الرؤية المأساوية

أذكر أن الناقد الأمريكى Murray Krieger ألَّف كتابًا لفت انتباهي، فاشتريته ولا أزال أحتفظ به وأعود إليه الحين بعد الحين، وعنوان الكتاب هو The Tragic Vision، االرؤية التراجيديةب أو االرؤية المأساويةب. وقد تكوَّن في ذهني - بعد تجارب وتطبيقات عديدة على الأدب - أن الرؤية المأساوية هي الرؤية المتشائمة ميتافيزيقيًّا وفيزيقيًّا على السواء.
أعني أنها الرؤية السوداوية التي تسيء الظن بالبشر إلى أبعد حد، وتتصورهم مجموعة من الوحوش في غابة، هي الحياة الدنيا التي نحياها، والتي هي صراع وحشي بين البشر، خصوصًا هؤلاء الذين يفقدون بشريتهم أو إنسانيتهم، فيتحوَّلون إلى كائنات متوحشة كالحيوانات المفترسة، يفترس بعضها البعض، وينكِّل بعضها بالبعض الآخر، فهي وحوش في غابة لا مجال فيها إلا للقوة المتوحشة التي لا تعرف أي معنى من معاني الإنسانية أو الرحمة أو الشفقة، أو حتى المروءة التي قد تجعل بعضهم يعطف على البعض.
فلا مجال للسلام أو الشفقة أو التعاطف في هذه الغابة الوحشية التي تخلو من معنى أن يكون الكائن البشري إنسانًا، يجمع في إهابه معاني الأنس والمؤانسة والإيناس أو الإمتاع، فلا إمتاع ولا مؤانسة ولا إيناس ولا أنس في هذه الغابة الوحشية.
وعندما يتحول العالم إلى غابة في عيني الشاعر ولا يرى منه إلا هذا الجانب الوحشي القاتم، تغدو الرؤية المأساوية أمرًا حتميًّا، حاضرة في شعره، فارضة نفسها على قصائده.
وقد يبدأ الأمر بسيطًا يَرِد على سبيل الإشارة القصيرة، التي قد لا نتوقف عندها، فعندما نقرأ - مثلًا - في شعر صلاح عبدالصبور:
هذا زمن الحق الضائع
لا يعرف فيه مقتول مَن قاتله ومتى قتله
ورؤوس الناس على جثث الحيوانات
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك!
فتحسس رأسك!
رؤية مأساوية
ندرك بعض هذه الرؤية المأساوية في ملمح من ملامحها، أو مجلى من مجاليها، خصوصًا حين تقترن الإشارة إلى الزمن الإنساني بالحق الضائع، أو العكس، كما لو كان غياب الحق هو الوجه الآخر لغياب العدل، وغياب العدل هو الناتج الطبيعي لغياب الحرية، وغياب الحرية هو اللازمة المنطقية لغياب معنى الجمال.
وعندما يخلو العالم من قيم الحق والجمال والحرية والعدل، فما الذي فيه كي يغدو عالمًا إنسانيًّا؟! إنه يفقد إنسانيته ما فَقَد لوازمها. ومن ثم يغدو عالمًا فاقدًا للإنسانية، عالمًا وحشيًّا لا محالة. هكذا ينطلق السؤال المأساوي على كل لسان، كي يعرف كل إنسان كُنه حقيقته، أو حقيقة وجوده في عالم الإنس الذي يتحول إلى نقيضه إذا غابت عنه قيم الأنس التي هي مصدر الإيناس في الوجود.
أعني القيم التي تغدو الحياة غابة بدونها، ويتحول الإنساني من حضوره الإنسي إلى حضوره الوحشي. وفي ذلك تكمن دلالات الإشارة إلى تحسّس الرأس الذي تكمن في خلايا مكوناته وذاكرته كل القيم والمبادئ وأحوال الحضور في كون متصالح مع أنس الإنسان وإيناسه في الوجود أو الكون، أو غياب كل هذا وحضور نقيضه الحيواني الوحشي.
حضور يغيب فيه الإنسان
لكن هذه اللمحة القصيرة التي وردت في إحدى قصائد ديوان «أقول لكم» تحوَّلت إلى قصيدة كاملة تنطق هذه الرؤية المأساوية الحزينة والمتوحدة في ديوان «أحلام الفارس القديم». أعني أن هذا الفارس الذي فقد كل شيء، ووجد نفسه بلا حول ولا قوة، وحيدًا متوحدًا على رصيف عالم يموج بالتخليط والقمامة، لا يعرف معنى الحب أو الرحمة أو التعاطف، في كون خلا من الوسامة والأنس والإيناس بكل لوازمها الإنسانية، فأكسب كائنه المتوحد التعتيم والجهامة، وألقاه منفردًا متوحدًا بلا أنيس، في وجود حضور يغيب فيه الإنسان.
هكذا يخاطب هذا الكائن المتوحد عالمه الوحشي مرتديًا قناعًا من أقنعة الصوفية، وهو قناع تاريخي يستعير ملامح وجه صوفي تاريخي من صوفية القرن الثالث للهجرة. هو الصوفي بِشر الحافي، الذي يحدثنا التاريخ عنه قائلًا: «أبوالنصر، بشر بن الحارث، كان قد طلب الحديث، وسمع سماعًا كثيرًا، ثم مال إلى التصوف، ومشى يومًا في السوق، فأفزعه الناس، فخلع نعليه ووضعهما تحت إبطيه، وانطلق يجري في الرمضاء، فلم يدركه أحد، وكان ذلك سنة سبع وعشرين ومئتين».
هذه هي المعلومات التاريخية التي يذكرها صلاح عبدالصبور عن الصوفي بشر الحافي، الذي يتخذه قناعًا لنفسه. أعني قناعًا يستبطن من خلاله أحواله النفسية التي هي رؤية مأساوية للعالم على نحو ما يصفها الناقد الأمريكي م. كريجر عن الرؤية المأساوية.
رؤية فلسفية
لكنها في حالة عبدالصبور هي رؤية تتجاوز حتى المعنى المأساوي البسيط، لتجعل منه معنى كونيًّا أقرب إلى أن يكون رؤية سوداء للوجود، في حضوره المعتم الذي يبعد عنه تمامًا نور اليقين وبرد القلب وأنس الحياة.
وهي دلالات تومئ إلى رؤية فلسفية يتجاوب فيها الموت مع الحياة، أو يُهيمن فيها الموت على الوجود، والوحشية على الإنسان، وميتافيزيقا العبث على فيزيقا الحضور. وتختلط في هذه الرؤية أفكار فلاسفة ومفكرين من أمثال سورين كيركجارد، وعبثية ألبير كامي، وتشاؤمية كافكا وسوداويته مع رؤية شوبنهاور، وفريدريك نيتشه في كتابه «هكذا تكلم زرادشت»، مع السوداوية القاتمة التي تفرض نفسها على العوالم القصصية لألبير كامي في «الطاعون»، وجوزيف كونراد في «قلب الظلمات»، وهرمان مليفيل في «موبى ديك»، وأقرانهم من مبدعي الرؤية السوداوية أو المأساوية لعالم يموج بسوء الظن بالإنسان.
وأضف إلى هذا كل المبدعين والفلاسفة والمفكرين الذين لم يروا في العالم سوى الشر، ولم يروا في الإنسان سوى وحش مفترس لا يعرف سوى نوازع العنف التي تؤدي به إلى افتراس غيره من البشر، كما لو كان كائنًا وحشيًّا، لا يعرف الحب ولا الرحمة على الإطلاق، فهو وحش في هيئة إنسان، لا يكف عن النهش والافتراس والسعار الذي يسيطر عليه ويدفعه إلى أن يغرز أنيابه في أجساد البشر، بمن فيهم أقرب الناس إليه وأحبهم إلى نفسه.
شأن عجيب
لم يكن بِشر الحافي في القصيدة التي كتبها عبدالصبور عنه، سوى قناع من أقنعة عبدالصبور، شأنه في ذلك شأن عجيب بن الخصيب، الذي اتخذه صلاح قناعًا آخر لنفسه، خصوصًا في بحثه عن اليقين، داخل عالم يخلو من اليقين ونوره، تمامًا كما اتخذ شخصية «الحلاج» قناعًا ثالثًا بنى عليه مسرحيته الشهيرة مأساة الحلاج.
و«القناع» - في الغالب - شخصية تاريخية يستعيرها الشاعر ليختفي وراءها وينطق من ورائها صوته، وذلك على نحو يجعل من القناع بوقًا آخر ينطق صوت الشاعر، ولكن على نحو يمزج صوت الشاعر بصوت القناع التاريخي في علاقة متبادلة الأطراف، ناتج التفاعل بين طرفيها هو نوع من الاستعارة بالمعنى البلاغي الذي يمزج بين صوتين، يتضافر فيهما الأصل التاريخي للقناع مع صوت الشاعر المعاصر في تجربته الوجدانية أو رؤيته للوجود الإنساني، وذلك على نحو أشبه بأن تضع أصابع اليد اليمنى داخل أصابع اليد اليسرى، فترى الأصابع كلها متداخلة مع غيرها، على نحو يوحى إليك أنك لا تستطيع التمييز بينهما، ولكن التأمل الدقيق يكشف للقارئ المتخصص عن مدى التمييز بين طرفي الاستعارة، وأصلها التشبيه الذي يفيد معنى الغيرية لا معنى العينية التي تنطوي على طرف واحد. هكذا نقرأ الجزء الأول من قصيدة مذكرات الصوفي بِشر الحافي، على النحو التالي:
حين فقدنا الرضا
بما يريد القضا
لم تنزل الأمطار
لم تورِق الأشجار
لم تلمع الأثمار
حين فقدنا الرضا
حين فقدنا الضحكا
تفجّرت عيوننا... بُكا
حين فقدنا هدأة الجنب
على فراش الرضا الرحب
نام على الوسائد
شيطان بغض فاسد
معانقي، شريك مضجعي، كأنما
قرونه على يدي
حين فقدنا جوهر اليقين
تشوَّهت أجِنَّة الحبالى في البطون
الشعر ينمو في مغاور العيون
والذقن معقود على الجبين
جيل من الشياطين
جيل من الشياطين
معنى الرضا
والشاعر في هذا المقطع يتحدث كما لو كان صوفيًّا يتحدث عن وضع الإنسان حين يفقد معنى الرضا الذي يصله بالتسليم بقدره ويستكين إليه، رافضًا القدرة على الضحك التي تتصل بالأنس الذي هو أصل الإيناس والائتناس بالآخر.
وهو في حالة التوحد السوداوي الذي يقترن برفض الاعتراف بقدرة الواحد الأحد على تقرير مصائر العباد، فإذا وصل الإنسان إلى الشك في هذه القدرة تحوَّلت حياته إلى مأساة، ومن ثم أنشأ لنفسه أو خلق لها أو توهَّم أنه جعل لنفسه قرينًا، لكن يصبح هذا القرين شيطانَ بغض فاسدًا، يغدو وجهًا ثانيًا للشاعر الذي يتحول إلى كائنين أو ذات إنسانية تعانق ذاتًا شيطانية. وهو أمر يترتب عليه وضع كوني أقرب إلى التوحش أو إلى فقدان المعنى الذي يُحيل البشر إلى أجيال متتابعة من الشياطين. ثم يأتي المقطع الثاني، لنقرأ فيه:
احرص ألا تسمع
احرص ألا تنظر
احرص ألا تلمس
احرص ألا تتكلم
قف!...
وتعلَّق في حبل الصمت المُبرم
ينبوع القول عميق
لكنّ الكفّ صغيرة
من بين الوسطى والسبابة والإبهام
يتسرب في الرمل... كلام
وأفعال الأمر الكثيرة والمتكررة في المقطع علامة على ضرورة الصمت وإمعان النظر في التحول الذي يحدث في الإنسان حين يبلغ هذه الحال التي يصبح فيها الإنسان شيطانًا والشيطان إنسانًا. وهي حال تستدعي الصمت وعدم الكلام وإمعان النظر لتلمّس جوهر الأحوال وتأمل دلالاتها التي تصل بنا إلى معناها. أعني المعنى الذي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات العادية التي ليست سوى إشارات إلى معانٍ معروفة. فالمعاني التي يتحدث عنها الشاعر هنا أو يشير إليها هي معانٍ غير معروفة، وفوق إدراك البشر، ومثل هذه المعاني لا تعبّر عنها الكلمات في استخداماتها العادية، فالكلمات تحتاج إلى أن تُعدَّل وتدخل في علاقات غير عادية كي تعبّر عن ينبوع القول الأعمق أو عن مراميه الخفية المسكوت عنها. وهكذا ننتقل إلى المقطع الثالث الذي يقول:
ولأنك لا تدري معنى الألفاظ، فأنت تناجزني بالألفاظ
اللفظ حجر
اللفظ منية
فإذا ركَّبت كلامًا فوق كلام
من بينهما استولدت كلام
لرأيت الدنيا مولودًا بشعًا
وتمنيت الموت
أرجوك...
الصمت...
الصمت
منظور صوفي متوحد
هذا المقطع أراه واحدًا من أهم المقاطع الشعرية التي تتحدث عن اللغة، لكن من خلال منظور صوفي متوحد، قادر على أن يرى ما لا يراه غيره، وذلك لأنه قادر على أن يجسِّد بكلماته ما لا يتجسد، ومستطيع بألفاظه أن يُنطق كل مسكوت عنه.
كما أنه قادر على أن ينسج بكلماته خطوطًا إذا تمعنّا النظر في علاقاتها، رأينا ما يُفضى بنا إلى مواجهة رعب العالم وبشاعته، وذلك إلى الدرجة التي يمكن أن يرعبنا فيها الحضور المفاجئ لوحشية العالم الذي نكاد نتمنى معه الموت، فنصرخ في أعماقنا صامتين، عاجزين عن النطق أو الكلام، وذلك على نحو يبدو معه صمتنا المرعوب الأخرس كلامًا أفظع من كل كلام.
أعني كلامًا لا يُنطق أو يبين؛ لأنه يتحول من نطق إلى صمت، وذلك بالقدر الذي يتحول به الصمت إلى بلاغة، هي في ذاتها دعوة خالصة إلى الصمت في تأمل الحضور المرعب لهذا الوجه المُخيف الذي لم نكن نعرفه عن الوجود. هذا الوجه هو في حقيقته قلب الوجود. أعني قلب الظلمات الذي يضعنا وجهًا لوجه في مواجهة الحقيقة المرعبة أو الموجعة أو المؤلمة، أو الحقيقة التي تتحول إلى مرآة لا نرى فيها سوى معنى حضورنا في الوجود أو معنى حياتنا التي تصدمنا أو تدفعنا إلى أن نقول ما نقرأه في الجزء الرابع من القصيدة:
تظل ﺣﻘﻴﻘﺔ في القلب توﺟﻌﻪ ﻭﺗﻀﻨﻴﻪ
ﻭلو جفت ﺑﺤﺎﺭ القول لم ﻳُﺒْﺤﺮ ﺑﻬﺎ ﺧﺎﻃﺮ
ﻭلم ﻳﻨﺸﺮ ﺷﺮﺍﻉ ﺍلظن فوق ﻣﻴﺎﻫﻬﺎ ﻣﻼﺡ
ﻭذلك أن ﻣﺎ ﻧﻠﻘﺎﻩ ﻻ ﻧﺒﻐﻴﻪ
ﻭﻣﺎ ﻧﺒﻐﻴﻪ ﻻ ﻧﻠﻘﺎﻩ
ﻭهل ﻳﺮﺿيك أن أﺩعوك ﻳﺎ ﺿﻴفي ﻟمائدتي
ﻓﻼ ﺗلقى سوى ﺟﻴﻔﺔ؟
ﺗﻌﺎﻟﻰ الله، أنت ﻭﻫﺒﺘﻨﺎ هذﺍ ﺍلعذﺍب ﻭهذه ﺍﻵﻻﻡ
ﻷﻧﻚ ﺣﻴﻨﻤﺎ أﺑﺼﺮﺗﻨﺎ لم نحلُ في عينيك
ﺗﻌﺎﻟﻰ الله، ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﻮن موبوء، ﻭﻻ ﺑﺮء
ﻭلو ﻳﻨﺼﻔﻨﺎ ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ ﻋﺠّﻞ ﻧحوﻧﺎ ﺑﺎﻟموت
تعالى الله، ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﻮن ﻻ ﻳﺼﻠﺤﻪ شيء
ﻓﺄﻳﻦ ﺍﻟموت؟ أﻳﻦ ﺍلموت؟ أﻳﻦ الموت؟
خلال هذا المقطع نجد أنفسنا في مواجهة مأساة الكون نفسه التي تتحول فيها ميتافيزيقا الوجود إلى فيزيقا حضور الكائن المتوحد في حضرة الوجود. أعني الكائن الصغير الذي ينطوي على معنى الوجود، ولكنه إذا كُشُف عنه الحجاب ورأى ما لم يَره غيره من حقيقة هذا الوجود لفرَّ من رعب هذه الحقيقة المخيفة التي ينوء بحملها البشر، ويفرون منها؛ لأنهم لا يستطيعون أن يواجهوها أو يتحملوا عبئها. أعني ذلك العبء الذي يكون أسهل منه الموت. والبحث عن الموت بواسطة الانتحار عجزًا وخوفًا أو الوصول إلى اليأس المُطلق. هكذا نصل إلى المقطع الخامس الذي يقدِّم لنا بعض المفاتيح الصوفية لإدراك هذه الحقيقة، فنسمع حوارًا بين شيخ ومريد، والمريد هو بشر، أو القناع الذي يختفي وراءه الشاعر:
شيخي بسام الدين يقول:
يا بِشر.. اصبرْ
دنيانا أجمل مما تذكر
ها أنت ترى الدنيا من قمة وجدك
لا تبصر إلا الأنقاض السوداء
عالم وحشي
وبعد ذلك، وفي المقطع نفسه، ندخل مع بِشر إلى رؤياه، أو بعبارة أدق يُدخِلنا بِشر في رؤياه التي ليست سوى رؤيا صلاح عبدالصبور، فنرى بأعين الاثنين التي صارت أعيننا عالمًا وحشيًّا لغابة هي الكون بأسرِه، فنقرأ مندهشين متعجبين:
ونزلنا نحو السوق أنا والشيخ
كان الإنسان الأفعى يجهد أن يلتفّ على الإنسان
الكركي
فمشى من بينهما الإنسان الثعلب
عجبًا،...
زور الإنسان الكركي في فم الإنسان الثعلب
نزل السوقَ الإنسانُ الكلب
كي يفقأ عين الإنسان الثعلب
ويدوس دماغ الإنسان الأفعى
واهتز السوق بخطوات الإنسان الفهد
قد جاء ليبقر بطن الإنسان الكلب
ويمصّ نخاع الإنسان الثعلب
هكذا تكاد الصرخة تندفع من أعماقنا اندهاشًا واستغرابًا وتعجبًا من هذه الرؤيا التي لا نعرف لها أي أصل من الواقع، ولكن مع الأسف لها سند من الخيال الذي يمكن أن يصوغ الواقع في هيئات لا نعرفها، كما يمكن أن يصوغ الواقع على نحو لا ندركه ولا نتخيل حضوره، مع أنه موجود، ومع أننا نراه بأعيننا العادية، فما لا نراه من حقيقة هذا الكون الذى نحيا فيه والذي نسميه «عالم البشر»، هو حقيقة لم نرها بهذا القدر من الرعب أو الخوف الذي لا نتخيل معه أنه موجود في الكون، ولكنه موجود وإن كنا لا نراه، لكن طرائق التصوير الشعري تجعلنا نبدو كما لو كنا نتخيل أنفسنا في حضرته، فنقول مع الشاعر ما قاله في قصيدة أخرى.
صرخة ختامية
إن الألفاظ التي تلتف في الأثمال الرمزية تكشف جسد الكون، فتُبدي لنا حقيقته المرعبة الوحشية التي ترعبنا، فتدفعنا إلى أن نسأل ما يسأله بِشر لشيخه بسام الدين:
يا شيخي بسام الدين
قُل لي: أين الإنسان... الإنسان؟
فلا يملك الشيخ بسام الدين سوى أن يقول لنا ما قاله لبشر:
اصبر.. سيجيء
سيهلّ على الدنيا يومًا رَكبُه
فلا نملك إلا أن نصرخ مع بِشر الصوفي، متّحدين معه، أو حالين معه في صوت واحد يائس وعاجز:
«يا شيخي الطيب!
هل تدري في أي الأيام نعيش؟
هذا اليوم الموبوء هو اليوم الثامن
من أيام الأسبوع الخامس
من الشهر الثالث عشر
الإنسان الإنسان.. عبر
من أعوام
ومضى لم يعرفه بشر
حفر الحصباء، ونام
وتغطى بالآلام
هذه الصرخة الختامية في القصيدة ليست صرختنا على مستوى الواقع، لكنها صرخة بشر على مستوى الرمز والإشارة، ولذلك فإنها صرخة تجافي الواقع والمنطق؛ لأنها تتباعد بنا، عمدًا، عن الواقع والمعروف، ولذلك نقبل مفارقتها للواقع ومناقضتها له، ونكتفي بتأمل دلالاتها الرمزية كي تقودنا هذه الدلالات في تكامل أجزائها وفي تفاعل علاقاتها إلى المعنى الكلي والرمزي في القصيدة.
حقيقة مطلقة
وهو معنى يذكِّرنا بسعي الإنسان وراء اكتشاف الحقيقة المطلقة للكون أو الوجود، فتنتهي إلى الفشل الدائم في الإمساك بهذه الحقيقة؛ أو إدراكها في أقسى تجليات بشاعتها، خصوصًا إذا وصل إلى «قلب الظلام» من سوداوية توحده، أو «قلب الليل» في توحده المكتفي بعزلته، ومن ثم تخيله لحقيقة بشعة يتوهمها في معنى من معاني الوجود، أقصد إلى حقيقة لا يراها سواه عندما يفقد معنى إنسانيته المقترنة بالأنس والإيناس والائتناس بالآخر ومؤانسته، ولأن هذه الحقيقة في تجليها المطلق هي أعلى من أن تدركها حواس الإنسان، بل أسمى من أن يُدركها عقله، فهي حقيقة لا يمكن أن يدركها الإنسان إلا عن طريق اللمح أو الإشارة، أو حتى الاستنباط لما هو حسي متناثر الأجزاء متنافر الأطراف لا بد للعقل الصافي والروح الطاهر والقلب النقي من أن يتضافروا معًا للابتعاد عن حواس الدنيا الفانية ومغرياتها الزائلة، لكي يكونوا أخف من الريشة في الهواء، فيحلِّقوا صاعدين إلى حيث توجد الحقيقة المطلقة للكون الذي ينطوي على الإنسان المنغمس في الخطايا التي تجعل منه حيوانًا غريزيًّا أقرب إلى كائن وحشي لا يجاوز نفسه إلا ليؤذي غيره، فينتهي به الأمر إلى الموت بعد عذاب لم يعرفه بَشر، فيحفر في الأرض أو في القبر كي يتغطى بالآلام كأنه مسيح آخر عليه أن يفتدي نفسه أو أن يدفن ذاته الوحشية بذاته الإنسانية، فيعرف - من خلال الألم - كيف يستعيد إنسانيته فيدرك معنى الوجود من خلال الوجود، أو يدرك معنى الكلّي من خلال الجزئي.
قد نقول إن هذه القصيدة قصيدة ميتافيزيقية، وهي قصيدة ميتافيزيقية بالفعل، وقد يقول البعض إنها قصيدة متأثرة بالاتجاه الشعري الذي أسسه الشعراء الميتافيزيقيون في الشعر الإنجليزي خلال القرن السابع عشر أمثال: جون دن، وجون هيربرت، وهنري فون، وروبرت كرشوا، وأندرو مارفيل، وإبراهام كاولي وغيرهم من الشعراء.
وهذا أيضًا صحيح، فقد تأثر صلاح عبدالصبور تأثرًا كبيرًا بهؤلاء الشعراء كما تأثر بغيرهم من فلاسفة التشاؤم ذوي الرؤية السوداء إلى العالم، فنزع هذا المنزع الميتافيزيقي الذي يكشف في نهاية الأمر عن رؤيته المأساوية التي لم تقتصر على هذه القصيدة في معناها الفلسفي فحسب، وإنما امتدت إلى معانٍ أخرى وتجليات أخرى نراها في أعمال صلاح عبدالصبور الشعرية .
الناقد الأمريكى موراي كريجر