أسئلة الرواية العالمية

أسئلة الرواية العالمية

لا يدعي متن هذه المقالة الإحاطة بعنوانها «أسئلة الرواية العالمية»، وليس لأي متن أن يدّعي ذلك. الرواية، بما هي نص ثابت، تحاول القبض على الواقع، على طريقتها. والواقع ولّاد أسئلة ومتحول باستمرار. فأنى للثابت أن يقبض على المتحوّل؟ وكيف له أن يفعل ذلك حين يكون الواقع هو العالم بأسره؟ هذه المرة لن ينطوي العالم الأكبر في جرم الرواية الصغير، على حد تعبير الشيخ الرئيس ابن سينا. وجُل ما تطمح إليه هذه العجالة الإضاءة على بعض الأسئلة التي تطرحها الرواية العالمية، في هذه اللحظة التاريخية، من خلال مجموعة روايات مترجمة إلى العربية، تسنّت لي قراءتها في الآونة الأخيرة، ولا ريب في أن البعض لا يمكنه الإحاطة بالكل، لكنّه يستطيع الإشارة إليه، و«اللبيب من الإشارة يفهم»، على حدّ تعبير الشاعر العربي.

من نافل القول إن الرواية فن عالمي بامتياز، عابر القوميات واللغات، فالنزوع إلى الروي خصيصة إنسانية تشترك فيها جميع الشعوب، بمعزل عن التمظهرات التي يتخذها هذا النزوع. ولكل شعب روايته التي تختلف عن رواية شعب آخر، تبعًا لاختلاف العالم المرجعي الذي تمتح منه الرواية، وتحيل إليه. غير أنه، في نهاية المطاف، ما من شعب من دون رواية.
تعبر الرواية من شعب إلى آخر بإحدى طريقتين لا ثالث لهما؛ الأولى هي اللغة، فالإلمام بلغة شعب معين تتيح فرصة الاطلاع على روايته مباشرة، كما هي حال أبنائه. والثانية هي الترجمة، وهي القناة الأكثر استخدامًا في تبادل المعارف بين الشعوب. والرواية هي أحد الحقول المعرفية الأكثر مرورًا في هذه القناة. ومن خلالها يمكن التعرّف إلى الآخر في مناحي تفكيره، وأساليب حياته، وأنماط سلوكه، وعاداته وتقاليده، مما يمنح قناة الترجمة الأهمية اللازمة، ويبوِّئها الاهتمام المطلوب.

أهمية الترجمة
في الثقافة الإيطالية، ثمّة من يعتبر أن المترجِم خائن، وأن الترجمة خيانة، لما ترتبه هذه القناة من تأثر المترجم بأفكاره وميوله وثقافته الأم، يؤدي إلى الميل، بدرجة أو بأخرى، مع هذه العناصر، من جهة، ولما تتمخّض عنه من انزياح المترجَم عن الأصل، لعدم التطابق بين اللغات مفردات وتراكيب، من جهة ثانية. 
على أنّه، في هذا السياق، لا بدّ من فتح مزدوجين اثنين للاستدراك والقول إنه إذا كان يصح هذا التوصيف في بعض الفنون الأدبية كالشعر والنص الأدبي، فإنه لا يصح في فن الرواية، لاسيما بصيغتها الراهنة التي تتجنب اللغة الأدبية وتسمي الأشياء بأسمائها، مما يدفعنا إلى الاستنتاج أن المترجم الروائي أمين وليس خائنًا، إلى حد كبير. 
في هذا السياق، أُتيحت لي في الآونة الأخيرة، وبحكم الحجر المنزلي الذي فرضته جائحة كورونا، قراءة ثماني عشرة رواية مترجمة إلى العربية عن لغات عالمية شتى، وكل منها تطرح سؤالًا محوريًا أو أكثر، وهي أسئلة تتراوح بين التاريخي والسياسي والحضاري والاجتماعي والاقتصادي والوجودي، وتعكس هواجس عالمية في هذه اللحظة التاريخية. على أن السؤال المحوري في الرواية الواحدة قد تحفُّ به أسئلة أخرى ثانوية، وقد تطرح عدة روايات السؤال نفسه بطرق تختلف باختلاف المنظور الروائي. 

العبودية وتجارة الرقيق
على المستوى التاريخي، تطرح الرواية المعاصرة سؤال العبودية، الظاهرة التاريخية التي استشرت في الغرب خلال القرون الوسطى، وما تزال ترخي بظلالها الثقيلة في غير مكان من العالم. ولعلّ ما شهدته الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة من توتّرات في العلاقة بين مكوّنات المجتمع الأميركي يؤكد ثِقَل هذه الظلال.
هذا السؤال تطرحه الروائية الغوادولوبية ماريز كوندي في روايتها «أنا تيتوبا»، التي تتناول فيها تجارة الرقيق بين جزيرة باربادوس، إحدى جزر الأنتيل الصغرى، ومدينة بوسطن الأمريكية وضواحيها، في نهايات القرن السابع عشر وبدايات الثامن عشر. وترصد ما يحفّ بهذه التجارة من ممارسات عنصرية، تنتهك إنسانية الإنسان، وتختزل البشر إلى طبقتي السادة البيض والعبيد السود، فيشكل اللون معيارًا للتمييز بين الناس وتحديد مراتبهم الاجتماعية. وتطرحه الروائية الكاميرونية ليونورا ميانو في روايتها «موسم الظل»، فتتناول ظاهرة العبودية وتجارة الرقيق في مرحلة ما قبل الاستعمار بين إفريقيا وأمريكا في مجموعة من الأمكنة الروائية المتنوعة، الريفية والمدينية، الجبلية والساحلية. وتضيء الحياة القَبَلية الإفريقية بصراعاتها الداخلية والخارجية التي تتمخض عن مرحلة تاريخية جديدة، تدمج فيها بين القيم القديمة والوافدة. 
على أن الأسئلة التاريخية في الرواية المعاصرة لا تقتصر على الظواهر التاريخية والظلال التي ترخي بثقلها على الحاضر، بل تتعدى ذلك إلى الشخصيات التاريخية التي تركت تأثيرًا كبيرًا في زمانها وما تزال تؤثر في الحاضر، بشكل أو بآخر. 
وفي هذا الإطار، يتناول الروائي الفرنسي جلبيرت سينويه في رواية «ابن رشد أو كاتب الشيطان» سيرة الفيلسوف العربي ابن رشد، الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي (1126 – 1198)، وطرح الكثير من الأسئلة، وحرّك ركود الفكر الفلسفي في أوربا، في عصر الظلمات، فانقسم الناس فيه بين مؤيد له ومتأثر به، من جهة، ومعارض له ومشيطن إلى حد إباحة دمه، من جهة ثانية. 

الصراع على السلطة
على المستوى السياسي، تتعدد الأسئلة التي تطرحها الرواية العالمية المعاصرة، وتتراوح بين الصراع على السلطة والاستبداد والحرب الأهلية. وعلى الرغم من طغيان الطابع السياسي على هذه الأسئلة، فإن طرحها يتم في مراحل تاريخية معيّنة، ما يُقيم تناغمًا بين المستويين التاريخي والسياسي. 
وفي هذا السياق، تطرح الروائية التشيلية إيزابيل الليندي في رواية «إيفالونا» سؤال الصراع على السلطة في تشيلي، في النصف الثاني من القرن العشرين، بين الدكتاتورية العسكرية والديمقراطية الجمهورية، الذي ما إن ينجلي عن انتصار الأخيرة حتى يندلع مجددًا بينها وبين الثوار، بذريعة خروج الديمقراطية عن مسارها، وخضوعها للضغوط الأمريكية. والسؤال نفسه تطرحه الروائية الفنزويلية كارينا ساينر بورجو في رواية «الابنة الإسبانية» بصيغة الاستبداد الذي يمارسه النظام الفنزويلي، باسم الثورة، وبأدوات ميليشياوية، في مدينة كراكاس، في ثمانينيات القرن الماضي، ما يترتب عليه اندلاع الاضطرابات، وغياب الاستقرار، وانقطاع الكهرباء، واستشراء الفساد، وتدهور العملة الوطنية، وازدياد التضخّم، واختفاء المواد الغذائية من الأسواق.

تداعيات خطيرة
وحين يتفاقم الصراع على السلطة يتخذ شكل الحرب الأهلية، وهو السؤال الذي تطرحه رواية «التدفق الهادئ لنهر أونا» للروائي البوسني فاروق شهيتش. وفيها يتناول الحرب في يوغوسلافيا، في تسعينيات القرن الماضي، وما تمخّضت عنه من تفكيك الدولة اليوغوسلافية إلى خمس دول على أساس عرقي، ومن تداعيات خطيرة على الإنسان والمكان، فيتحوّل الأول إلى قاتل أو قتيل، ويتحول الثاني إلى أرض خراب. والسؤال نفسه تطرحه رواية «أرض تسير نائمة» للروائي الموزمبيقي ميا كوتو، من خلال رصد النتائج الوخيمة للحرب الأهلية على البشر والحجر، والتواطؤ بين الاستعمار والسلطات الحاكمة وما يرتبه من مضاعفات خطيرة على الشعوب المستعمَرة، والآليات المستخدَمة في مواجهة تلك النتائج والمضاعفات. 
على المستوى الاجتماعي، كثيرًا ما يكون الاجتماعي انعكاسًا للسياسي، سواءٌ على المستوى السلبي أو الإيجابي. لذلك، تتعدد الأسئلة المندرجة ضمن هذا المستوى بتعدد الوقائع التي يعكسها الواقع الاجتماعي، وتتراوح بين السلبيات الناجمة عن تردي الواقع السياسي في مجتمع معيّن، والإيجابيات التي يتيحها رخاء الواقع في مجتمع آخر. من هنا، تطرح الرواية المعاصرة أسئلة القاع الاجتماعي والجريمة المنظمة، من جهة، وتطرح أسئلة الحياة والحب والصداقة، من جهة ثانية. 

القاع الاجتماعي
في السلبيات، تطرح رواية «السكينة» للروائي المجري آتيلا بارتيش سؤال القاع الاجتماعي في العاصمة الهنغارية بودابست، في ظلّ الحكم الشيوعي، من خلال رصد العلاقات الملتبسة بين مجموعة من الشخوص تعاني اضطرابات نفسية، والتحوّلات الطارئة على كل منها. وتقول ما يتردى فيه الواقع الاجتماعي من استبداد حزبي واختلال نفسي وتفكك أسري، هي من إفرازات الواقع السياسي. والسؤال نفسه تطرحه الروائية التركية أليف شافاك في رواية «10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب»، فتضيء حياة شريحة اجتماعية تعاني النبذ الاجتماعي، ويقع عليها ظلم الحياة والموت، هي شريحة عاملات الجنس. وترصد، في هذا السياق: تحدّرهن من بيئات شعبية يتحكم بها العقل البطريركي، واغترابهن الاجتماعي، واضطرارهن إلى ممارسة المهنة، وعلاقاتهن فيما بينهن، ونظرة المحيط إليهن. وتخلص إلى أن هذه الشريحة هي ضحية الهيئة الاجتماعية وأطرها المغلقة التي هي انعكاس لانغلاق سياسي مستحكم. 
ويدخل في باب السلبيات سؤال الجريمة المنظمة الذي لا يغوص في القاع الاجتماعي، هذه المرة، بل يطفو على السطح. وهو ما يطرحه الروائي الفرنسي غيوم ميسو في رواية «الصبية والليل» التي يتناول فيها جريمة قتل، ارتكبت بدافع الغيرة في معهد جامعي في مدينة نيس الفرنسية عام 1992، وتعدد المتورطون فيها، فتروح تلقي بظلالها الثقيلة عليهم طوال خمسة وعشرين عامًا، وتأتي على معظمهم في سياق تصفية ذيولها. 
ويدخلنا ميسو، من خلال روايته، في فضاء بوليسي تتعدد مساراته وعقده، ثم تتفكك شيئًا فشيئًا إلى أن تنجلي الحقيقة في نهاية الرواية.
والفضاء نفسه نجده في رواية «جثة عارية» للروائي التركي جليل أوقار الذي يطرح فيها سؤال الجريمة المنظمة، في إطار تجارة المخدرات، وما يتفرع عنها من جرائم البيع والشراء والترويج والتعاطي والقتل. وهو يرصد هذه التجارة في جامعة البوسفور الإسطنبولية، فيفكك آليات اشتغالها، ومسارات المتورطين فيها، والمآلات التي تؤول إليها، وأساليب التحقيق الآيلة إلى جلاء الحقيقة.

الحب والصداقة
في الإيجابيات، تتيح المجتمعات المتقدمة، لا سيما الغربية منها، طرح أنواع أخرى من الأسئلة كالحياة والحب والصداقة. وهو ما يفعله الروائي الفرنسي لوران غونيل في رواية «يوم تعلمت أن أعيش» بطرحه سؤال الحياة، وتقديمه دروسًا في كيفية العيش والتفكير الإيجابي والانفتاح على الآخر. 
ويفعله الروائي الفرنسي الآخر مارك ليفي، في رواية «امرأة مثلها» بطرحه سؤالَي الحب والصداقة، فيقدّمهما عابرين للقارات والقوميات والأديان والطبقات. وتفعله الروائية البريطانية روزي والش في رواية «... ثمّ اختفى»، التي ترصد فيها قصة حب، في تحولاتها المختلفة، ومخاضها العسير، ومآلها الأخير. وتتوقف عند انعكاسها على طرفي القصة، من جهة، وعلى المحيطين بهما، من جهة ثانية. وتقول قدرة الحب على لمِّ الشمل وإصلاح ما أفسد الدهر.

مستويات أخرى
إلى ذلك، ثمّة مستويات أخرى تندرج ضمنها أسئلة أخرى تطرحها الرواية المعاصرة؛ فعلى المستوى الوجودي، يطرح الروائي الروسي ديمتري ليبيسكيروف في رواية «ليونيد سيموت حتمًا» سؤال الخلود وقدرة العلم على تحقيقه، من جهة، والظواهر الخارقة التي يجترحها العقل الغيبي في مواجهة جمود الواقع، من جهة ثانية.
وهو يفعل ذلك من خلال مجموعة من الأحداث التي تحدث بوقائعها في موسكو، خلال ستينيات القرن الماضي. وتحدث بذكرياتها في غير منطقة شكلت ميدانًا للحرب العالمية الأولى، في أربعينيات القرن نفسه. وغير بعيد عن الخوارق ما يتناوله الروائي الأمريكي ستيفن كينغ في رواية «المنطقة الميتة» التي يجمع فيها بين ثلاث ظواهر غريبة، هي القدرة على اختراق الزمن والتسلق السلطوي والقتل المنحرف، في ولاية نيوهامبشاير الأمريكية، في العقد السابع من القرن الماضي. 
وعلى المستوى الحضاري، تطرح الروائية الهندو - أمريكية شيترا بانرجي ديفا كاروني في رواية «قبل أن نزور الآلهة» سؤال الصراع الحضاري بين الشرق والغرب وصراع الأجيال ضمن هذا الإطار، من خلال رصدها وقائع الصراع بين النمطين الهندي والأمريكي للعيش على أرض أمريكية، خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين والعقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، وعلى فضاء روائي يمتد من كولكاتا الهندية إلى هيوستن وأوستن الأمريكيتين، وما يتمخّض عنه من تعديلات في السلوك ونمط العيش.
وعلى المستوى الاقتصادي، تطرح الروائية التشيلية إيزابيل الليندي في رواية «ابنة الحظ» نوعًا آخر من الصراع، في إطار تاريخي، هو الصراع على الثروة، فترصد ما سمّي بـ «حمّى الذهب» التي استعرت في كاليفورنيا في القرن التاسع عشر بين العامين 1843 و1853، وأحلام الثروة التي راودت الكثيرين من جنسيات مختلفة، وما رافق ذلك من صراعات عرقية دامية أدت إلى انتشار شريعة الغاب، من جهة، ومن أنشطة بشرية كالتجارة والفسق والعبودية وتجارة الرقيق، وسواها، أدت إلى قيام مدن بكاملها، من جهة ثانية. وبعد، هذه عيّنة عشوائية من الأسئلة التي تشغل الرواية المعاصرة، في هذه اللحظة التاريخية، وليست كل الأسئلة. وإذا كانت الإحاطة بالكل تنطوي على استحالة لنهائية المحيط ولا نهائية المُحاط به، فكفى بالجزء دليلًا على الكل، وحسبُنا القليل مشيرًا إلى الكثير■