقة تاريخية يجب أن تخضع للنقد التاريخي».

دروس الأستاذ
في رحلته الأخيـــرة لـدولة الكــويت لحضور احتفاليــة مجلة العــربي بعيدها الخمسين عام 2008م، حظينا بلقاء مطوّل مع المستطلع الأول الأستاذ سليم زبال، وكانـــت الدروس التي أخذناها منه أكثر من المعلومات التي حاولت فيها استيضاح بعض المحطات التاريخية من تاريخ نشأة العربي ومرحلة انتقــال رئاسة التحرير إلى الأستاذ أحمد بهاء الدين، بعد رحيل د.أحمد زكي عام 1976م، ولا زلـــت أذكر تفضيله للكتب الصغيرة الحجم وبُغضه للكتب الضخمة التي لا يمكن حملها بسهولة في شنطة السفر، لقد توقّف ونحن نسير في أحد الممرات ليفتح حقيبة اليد التي أمسك بها ليُطلعني على كمّ الكتب الصغيرة التي يحملها معه دون أن يشعر بثقلها وهــو في ســن تجاوز الثمانين سنة.
في الختام أقول لأستاذنا الكبير: ارقُد بســلام، ستظل ذكــراك باقـية معنا حتى النهـــايـــة ■

 

حوار بين سليم زبال والدكتور أحمد زكي رئيس التحرير الأول لمجلة العربي

 

صورة تجمع بين سليم زبال ومصور «العربي» أوسكار متري

 

في مكتبه بمجلة العربي يطالع إحدى الخرائط لتحديد وجهته المقبلة

 

... وفي مكتبه في كندا يمارس نفس عاداته في البحث والتوثيق

 

من الطائرة إلى سيارات الجيب إلى ظهور الجمال تلك كانت هي رحلات سليم زبال مع أوسكار متري