د. مصطفى ناصف

د. مصطفى ناصف

كان الاتفاق مع أُستاذتي د. سهير القلماوي أن أتخصصَ في دراسة الجوانب والتقنيات الأدبية التي تجعل من الأدب أدبًا. وقد اخترتُ البدء بالشّعر؛ لأنه كان هو الفن الغالب على دراستنا في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة. وكنا قد انتقلنا من دراسة الشِّعر الجاهلي إلى دراسة الأموي أو الشعر في العصر الإسلامي، ثم في العصرين العباسيين، وأخيرًا الشعر في مراحل غروب الحضارة العربية إلى العصر المملوكي. ويمكن أن نضيف إلى ذلك كله، الشعر في الأقطار التي فتحها العرب؛ ابتداء من صقلية، وليس انتهاء بالأندلس.

 

كانت د. القلماوي صاحبة اتجاهٍ مُحببٍ إلى نفسي في النقد الأدبي، خصوصًا عندما كانت تؤكد لنا أن النقد الأدبي والدراسات الأدبية شغلت نفسها طويلًا بما هو خارج النص الأدبي، وآن الأوان لكي تركز كل تركيزها على النص الأدبي نفسه.
وهذا هو ما تحمستُ له في دراساتي منذ الماجستير، ولذلك تراوحت اختياراتي بين دراسة الموسيقى الشعرية أو دراسة التصوير الشعري، باعتبارهما العنصرين البنّاءين في تشكيل الشعر عمومًا أو القصيدة خصوصًا. وبعد محاولات تجريبية استقر بنا القرار على دراسة الشعر وحده، والتركيز على دراسة الصورة الشعرية في مرحلة النهضة، أو ما اصطُلح على تسميته باسم «عصر البعث» أو «عصر الإحياء». وكان عنوان أطروحتي للماجستير هو «الصورة الفنية عند شعراء الإحياء». وبعد أن تم تسجيل الموضوع، بحثت عن المراجع التي يمكن أن أعتمد عليها في دراسة مصادري الشعرية التي تتمثّل في شعراء النهضة على امتداد الوطن العربي، ابتداء من عصر البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم في مصر، وليس انتهاء ببشارة الخوري في لبنان، مرورًا بالرصافي والزهاوي في العراق.
وطبعًا كان أول ما فعلتُه بعد البحث، وقراءة أوّلية لدواوين الشعراء، أن قُمتُ بتأصيل فهمي للصورة الشعرية. وقد قرأتُ كثيرًا باللغة العربية، وتعلمتُ الإنجليزية إلى الدرجة التي تساعدني على قراءة مراجع بها عن الصورة الشعرية بكل أنواعها. 
ولم أجد في الكتابات العربية كلها سوى كتابٍ واحد صدر عام 1958 بعنوان: «الصورة الأدبية» من تأليف د. مصطفى ناصف. وكان هذا الكتاب هو المرجع العربي الوحيد عن الصورة الشعرية باللغة العربية. ومن الطريف أنني لم أجد كتابًا يماثله إلّا كتاب الشاعر الإنجليزي سيسيل داي لويس «الصورة الشعرية» الذي قرأتُهُ بالإنجليزية، وقدمتُ عرضًا وافيًا لفصوله في مجلة «المجلة» القاهرية في مارس عام 1968. 
وكانت قراءة كتاب «الصورة الأدبية» هي بداية معرفتي الأولى بكتابات د. ناصف الذي عرفتُ أنه أستاذ في كلية الآداب بجامعة عين شمس، وأنه أصدر بعد كتابه هذا عددًا من الكتب التي لفتت إليه انتباه الحياة الأدبية في مصر وخارجها على السواء. ورغم الصعوبة الأولى التي تبدو في كتابات د. ناصف وأسلوبه الخاص، فإن كتاباته كانت تحمل نوعًا من الغنى الدلالي الخاص بها، والذي لا ينفصل عن تراكيبها النحوية على وجه التحديد. د. ناصف كان واحدًا من النقاد الذين يهتمون بلغة الكتابة، وكان متأثرًا كل التأثر باثنين من أساتذته هما طه حسين، والشيخ أمين الخولي. وكان واضحًا في كتابه «الصورة الأدبية» أصداء هذا التأثر. ولذلك لم أكن أشعر وأنا أقرأ كتابه أنني في عالمٍ غريب عنّي، وإنما كنتُ أُبحر في المياه نفسها التي تعلمتُ العوم فيها داخل التقاليد التي تبدأ من طه حسين، وتستمر إلى مصطفى ناصف الذي كان التلميذ الأقرب للشيخ أمين الخولي. 

«فلاح عِلْم»
بلغني من أحد أساتذتي الذين شاركوا ناصف في التتلمذ المباشر على الشيخ أمين الخولي - وهو أستاذي شكري عياد - أن الخولي، كان يصف ناصف بأنه «فلاح عِلم»، وهي عبارة طريفة كنتُ أجد فيها جماعًا للصفات التي سرعان ما وجدتُها في شخصية مصطفى ناصف، عندما أُتيح لي التعرف إليه، بل تكوين صداقة حميمة معه، ومن ثم علاقة قائمة على المحبة والاحترام المتبادلينِ. الشيء الذي أندم عليه حقًّا هو أنني لم أستغل معرفتي الحميمة بمصطفى ناصف لكي أعرف منه تفاصيل رحلته العلمية، وكيف استطاع أن يبني نفسه علميًّا، وأن يتطور بفكره وبتقنياته النقدية إلى أن يصل إلى ما وصل إليه.
ولا أظن أنني أستطيع أن أجد نظيرًا موازيًا لأستاذي شكري عياد في علوم النقد والبلاغة سوى مصطفى ناصف الذي يحمل الصفات نفسها، لكنّه على العكس من عياد لم ينجذب إلى هذه الأيديولوجية أو تلك من أيديولوجيات السياسة، وإنما ظل مُحافظًا على ما ورثه عن الشيخ الخولي الذي ظل عاشقًا للبلاغة ومحاولات تجديدها إلى أن توفاه الله، فترك هذه المهمة إلى أنبغ تلميذين له هما ناصف وعياد. وقد أخلص ناصف على وجه التحديد لرسالة الخولي، فمضى على الطريق في درس البلاغة وتجديدها والارتباط بما يمكن أن يستدعيه درسها من مناهج وعلوم معاصرة أو قديمة وأهمها نظريات الهرمونيوطيقا، أو علوم التأويل والتفسير بمعناهما الغربي الحديث. ولما كنتُ قد بدأتُ خطواتي الأولى في النقد الأدبي ولم أصل إلى مرحلة التمكّن بعد، فقد صعب عليَّ فَهْم عددٍ من فقرات كتاب «الصورة الأدبية» ورأيتُها غامضة، ربما لاستبدال معاني التأويل بمعاني التفسير في فهم الصورة الأدبية التي تغدو نمطًا للمعنى البلاغي أو أسلوبًا من أساليبه المجازية. 

مجرى دلالي
كان لا بدّ أن أتوسَّع أكثر في المصادر الأجنبية؛ لكي أحدد المجرى الدلالي الذي يتحرك فيه مفهوم الصورة الأدبية عند ناصف. وقد تعلمتُ أن الصورة الأدبية هي التسمية التي يقابلها مصطلح Imagery في اللغة الإنجليزية، وهو مصطلح عام تتعدد معانيه حسب الاستخدام النوعي، فهناك الاستخدام النفسي أو الفسيولوجي إذا جاز التعبير، وهو الاستخدام الذي يعنى أن الصورة هي الأثر الذي تتركه المدركات الحسية في المخ بعد غيابها عن مجرى الإدراك، كأن نتذكر صورة شجرة جميلة فتننا جمالها في منطقةٍ ريفيةٍ ربيعيةٍ، أو وجه فتاةٍ حسناء في لحظة رومانتيكية، وقِس على ذلك غيره من مدركات الحواس الخمس التي تتعدد فيها الصورة لتصبح أنواعًا؛ فهناك صورة شميَّة وسمعيَّة وبصريَّة وذوقيَّة ولمسيَّة.
هذا المعنى الحسي أو الفسيولوجي للصورة هو مجال ضخم من مجالات دراسات الصورة الشعرية وتصنيفها، وهو مجال لا أظنه قد أخذ حقه في دراساتنا الشعرية إلى اليوم، وذلك على عكس النقد الغربي الذي نجد فيه كتبًا لأمثال ﻛﺎﺭﻭﻻﻳﻦ سبيرجن عن الصورة الشعرية عند شكسبير مثلًا وأنواعها في شعره، فضلًا عن مقارنات بين الصور الشعرية للشاعر الإنجليزي جون كيتس وزميله شيلي، وقِس على ذلك غيره من دراسات الصورة في الشعر الإنجليزي أو غيره من أشعار العالم. 
هذا المعنى الأول للصورة لم ينشغل به ناصف أو يهتم به؛ لأنه أولًا بلاغيّ ودارس للبلاغة، ومؤرخ لها، وناقد يتأثر بطرائقها وأساليبها في نقده أو في كتابته عن الصورة، فهو شأنه شأن أستاذه أمين الخولي، رجل بلاغة يرى الصورة من زاويتها البلاغية أو اللغوية إذا شئنا القول. ولذلك فالصورة الأدبية عنده هي الصورة المجازية التي هي إعادة تركيب لعلاقات الكلمات، والانحراف بها عن معناها الإشاري إلى معناها المجازي أو الرمزي. 

4 كتب
من هنا فإن الصورة عند ناصف لا بدّ أن تكون أدبية مقترنة بعالَم الأدب، وهذا هو الغالب، أو تكون مقترنة بعالَم المجاز الذي يقود إلى الرمز، ولكن بمعنى لا يخرج عن المعنى البلاغي في النهاية، والذي لا يفارق منطقة أو دائرة التأويل في التحليل النهائي. ولذلك كان من الطبيعي جدًّا أن أرى تأثير دراسة ناصف للبلاغة العربية القديمة في الدائرة نفسها التي تجمعه بأستاذه الخولي من ناحيةٍ، وزميله عياد من ناحيةٍ موازية.
هكذا لم يكن من المستغرب أن أرى في العام الذي تخرجتُ فيه (1965) أربعة كتب مهمة للدكتور ناصف، هي «دراسة نظرية المعنى في النقد العربي»، و«دراسة الأدب العربي»، و«مشكلة المعنى في النقد الحديث»، و«رمز الطفل... دراسة في أدب المازني».
وكل هذه الكتب - وقد كان لي حظ الاطلاع عليها - هي دراسات بلاغية في الاتجاه الذي مضَى فيه أستاذه الخولي، وأكمله معه عياد. وهو اتجاه ليس منقطع الصلة عن مدرسة النقد الجديد (New Criticism)، التي كان ناصف وعياد يقرآنِه بعد أن حصل كل منهما على بعثة للدراسة في الخارج.
فقد أكمل عياد دراساته في الولايات المتحدة، حيث كان «النقد الجديد» شائعًا مُنتشرًا ومُسيطرًا، كما أكمل ناصف دراساته العليا في منحة إلى إنجلترا عام 1955، ثم في «هارفارد» سنة 1957، قبل أن يعود إلى إنجلترا للتدريس في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بين عامي 1962 و1965، وكلها سفريات ساعدته على اكتمال تكوينه النقدي على نحوٍ لم يُتح لأحد من أقرانه. فقد أتاحت له تلك السفريات التعرف العميق والاطلاع الدقيق على أعلام «النقد الجديد»، خصوصًا آي. إيه ريتشاردز، وتلميذه وليم إمبسون في إنجلترا، وأقرانهما في الولايات المتحدة من الذين اهتموا بنظرية المعنى والعلاقات المجازية للغة، وما يمكن أن يترتب عليها من مسارب في مجال العلوم اللغوية والبلاغية، فضلًا عن الدراسات المُعمَّقة في مجالات النقد الأدبي، خصوصًا في نظريات «المعنى» و«القراءة» و«التأويل» أو «التفسير». 

تحوّل جذري
وكما قادتني دراسات أستاذي عياد إلى النقد الجديد والتأثر به - وهو ما استحسنته أستاذتي د. القلماوي – فقد فعلت كتب ناصف التي قرأتُها بعد العام الخامس والستين في تأثير التعاطف مع تيارات النقد الجديد والسّير في دربه.
وأظن أن من يُطالع أطروحتَيّ لدرجتي الماجستير والدكتوراه سيلاحظ وجود هذا الأثر بشكل أو بآخر. وقد أكملتُ أطروحتي للماجستير في يوليو 1969 إن لم تخنّي الذاكرة، والدكتوراه في 1973، وكان لي حظّ أن أقرأ كتاب ناصف العلامة «قراءة ثانية لشِعرنا القديم»، الذي صدرت الطبعة الأولى منه في الجامعة الليبية عام 1972، ثم تتابعت طبعاته إلى عام 1988.
والحق أنني دهشتُ وأنا أراجع هذا الكتاب قبل أن أكتب هذا المقال مباشرة، فإذا كان كتاب «الصورة الأدبية» إعلانًا عن التبني الكامل لمدرسة «النقد الجديد» والتأثر بها، والإفادة منها في تأصيل نقدٍ عربي جديدٍ، فقد كان كتاب «قراءة ثانية لشعرنا القديم» تحولًا جذريًّا أو انقطاعًا معرفيًّا عن النقد الجديد للدخول في دائرة الحداثة بمعنى خاص من معانيها، وهو المعنى الذي يفتح الباب أمام نظريات ما بعد البنيوية، وفكرة «المعاني الحائمة» لعلاقات الكلمات، فضلًا عن التعدد الدلالي في تقلبات وتحوّلات لا تتوقف، تشير إلى ما يجمع بين الأسطورة والتأويلات المجاوزة للمعاني الثواني عند عبدالقاهر الجرجاني.
والحق أنه إذا كان كتاب «الصورة الأدبية» يقرأ النقد الجديد ويتأثر به، فإن كُتب ناصف الأربعة، السالف ذكرها، تمضي بمشكلات «النقد الجديد» في جوانب الدلالة والبلاغة إلى ذُراها، وذلك على نحوٍ تبدو معه «قراءة ثانية لشعرنا القديم» بمنزلة انقطاعٍ معرفي، وإبحار مغاير في عوالم النقد الأدبي، أعني إبحارًا ينتقل بنا من دوائر النقد الجديد إلى دوائر الحداثة التي تجاوز حتى البنيوية التي كانت شائعة في ذلك الوقت إلى ما يبدو أقرب إلى ما بعد البنيوية التي تبناها عدد من النقاد الأوربيين، خصوصًا بعد انهيار البنيوية في أوربا تحديدًا بعد تظاهرات الطلاب عام 1968.
ولا أظن أن هناك كتابًا في نقدنا الحديث - خصوصًا فيما يتصل بقراءة الشعر القديم - يصنع ما يصنعه كتاب «قراءة ثانية لشعرنا القديم».

طرائق جديدة
لا يبدأ الكتاب برفض كل القراءات التقليدية والمتعارف عليها للشعر القديم فحسب، بل ينسف الأساس المعرفي لهذه القراءات نسفًا، مُمهِّدًا لطرائق جديدة في القراءة؛ طرائق تجمع ما بين اكتشاف الأبعاد الأسطورية والأنطولوجية، ورؤى العالم التي تخلط بين الواقع والأسطورة والحلم الفردي أو الجمعي. ولا غرابة في أن يشنّ الفصل الأول من الكتاب حملةً ضارية على طريقة مدرسة الديوان، خاصة عباس العقاد في فهمه للأدب بشكل عام والنقد بشكل خاص.
 وأعتقد أنني لم أقرأ في حياتي نقدًا جذريًّا لنظرية التعبير كما قرأتُ في الفصل الأول من كتاب ناصف، ذلك الفصل الذي لم يُبق على شيءٍ إيجابي لطريقة العقاد ومعاصريه في استخدام نظرية التعبير. وأعتقد أنني لم أشعر بمدى سذاجة هذه النظرية إلا بعد أن قرأتُ الفصل الأول من هذا الكتاب الذي وجَّه سهام النقد النافذ واللاذع لنظرية العقاد في فهم الأدب والعالم على السواء. 
  فالذات الفردية التي قدَّم العقاد مفهومها التعبيري، ووضعه تحت عدسة النقد، وعبادة البطولة الفردية التي كانت أساسًا متينًا من رؤية العالم عند العقاد، مع لوازمها، قد جرّدها هذا الفصل الأول من كتاب د. ناصف من أي أساسٍ موضوعي، ومن ثم تجلّت حقيقة المعاني المراوغة لكلمات، مثل الذات أو التجارب الفردية أو غيرها من أقانيم نظرية التعبير في نقد العقاد الذي أفسد علينا - دون أن يدري - قراءة الشعر القديم، واكتشاف كنوزه وروائعه من منظور عدسات تعبيرية رومانتيكية لا تتوقف عن عبادة الفرد، ومحاولة فرض الذات المُتعالية لهذا الفرد على كل ما عداه. والحق أنني لا أملُّ قراءة هذا الكتاب البديع الذي كان بدء معرفتي به، الاستماع إلى برنامج أعده ناصف في الإذاعة المصرية، وكان عبارة عن تحليل لقصيدة طرفة بن العبد.
ويبدو أن ذلك التحليل للقصيدة كان النواة التي ابتدأت منها منظومة مضادة لمنظومة الذات كلية القدرات فريدة الصفات، الناتجة عن ليبرالية العقاد السياسية ورومانسيّته الوجودية ونزعته البطولية التي ورثها عن كتاب الفيلسوف والمؤرخ الأسكتلندي توماس كارليل عن «الأبطال». 

نظرية حداثية
الحق أن كتاب «قراءة ثانية لشعرنا القديم» يقدّم لنا نظرية حداثية في القراءة بكل معنى الكلمة، وأرجو أن يتوافر لي أو لبعض تلامذتي النابهين، الوقت لعقد دراسة مقارنة بين طريقة مجلة Telquel في قراءة النصوص الأدبية، ومنهج القراءة الذي يستخدمه د.ناصف في كتاب «قراءة ثانية لشعرنا القديم». لكني أستطيع أن أقول الآن إن الكتاب فريد في ثقافتنا العربية الحديثة، وهو كتاب تأسيسي في علم قراءة النصوص الأدبية بوجهٍ عام، والشعرية بوجهٍ خاص.
  فمنهج القراءة في هذا الكتاب يحتاج إلى وقفات خاصة، وإلى دراسات أكثر تفصيلًا وتأصيلًا في تقاطع دروب الحداثة وما بعد الحداثة؛ لتكوين صيغ تأويلية، تؤكد أصالة العين الناقدة لمصطفى ناصف ووعيه النقدي على السواء.
 والبداية هي أن نستعيد ما كتبه د. ناصف في مقدمة كتابه، وهو أن «فن القراءة لا ينمو نموًّا حقيقيًّا في كتاباتنا عن الأدب العربي على الإجمال». 
هناك أعمال قليلة خص أصحابها بالقراءة، لكن هذه الأعمال لم تستطع أن تترك الأصداء المرجوة الواسعة. وظلت معظم الدراسات متشابهة في بنيتها العقلية غير متعمقة القراءة... إن القراءة هي فن كسر الحواجز التي تفصل بيننا وبين قصيدة من القصائد»، وهذا هو المعنى الذي يحيل القراءة إلى نوعٍ من النقد الأدبي الخالص، أو نوع من الهرمونيوطيقا التأويلية المعاصرة. ويؤكد ذلك قوله إن «القصيدة عالم مكتف بنفسه يحتاج إلى أن يطرق بابه طرقات متعددة، قارئٌ قوي رفيق معًا حتى يؤذن له بالدخول. لكننا - مع الأسف - لا نُعيد الطرق ولا نكرر محاولة الاستئناس والاستئذان، ولا نثق بأن عالَم القصيدة مغلق وعسير. وبعبارة أخرى لا نجاهد في سبيل كسر الحواجز الفاصلة، وإقامة جسور أخرى عامرة بالألف والاتصال».

فتح الأبواب المغلقة
 معنى هذه الكلمات أن النقد تحوّل إلى نوعٍ من الهرمونيوطيقا الحداثية التي تهتم أول ما تهتم بالتفسير والفهم من خلال عمليات التحليل والتفكيك، وأن هذه العمليات هي التي تفتح الأبواب المغلقة لمعاني القصيدة، وتجعل معانيها النائية مألوفة ميسورة، ومن ثم قريبة إلى الفهم وسهلة المنال في الوقت نفسه. وكسر الحواجز - في هذا السياق - هو القراءة بألف لام التعريف. وما دمنا قد ذكرنا كلمة القراءة، فقد دخلنا في مشكلات التفسير والتأويل بأحدث معانيها ومشكلاتها التي لا تزال تعالجها «نظريات القراءة» بوجهٍ خاص، أو مناهج الهرمونيوطيقا بوجه عام.
والحق أن ناصف كان في قراءته الثانية للشعر القديم فاتحًا لطريقٍ حداثي خاص به، طريق ظلت له ملامحه الخاصة على امتداد حياته العملية وممارساته المتفردة في النقد الأدبي. لقد أراد مُخلصًا أن يكسر الحواجز بينه وبين أي نص أدبي في أي عصر، كما أراد أن يحب النصوص التي يكسر حواجزها، مُدركًا ما سبق أن أدركه طه حسين في أن حب النص هو السبيل الأول لامتلاكه. 
فأنت لا تمتلك بالفهم إلا ما تحب، وما تستطيع أن تخلق بينك وبينه مسارب لا يعرفها إلا أنت والنص نفسه. وإذا كان النص حمّال أوجه، ويمكن أن ينفتح من نواحٍ متعددة، فإن الطريق الأسرع وصولًا إلى قلب النص هو الحدس الذكي الفريد الذي يتمتع به الناقد، وهو الحدس الذي لا ينبع إلا عن فهمٍ يقترن بالمحبة. وليس في هذا الكلام أي نوعٍ من الرومانسية، بل هو إحساس عميق بالتراث.
والحق إن احساس د. ناصف العميق بالتراث جاء من دراساته المطوَّلة تحت إشراف أستاذه الخولي، فقد تعلّم على يديه أن يقرأ عبدالقاهر الجرجاني أولًا في أطروحة الماجستير، كما تعلّم على يديه أن يقرأ الزمخشري ثانيًا في أطروحة الدكتوراه. وكانت هاتان الأطروحتان هما الأساس المتين الذي برهن به د. ناصف، عمليًّا، على حبه لقراءة التراث النقدي والأدبي على السواء.

جهد طموحٍ
 كان كل ذلك في جهدٍ طموحٍ عامرٍ بحب التراث، منطوٍ على وعي بأهمية تجديده وفهمه. وكان أول التجديد في القراءة هو الفهم، عملًا بمقولة الشيخ الخولي: «أول التجديد قتل القديم فهمًا». وكانت هذه هي البداية الخلّاقة التي رأيتُ تجلياتها في كتاب «قراءة ثانية لشعرنا القديم». 
وكان من المنطقي أن تدفع هذه التجليات إلى تزييف منهج «مدرسة الديوان» (العقاد، والمازني، وعبدالرحمن شكري)، خصوصًا في فهم العقاد - كما سبق ذِكره - للذات المتفردة التي تصنع التاريخ على أعينها فيما يشبه الانبثاق العبقري في الكون، يضاف إلى ذلك الوجدان الفردي الذي يزيد الموجود وجودًا على رأي العقاد، وذلك في سياق الأفكار التي يرفضها ناصف كما يرفض فكرة الرداءة التي لعبت في عقول «مدرسة الديوان». 
وهي أمور دفعته إلى أن يضع الفلسفة الفردية الغالبة لمدرسة الديوان موضع المساءلة، لينتهي إلى أن العقاد الذي كان رأس الحربة في مدرسة الديوان لم يستطع أن يشعر بأن الأدب العربي فيه كثير من أهوائه التي تتركز في عبادة الإنسان وعبادة حياته، لكنه في انشغاله بذاته الفردية، وفي تصوّره المتعجل لفرديات الذات، لم يستطع أن يخوض غمار الشعر الجاهلي، ولم يصل إلى أغواره، خصوصًا بعد أن أغلق أمام ذهنه أبواب هذا الشعر، بزعم أنه لم يجد ذاتًا فردية هي نواة لمعنى البطولة الفذة والفريدة التي تصنع التاريخ على عينيها. فضاع منه المفتاح السري لقراءة التراث القديم، وكانت النتيجة أنه لم يستطع فهمه؛ لأنه لم يعثر على مفاتيحه الحقيقية التي عثر عليها طه حسين لحُسن الحظ.

كتاب تأسيسي
يأتي كتاب «قراءة ثانية لشعرنا القديم» تطبيقًا لأحدث المناهج الخاصة بقراءة النصوص. ومن المهم أن نلاحظ أن كلمة القراءة أو Reading كانت كلمة شائعة في النقد الحداثي والحديث في آن، فقد أكدت مدرسة النقد الجديد في أوربا والولايات المتحدة هذه الكلمة، ومضى النقاد في طريق «القراءة» إلى أن جاوزوا النقد الجديد إلى الحداثة وما بعدها، فتركوا ميراثًا نهل منه د. ناصف أثناء دراسته في إنجلترا والولايات المتحدة، فضلًا عن سنوات تدريسه في جامعة لندن، ومن ثم جمعه مُتمثلًا إياه وهو يفتح، بعد زمنٍ من الاعتياد التقليدي، الباب من جديدٍ لقراءة الشعر القديم، مُتخطيًا حتى فعل القراءة الذي قام به طه حسين عندما قرأ الشعر الجاهلي في الثلاثينيات. 
وإذا كان طه حسين قد أعاد قراءة الشعر الجاهلي مُتسلحًا بعتاد مدرسة شرح النصوص في فرنسا، فإن ناصف بدأ من مفاهيم القراءة الحديثة في النقد الجديد وما بعد النقد الجديد من نظريات حداثية. وهكذا فاجأ د. ناصف الحياة الثقافية بكتابه التأسيسي عن شعرنا القديم، الذي لا أملُّ قراءته.
 والحق أن د. ناصف لم ينشر شيئًا في مستوى كتابه «قراءة ثانية لشعرنا القديم» إلى عام 1988، وهو العام الذي تعرفتُ فيه عليه شخصيًّا، فوجدتني مُنجذبًا ناحيته، مُعجبًا به كل الإعجاب، حفيًّا به كل الحفاوة، وكان ذلك في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية؛ حيث أقام النادي الأدبي الثقافي في نوفمبر عام 1988 برئاسة صديقنا عبدالفتاح أبو مدين، ندوة بعنوان «قراءة التراث النقدي». 

ندوة تأسيسية
كانت ندوة تأسيسية بكل معنى الكلمة، فقد اشترك فيها أهم النقاد العرب في تلك الفترة بأجيالهم المختلفة، وتياراتهم المتنوعة، فكان فيها من أجيال الأساتذة عزالدين إسماعيل، ومصطفى ناصف، وشكري عياد، فيما أذكر، وإلى جانبهم من جيلنا عبدالسلام المسدي، وجابر عصفور، وحمادي صمود، وكمال أبو ديب، ومن السعودية عبدالله الغذامي وأقرانه من الأساتذة الذين كانوا واعدين في ذلك الوقت.
 وقد طُبع إنتاج تلك الندوة في مُجلدين صدرا عن النادي الأدبي الثقافي في جدة، ويبدو أن المجموعة السعودية في النادي الأدبي الثقافي بجدة قد اكتشفت د. ناصف وعبقريته في القراءة، وتأسيس أصول جديدة لها، أعنى أصولًا منفتحة على كل جديدٍ ومتحررٍ، فأصدرت له بعد الندوة كتابه «اللغة بين البلاغة والأسلوبية» في العام نفسه، وفي العام اللاحق أصدرت كتابه «طه حسين والتراث». 
وفى عام 1991 أصدرت كتابه «خصام مع النقاد»، وهو كتاب بالغ الطرافة والأهمية، وأرجو أن أعود إليه في مقالة قادمة.
ويبدو أن تلك الكتب المتلاحقة قد فتحت شهية د. ناصف على الكتابة، فأصدر كتابه «صوت الشاعر القديم» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، وكنّا قد شجعناه عندما أشرفنا على «دار سعاد الصباح للنشر» في القاهرة على إصدار كتاب «اللغة والبلاغة والميلاد الجديد»، وهو كتاب صدر بموازاة كتابٍ آخر بعنوان «اللغة والتفسير والتواصل» الذي صدر عن سلسلة «عالم المعرفة» بالكويت. 
كما أصدر كتابه «الوجه الغائب» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1993، وهو كتاب ألحقه بكتابه الآخر: «محاورات مع النثر العربي» الذي صدر عن «عالم المعرفة» عام 1995. والحق أن هذا الكتاب له من القيمة والأهمية ما يماثل قيمة وأهمية كتابه «قراءة ثانية لشعرنا القديم». وقد ظل د. ناصف يبهرني بتدفقه الذي جعلني أتخيل أن الرجل يستعيد شبابه، وأن حيويته المتجددة تفرض نفسها علينا، وأنه يأتي لنا - نحن الأجيال اللاحقة له والمُتتلمذة عليه في الوقت نفسه - بما يتحدانا، وبما يستفز عقولنا النقدية، وجهودنا المعرفية في آن.
وقد تعمقت صلتي الشخصية بالدكتور ناصف في تلك الفترة التي أصبحتُ فيها أمينًا عامًّا للمجلس الأعلى للثقافة في مصر من 1993 وحتى 2007. ولما كنتُ أعرف قيمة وقامة د. ناصف لم أكن أتركه يغيب عن لقاءٍ أو نقاش أدبي في لجان المجلس المتعددة.

نهج خاص
يبدو لي أن د. ناصف بعد أن حدد نهجًا خاصًّا به، فريدًا في تميزه على مستوى قراءة الشعر، انتقل إلى عالم النثر القديم ليبدأ بمحاورات معه، موازيًا بين ركني الأدب العربي أو تراثنا الشعري والنثري، أو بين الأصالة والمعاصرة. 
ويبدو أن هذا هو السبب الذي جعله يكتب كتابه «أحمد حجازي الشاعر المعاصر». وصدر هذا الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1996. وقد استحصد قوته، ونظم الأسس العامة لطريقته في التأصيل، بما جعله يكتب كتابه المهم عن «النقد العربي... نحو نظرية ثانية»، وقد أصدرته «عالَم المعرفة» في الكويت، وهو كتاب لا أظن أنه نال ما يستحقه من نقاش وتأصيل، خصوصًا بما ينطوي عليه من أفكار جديدة ومقاربات مثيرة أو مستفزة في آن. 
وكان واضحًا أن د. ناصف قد قرر أن يصدر كتابًا جديدًا في كل عام أو ربما أكثر، وهو ما حدث فعلًا؛ ففي عام 2000 أصدر كتابه «ثقافتنا والشعر المعاصر» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. وفي العام نفسه أصدر كتاب «نظرية التأويل» عن النادي الأدبي الثقافي في جدة، إضافة إلى كتاب «مسؤولية التأويل» الذي صدر عن المعهد العالي للفكر الإسلامي بواشنطن. 
ويأتي عام 2003 بكتابين، أولهما «بعد الحداثة... صوت وصدى» من منشورات النادي الأدبي الثقافي بجدة، في مقابل كتاب «الدراسة الأدبية والوعي الثقافي» عن مؤسسة العويس الثقافية بدبي. واستراح استراحة المُحارب لكي يخرج في عام 2008 كتابه «دنيا من المجاز»، وقد صدر عن المجلس الأعلى للثقافة.
ويبدو أنه قد ترك في أوراقه كتاب «لعبة الكتابة»، دون أن يُكمله أو يُراجعه، فجمعه وأعده ولده حمدي ناصف، قنصلنا السابق في بومباي بدولة الهند.

حياة غنيّة بالعلم
الحق أن د. ناصف قد عاش حياة غنيّة بالعلم؛ فقد قضى حياته كلها مُجسِّدًا الصفة الجميلة التي أطلقها عليه أستاذه الخولي: «فلاح علم»، وهي جملة تستوقفني كثيرًا لكي أُعيد قراءتها في ضوء معرفتي بناصف شخصيًّا؛ فالرجل كان بشوشًا دائمًا، لا يلقاك إلا بالبشاشة التي يلقي بها الفلاحون أقرانهم المخلصين ويبادلونهم الحب، لكنهم ينطوون على حذرٍ غريزي، فلا يفضون لغيرهم بكل ما عندهم من أسرار. فهناك شيء مخبأ دائمًا ومستور، وهناك، فضلًا عن ذلك، نوع من الحذر الذي يتوقع ما قد لا يُتوقع، وذلك كله في مزاجٍ طريفٍ يجمع ما بين خفّة الظل والمكر والضحكة الصافية والسخرية اللاذعة، وعدم الاستكانة إلى أي رأي. فهناك دائمًا ذلك الخوف الغريزي الذي ينطوي عليه الفلاح من غدر الزمان أو الأصحاب، أو عجز النظريات وتقلّباتها في زمن متسارع التغير والتقلب. وهناك دائمًا ما لا يُتوقع وما يمكن أن ينطوي على خطر يستوجب الحرص والحذر والاسترابة. لكن الأهم من ذلك كله هناك صفة «الدأب»، فلا يوجد مثل الفلاح من يعرف أسرار العمل الشاق والجهد المُضني من بعد صلاة الفجر إلى ما قبل صلاة المغرب في حقله، وهو الوقت الذي لا يكف فيه الفلاح عن العمل في تمهيد التربة وتقليبها، ثم غرس البذور التي ينتظرها مُتلهفًا إلى أن يرى البذرة التي تورق النبت، ثم سرعان ما تتفرع براعمها إلى أوراق وثمار.

لعبة الكتابة
كان د. ناصف محبوبًا من كل مَن عرفه، ولكنه لم يكن يثق بكل من عرفه، ودائمًا ما كان يُخفِي عن الآخرين ما يكتبه وما يُعدُّه ويجعله سرًّا لا ينبغي الكشف عنه إلا بعد أن يكتب فيه آخر كلمة ويذهب به إلى الناشر. وما أكثر ما كنتُ أضحك من قلبي حين كنتُ أرى لعب ناصف بأقرانه وتلاميذه الذين يحاولون أن يتذاكوا عليه. وما أجمل ضحكته العفوية حين كان يظن أنه قد انتصر علينا في رأي أو جدال. وما كان أكثر ما يدهشنا بقدرته على التلاعب، ليس بالأصدقاء المقربين فحسب، بل بالكلمات والأفكار والمذاهب النقدية على السواء.
والحق أنني حزنتُ حزنًا عميقًا في داخلي عندما رحل د. ناصف عن عمر يناهز الخامسة والثمانين عامًا أو يزيد. فقد كان الرجل يحب الحياة، ويعشق القراءة، ولا يتأخر عن أي عملٍ علمي دعوتُه إليه، ولا عن أي إسهامٍ في مناقشة موضوعٍ من الموضوعات التي طلبتُ منه أن يتحدث فيها. 
أحيانًا كنتُ أراه كالطفل الذي يفرح بالأفكار الجديدة، فيخرجها ليلهو بها كما يلهو الطفل بالألعاب الكثيرة التي يسَّرتها له أحواله، وهو نفسه قد تحدث عن «لعبة الكتابة»، وأنا نفسي قلتُ له ذات مرة: «أنتَ لا ترى في الكتابة لعبة فحسب، بل ترى الحياة كلها لعبة». فقهقه طويلًا وكثيرًا، وقال لي: «أليست الحياة لعبة بحق؟!». وكان هذا في آخر حوار لي معه قبل أن يغيب عنّي وأشعر بفقده، فأسأل عنه وأعرف أن الله توفاه، فأشعر بغصةٍ وافتقادٍ لأستاذٍ صديق أو صديقٍ أستاذ، ساخر، مرح، لا تكف عن التعلّم منه إذا صاحبته وصبرت على ما يُظهره في بعض الأحيان - يرحمه الله رحمة واسعة - فالدكتور ناصف من الأساتذة العظام الذين أصبحنا نفتقدهم ونفتقد حضورهم المُضيء، خصوصًا في هذه الأيام. 
ويقيني أن الرجل لم ينل حقه من التكريم بدراسة أعماله التي تشغل مكانة بالغة التفرّد في دراساتنا اللغوية والبلاغية والنقدية ■