الروائي خليل الجيزاوي: نحن أحفاد شهرزاد الحكاءة الشهيرة في تاريخ السرد العربي

الروائي خليل الجيزاوي:  نحن أحفاد شهرزاد الحكاءة الشهيرة  في تاريخ السرد العربي

الكاتب خليل الجيزاوي روائي مصري تشهد الساحة الأدبية حضوره الفاعل كاتبًا للقصة القصيرة والرواية، وناقدًا مُشاركًا بالكثير من فعاليات الحياة الثقافية والندوات الأدبية، ومُحكّمًا بالعديد من المسابقات الأدبية التي تنظمها الهيئات الثقافية سنويًا، مثل مسابقات نقابة اتحاد كتاب مصر، وساقية الصاوي، ومسابقة إبداع التي تنظمها وزارة الشباب والرياضة. عمل  مراسلًا صحفيًا للكثير من المجلات الثقافية بالقاهرة، وهو عضو بارز بالكثير من الهيئات والمؤسسات الثقافية، مثل دار الأدباء، وأتيليه القاهرة، ومجلس إدارة نقابة اتحاد كتاب مصر، ورئيس تحرير مجلة الكاتب المصري التي تصدر عن نقابة اتحاد كتاب مصر، وعضو مجلس إدارة نادي القصة بالقاهرة.

 

 حصد الجيزاوي الجائزة الأولى مرتين عام 1999، في مسابقة نادي القصة بالقاهرة، عن قصة قصيرة بعنوان: نشيد الخلاص، وعن رواية يوميات مدرس البنات، وجائزة محمود تيمور بالمجلس الأعلى للثقافة عن مجموعته القصصية الأولى نشيد الخلاص عام 2002، وأصدر ثلاث مجموعات قصصية: نشيد الخلاص (الهيئة العامة لقصور الثقافة) التي فازت بالمركز الأول في استفتاء الإذاعة المصرية كأفضل مجموعة قصصية صدرت عام 2001، وقصص أولاد الأفاعي (الكتاب الفضي بنادي القصة بالقاهرة عام 2004)، وقصص حبل الوداد («أصوات أدبية» بالهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2010)، وأصدر 6 روايات: يوميات مدرس البنات (مكتبة مدبولي عام 2000)، أحلام العايشة (الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2003)، الألاضيش (الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2004)، مواقيت الصمت (الدار العربية للعلوم - بيروت عام 2007)، سيرة بني صالح (دائرة الثقافة بالشارقة/ الإمارات عام 2015)، أيام بغداد (دار المعارف للنشر والتوزيع بالقاهرة - يناير 2020)، الفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة إحسان عبدالقدوس للرواية 2019، وأصدر كتابين في النقد الأدبي: مسرح المواجهة (الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2004)، يوسف الشارونى... عمر من ورق (الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2009)، وصدر عنه كتابان في النقد: خليل الجيزاوي وعالمه الروائي للكاتب إبراهيم حمزة عام 2011، وسيمولوجيا الخطاب السردي عند الروائي خليل الجيزاوي للباحثة الجزائرية راضية شقروش عام 2014، في هذا الحوار نتوقف حول مشروعه الروائي، الذي أهدته بذوره الأولى منذ طفولته خيالات جدّته وحكاياتها التي لا تزال تصاحبه إلى الآن.


• كيف تلقيت خبر الفوز بجائزة إحسان عبدالقدوس وماذا عن عالَم رواية أيام بغداد؟
- تلقيتُ خبر فوز رواية أيام بغداد بالجائزة الأولى في مسابقة إحسان عبدالقدوس للرواية عام 2019 بسعادةٍ غامرة وفرحة كبيرة مُضاعفة لسببين؛ الأول: اقتران اسمي باسم الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس، خاصة أن صادف احتفالية تسليم الجائزة مناسبة مرور مئة عام على مولده، والثاني: عودتي لكتابة الرواية بعد توقّف سنوات طويلة، انشغلتُ فيها بالعمل الثقافي، حيث عملتُ مُديرًا عامًا، ثم وكيل الوزارة رئيس الإدارة المركزية للشؤون الأدبية بالمجلس الأعلى للثقافة.
وترصد رواية أيام بغداد فترة عملي بالعراق، وكنتُ لا أزال طالبًا بكلية الآداب جامعة عين شمس (1982 - 1985)، وسافرتُ مثل آلاف الشباب للعمل بالعراق خلال الإجازة الصيفية، وخلال هذه السنوات كانت الحرب العراقية - الإيرانية مشتعلة، بسبب الخلاف العقائدي بين بغداد وطهران، وشاهدتُ حالة الدمار والخراب بالمدن العراقية، وعملتُ مُديرًا لأحد الفنادق بمدينة النجف التي تعتبرها إيران عتبات مقدسة لوجود مسجد الإمام علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه؛ لهذا نجت مدينة النجف من قذف الطائرات الإيرانية، وبعين المُشاهد كتبتُ الكثير من التفاصيل الإنسانية التي شاهدتها وعرفتها عن شخصيات عراقية ومصرية عشتُ معهم خلال هذه السنوات، ورصدتُ حياة بعض العاملين المصريين الذين سافروا بحثًا عن فرصة أفضل للحياة والعمل على تحسين معيشتهم؛ لكن بعضهم عاد جثة في صندوق خشبي.

• متى بدأت الإرهاصات الأولى نحو الكتابة الأدبية؟!
- بدأت الإرهاصات الأولى تتشكلُ عند كتابة موضوعات التعبير، وتشجيع الأستاذ عبدالباسط الهجين (مدرس اللغة العربية بالصف السادس الابتدائي) بقراءة موضوعات التعبير التي أكتبها، بعد أن نالت إعجابه بالإذاعة المدرسية أثناء طابور الصباح، ثم لاحظتُ شغفي بقراءة القصة المقررة علينا، ربما في ليلة واحدة، بعد تسلّم الكتب المدرسية، مثل رواية خيال الحقل للكاتب عبدالتواب يوسف بالصف السادس الابتدائي، ورواية ابن النيل للكاتبة جاذبية صدقي بالصف الأول الإعدادي، ورواية الأيام للدكتور طه حسين بالصف الثالث الإعدادي؛ لأنني لم أعرف مكتبة المدرسة إلا في مدرسة كشك الثانوية العسكرية بمدينة زفتى محافظة الغربية، وفيها بدأت المرحلة الثانية بقراءة الروايات، وكانت أول رواية قرأتها بمكتبة المدرسة، رواية الشوارع الخلفية للكاتب عبدالرحمن الشرقاوي، ثم قرأت روايات: اللص والكلاب والحرافيش و«الثلاثية» وثرثرة فوق النيل لعميد الرواية العربية نجيب محفوظ، وقصص وروايات د. يوسف إدريس وإحسان عبدالقدوس ومصطفى محمود ومحمد عبدالحليم عبدالله، وأخيرًا بدأت المرحلة الثالثة بكتابة رواية لا أزال أحفظُ اسمها: مخالب القدر، كتبتها في كشكول كبير، وأعطيتها للأستاذ مأمون عبدالقادر (مدرس اللغة العربية بمدرسة كشك الثانوية) الذي شجعني كثيرًا، وقال إن مستقبلًا كبيرًا ينتظرني بالكتابة الأدبية، وبدأتُ أنظمُ الشعر مُتأثرًا بالشاعر علي محمود طه، بعد قراءة ديوانه الملّاح التائه، وديوان أغاني الكوخ للشاعر محمود حسن إسماعيل، ثم تأثرتُ بالشاعر نزار قباني وشعره الرومانسي الذي كان يتناسبُ مع مرحلتي العمرية بالمدرسة الثانوية خلال فترة الشباب. 

غريب عن القرية 
• هل اختلفت القرية اليوم عن القرية التي نشأت بها أوائل الستينيات؟ 
- ولدتُ في 16 سبتمبر 1961، بقرية العايشة مركز زفتى محافظة الغربية، وهي قريبة من مدينة طنطا المعروفة بتراثها الديني، ومسجد السيد أحمد البدوي، الذي يقام مولد كبير له خلال شهر أكتوبر من كل عام. كانت دارنا تفتحُ بابها وتُطلُّ على ترعة كبيرة، مليئة بالمياه الصافية البيضاء، ولم تكن القرية تعرف الكهرباء بعد، وعدد سكانها قليل جدًا، التحقت بكُتَّاب الشيخ على نوفل - يرحمه الله - وعمري خمس سنوات وحفظتُ جزء عمَّ في سنة واحدة، والتحقت بالصف الأول الابتدائي عام 1967، فوجدت عدد فصول المدرسة الابتدائية ستة فصول فقط، وعشرين ولدًا وعشر بنات في كل فصل، لا أزال أحفظُ أسماءهم حتى اليوم؛ وظللت أذهب للمدرسة صباحًا وإلى كتّاب القرية عصرًا حتى الصف السادس الابتدائي، وبعد 20 سنة، كبرت القرية وتمددت شوارعها الجديدة، بعد أن عرف أهلها السفر للعمل بالبلاد العربية أوائل الثمانينيات، ورجع كل واحد من قريتنا؛ ليهدمَ داره المبنية بالطوب اللّبن والمكونة من دور واحد، ويعيدُ بناءها بالطوب الأحمر والخرسانة المسلحة لأدوار عدة.
كانت الكهرباء قد دخلت قريتنا نهاية السبعينيات ونحن طلاب بالمرحلة الثانوية، الآن وبعد أربعين سنة أصبحت قريتي غريبةً عنّي جدًا، فقد تغيّرت ملامحها التي كنتُ أحفظُهَا، حيث تم بناء خمس مدارس ابتدائية وإعدادية وثانوية، حتى تستوعبَ عدد سكانها، وعلَت أطباق «الدّش» اللاقطة للقنوات الفضائية أسطح دورها، حتى باتت تشبه المدينة، وتم افتتاح بعض المقاهي الشعبية بها، وعرف الفلاحون السهر على تلك المقاهي، بعد أن كانوا يصلّون العشاء وينامون حتى يستيقظوا قبل صلاة الفجر، واليوم بعد مغادرتي للقرية منذ أكثر من خمسة وثلاثين عامًا للدراسة الجامعية والعمل والإقامة بالقاهرة، وبعد رحيل والدتي، يرحمها الله، لم أعدْ أزور قريتنا إلّا في المناسبات العائلية، على الرغم من أن لي دارًا كبيرةً بالقرية، مكونة من خمسة أدوار، الآن أعودُ فأجدُ نفسي غريبًا عن القرية التي وُلدتُ بها، ولعبتُ وسط شوارعها، وعشتُ بين أهلها، حتى نهاية مرحلة دراستي الثانوية.
 
قامات نقدية 
•  هل شكّلت دراستك الجامعية دورًا في صقل موهبتك الإبداعية حتى تمتلك أدوات الكتابة؟
- نصحني الأستاذ مأمون عبدالقادر بدخول كلية الإعلام أو كلية الآداب، قسم صحافة، بجامعة القاهرة؛ لكنّ مكتب تنسيق الثانوية رشحني لكلية الآداب جامعة عين شمس، واكتشفتُ عدم وجود قسم للصحافة بآداب عين شمس، فكتبتُ أول رغبة للالتحاق بقسم اللغة العربية (فتحوا قسم الصحافة بالكلية بعد عشرين عامًا) وكانت سعادتي بالغة وأنا أقعدُ للدراسة أمام قامات نقدية مثل د. عزالدين إسماعيل، ود. مهدي علام، ود. أحمد مرسي الذي جاءنا مُنتدبًا من «آداب» القاهرة أستاذًا للأدب الشعبي، َودرَّسَ لنا د. رمضان عبدالتواب فقه اللغة العربية، في حين دَرَّسَ د. محمد عبدالمطلب لنا البلاغة عند عبدالقاهر الجرجاني، أما د. صلاح فضل فقد دَرَّسَ لنا نظرية النقد البنيوي، ودَرَّسَ لنا د. عبدالقادر القط مناهج النقد الأدبي الحديث بالسنة الرابعة بالكلية، وكتابه الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر (الذي نال لاحقًا جائزة الملك فيصل العالمية في الآداب)، وهكذا اكتملت عندي وامتلكتُ مفردات أدوات الكتابة الأدبية بعد دراسة نماذج القصة القصيرة والرواية والشّعر والتطبيقات النقدية.

نصيحة بكتابة القصة 
•  بدأتَ بكتابة الشعر... لماذا هجرت كتابته؟
- بدأت بكتابة الشعر، وحققت عدة مراكز متقدمة في المسابقات الأدبية على مستوى المحافظة بالصفين الأول والثاني الثانوي، وتوقّفت بالثالث استعدادًا لامتحان الثانوية العامة، وفي السنة الأولى بالجامعة حصدتُ المركز الثاني على مستوى جامعات مصر في مسابقة العيد الألفي للأزهر، بقصيدة عمودية موزونة ومقفّاة من 30 بيتًا، ولولا المؤامرة لحصدت الجائزة الأولى، حيث تقدّم للمسابقة شاعر حاصل على درجة الدكتوراه، يعملُ مُدرسًا بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، والمسابقة خاصة بالطلاب الذين يدرسون بسنوات الدراسة من الأولى حتى الرابعة، وتقدمتُ بشكوى لإدارة المسابقات بجامعة الأزهر، ضد الدكتور الذي سرق جائزة مخصصة للطلاب، فهو مدرس بالجامعة ولا يحقُّ اشتراكه بالمسابقة، وكان الدكتور يعمل بها، وأنا طالب بالسنة الأولى بجامعة عين شمس، وانتهى الموضوع بحفظ التحقيق، وأصبتُ بغصّةٍ ومرارةٍ نتيجة الفساد الذي صاحب تنظيم وتحكيم وإعلان الجائزة.
في السنة الثانية اشتركتُ بمهرجان الشعر الذي تنظمه كلية الآداب جامعة عين شمس بين شعراء كليات الجامعة، وفي هذا المهرجان اقتربتُ كثيرًا من د. عبدالقادر القط، الذي كان يُدَرِّسُ لنا كيفية قراءة النص الأدبي وتذوقه وآليات الكتابة ومناهجها وبنيتها وأدواتها، فسمع قصيدتي وأثنى عليها، وسألني: هل تكتبُ القصة القصيرة؟ فاندهشت، وعندما قرأ ملامح الدهشة تملأ وجهي ابتسم قائلًا: قصيدتك تسرد أحداث قصة قصيرة، وطلب أن يقرأ ما أكتبه، بعد أسبوع كان د. القط يجلس على مكتبه يقرأ بعض قصصي القصيرة، ثم قال: أراك أكثر في القصة القصيرة.
واختار قصة أعجبته وناقشني فيها، ثم نشرها عام 1983 بمجلة إبداع، التي كان رئيس تحريرها، وذلك بعد قصة للدكتور يوسف إدريس، وبعد تشجيع د. القط، وجدتني أهجرُ الشعر؛ لأكتبَ القصة القصيرة والرواية.

جدّتي حكّاءة ماهرة
• كيف أثّرت جدتك في تشكيل وجدانك، وكيف كانت ملهمتك في كتابة القصة والرواية؟
- كانت جدتي لأمي - يرحمها الله - حكاءة ماهرة، وقد أهديتها أحد كتبي اعترافًا بفضلها في الحكايات المُدهشة التي سمعتها، فقد كانت شهرزاد الخاصة بي، وبعد رحيل أخوالي وجدّي، باتت جدتي وحيدة، فاختارتني لأعيش معها أكثر من 10 سنوات، وفي بيت جدتي راديو سمعتُ منه حكايات ألف ليلة وليلة في شهر رمضان، وجدتني أحلَّقُ في سماوات الخيال، وأعيشُ مع ضوء القمر الذي يدخل غرفة جدي الكبيرة من شباكها المكسور، وكانت النجوم تدخل غرفتنا، بل تجلس بجواري لتسمعَ حكايات جدتي الجذابة والمشوقة.
 لا أزال أتذكر جدتي قبل المغرب في فصل الشتاء، وهي منهمكة في تجهيز كومة من قطع الخشب الصغيرة بالبلطة الصغيرة المسنونة، ثم تضع القطع الخشبية في جانب الغرفة، حتى تكون قريبة من راكية النار التي تشعلها قبل أذان المغرب، وتظل مشتعلة حتى نصف الليل، وعلى راكية النار أستمتع بحكاياتها عن الجنّ والعفاريت.
كانت جدتي حكاءة مدهشة، تتقمصُ أحداث القصة التي ترويها، وتنفعلُ بها، ويمكن أن تراها وهي تشير بالعصا التي في يدها وكأنها سيف بالمعركة، وكان صوتها يعلو وينخفض، أو تصرخُ ثم تهمسُ، حسب سير الأحداث في الحكاية، تحكي قصة جدي الشهيرة مع العفريت الذي تمثَّلَ له في ليلة ممطرة ظلماء حمارًا «يبرطع» وينهق ويجري أمامه، وتحكي جدتي كيف قفز جدي على ظهر هذا الحمار في لمح البصر، وكيف غرز مسمار العصا في رقبته!
 تعتدلُ جدتي وتقتربُ من راكية النار مُؤكدةً: نعم جدك ركب العفريت/ الحمار حتى دكان الشيخ أحمد وهبة؛ ليشتري «باكو دخان»، ودفتر ورق البفرة، وقرطاس شاي، وقُمع سكر، ففتحت فمي مُندهشًا وأنا ابن سبع سنوات قائلًا: يعني جدّي ركب العفريت؟ تهزُّ جدتي رأسها مُتفاخرةً، ثم تغمز جمرات النار وتقلّبها في الراكية بعصا صغيرة في يدها، فتبصص النار وتلمع مثل عيون العفاريت في الظلام قائلة: 
«نعم يا ولدي جدّك ركب العفريت واشترى دخان وشاي وسكر واشترى لي حلاوة نبوت الغفير كمان»! 

حي السيدة زينب 
• مَنْ أَهَمُّ الكتّاب الذين تأثرت بهم خلال رحلتك مع الكتابة؟
- ذات ضُحَى كنتُ أركبُ مترو عبدالعزيز فهمي - حيث أسكنُ في حي الألف مسكن، آخر مصر الجديدة - في طريقي إلى كلية الآداب بمنطقة العباسية، كنتُ طالبًا بالسنة الثالثة بالكلية، ودومًا أجلسُ بجوار النافذة أتأملُ شوارع روكسي بمصر الجديدة، وفجأة وجدتُ الكاتب الكبير يحيى حقي يسيرُ على قدميه، بجوار سور حديقة الميرلاند في ضاحية روكسي، وكنتُ قد حضرتُ له بعض الندوات، قفزتُ من باب المترو الذي كان عادة يسيرُ ببطء، ووقفتُ فجأة أمامه لأسأله: لماذا كل هذا الحُبّ للسيدة زينب؟!
توقّف الأستاذ يحيى حقي مُندهشًا يتأملني، كان لا يعرفني، فأحسستُ بالربكة التي أحدثتُها والسؤال المفاجئ، فقلت له: أنا طالب بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة عين شمس، وندرس رواية قنديل أم هاشم هذا العام، هَزَّ الأستاذ رأسه وردَّ مُبتسمًا: أهلًا وسهلًا، وأعدت عليه سؤالي مرة ثانية: نظر ناحيتي مُستفسرًا: هل تسكن السيدة زينب؟ فأجبتُ: لا، فقال: اذهب واسكن حي السيدة زينب حتى تعرفَ إجابة سؤالك، وتركني واقفًا وأكمل سيره المعتاد.
في السنة التالية بحثتُ عن سكن جديد، وسكنتُ شارع الناصرية قريبًا من ميدان السيدة زينب، وبعد عشر سنوات من هذا اللقاء كتبتُ رواية: «مواقيت الصمت» عن حيّ السيدة زينب الذي عشتُ فيه، وأهديتُها للكاتب الكبير يحيى حقي.  

العمل الإداري يسرق عُمر الأديب
• كيف أثّرت الوظيفة على مشروعك الروائي؟
- بالفعل عملتُ بوزارة التربية والتعليم عشر سنوات، وكتبتُ روايتي الأولى: يوميات مدرس البنات، وتقدمتُ في مسابقة نادي القصة بالقاهرة، ويوم تكريمي وتسلّم الجائزة من فاروق حسني (وزير الثقافة وقتها)، طلبتُ منه العمل بالمجلس الأعلى للثقافة، فوافق على انتدابي فورًا وسط تصفيق الحضور، وانتقلت عام 2000 للعمل بإدارة النشر بالمجلس الأعلى للثقافة عشر سنوات، وبعد ثورة 25 يناير عام 2011، وتعيين د. عماد أبو غازي وزيرًا للثقافة، قرأتُ إعلانًا بالصحف عن مسابقة لشغل وظائف قيادية عدة بوزارة الثقافة، تقدمتُ لشغل إحدى الوظائف، ونجحتُ في المسابقة، وصدر القرار الوزاري بتعييني مُديرًا عامًا للشؤون الأدبية والمسابقات بالمجلس الأعلى للثقافة، وأعدتُ إصدار كتاب المواهب لشباب الأدباء تحت سن الخامسة والثلاثين، ونظمتُ مسابقة المواهب الأدبية بمجالات القصة القصيرة والرواية والشعر، وقدّمت مسابقة المواهب أسماء جديدة للحركة الأدبية من محافظات الصعيد البعيدة عن دائرة الضوء، ونشرتُ إنتاجهم الأدبي بسلسلة كتاب المواهب، بعد ثلاث سنوات خرج رئيسي للمعاش، فأصدر الأمين العام للمجلس وقتها، د. سعيد توفيق، قراره بتعييني رئيس الإدارة المركزية للشؤون الأدبية والمسابقات بالمجلس، بدرجة وكيل وزارة.
نعم بالفعل، العمل الإداري مُعطلٌ ويسرقُ عمر الأديب، على مدار هذه السنوات انشغلتُ بتنظيم مسابقة المواهب وتحكيمها وطباعة كتاب المواهب، ومتابعة عملي الإداري، كنتُ أعملُ خمس عشرة ساعة يوميًا، ولم أكتبْ إلا مجموعة قصصية واحدة ونصف رواية، وهكذا تعطلَّ مشروعي الروائي وتوقّف بسب العمل الإداري.

الجوائز الأدبية وانتشار الرواية
• هل ستظل الرواية تُسيطرُ على سوق النشر والتوزيع في العالم العربي؟
- نحن أحفاد شهرزاد الحكاءة الشهيرة في تاريخ السرد العربي، ونحن أبناء الجدات اللاتي ورثن الحكي عن شهرزاد، وكنتُ محظوظًا جدًا أن عشت مع جدتي في بيتها 10 سنوات، وقد تعلمتُ السرد وفنّ الحكي من جدتي، كما تعلمتُ أقصُّ وأتابعُ عين من يستمعُ لي، إذا وجدتُهُ مشدودًا ناحيتي أو مُعجبًا بما أسردُهُ، أطمئنُ وأزيدُهُ دهشةً وتعجبًا، أما إذا وجدته مُنشغلًا أو مُنصرفًا عنّي أو يتثاءبُ، أدرك وجوب التوقف عن السردِ فورًا.
الشعوب العربية ورثت متعة الاستمتاع بقراءة الرواية من جداتهن القريبات، أو من جداتهن البعيدات، مثل شهر زاد؛ لهذا نجحت الرواية في الانتشار الواسع، وزادتها انتشارًا الجوائز الكبرى التي أسست لها، مثل: البوكر العربية، وكتارا، والطيب صالح، وستظلُّ الرواية تُسيطرُ على سوق التوزيع، نظرًا لإقبال الكثير من القراء على شرائها وقراءتها.

النقاد والتحكيم 
• كيف ترى دور الحركة النقدية، وهل أنصفك النقد الأدبي؟
- الحركة النقدية باتت لا تستطيع مواكبة حركة المطابع اليومية، التي تطبعُ مئات الروايات ودواوين الشعر كل شهر، إضافة إلى قلة الدوريات الثقافية والصحف اليومية المتاحة أمام النقاد، وهناك جملة مشهورة: أن الصفحة الثقافية بالصحف الإخبارية آخر صفحة تُجمعُ، وأول صفحة تُحذفُ أو تُؤجلُ إذا جاء إعلان للجريدة، أضف إلى ذلك ضعف المقابل المادي الذي يعودُ على الناقد بعد نشر مقاله أو دراسته، يظلُّ الناقد يُتابعُ الجريدة أو المجلة حتى تنشرَ مقالته، ثم يظلّ يتابعُهَا ويُطاردها حتى تصرفَ مقابل ما تنشره؛ ولهذا انصرفَ الكثير من النقاد عن متابعة الأعمال الأدبية، حتى يستريحوا من عناء القراءة والكتابة، وانشغلوا بالتحكيم في المسابقات التي تعود عليهم بالربح الوفير، ربما كنتُ كاتبًا محظوظًا باهتمام الكثير من النقاد بمتابعة أعمالي القصصية والروائية وقراءتها والكتابة عنها، وحتى الآن توجد خمس رسائل ماجستير ودكتوراه سجلت وباتت قيد المناقشة قريبًا حول مشروعي الروائي بالجامعات المصرية ■