قصة الترجمة وترجمة القصة

قصة الترجمة وترجمة القصة

لا يخلو حديث عن موضوع الترجمة من مشاكل متعددة تتعلق بالمفهوم والممارسة من جهة، كما أن اللغة والموضوع المرتبطين بها يطرحان أيضًا، أكثر من سؤال من جهة ثانية.  فما الترجمة؟ ولِمَ الترجمة؟ ما الغاية منها؟ وكيف تستقيم جنسًا أدبيًا؟ وهل تحقق للمتلقي، عربيًا كان أم أجنبيًا، إضافة نوعية ما؟ تلك بعض أسئلة، لا تُستحضر أجوبتها إلا عبر فعل الترجمة نفسها. 

 

لم يعد البحث في تاريخ الترجمة مجرد استعراض لما تم تداوله، عبر مراحل زمنية متفاوتة، من محاولات لنقل نصوص من لغة إلى أخرى؛ وإنما صار بحثًا «في تلاقح الحضارات واحتكاك الثقافات وتشكّلاتها اللغوية والدينية المختلفة. فالبحث مثلًا، في جزء من تاريخ الترجمة القديم يتحول إلى بحث في تشكّل نصوص العهد القديم العبرية في علاقتها بالنصوص الدينية والأدبية المصرية والكنعانية والبابلية، ويكشف عن قضايا موغلة في القدم، لكنها ذات تأثير راهن كبير».  
بالعودة إلى البدايات قليلًا، لا نعدم أن نجد في تاريخنا الأدبي والإنساني جملة محاولات تتطلع لمعرفة الآخر اللغوي وتخصص له صفحات لمحاورته. ولم يكن نقل الأفكار والقيم والطقوس والعادات وغيرها، مما يشكّل ثقافة المجتمع المترجم له، منذ القدم إلى الآن، سوى دليل على هذا التواصل البشري واندماج الثقافات والحضارات الإنسانية. 
إن التفكير في دراسة الترجمة بوصفها مبحثًا أكاديميًا «لم يبدأ إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، ويرجع الفضل إلى الباحث الأمريكي جيمس هومز في إطلاق اسم (دراسات الترجمة) على هذا المبحث، في مبحث ألقاه في مؤتمر كوبنهاجن للغويات التطبيقية في عام 1972، والذي لم يُعرف على نطاق واسع إلا في عام 1988».
بهذا المعنى، تكون الترجمة أحد انشغالات الإنسان، فهو «يحاول ربط الصلة بينه وبين العالم الذي يحيط به لكي يفهمه، وبالتالي يستطيع السيطرة عليه. وهذا الربط هو بالذات ما يمكن التعبير عنه بفعل التواصل بين شخص وآخر، بين القارئ والنص، بين الذات والموضوع، وبين مختلف الحضارات والثقافات».    
تخبرنا المصادر التاريخية ذات الصلة بعالم الترجمة أن هذه الأخيرة ارتبط وجودها باللغات المكتوبة (منذ العثور على ترجمة لأجزاء من ملحمة جلجامش السومرية خلال الألفية الثانية قبل الميلاد) واعتبرت نشاطًا يقضي بنقل المعارف التي اكتسبها الشخص إلى لغته الأصل. 
ففي الجاهلية مثلًا، حصل احتكاك بين العرب وغيرهم من الأقوام الذين يجاورونهم كالروم شمالًا والفرس شرقًا والأحباش جنوبًا. كما حصل في العهد الأموي تشجيع من الأمير خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان على ترجمة بعض الكتابات العلمية والفلسفية وغيرها (حسان بن أبي سنان الأنباري، وأبو العلاء سالم بن عبدالملك).

عِلم وحرفة
تواصلت حركة الترجمة عند العرب إلى أن بلغت العهد العباسي وأصبحت عِلمًا وحرفة ذات شروط ومقتضيات. ويعود الفضل في ذلك إلى تشجيع الخلفاء، ومنهم هارون الرشيد وابنه المأمون، حيث ترجمت العلوم والآداب الأجنبية إلى العربية (ق.19. م). وفي هذه الفترة ستنشأ دار الحكمة في بغداد. وقد ترجمت كتب أرسطو منها «الأخلاق» و«الطبيعة» من اليونانية، كما ترجم كتاب «كليلة ودمنة» وكتاب «الشاهنامة» (ق 13) وغيرها. ويعود فضل تقعيد الترجمة إلى كتاب الجاحظ (ق 9) أسماه «آراء الجاحظ».
لقد اقتضت الترجمة مترجمًا جيدًا تتوافر فيه شروط المعرفة باللغة والعلم بالموضوع المترجم، وكذا إجادة اللغتين والتمكن من ضوابط الأسلوب والتركيب. ومع التنافس الذي حصل بين المترجمين ازدهرت الترجمة، وصار بالإمكان التمييز بين الترجمة الجيدة والضعيفة.
وإذا كانت الترجمة قد عرفت تقهقرًا في العهد العثماني، حيث تم الانتصار للغة التركية على حساب العربية؛ فإن مجيء الوالي محمد علي باشا أعاد إليها الاعتبار، وساهم في نهضة أدبية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.
وتجسيدًا لتشجيع الترجمة والعناية بشؤونها ستحدث «دار الألسن» عام 1835 بإشراف الشيخ رفاعة الطهطاوي. ثم توالت الترجمات باستعادة بعض المؤلفات من الأدب العالمي، منهم بطرس البستاني، وإبراهيم اليازجي، ونجيب حداد، وسليمان البستاني، ثم حسن الزيات وطه حسين وتوفيق الحكيم ومصطفى لطفي المنفلوطي وغيرهم. وقد أشاد غوته، وهو أحد المستشرقين الألمان، بدور العرب في الترجمة.

ترجمة القصة
تشكّل النماذج القصصية التي تُرجمت من اللغة الأجنبية إلى العربية، مادة خصبة للقراءة والتحليل، من حيث إن كل ترجمة تطرح قضايا مختلفة تتعلق باختيار اللغة والموضوع، وبزاوية النظر المرتبطة بتقديم النص المترجم. ومن ثمّة، فإنّ عزم مترجم ما على نقل مجموعة قصصية من لغتها الأصل إلى العربية أو غيرها، يعكس، بصورة أو بأخرى، طبيعة الاختيار والممارسة التي يصدر عنهما شكلًا ومضمونًا. فإن وضَع المترجم تقديمًا لعمله، فإنه يحدد أسباب الترجمة أولًا من خلال بسطه لمكانة المؤلف وحضوره في الساحة الثقافية إن محليًا أو عالميًا، وثانيًا عبر عرضه لقيمة النصوص المترجمة وما تحمله من أفكار وقيم وأبعاد إنسانية وجمالية.
 أما إن فضّل المترجم نشر النصوص مباشرة دون تقديم أو مدخل مصاحب؛ فإن تلك المختارات ونوعيتَها تفي بالغرض المطلوب، حيث الإبانة عن الذوق والكشف عن المرجعية الأدبية. 
نذكر، في هذا السياق، مختارات قصصية بعنوان «الحرب الغريبة» جمعها وترجمها سعيد بنعبدالواحد. وهي مختارات للكاتب البرتغالي مارْيودي كارْفالْيو. قدّم خلالها هذا الأخير شخصيات «تمثّل الفئات الشعبية من مدينة لشبونة، مستعملًا أشكالًا مختلفة من الفانتاستيك، كما أن أسلوبه الفريد، الذي يذكّر بكتابات أهم الكتّاب الكلاسيكيين في الأدب البرتغالي، يتميز بتنوع سجلاته وجرأته على طرح مواضيع تنتمي لكل العصور بطريقة ساخرة ومستفزة». 

اكتشافات لغوية
تضم هذه المختارات البرتغالية عشرة نصوص قصصية تفاوتت من حيث البناء والحجم والدلالة. غير أن المترجم، في إطار العلاقة التواصلية التي نسجها مع المترجَم له، أبى إلا أن يشرك الكاتب البرتغالي في وضع كلمة تأطيرية لهذه المختارات، فجاءت كلمته عبارة عن تأملات في الكتابة القصصية تقرّب القارئ العربي من فن القصة البرتغالية كما يفهمها ويمارسها. 
يقول: «يبدو أن الحكايات التي تظهر فجأة في نقاط مختلفة من العالم، بالتزامن، وتطرح المواقف والشخصيات نفسها، وتتولد عنها، في كثير من الأحيان، اكتشافات لغوية وتأثيرات مضحكة تعود إلى غابر الأزمنة، تنتمي إلى المجال نفسه الذي تتآلف فيه الدهشة والحكمة. في الأدب البرتغالي، كان النثر التخييلي المهيمن عدة قرون هو القصة، قبل روايات الفروسية، ويمثّل في كثير من الأحيان أصداء حكايات آتية من الماضي البعيد، ومن ثقافات وحضارات أخرى». 
هكذا، تبدو الصلة الأدبية بين كاتب القصة ومترجمها مبررة تسمح باستنتاج كون العمل القصصي المترجَم قابلًا للانتشار والتداول بين قراء العربية. وهو الأمر الذي ينسحب على ترجمة أخرى لمختارات من القصة القصيرة جدًا في أمريكا اللاتينية جاءت بعنوان «بحثًا عن الديناصور» ارتأى مترجماها سعيد بنعبدالواحد وحسن بوتكى تقريب هذا الجنس الأدبي الحديث من قراء العربية. ولتحقيق هذه الغاية مهّد المترجمان لعملهما بتقديم نظري وقراءة أولية في تقنيات ومواضيع النصوص المختارة، التي ضمت «خمسة وسبعين نصًا قصيرًا جدًا، أبدعها ستة وعشرون كاتبًا». وهي تجسد بشكل من الأشكال، «ذوق من يقوم بعملية الاختيار من متن واسع ومتفاوت القيمة فنيًا».

رؤية فنية خاصة
   لأنّ ترجمة القصة تستدعي رؤية فنية خاصة تنسجم وذائقة المترجم؛ فقد كان لا بدّ من تبنّي مجموعة من المعايير تلتقي فيها مختلف الأبعاد الزمنية والجغرافية والجنسية والفنية. وكل بُعد يحدد طبيعة ونوعية الاختيار. ومن ثمة تحضر تمثيلية الأجيال التي كتبت في هذا الجنس بما شهده من تحولات منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين. كما تحضر تمثيلية المناطق الجغرافية لأمريكا اللاتينية التي ينتمي إليها كتاب القصة القصيرة جدًا.
وبين هذا وذاك تحضر تمثيلية النساء الكاتبات بما أنهن مشاركات في عملية الإبداع ومساهمات في تحديث هذا اللون التعبيري. أما المعيار الفني فكان عاملًا حاسمًا في عملية الانتقاء، حيث تنوع التقنيات وما أفرزته من مغامرة وتجريب. 
إن ترجمة القصة في هذه المختارات تنم عن حسّ أدبي ونقدي ظهر جليًا من خلال رصد الموضوعات الوجودية والوجدانية التي أخذت باهتمام المبدع الأمريكي اللاتيني، وعبر مختلف الطرائق الفنية التي سلكها في التعبير. ومن ثم فإنّ قراءة النصوص القصيرة جدًا تضطلع بمهمة الترويج لهذا الجنس الأدبي الحديث وتعرض بعض خصائصه المميزة من قبيل الاقتصاد اللغوي والتكثيف البلاغي والإيجاز والدهشة والانزياح؛ دون إغفال القواسم المشتركة بينه وبين «الحكمة والمثل والنكتة والجملة الإشهارية، وغيرها من أشكال الكتابة القصيرة».  
  أما الكاتب عبدالرحيم العطاوي فقد اختار ترجمة «موت الموظف وقصص أخرى» للكاتب الروسي أنطون تشيكوف، وهي مجموعة اختار نصوصها بعناية تنمّ عن إحساس جمالي بتلك النصوص وما تحمله من شحنة فنية تجعل من المجموعة ككل صورة من صور النموذج الأدبي.

حاءات ثلاث
أول ما يلفت النظر في هذه المجموعة المترجمة تعدد أشكالها القصصية، إذ نجد الأقصوصة والقصة القصيرة والقصة الطويلة. ويرى أحمد أبو حسن أن هذه الترجمة «تقترب من النص الأصلي الروسي وتحتفظ بطاقته الأدبية والجمالية في النص العربي... لأن المترجم لم يكن همّه هو تعريب النص الروسي على حساب جمالية النص الأصلي، بل حاول الاحتفاظ بقدر من تلك الجمالية في النص العربي حينما يقدّم لنا ترجمة تتوفّر على طاقات انزياحية مهمة تستدعي تحريك الموسوعة الأدبية العربية عند القارئ». 
تخضع القصص المترجمة لمبدأ التعاقب الذي يطبع نماذج القصة القصيرة الكلاسيكية. فالحدث ينمو شيئًا فشيئًا، ويتعقد فجأة، ثم يتلاشى تدريجيًا عند النهاية. وإذا كان القاص، يشير إلى نفسه، من خلال ضمير المتكلم (أنا)، كسارد في أول نصّ قصصي؛ فإنه سرعان ما يختفي وراء ضمير الغائب (هو)، حيث يحضر كسارد بالدرجة الأولى فيما تبقى من النصوص. غير أن الكاتب سرعان ما ينفلت من سارده ليظهر داخل النص، معلقًا أو موضحًا، فنكون أمام ضمير الغائب وسارد متماثل حكائيًا في الوقت نفسه. وهكذا تضعنا ترجمة القصة أمام نماذج سردية يتم التعرف إليها انطلاقًا من الوقائع والأحداث التي تنفرد بها كل قصة.  
ويختار الكاتب سعيد الريحاني ترجمة القصة من اللغة العربية إلى الإنجليزية في عمل أسماه «الحاءات الثلاث». وقد كانت وراء هذه الترجمة رغبة في التعريف بالقصة المغربية عالميًا، من خلال التركيز على عيّنة مختارة لقصص تمتح من موضوعات ثلاثة تتمثّل في الحلم والحب والحرية. 

سياق ثقافي محدد
حرص المترجم في هذا العمل الأدبي على ألا يجعل من أمر ترجمة القصة المغربية يتعلّق بنقل الكلمات من لغة إلى أخرى، بل بنقل سياق ثقافي محدد في العمل الإبداعي موضوع الترجمة إلى سياق ثقافي ثان في عمل إبداعي ثان. لذلك تجده يتصرف في النص كلما اقتضت الضرورة ذلك.
ولم يقتصر أمر الترجمة على نقل القصة من لغة إلى أخرى؛ بل جاوزه إلى ترجمة بعض ما كُتب عنها من دراسات نقدية متخصصة، نذكر منها مقالات ترجمها فريق مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، وضمّها في كتاب تحت عنوان «في نظرية القصة». 
وهي «مجموعة من المقالات موضوعها النظر في القصة نظرًا يعكس جوانب من النشاط التنظيري والفكري بصدد فن أدبي حديث رؤيةً وأساليبَ وأفقًا جماليًا». وقد جاءت هذه الترجمة اعتبارًا لأنّ القصة تمثّل «جنسًا أدبيًا حديث التقاليد، وذاتي النزعة. ولعل ذلك ما يفسر أن قسطًا وافرًا من النظر في بنياتها النوعية صدر، وما يزال، عن كتّابها أنفسهم، وهو ما يفسر وجود دراسات ضمن هذا العمل، لكل من ألبرتو مورافيا وخوليو كورتزار وخورخي لويس بورخيس وخوان مياس». 
ختامًا، تظل الترجمة فعلاً ثقافيًا ضروريًا يقرب بين سائر اللغات، العربية وغير العربية، ودليلًا حاسمًا يؤكد ما للتواصل الأدبي والإنساني بين القبائل والشعوب من دور حيوي. ولعل الحديث عن ثلاثية الترجمة،  كما وصفها جورج شتاينر في نظريته، التي تشمل الترجمة الحرفية (كلمة بكلمة) والترجمة الحرّة (دلالة بدلالة) والترجمة الأمينة، يعد مدخلًا آخر لدراسة الترجمة من زاوية مقارنة ■