بين قاهرة المعزّ ومدينة الإسكندر كل الطرق تؤدي إلى مصر

بين قاهرة المعزّ ومدينة الإسكندر كل الطرق تؤدي إلى مصر

 أصل إلى مطار القاهرة على درجة من القلق لا أستسيغ حضورها، كأنها صارت جزءًا من علاقتي بالمكان، كأنما أخشى من شيء، على غير توقّع، يخدش جمال علاقتي بهذه «المحروسة»، وقد زرتها كما لم أزُر أي بلد آخر، وأجدني على قدر كبير من الحماسة حينما أشد الرحال إليها، ورحالنا في القرن الحادي والعشرين تذكرة سفر وحقيبة تضم، ضمن ما تضم، حقيبة مطوية أخرى... أخصّصها للكتب التي سأعود بها من المكتبات والأكشاك المنتشرة على أرصفة الشوارع، وتحت الأشجار، يكفي ظلّ قليل لتقوم مكتبة عامرة في القاهرة، فيتوقف العابرون، مشيًا أو بسياراتهم، يلتقطون سريعًا إحدى صحفها الشهيرة، الأهرام، أو أخبار اليوم، أو الجمهورية، وغيرها مما تجود به الحياة المصرية من صحف ومجلات لا حصر لها.

 

يخلد هذا المشهد في ذاكرتي كثيرًا، يتوارى من ذاكرة ما أعيدها إلى تأثيرات سينمائية ودرامية، وفي خلدي تتهادى أغنية فيروز بنقشها الرحباني عن مصر: «نقشت في الصخر أسفارها فإذا من صخرك الكتب»، وكم من عناوين جميلة افترشت الأرض تتشابه، قليلها أصلي، وكثيرها مقلّد.
لم يطلب موظف الجوازات، هذه المرة، منّي الانتظار قليلًا ريثما ينتهي زميله من فحص جوازي، فكان عبوري سلسًا، بعد تجربتين سابقتين خشيت من تكرارهما على الرغم من أنهما لم يتجاوزا البقاء نصف ساعة ريثما يتم التحقق مما يعتبرونه تشابه أسماء، وحول حزام الحقائب كنت أنتظر اللون الذي يكسو حقيبتي لأميزها عمّا سواها، لأخرج بها إلى فضاء المدينة وفي ذهني ما زالت فيروز تغني: 
جئت يا مصر وجاء معي تعب إن الهوى تعب
وسهاد موجع قلته هاربًا منّي ولا هرب
كانت القاهرة ملاذي الدائم كلما عصف بي الحنين إلى السفر، فبين مدينة ومدينة على خارطة العالم تكون هذه المدينة حاضنة سفر، هذه الضاجّة بالحيوية كما يجدر بالحياة، وبالزحام حدّ الاختناق بالنسبة للبعض، محطة شبه أساسية إن سمح الوقت بالعبور نحوها ولو قليلًا، حيث نيلها ضحكة ماء، ومقاهيها ثرثرة محبّبة، وشوارعها تسكّع محمود، والنكتة محفوفة بدم مصري لا يقاوم صوت القهقهة، فترتد صدى يسير بين الضجيج كأنما لا صوت سواه.
وقبل أن تأخذني النيّة إلى مصر يستوقفني أصدقاء بصيغ استفهامية واستنكارية: ما الذي يغريك بهذه البلاد؟!
هم يرون الدخان والغبار والزحام والمضايقات، وأرى فيها حتى ذلك ميزة لعيش حياة، مع أنني أعرف إلى أين تمضي خطواتي، في مدينة لا تنام، ومع إنسانها الذي عليك أن تلامس بساطته لتتعامل معه باحترام، دون أن تدّعي بأنك مخلوق هابط من كوكب ثريّ تمارس تسلطك عليه.

ذاكرة ممتدة
قبل أن أودع محيط قاعات المطار يأخذني الزحام بلا أدنى فسحة، معي حقيبتي كظلي، تلاحقني أصوات أصحاب سيارات الأجرة، «عايز ليموزين يا باشا؟»، وأجدني أعود زمنًا إلى عصر الباشاوات، هذا الذي بقي حيًا على ألسنة المصريين، كذاكرة ممتدة من الأمس، دالًّا على عراقة صافية بحنينها الأبدي للقديم.
بين زحام وجوه كثيرة لا أعرفها، أبحث عن وجوه تترقّبني، يطل الحاج فؤاد وابنه أيمن ليستقبلاني، الحاج الذي أمضى سنوات شبابه موظفًا إداريًا في سلطنة عمان، حينما كانت تبدأ في كتابة أولى حروف نهضتها مطلع سبعينيات القرن الماضي، سيارته البيجو موديل عام 1984، التي ما زالت تحتفظ بلوحتها العمانية أسفل «النمرة» القاهرية، على الرغم من جريان السنين، تأخذنا البيجو إلى حي الجمالية، وشقته الصغيرة المحاطة بآثار المماليك، جوامع لا تحصى، تتقاسم المكان مع المقابر التي تحمل على أبواب أحواشها أسماء أصحابها، أدخل قاهرة أخرى، لا تتشابه مع تلك الفاخرة، أو التي تعيش بين بين.
يتجاور الأحياء والأموات على نحو تآلفي، أحواش مقابر تطاولت بجوارها بنايات، واستطالت أكثر مع فوضى الانفلات أيام الثورة، فارتفعت أدوار أخرى فوق ما كانت تحمله في طوابقها من بشر، تصفّ الطوب الأحمر وتطل من علٍ على صورة بالغة الواقعية في حدّتها، آثار تمتد عدة قرون، تجاورها بيوت الموتى والأحياء... على حد سواء.

حالة قاهرية خاصة
في المساء نودّع الجمالية عبر باب الحديد، مرورًا بمنطقة الأزهر، كلي عيون لرؤية المدينة التي أشتاق إليها على نحو لا يُصدق، وأكاد لا أفهمني، إنما لوحات الحياة تثيرني على نحو يصدق، حتى مشاهد الفواكه المرصوصة بعناية تحت الضوء أشعر بها حالة قاهرية خاصة، تلوح «وسط البلد» وتمثال طلعت حرب صامد كعلامة خلود لعقلية مصرية حريّة بالتكريم، أسابق عيني للتجوال في الدائرة المعمارية في منطقة التمثال، هناك رئة أتنفسها دائمًا، مكتبة مدبولي تواجهها مكتبة الشروق، وقريبًا منها مكتبات صغيرة، أُصاب بحالة تجلٍّ أخرى، محالّ العصائر وعصير القصب المفضل في قائمتي، أقرأ اللافتات بصخب عاطفي داخلي يكاد يخرجني من السيارة لأتوقف عند عربة بائع فول، وتشدّني الطعمية بطزاجتها وهي تخرج من الزيت ليلفّها «رغيف عيش بلدي»، مع «طرشي» يكمل لوحة المساء القاهري اللذيذ.
كأني أرى ميدان التحرير من جديد، وتطوف به عيناي بتؤدة مريبة، تلاحقني صور أيام الثورة، مياه كثيرة مرّت تحت جسور القاهرة في السنوات الأخيرة، عبورًا من أنفاق عام 2011، حين احتشدت الملايين في هذا الميدان الشهير تطالب بالكرامة والحرية، فكان الصوت يعلو في حناجر أبنائها، يحلمون بحاضر أفضل يليق بـ «أم الدنيا»، ومستقبل مستحق كما يجدر بحاضرة العرب والعروبة. أضع الشريحة المخبأة في المحفظة منذ آخر مرة جئت مصر، قبل شهر تقريبًا، وأجدني أذهب إلى أغنية فيروز: 
مصر عادت شمسك الذهب تحمل الأرض وتغتربُ
كتب النيل على شطه قصصًا بالحب تلتهبُ
لك ماض مصر إن تذكري يحمل الحق وينتسبُ
ولك الحاضر في عزّه قبب تغوى بها قببُ
ويكاد يأخذني الحلم على صوت فيروز كأنما ألتقي حبيبة قديمة بعد طول فراق، وحولي تنسكب الشوارع بشرًا وسيارات وعربات باعة جائلين، هذه هي المدينة حقًا، هذه بكل ما فيها من زحام وغبار وتلوّث، تبدو ثرية حيث تندس مدن في بعضها لتشكّل القاهرة، فأي قاهرة تبتغي ستجد، ومعضلة البعض أنهم لا يستطيعون الوصول إلى قاهرتهم الحقيقية، فتصدمهم قاهرات الآخرين.. فتقهرهم، قبل أن يتمكنوا من تجسير المسافة مع روح المدينة، لا جسدها المنهك.

...  وهناك ألف مئذنة
متعتي أن أقف على النافذة، من الدور الرابع عشر، فأرى القاهرة ممتدة ومكتظّة، أشمّ روائحها، وأتنفس المساء الزاحف إليها، وأراقب الحمام الآوي إلى أعشاشه فوق سطوح البنايات، في حركته الدائرية المستمرة حتى يقترب من مبتغاه، فيما ترتفع عبر عشرات المآذن القريبة بصوت أذان المغرب، يا لعذوبة الأصوات مع ميلاد الليل في مدينة تندسّ في رئاتها حيوات لا تعدّ، تهبط العتمة فتشتعل ملايين القناديل فيها، لكنها مدينة رائعة لمن يفهم لغتها، يقف تحت ضوئها، ويسامر فوانيس نيلها، ويتقن الجلوس إلى مقاهيها، حيث تأمل حركة البشر لوحات متتابعة، لا تحتاج إلى مخرج سينمائي ليمثّل لك اللقطة المطلوبة، بل تعيشها وأنت عنصر أساسي في حركة المشهد، وبيدك الكاميرا القادرة على كتابة الحركة، تبتسم، أو تحزن، أو تغوص في تفكير عميق... أو ربما تغضب! لا بأس، جزء من مشاعرك عليك اختباره بجدّية، ووضعه في محك حقيقي، من الدروس القاهرية أنك تتعلم الصبر وطول البال وسماحة النفس.. أن تتعلم من هؤلاء الكادحين ما معنى كل ذلك.
من مفارقات القاهرة أن النوم القليل فيها يكفي، كأنما لا يفترض بك أن تأتي إلى مصر لتنام، أكرر القول على رفاق السفر إلى المحروسة دائمًا، إن نمت فثمّة ما يفوتك، وعلى امتداد ساعات الصحو تتكدس الحكايات، والضحكات، وأعيد عليهم: ليس الزائر كالمقيم، فأنتم ترون القاهرة، وسائر مدن مصر، كسياح، ونظرة السائح دومًا لا يعتدّ بها، مجرد قشرة لم ولن تتعمق مهما طالت أيام الترحال فيها.
قلت لسائق سيارة طلبناها، عبر تطبيق هاتفي شهير، بأنه فطّرنا اليوم، ونحن أربعة، بعشرين جنيهًا فقط، قال إنهم في البيت يفطرون بخمسة جنيهات، وهذا مرهق له، ففي الشهر ذلك يعني أن الإفطار وحده يحتاج إلى 150 جنيهًا، فكيف بالغداء والعشاء و... و... و... و؟
غصت في صمتي، حقًا، لست إلا سائحًا لا يحقّ له التحدّث عن صعوبات العيش في بلد لا يلتقيه إلا ليعود منه، طال عدد الأيام أو قصُر.

مدينة متعددة الوجوه
على جانب من بناية يجلس وفي يده جريدة، يرفض التصوير، يقنعه زميلي العبري بأن الصورة ليست لمواقع التواصل الاجتماعي، بعفوية ابن الصعيد يوافق، وتتابع همهمة زرّ الكاميرا ليلتقط الصورة إثر الصورة، لم يكن يرغب البوح بأنه يمسك الجريدة كعادة يومية، لكنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة.
عصر اليوم التالي يأخذنا الحاج فؤاد إلى جولة في مصر القديمة، حيث الجوامع والأسوار، هبوطًا من الطريق خلف حدائق الأزهر التي شيدت بدعم من مؤسسة الأمير الأغاخان للعمارة، وقد بقيت نحو ألف عام مكبًا للنفايات قبل أن تتحول خلال سبع سنوات من العمل إلى واحدة من أجمل حدائق العالم، وافتتحت عام 2005م.
 مدينة تتعدد وجوهها، وكذلك جوامعها ومساجدها، تبدو مدينة لمرحلتين في تاريخها: الفرعونية، والإسلامية على تعدد فتراتها، من هنا مر المماليك والعثمانيون، وترك الفاطميون بصمتهم، وكذلك هناك شواهد معمارية عصرية على عبور فرنسي وإنجليزي، لكنها تبقى خارج هوية مدينة الألف مئذنة.
القباب من حولنا بألوانها البنّية كأنها تروي تاريخها بقوة عمق اللون، هناك تشمخ مآذن مسجد محمد علي فوق قمة قلعة صلاح الدين، ترتفع نحو 270 قدمًا، ويمكن تأمّل اتساع المدينة من تلك الربوة، بما يضيف إليه ميزة سياحية، وعلى تاريخيته، إلا أنه يسبقه في العمق التاريخي مسجد عمرو بن العاص، حيث يعدّ أول مبنى اكتمل بناؤه في إفريقيا، وأيضًا أول جامعة حقيقية يعرفها العالم، فقد بقي مظلة لتلقّي العلم منذ أن قامت أعمدته عام 642م على أرض خيمة فاتح مصر عمرو بن العاص.

قاهرة أخرى
من مساجد القاهرة الشهيرة، وأقدمها، مسجد ابن طولون، واللافت فيه أنه احتفظ بشكله القديم منذ اكتمال بنائه عام 879م، وهو ثالث مسجد ارتفعت مآذنه في القاهرة، بعد مسجدي ابن العاص والعسكر، لكنه يحظى بشهرة سياحية لكونه يطل على القاهرة، ليسمح بالتقاطات إبداعية لمدينة كلما التقطت لها المزيد من الصور تشعر بأنك لم ترتوِ، هكذا يلاحق زميلي المصور ملامح المدينة، بشغف يكبر يومًا بعد آخر.
يحملنا التطواف المسائي إلى جوامع أخرى، قبل أن يحل الليل على تلك المواقع الأثرية، فهناك قاهرة أخرى تستيقظ نريد أن نعيشها ما استطعنا إلى السهر سبيلًا، كان هناك مسجد السلطان حسن، بُني في عهد السلطان المملوكي الناصر حسن خلال القرن الرابع عشر للميلاد، وإضافة إلى تأثّر معماره بالأسلوب السلجوقي، فهو يتميّز عن غيره بكونه مدرسة مفتوحة على المذاهب الأربعة، حيث يضم صحن المسجد أربعة أبواب تُفْتح على أربع مدارس، في حين يأتي مسجد إبراهيم أغا من الزمن العثماني، حيث أسسه شمس الدين آق سنقر الناصري في القرن الرابع عشر للميلاد، وفي المسجد يوجد ضريحه وأضرحة أبنائه.
نتجول في القاهرة القديمة، جامع قايتباي، ثم جامع السلطان برقوق، يأخذنا القائم على المكان إلى داخل القبة، فيصدح بصوته العذب بـ «الله أكبر»، لندرك كيف يبدو الصوت كأنه ينطلق من مكبّر (ميكرفون)، يرينا ضريح السلطان، ثم نصعد إلى سطح الجامع، في حالة وجدانية عميقة، على تخوم التاريخ نقف، قرون عبرت على هذا المعمار المهيب، كأنما يأتي الحكام والسلاطين إلى مصر، ليرفعوا مئذنة تبقى شاهدة على مرورهم في هذه المدينة العظيمة... تاريخًا وجلالًا. 

في عتبات أخرى
نترك تاريخ المساجد والجوامع لندخل أسواقها عبر سوق الليمون، نرى أبناء طائفة البهرة، أفتش عن معلومات تعرّفني عليهم أكثر، عرّفتهم دار الإفتاء المصرية في فتوى لها بأنهم «إسماعيلية مستعلية يعرفون بالإمام المستعلي ومن بعده الآمر ثم ابنه الطيب، ولذا هم يسمون بالطيبية. وهم إسماعيلية الهند واليمن تركوا السياسة وعملوا بالتجارة، فوصلوا إلى الهند واختلط بهم الهندوس الذين أسلموا وعرفوا بالبهرة، وهم يقولون إن الإمام الطيب دخل الستر عام 525 هجرية، والأئمة المستورون من نسله إلى الآن لا يُعرف عنهم شيء، حتى أسماؤهم غير معروفة، وعلماء البهرة أنفسهم لا يعرفون».
يقال إن كلمة البهر تعني الوسط من كل شيء، أو الوسط من الطريق، وفي اللغة الجوجاراتية تعني التجارة، حيث سأل أهل الهند الدعاة الفاطميين حينما نزلوا الساحل الغربي من الهند مَن يكونون؟ فقالوا إنهم «وهرة» أي يعملون في التجارة، والباء والهاء مترادفان في اللغة الجوجاراتية الشائعة غربي البلاد.
لكنهم بدأوا بالتوافد على القاهرة في سبعينيات القرن الماضي، خلال فترة حكم أنور السادات، واختاروا منطقة القاهرة الفاطمية مكانًا لإقامتهم قبل أن تزداد أعدادهم ويتوزعوا على مناطق أخرى.

شارع المعزّ
نكمل طريقنا، حياة على ضفتي المكان، آثار لا تحصى، في المعمار، أو لدى باعة التحف والأنتيكات القديمة، يتناول أحدهم هاتفًا أكل الدهر عليه وشرب، ويقول ضاحكًا إنه يعمل، أبدي دهشتي، يضع السماعة على أذني ويقول «ألووو»، ويختبر موافقتي على كلامه إن كنت سمعته أم لا.
نعبر الضحكة المصرية إلى شارع المعزّ، وقد تجمّل كثيرًا بلمسات أحالته إلى حياة قادرة على جذب السياح والمواطنين في زحام يتفرع إلى بقية الشوارع الجانبية الضيقة، وعلى كل مكان يمكنك الاستراحة إلى كوب شاي أو فنجان قهوة، وعلى الضفتين يلوح جمال الأمكنة، وحضور الحضارات، على المباني أو الأزياء، أو ما شئت من آثار يكاد بها الحجر ينطق.
نهارٌ تالٍ تأخذنا فيه القرية الفرعونية إلى تخومها، فكرة د. حسن رجب التي بقيت ركنًا مهمًا في التعريف بحضارة مصر، تنسى أنك في زحام القاهرة، وتعود بك الأيام إلى عصر مختلف، تركب القارب الصغير، تشعر أنك آنست إلى النيل كما لم تفعل من قبل، على رقعة الماء تسير وتجد حولك الضفتين قريبتين متسائلًا: أين أصبحت بنايات المدينة وضجيجها؟! يشرح لك الصوت المسجل عمّا يمكنك أن تشاهده، مشاهد تمثيلية لإلقاء أم موسى عليه السلام له في الماء ليأخذه فرعون، هناك تماثيل للآلهة القديمة في الزمن الفرعوني، ثم تغادر المركب لتكتشف حياة رائقة، ترى فيها الأسلوب القديم في العيش، بين منزل النبيل ومنزل الفقير، وهناك نحو تسعة متاحف صغيرة، بينها المتحف الإسلامي ومتحفا جمال عبدالناصر وأنور السادات.
أربع ساعات من المتعة الرائعة والرائقة، قاهرة أخرى لا يجدها البعض، حيث الأدخنة والزحام يحرمانهم من رؤية ملامح جميلة ترتقي بالروح، أتذكر حينما كنت قبل أكثر من خمسة عشر عامًا أتمنى من مسؤول في السفارة العمانية في القاهرة إيجاد حجز عودة مبكرة لي، قال لي حينئذ إن العلّة فيك لا في القاهرة، لم تفهم المدينة كما يجب وإلا لطلبت تأجيل الحجز أيامًا أطول. 
لاحقًا وطّدت علاقتي المدينة، حيث كل الطرق تؤدي بي إلى مصر.

مدينة... بين مدينتين
المسافة بين القاهرة والإسكندرية تتمدد حسب القطار الذي يقلّك بينهما، يمكن قطعها في ساعتين ونصف الساعة، أو أكثر من أربع ساعات، وهناك وسائط أخرى للتنقل، عامة وخاصة، وبين المدينتين تطل مدينة أقرأها على عجل، طنطا، وأسمع عنها كثيرًا، هناك مسجد السيد البدوي، فأقرر الهبوط إليها هذه المرة، يأخذنا الفندق الصغير إلى بساطته، لكن المدينة متسعة بما فيها من حياة... جمالها في بساطتها.
أستعيد الجملة الأثيرة، «شيء لله يا بدوي»، نكتشف صرح المسجد كصوفي يبحث عن معراج لروحه، ويمنعنا حارس المقام من التصوير، لكنه بعد ربع ساعة فتح لنا المكان ولعدسات الكاميرا والهواتف المحمولة، وكان الشيخ البدوي يرقد في ضريحه، وأتخيّله يسمع أصوات الداعين من حوله، المرأة التي تتمتم، ممسكة بطفلها الرضيع في لفّته، وفي صدر قاصدي البدوي حوائج لا تحصى.
عمّر أحمد البدوي نحو 79 عامًا، وتوفي في يوم الثلاثاء 12 ربيع الأول 675 للهجرة، الموافق 24 أغسطس 1276 م بمدينة طنطا، فبنى له تلميذه عبدالعال مسجدًا صغيرًا يشبه خلوة كبيرة بجوار القبر، وتحول بعد ذلك إلى زاوية للمريدين، وجاء علي بك الكبير ليبني المسجد والقباب والمقصورة النحاسية حول الضريح، ويعد الاحتفال بمولد البدوي في منتصف أكتوبر سنويًا من أكبر الاحتفالات الدينية في مصر، وتجتمع فيه نحو 67 طريقة صوفية لمدة أسبوع، ويقام للبدوي احتفال آخر يعرف بالمولد الرجبي، وذلك في النصف الأول من شهر أبريل من كل عام، ولمدة أسبوع أيضًا.
ليلة واحدة تكفي هذه المدينة، هكذا يسمح الوقت الضيّق، مع أنها تستحق البقاء فيها لمزيد من السكينة والتعرف على ملامحها أكثر، دون الاكتفاء بكونها محطة قطار عابر بين مدينتين مكتظتين بالسكان والزحام، مدينة النيل ومدينة البحر المتوسط.

تحت ظلال القلعة
يتوقف القطار في محطة سيدي جابر، في كل مرة لا أعرف الاتجاه الصائب، بين الجهة التي أخرج منها شمالًا أو يمينًا، تجاه المدينة والبحر، أو الاتجاه الآخر من البوابات المفتوحة على الجانب الآخر من المدينة.
كيف يمكن لجم رغبة المصور بالاسترخاء قليلًا! فشمس الظهيرة تبقى شمسًا، والظلال لا تسير على الكورنيش مباشرة، أو بالأحرى لا تتوقف لتعطي العابرين متعة تلك النسمات التي نستشعرها في الظل فوق حدود الجمال، مع البحر، والقلعة المهيبة الواقفة حارسة للماء لوحة تغوي حامل الكاميرا بشد الأقدام إليها فورًا، وضعنا حقائبنا سريعًا في الفندق ويمّمنا وجوهنا إلى مطعم أسماك بالقرب من القلعة، قلعة قايتباي التي شيّدت في مكان فنار الإسكندرية القديم بعد أن دمره زلزال سنة 1302 للميلاد، وكان ذلك في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وقام السلطان الأشرف أبو النصر قايتباي ببناء القلعة مدة عامين، ليكتمل بناؤها في عام 1480 للميلاد، بقصد صد التهديدات العثمانية لمصر.
يكاد ماء المتوسط يحيط بالقلعة من كل صوب، لولا مسار ترابي واسع يتيح لزوارها دخولها، وبها سوران، الداخلي يضم ثكنات الجنود ومخازن الأسلحة، والخارجي تتوزع على جهاته الأربع الأبراج الدفاعية، وقد جدد السلطان قنصوه الغوري القلعة وزاد من حاميتها.
نكتفي بتأمل المكان بجلال يكاد ينطق به الهواء العليل فيما كانت الإسكندرية تعيش أواخر أيام الربيع، القلعة بطوابقها الثلاثة كتحفة تضمها لوحة زرقاء، ومدينة الإسكندر المقدوني ممتدة كشريط معماري بين زرقتين، وفي كل زاوية تختبئ حكاية، يرويها التاريخ، أو الحاضر، من المنشيّة، وزنقة الستات كأشهر أسواقها الشعبية (السياحية)، وهناك جامعة الإسكندرية العريقة في الشاطبي، ثم مكتبتها الشهيرة، والقبة العلمية، التي أصبحت ركنًا أصيلًا في أي زيارة لهذه المدينة، تجمّل ساحة المكتبة بشكلها الأنيق. 

عرض خاص
بعد العرض الأصلي دعانا المسؤول عنها إلى عرض خاص، لنرى كيف تبدو هذه الأرض، بهمومها وحروبها ومليارات بشرها، الماشين على سطحها أو تماهوا ترابًا في ترابها... مجرد فاصلة بسيطة في هذا الكون، ضئيلة على نحو ساخر مما يحدث، وعلى نحو إيماني عظيم بقدرة الخالق.
الجناح الثاني الذي يشدني إلى التجوال يقع في شرق المدينة، المنتزه، حيث يأخذنا الملك فاروق إلى فضاءاته، هنا فندق فلسطين الشهير، والمكان رقعة خضراء رائعة البهاء تمتد نحو 370 فدانًا، كأنها تصالح بين الكتل الخرسانية وزرقة البحر، وتضم هذه الحدائق أربعة مبان مسجلة ضمن الآثار الإسلامية والقبطية، وهي قصر السلاملك، وقصر الحرملك، وطاحونة الهواء، أقدم منشأة في مجموعة المنتزه، حيث بناها محمد علي باشا عام 1807، وكشك الشاي كآخر المباني المسجلة أثريًا في المنطقة.
بدأت قصة المنتزه عام 1892، كما تشير المعلومات المتداولة، مع إنشاء الخديوي عباس حلمي الثاني «قصر السلاملك»، ليكون قصرًا لصديقته المجرية الكونتيسة ماري توروك هون زندو، حيث بني على نمط القصور النمساوية في منطقة تشبه الغابات التي اعتادتها في بلادها، بإطلالة على المتوسط، وبعد أن تزوجها أصبح اسمها جويدان هانم، وتم تحويل القصر إلى فندق في خمسينيات القرن الماضي.
وفي عام 1925 أقام الملك فؤاد الأول مقرًا صيفيًا للعائلة المالكة سمي بالحرملك من تصميم المهندس الإيطالي فيروتشي، كآخر القصور الملكية في تاريخ الأسرة العلوية، ويمتد على مساحة تزيد على 46 ألف متر، ويجمع بين عدة طرز فنية كالبيزنطي والقوطي والكلاسيكي، في حين جاءت الزخارف من طراز الباروك والركوكو.

«العربي» وسور الأزبكية
بقيت وداعية المحروسة كالمعتاد، يوم السفر المسائي هناك متسع من الوقت يحمل جدولًا واضحًا: التجوال في منطقة وسط البلد، ومنها إلى سور الأزبكية، وصولًا إلى ميدان العتبة، والمبتغى المزيد من الكتب، بخياراتها الكثيرة والجديدة، وأسعارها الجيدة.
حمل لي سوق الكتب في سور الأزبكية مفاجأة أقرب إلى مصادفات القدر التي لا تتكرر، رأيت عددًا قديمًا من مجلة العربي، من أعداد مطلع سبعينيات القرن الماضي، وكنت أبحث عن أي قديم لـ «العربي»، المفاجأة التالية أن بهذا العدد استطلاعًا عن بلادي عُمان، وتتوالى المفاجآت، استطلاع «العربي» تضمن حديثًا عن سمائل، الولاية التي أنتمي إليها، فيما كنت أبدأ الصف الأول الابتدائي للتو في مدرسة بنيناها بأنفسنا من الخيام التي وصلتنا صباح ذلك اليوم، الذي يبدو بعيدًا وخياليًا أكثر مما ينبغي، وكان مدير المدرسة مصريًا، ومربّي الصف مصري من الصعيد، أذكر اسمه: حسين مرعي حسن.
 ميدان العتبة مزدحم، وما يغرينا بالسير في المكان كثير، لكن المصوّر انتبه إلى بناية لم أنتبه إليها سابقًا، سألت عنها، عمارة ترينج، في أعلاها مجسم لكرة يحملها أربعة تماثيل، قيل لنا إنها ضمن ثلاث بنايات هكذا في العالم، صممها معماري نمساوي يدعى أوسكار هورويتز لمواطنه الخواجة اليهودي فيكتور ترينج، وهو من مواليد مدينة القسطنطينية، وأراد حينها محاكاة متاجر سيزار ريتز الأوربية، وفي عام 1910 اختار الميدان موقعًا لها، لكن طالتها يد الإهمال، فيما كان يمكنها أن تكون موقعًا سياحيًا جاذبًا، مثلها مثل قصر البارون، وقد بدأت رحلة ترميمه ليضاف إلى قائمة الجماليات القاهرية.
من نافذة الطائرة كانت القاهرة تعوم في النور، تبدو شوارعها غارقة في الزحام، جميلة في الليل، حيث لا يظهر سوى الضوء يتناثر كالنجوم في سماء هي الأرض، ونحن في سمائنا نصعد حتى تتلاشى الأشياء هناك في السديم الفاصل بين أرضنا وخطوط تسير عليها الطائرات، بين نهار دخلنا بوابته إلى مدينة الألف مئذنة، وليل نغادر فيه مدينة لا تنام، فاختلاف النهار والليل يُنسي، كما يقول شاعرها العظيم، أمير الشعراء، أحمد شوقي، وهو يصف حنينه إلى مصر:
وَسَلا مِصرَ هَل سَلا القَلبُ عَنها
أَو أَسا جُرحَهُ الزَمانَ المُؤَسّي
كُلَّما مَرَّتِ اللَيالي عَلَيهِ
رَقَّ وَالعَهدُ في اللَيالي تُقَسّي

 

وللقلوب مع البحر علاقة حميمة، فعلى طول كورنيش الإسكندرية يجد الناس ضالتهم في الاستراحة على الحاجز الإسمنتي

 

القاهرة والنيل... في نهار غائم

 

كانت محطة قطارات رمسيس تنتظرنا بعد العودة من الإسكندرية، لنغرق في زحام القاهرة من جديد

 

جسر ستانلي... أيقونة جمالية أضافت لـ «عروس البحر» إسورة تليق بها

 

... وبعد أن تخرج من المحطة تأخذك الاتجاهات إلى حيث تنتظرك صيحات سائقي سيارات الأجرة، والباعة الجائلين

 

مقام/ ضريح السيد البدوي، كما يبدو من الداخل

 

كحارس للمكان، يمنحه لونه وعبقه المستتر في أرواح المريدين، وهم يطلبون من الأولياء الشفاعة في إجابة أمانيهم

 

في القرية الفرعونية محاكاة لحياة تبدو قديمة، ولكنها حيّة تتنفس في ربوع المحروسة

 

إطلالة فرعونية على وجوه تعبر نحو المستقبل بتفاؤل رغم كل شيء