الرؤية المأساوية

الرؤية المأساوية

أذكر‭ ‬أن‭ ‬الناقد‭ ‬الأمريكى‭ ‬Murray Krieger‭ ‬ألَّف‭ ‬كتابًا‭ ‬لفت‭ ‬انتباهي،‭ ‬فاشتريته‭ ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬أحتفظ‭ ‬به‭ ‬وأعود‭ ‬إليه‭ ‬الحين‭ ‬بعد‭ ‬الحين،‭ ‬وعنوان‭ ‬الكتاب‭ ‬هو‭ ‬The Tragic Vision،‭ ‬االرؤية‭ ‬التراجيديةب‭ ‬أو‭ ‬االرؤية‭ ‬المأساويةب‭. ‬وقد‭ ‬تكوَّن‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ - ‬بعد‭ ‬تجارب‭ ‬وتطبيقات‭ ‬عديدة‭ ‬على‭ ‬الأدب‭ - ‬أن‭ ‬الرؤية‭ ‬المأساوية‭ ‬هي‭ ‬الرؤية‭ ‬المتشائمة‭ ‬ميتافيزيقيًّا‭ ‬وفيزيقيًّا‭ ‬على‭ ‬السواء‭.‬

أعني‭ ‬أنها‭ ‬الرؤية‭ ‬السوداوية‭ ‬التي‭ ‬تسيء‭ ‬الظن‭ ‬بالبشر‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬حد،‭ ‬وتتصورهم‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الوحوش‭ ‬في‭ ‬غابة،‭ ‬هي‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيا‭ ‬التي‭ ‬نحياها،‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬صراع‭ ‬وحشي‭ ‬بين‭ ‬البشر،‭ ‬خصوصًا‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬يفقدون‭ ‬بشريتهم‭ ‬أو‭ ‬إنسانيتهم،‭ ‬فيتحوَّلون‭ ‬إلى‭ ‬كائنات‭ ‬متوحشة‭ ‬كالحيوانات‭ ‬المفترسة،‭ ‬يفترس‭ ‬بعضها‭ ‬البعض،‭ ‬وينكِّل‭ ‬بعضها‭ ‬بالبعض‭ ‬الآخر،‭ ‬فهي‭ ‬وحوش‭ ‬في‭ ‬غابة‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬فيها‭ ‬إلا‭ ‬للقوة‭ ‬المتوحشة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬أي‭ ‬معنى‭ ‬من‭ ‬معاني‭ ‬الإنسانية‭ ‬أو‭ ‬الرحمة‭ ‬أو‭ ‬الشفقة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬المروءة‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تجعل‭ ‬بعضهم‭ ‬يعطف‭ ‬على‭ ‬البعض‭. ‬

فلا‭ ‬مجال‭ ‬للسلام‭ ‬أو‭ ‬الشفقة‭ ‬أو‭ ‬التعاطف‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الغابة‭ ‬الوحشية‭ ‬التي‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الكائن‭ ‬البشري‭ ‬إنسانًا،‭ ‬يجمع‭ ‬في‭ ‬إهابه‭ ‬معاني‭ ‬الأنس‭ ‬والمؤانسة‭ ‬والإيناس‭ ‬أو‭ ‬الإمتاع،‭ ‬فلا‭ ‬إمتاع‭ ‬ولا‭ ‬مؤانسة‭ ‬ولا‭ ‬إيناس‭ ‬ولا‭ ‬أنس‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الغابة‭ ‬الوحشية‭.‬

وعندما‭ ‬يتحول‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬غابة‭ ‬في‭ ‬عيني‭ ‬الشاعر‭ ‬ولا‭ ‬يرى‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬الوحشي‭ ‬القاتم،‭ ‬تغدو‭ ‬الرؤية‭ ‬المأساوية‭ ‬أمرًا‭ ‬حتميًّا،‭ ‬حاضرة‭ ‬في‭ ‬شعره،‭ ‬فارضة‭ ‬نفسها‭ ‬على‭ ‬قصائده‭.‬

وقد‭ ‬يبدأ‭ ‬الأمر‭ ‬بسيطًا‭ ‬يَرِد‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الإشارة‭ ‬القصيرة،‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬نتوقف‭ ‬عندها،‭ ‬فعندما‭ ‬نقرأ‭ - ‬مثلًا‭ - ‬في‭ ‬شعر‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭: ‬

 

هذا‭ ‬زمن‭ ‬الحق‭ ‬الضائع

لا‭ ‬يعرف‭ ‬فيه‭ ‬مقتول‭ ‬مَن‭ ‬قاتله‭ ‬ومتى‭ ‬قتله

ورؤوس‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬جثث‭ ‬الحيوانات

ورؤوس‭ ‬الحيوانات‭ ‬على‭ ‬جثث‭ ‬الناس

فتحسس‭ ‬رأسك‭!‬

فتحسس‭ ‬رأسك‭!‬

 

رؤية‭ ‬مأساوية

ندرك‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬المأساوية‭ ‬في‭ ‬ملمح‭ ‬من‭ ‬ملامحها،‭ ‬أو‭ ‬مجلى‭ ‬من‭ ‬مجاليها،‭ ‬خصوصًا‭ ‬حين‭ ‬تقترن‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬الزمن‭ ‬الإنساني‭ ‬بالحق‭ ‬الضائع،‭ ‬أو‭ ‬العكس،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬غياب‭ ‬الحق‭ ‬هو‭ ‬الوجه‭ ‬الآخر‭ ‬لغياب‭ ‬العدل،‭ ‬وغياب‭ ‬العدل‭ ‬هو‭ ‬الناتج‭ ‬الطبيعي‭ ‬لغياب‭ ‬الحرية،‭ ‬وغياب‭ ‬الحرية‭ ‬هو‭ ‬اللازمة‭ ‬المنطقية‭ ‬لغياب‭ ‬معنى‭ ‬الجمال‭.‬

وعندما‭ ‬يخلو‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬الحق‭ ‬والجمال‭ ‬والحرية‭ ‬والعدل،‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬فيه‭ ‬كي‭ ‬يغدو‭ ‬عالمًا‭ ‬إنسانيًّا؟‭! ‬إنه‭ ‬يفقد‭ ‬إنسانيته‭ ‬ما‭ ‬فَقَد‭ ‬لوازمها‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يغدو‭ ‬عالمًا‭ ‬فاقدًا‭ ‬للإنسانية،‭ ‬عالمًا‭ ‬وحشيًّا‭ ‬لا‭ ‬محالة‭. ‬هكذا‭ ‬ينطلق‭ ‬السؤال‭ ‬المأساوي‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬لسان،‭ ‬كي‭ ‬يعرف‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬كُنه‭ ‬حقيقته،‭ ‬أو‭ ‬حقيقة‭ ‬وجوده‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الإنس‭ ‬الذي‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬نقيضه‭ ‬إذا‭ ‬غابت‭ ‬عنه‭ ‬قيم‭ ‬الأنس‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬مصدر‭ ‬الإيناس‭ ‬في‭ ‬الوجود‭. ‬

أعني‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬تغدو‭ ‬الحياة‭ ‬غابة‭ ‬بدونها،‭ ‬ويتحول‭ ‬الإنساني‭ ‬من‭ ‬حضوره‭ ‬الإنسي‭ ‬إلى‭ ‬حضوره‭ ‬الوحشي‭. ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬تكمن‭ ‬دلالات‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬تحسّس‭ ‬الرأس‭ ‬الذي‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬خلايا‭ ‬مكوناته‭ ‬وذاكرته‭ ‬كل‭ ‬القيم‭ ‬والمبادئ‭ ‬وأحوال‭ ‬الحضور‭ ‬في‭ ‬كون‭ ‬متصالح‭ ‬مع‭ ‬أنس‭ ‬الإنسان‭ ‬وإيناسه‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬أو‭ ‬الكون،‭ ‬أو‭ ‬غياب‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬وحضور‭ ‬نقيضه‭ ‬الحيواني‭ ‬الوحشي‭.‬

 

حضور‭ ‬يغيب‭ ‬فيه‭ ‬الإنسان

لكن‭ ‬هذه‭ ‬اللمحة‭ ‬القصيرة‭ ‬التي‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬قصائد‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬أقول‭ ‬لكم‮»‬‭ ‬تحوَّلت‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬كاملة‭ ‬تنطق‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬المأساوية‭ ‬الحزينة‭ ‬والمتوحدة‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬أحلام‭ ‬الفارس‭ ‬القديم‮»‬‭. ‬أعني‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الفارس‭ ‬الذي‭ ‬فقد‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬ووجد‭ ‬نفسه‭ ‬بلا‭ ‬حول‭ ‬ولا‭ ‬قوة،‭ ‬وحيدًا‭ ‬متوحدًا‭ ‬على‭ ‬رصيف‭ ‬عالم‭ ‬يموج‭ ‬بالتخليط‭ ‬والقمامة،‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬معنى‭ ‬الحب‭ ‬أو‭ ‬الرحمة‭ ‬أو‭ ‬التعاطف،‭ ‬في‭ ‬كون‭ ‬خلا‭ ‬من‭ ‬الوسامة‭ ‬والأنس‭ ‬والإيناس‭ ‬بكل‭ ‬لوازمها‭ ‬الإنسانية،‭ ‬فأكسب‭ ‬كائنه‭ ‬المتوحد‭ ‬التعتيم‭ ‬والجهامة،‭ ‬وألقاه‭ ‬منفردًا‭ ‬متوحدًا‭ ‬بلا‭ ‬أنيس،‭ ‬في‭ ‬وجود‭ ‬حضور‭ ‬يغيب‭ ‬فيه‭ ‬الإنسان‭.‬

هكذا‭ ‬يخاطب‭ ‬هذا‭ ‬الكائن‭ ‬المتوحد‭ ‬عالمه‭ ‬الوحشي‭ ‬مرتديًا‭ ‬قناعًا‭ ‬من‭ ‬أقنعة‭ ‬الصوفية،‭ ‬وهو‭ ‬قناع‭ ‬تاريخي‭ ‬يستعير‭ ‬ملامح‭ ‬وجه‭ ‬صوفي‭ ‬تاريخي‭ ‬من‭ ‬صوفية‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬للهجرة‭. ‬هو‭ ‬الصوفي‭ ‬بِشر‭ ‬الحافي،‭ ‬الذي‭ ‬يحدثنا‭ ‬التاريخ‭ ‬عنه‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬أبوالنصر،‭ ‬بشر‭ ‬بن‭ ‬الحارث،‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬طلب‭ ‬الحديث،‭ ‬وسمع‭ ‬سماعًا‭ ‬كثيرًا،‭ ‬ثم‭ ‬مال‭ ‬إلى‭ ‬التصوف،‭ ‬ومشى‭ ‬يومًا‭ ‬في‭ ‬السوق،‭ ‬فأفزعه‭ ‬الناس،‭ ‬فخلع‭ ‬نعليه‭ ‬ووضعهما‭ ‬تحت‭ ‬إبطيه،‭ ‬وانطلق‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬الرمضاء،‭ ‬فلم‭ ‬يدركه‭ ‬أحد،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬سنة‭ ‬سبع‭ ‬وعشرين‭ ‬ومئتين‮»‬‭.‬

هذه‭ ‬هي‭ ‬المعلومات‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬يذكرها‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬عن‭ ‬الصوفي‭ ‬بشر‭ ‬الحافي،‭ ‬الذي‭ ‬يتخذه‭ ‬قناعًا‭ ‬لنفسه‭. ‬أعني‭ ‬قناعًا‭ ‬يستبطن‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬أحواله‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬رؤية‭ ‬مأساوية‭ ‬للعالم‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬يصفها‭ ‬الناقد‭ ‬الأمريكي‭ ‬م‭. ‬كريجر‭ ‬عن‭ ‬الرؤية‭ ‬المأساوية‭.‬

 

رؤية‭ ‬فلسفية

لكنها‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬عبدالصبور‭ ‬هي‭ ‬رؤية‭ ‬تتجاوز‭ ‬حتى‭ ‬المعنى‭ ‬المأساوي‭ ‬البسيط،‭ ‬لتجعل‭ ‬منه‭ ‬معنى‭ ‬كونيًّا‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬رؤية‭ ‬سوداء‭ ‬للوجود،‭ ‬في‭ ‬حضوره‭ ‬المعتم‭ ‬الذي‭ ‬يبعد‭ ‬عنه‭ ‬تمامًا‭ ‬نور‭ ‬اليقين‭ ‬وبرد‭ ‬القلب‭ ‬وأنس‭ ‬الحياة‭.‬

وهي‭ ‬دلالات‭ ‬تومئ‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬فلسفية‭ ‬يتجاوب‭ ‬فيها‭ ‬الموت‭ ‬مع‭ ‬الحياة،‭ ‬أو‭ ‬يُهيمن‭ ‬فيها‭ ‬الموت‭ ‬على‭ ‬الوجود،‭ ‬والوحشية‭ ‬على‭ ‬الإنسان،‭ ‬وميتافيزيقا‭ ‬العبث‭ ‬على‭ ‬فيزيقا‭ ‬الحضور‭. ‬وتختلط‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬أفكار‭ ‬فلاسفة‭ ‬ومفكرين‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬سورين‭ ‬كيركجارد،‭ ‬وعبثية‭ ‬ألبير‭ ‬كامي،‭ ‬وتشاؤمية‭ ‬كافكا‭ ‬وسوداويته‭ ‬مع‭ ‬رؤية‭ ‬شوبنهاور،‭ ‬وفريدريك‭ ‬نيتشه‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬هكذا‭ ‬تكلم‭ ‬زرادشت‮»‬،‭ ‬مع‭ ‬السوداوية‭ ‬القاتمة‭ ‬التي‭ ‬تفرض‭ ‬نفسها‭ ‬على‭ ‬العوالم‭ ‬القصصية‭ ‬لألبير‭ ‬كامي‭ ‬في‭ ‬‮«‬الطاعون‮»‬،‭ ‬وجوزيف‭ ‬كونراد‭ ‬في‭ ‬‮«‬قلب‭ ‬الظلمات‮»‬،‭ ‬وهرمان‭ ‬مليفيل‭ ‬في‭ ‬‮«‬موبى‭ ‬ديك‮»‬،‭ ‬وأقرانهم‭ ‬من‭ ‬مبدعي‭ ‬الرؤية‭ ‬السوداوية‭ ‬أو‭ ‬المأساوية‭ ‬لعالم‭ ‬يموج‭ ‬بسوء‭ ‬الظن‭ ‬بالإنسان‭. ‬

وأضف‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬كل‭ ‬المبدعين‭ ‬والفلاسفة‭ ‬والمفكرين‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يروا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬سوى‭ ‬الشر،‭ ‬ولم‭ ‬يروا‭ ‬في‭ ‬الإنسان‭ ‬سوى‭ ‬وحش‭ ‬مفترس‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬سوى‭ ‬نوازع‭ ‬العنف‭ ‬التي‭ ‬تؤدي‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬افتراس‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬كائنًا‭ ‬وحشيًّا،‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الحب‭ ‬ولا‭ ‬الرحمة‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬فهو‭ ‬وحش‭ ‬في‭ ‬هيئة‭ ‬إنسان،‭ ‬لا‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬النهش‭ ‬والافتراس‭ ‬والسعار‭ ‬الذي‭ ‬يسيطر‭ ‬عليه‭ ‬ويدفعه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يغرز‭ ‬أنيابه‭ ‬في‭ ‬أجساد‭ ‬البشر،‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬أقرب‭ ‬الناس‭ ‬إليه‭ ‬وأحبهم‭ ‬إلى‭ ‬نفسه‭. ‬

 

شأن‭ ‬عجيب

لم‭ ‬يكن‭ ‬بِشر‭ ‬الحافي‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬عبدالصبور‭ ‬عنه،‭ ‬سوى‭ ‬قناع‭ ‬من‭ ‬أقنعة‭ ‬عبدالصبور،‭ ‬شأنه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬شأن‭ ‬عجيب‭ ‬بن‭ ‬الخصيب،‭ ‬الذي‭ ‬اتخذه‭ ‬صلاح‭ ‬قناعًا‭ ‬آخر‭ ‬لنفسه،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬بحثه‭ ‬عن‭ ‬اليقين،‭ ‬داخل‭ ‬عالم‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬اليقين‭ ‬ونوره،‭ ‬تمامًا‭ ‬كما‭ ‬اتخذ‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬الحلاج‮»‬‭ ‬قناعًا‭ ‬ثالثًا‭ ‬بنى‭ ‬عليه‭ ‬مسرحيته‭ ‬الشهيرة‭ ‬مأساة‭ ‬الحلاج‭. ‬

و«القناع‮»‬‭ - ‬في‭ ‬الغالب‭ - ‬شخصية‭ ‬تاريخية‭ ‬يستعيرها‭ ‬الشاعر‭ ‬ليختفي‭ ‬وراءها‭ ‬وينطق‭ ‬من‭ ‬ورائها‭ ‬صوته،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬القناع‭ ‬بوقًا‭ ‬آخر‭ ‬ينطق‭ ‬صوت‭ ‬الشاعر،‭ ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يمزج‭ ‬صوت‭ ‬الشاعر‭ ‬بصوت‭ ‬القناع‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬متبادلة‭ ‬الأطراف،‭ ‬ناتج‭ ‬التفاعل‭ ‬بين‭ ‬طرفيها‭ ‬هو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الاستعارة‭ ‬بالمعنى‭ ‬البلاغي‭ ‬الذي‭ ‬يمزج‭ ‬بين‭ ‬صوتين،‭ ‬يتضافر‭ ‬فيهما‭ ‬الأصل‭ ‬التاريخي‭ ‬للقناع‭ ‬مع‭ ‬صوت‭ ‬الشاعر‭ ‬المعاصر‭ ‬في‭ ‬تجربته‭ ‬الوجدانية‭ ‬أو‭ ‬رؤيته‭ ‬للوجود‭ ‬الإنساني،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬أشبه‭ ‬بأن‭ ‬تضع‭ ‬أصابع‭ ‬اليد‭ ‬اليمنى‭ ‬داخل‭ ‬أصابع‭ ‬اليد‭ ‬اليسرى،‭ ‬فترى‭ ‬الأصابع‭ ‬كلها‭ ‬متداخلة‭ ‬مع‭ ‬غيرها،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يوحى‭ ‬إليك‭ ‬أنك‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬التمييز‭ ‬بينهما،‭ ‬ولكن‭ ‬التأمل‭ ‬الدقيق‭ ‬يكشف‭ ‬للقارئ‭ ‬المتخصص‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬طرفي‭ ‬الاستعارة،‭ ‬وأصلها‭ ‬التشبيه‭ ‬الذي‭ ‬يفيد‭ ‬معنى‭ ‬الغيرية‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬العينية‭ ‬التي‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬طرف‭ ‬واحد‭. ‬هكذا‭ ‬نقرأ‭ ‬الجزء‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬مذكرات‭ ‬الصوفي‭ ‬بِشر‭ ‬الحافي،‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭:‬

 

حين‭ ‬فقدنا‭ ‬الرضا

بما‭ ‬يريد‭ ‬القضا

لم‭ ‬تنزل‭ ‬الأمطار

لم‭ ‬تورِق‭ ‬الأشجار

لم‭ ‬تلمع‭ ‬الأثمار

حين‭ ‬فقدنا‭ ‬الرضا

حين‭ ‬فقدنا‭ ‬الضحكا

تفجّرت‭ ‬عيوننا‭... ‬بُكا

حين‭ ‬فقدنا‭ ‬هدأة‭ ‬الجنب

على‭ ‬فراش‭ ‬الرضا‭ ‬الرحب

نام‭ ‬على‭ ‬الوسائد

شيطان‭ ‬بغض‭ ‬فاسد

معانقي،‭ ‬شريك‭ ‬مضجعي،‭ ‬كأنما

قرونه‭ ‬على‭ ‬يدي

حين‭ ‬فقدنا‭ ‬جوهر‭ ‬اليقين

تشوَّهت‭ ‬أجِنَّة‭ ‬الحبالى‭ ‬في‭ ‬البطون

الشعر‭ ‬ينمو‭ ‬في‭ ‬مغاور‭ ‬العيون

والذقن‭ ‬معقود‭ ‬على‭ ‬الجبين

جيل‭ ‬من‭ ‬الشياطين

جيل‭ ‬من‭ ‬الشياطين

 

معنى‭ ‬الرضا

والشاعر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭ ‬يتحدث‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬صوفيًّا‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬وضع‭ ‬الإنسان‭ ‬حين‭ ‬يفقد‭ ‬معنى‭ ‬الرضا‭ ‬الذي‭ ‬يصله‭ ‬بالتسليم‭ ‬بقدره‭ ‬ويستكين‭ ‬إليه،‭ ‬رافضًا‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الضحك‭ ‬التي‭ ‬تتصل‭ ‬بالأنس‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أصل‭ ‬الإيناس‭ ‬والائتناس‭ ‬بالآخر‭. ‬

وهو‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬التوحد‭ ‬السوداوي‭ ‬الذي‭ ‬يقترن‭ ‬برفض‭ ‬الاعتراف‭ ‬بقدرة‭ ‬الواحد‭ ‬الأحد‭ ‬على‭ ‬تقرير‭ ‬مصائر‭ ‬العباد،‭ ‬فإذا‭ ‬وصل‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القدرة‭ ‬تحوَّلت‭ ‬حياته‭ ‬إلى‭ ‬مأساة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬أنشأ‭ ‬لنفسه‭ ‬أو‭ ‬خلق‭ ‬لها‭ ‬أو‭ ‬توهَّم‭ ‬أنه‭ ‬جعل‭ ‬لنفسه‭ ‬قرينًا،‭ ‬لكن‭ ‬يصبح‭ ‬هذا‭ ‬القرين‭ ‬شيطانَ‭ ‬بغض‭ ‬فاسدًا،‭ ‬يغدو‭ ‬وجهًا‭ ‬ثانيًا‭ ‬للشاعر‭ ‬الذي‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬كائنين‭ ‬أو‭ ‬ذات‭ ‬إنسانية‭ ‬تعانق‭ ‬ذاتًا‭ ‬شيطانية‭. ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬يترتب‭ ‬عليه‭ ‬وضع‭ ‬كوني‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬التوحش‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬فقدان‭ ‬المعنى‭ ‬الذي‭ ‬يُحيل‭ ‬البشر‭ ‬إلى‭ ‬أجيال‭ ‬متتابعة‭ ‬من‭ ‬الشياطين‭. ‬ثم‭ ‬يأتي‭ ‬المقطع‭ ‬الثاني،‭ ‬لنقرأ‭ ‬فيه‭:‬

 

احرص‭ ‬ألا‭ ‬تسمع

احرص‭ ‬ألا‭ ‬تنظر

احرص‭ ‬ألا‭ ‬تلمس

احرص‭ ‬ألا‭ ‬تتكلم

قف‭!...‬

وتعلَّق‭ ‬في‭ ‬حبل‭ ‬الصمت‭ ‬المُبرم

ينبوع‭ ‬القول‭ ‬عميق

لكنّ‭ ‬الكفّ‭ ‬صغيرة

من‭ ‬بين‭ ‬الوسطى‭ ‬والسبابة‭ ‬والإبهام

يتسرب‭ ‬في‭ ‬الرمل‭... ‬كلام

وأفعال‭ ‬الأمر‭ ‬الكثيرة‭ ‬والمتكررة‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬علامة‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬الصمت‭ ‬وإمعان‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬التحول‭ ‬الذي‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬الإنسان‭ ‬حين‭ ‬يبلغ‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬التي‭ ‬يصبح‭ ‬فيها‭ ‬الإنسان‭ ‬شيطانًا‭ ‬والشيطان‭ ‬إنسانًا‭. ‬وهي‭ ‬حال‭ ‬تستدعي‭ ‬الصمت‭ ‬وعدم‭ ‬الكلام‭ ‬وإمعان‭ ‬النظر‭ ‬لتلمّس‭ ‬جوهر‭ ‬الأحوال‭ ‬وتأمل‭ ‬دلالاتها‭ ‬التي‭ ‬تصل‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬معناها‭. ‬أعني‭ ‬المعنى‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التعبير‭ ‬عنه‭ ‬بالكلمات‭ ‬العادية‭ ‬التي‭ ‬ليست‭ ‬سوى‭ ‬إشارات‭ ‬إلى‭ ‬معانٍ‭ ‬معروفة‭. ‬فالمعاني‭ ‬التي‭ ‬يتحدث‭ ‬عنها‭ ‬الشاعر‭ ‬هنا‭ ‬أو‭ ‬يشير‭ ‬إليها‭ ‬هي‭ ‬معانٍ‭ ‬غير‭ ‬معروفة،‭ ‬وفوق‭ ‬إدراك‭ ‬البشر،‭ ‬ومثل‭ ‬هذه‭ ‬المعاني‭ ‬لا‭ ‬تعبّر‭ ‬عنها‭ ‬الكلمات‭ ‬في‭ ‬استخداماتها‭ ‬العادية،‭ ‬فالكلمات‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تُعدَّل‭ ‬وتدخل‭ ‬في‭ ‬علاقات‭ ‬غير‭ ‬عادية‭ ‬كي‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬ينبوع‭ ‬القول‭ ‬الأعمق‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬مراميه‭ ‬الخفية‭ ‬المسكوت‭ ‬عنها‭. ‬وهكذا‭ ‬ننتقل‭ ‬إلى‭ ‬المقطع‭ ‬الثالث‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭:‬

ولأنك‭ ‬لا‭ ‬تدري‭ ‬معنى‭ ‬الألفاظ،‭ ‬فأنت‭ ‬تناجزني‭ ‬بالألفاظ

اللفظ‭ ‬حجر

اللفظ‭ ‬منية

فإذا‭ ‬ركَّبت‭ ‬كلامًا‭ ‬فوق‭ ‬كلام

من‭ ‬بينهما‭ ‬استولدت‭ ‬كلام

لرأيت‭ ‬الدنيا‭ ‬مولودًا‭ ‬بشعًا

وتمنيت‭ ‬الموت

أرجوك‭...‬

الصمت‭...‬

الصمت

 

منظور‭ ‬صوفي‭ ‬متوحد

هذا‭ ‬المقطع‭ ‬أراه‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المقاطع‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬اللغة،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬منظور‭ ‬صوفي‭ ‬متوحد،‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يراه‭ ‬غيره،‭ ‬وذلك‭ ‬لأنه‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يجسِّد‭ ‬بكلماته‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يتجسد،‭ ‬ومستطيع‭ ‬بألفاظه‭ ‬أن‭ ‬يُنطق‭ ‬كل‭ ‬مسكوت‭ ‬عنه‭.‬

كما‭ ‬أنه‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬ينسج‭ ‬بكلماته‭ ‬خطوطًا‭ ‬إذا‭ ‬تمعنّا‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬علاقاتها،‭ ‬رأينا‭ ‬ما‭ ‬يُفضى‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬مواجهة‭ ‬رعب‭ ‬العالم‭ ‬وبشاعته،‭ ‬وذلك‭ ‬إلى‭ ‬الدرجة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يرعبنا‭ ‬فيها‭ ‬الحضور‭ ‬المفاجئ‭ ‬لوحشية‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬نكاد‭ ‬نتمنى‭ ‬معه‭ ‬الموت،‭ ‬فنصرخ‭ ‬في‭ ‬أعماقنا‭ ‬صامتين،‭ ‬عاجزين‭ ‬عن‭ ‬النطق‭ ‬أو‭ ‬الكلام،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يبدو‭ ‬معه‭ ‬صمتنا‭ ‬المرعوب‭ ‬الأخرس‭ ‬كلامًا‭ ‬أفظع‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬كلام‭.‬

‭ ‬أعني‭ ‬كلامًا‭ ‬لا‭ ‬يُنطق‭ ‬أو‭ ‬يبين؛‭ ‬لأنه‭ ‬يتحول‭ ‬من‭ ‬نطق‭ ‬إلى‭ ‬صمت،‭ ‬وذلك‭ ‬بالقدر‭ ‬الذي‭ ‬يتحول‭ ‬به‭ ‬الصمت‭ ‬إلى‭ ‬بلاغة،‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬ذاتها‭ ‬دعوة‭ ‬خالصة‭ ‬إلى‭ ‬الصمت‭ ‬في‭ ‬تأمل‭ ‬الحضور‭ ‬المرعب‭ ‬لهذا‭ ‬الوجه‭ ‬المُخيف‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نعرفه‭ ‬عن‭ ‬الوجود‭. ‬هذا‭ ‬الوجه‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬حقيقته‭ ‬قلب‭ ‬الوجود‭. ‬أعني‭ ‬قلب‭ ‬الظلمات‭ ‬الذي‭ ‬يضعنا‭ ‬وجهًا‭ ‬لوجه‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الحقيقة‭ ‬المرعبة‭ ‬أو‭ ‬الموجعة‭ ‬أو‭ ‬المؤلمة،‭ ‬أو‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬مرآة‭ ‬لا‭ ‬نرى‭ ‬فيها‭ ‬سوى‭ ‬معنى‭ ‬حضورنا‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬أو‭ ‬معنى‭ ‬حياتنا‭ ‬التي‭ ‬تصدمنا‭ ‬أو‭ ‬تدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬ما‭ ‬نقرأه‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬القصيدة‭:‬

تظل‭ ‬ﻘﻴﻘﺔ‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬توﺟﻌﻪ‭ ‬ﺗﻀﻨﻴ

لو‭ ‬جفت‭ ‬ﺑﺤﺎﺭ‭ ‬القول‭ ‬لم‭ ‬ﻳُﺒْﺤﺮ‭ ‬ﺑﻬﺎ‭ ‬ﺧﺎﻃﺮ

لم‭ ‬ﻳﻨﺸ‭ ‬ﺷﺮﺍﻉ‭ ‬لظن‭ ‬فوق‭ ‬ﺎﻫﻬﺎ‭ ‬ﻣﻼﺡ

ذلك‭ ‬أن‭ ‬ﻣﺎ‭ ‬ﻧﻩ‭ ‬‭ ‬ﻧﺒﻐﻴ

ﻭﻣﺎ‭ ‬ﻧﺒﻐﻴ‭ ‬‭ ‬ﻧ

هل‭ ‬ﻳﺿيك‭ ‬أن‭ ‬أعوك‭ ‬ﻳ‭ ‬ﺿﻴفي‭ ‬مائدتي

‭ ‬ﺗلقى‭ ‬سوى‭ ‬ﺟﻴﻔﺔ؟

ﻌﺎﻟﻰ‭ ‬الله،‭ ‬أنت‭ ‬ﻭﻫﺒﺘﻨ‭ ‬هذ‭ ‬لعذب‭ ‬هذه‭ ‬ﻻﻡ

ﻷﻧ‭ ‬ﻴﻨﻤﺎ‭ ‬أﺑﺼﺮﺗﻨ‭ ‬لم‭ ‬نحلُ‭ ‬في‭ ‬عينيك‭ ‬

ﻌﺎﻟﻰ‭ ‬الله،‭ ‬‭ ‬ﺍﻟﻜﻮن‭ ‬موبوء،‭ ‬ﻭﻻ‭ ‬ﺑء

لو‭ ‬ﻳﻨﻔﻨ‭ ‬ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ‭ ‬ﺠّ‭ ‬ﻧحوﻧ‭ ‬ﺑﺎﻟموت

تعالى‭ ‬الله،‭ ‬‭ ‬ﺍﻟﻜﻮن‭ ‬‭ ‬ﻳﺼﻠﺤﻪ‭ ‬شيء

ﻓﺄﻳﻦ‭ ‬ﺍﻟموت؟‭ ‬أﻳﻦ‭ ‬لموت؟‭ ‬أﻳﻦ‭ ‬الموت؟

 

خلال‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭ ‬نجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬مأساة‭ ‬الكون‭ ‬نفسه‭ ‬التي‭ ‬تتحول‭ ‬فيها‭ ‬ميتافيزيقا‭ ‬الوجود‭ ‬إلى‭ ‬فيزيقا‭ ‬حضور‭ ‬الكائن‭ ‬المتوحد‭ ‬في‭ ‬حضرة‭ ‬الوجود‭. ‬أعني‭ ‬الكائن‭ ‬الصغير‭ ‬الذي‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬معنى‭ ‬الوجود،‭ ‬ولكنه‭ ‬إذا‭ ‬كُشُف‭ ‬عنه‭ ‬الحجاب‭ ‬ورأى‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يَره‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬هذا‭ ‬الوجود‭ ‬لفرَّ‭ ‬من‭ ‬رعب‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬المخيفة‭ ‬التي‭ ‬ينوء‭ ‬بحملها‭ ‬البشر،‭ ‬ويفرون‭ ‬منها؛‭ ‬لأنهم‭ ‬لا‭ ‬يستطيعون‭ ‬أن‭ ‬يواجهوها‭ ‬أو‭ ‬يتحملوا‭ ‬عبئها‭. ‬أعني‭ ‬ذلك‭ ‬العبء‭ ‬الذي‭ ‬يكون‭ ‬أسهل‭ ‬منه‭ ‬الموت‭. ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬الموت‭ ‬بواسطة‭ ‬الانتحار‭ ‬عجزًا‭ ‬وخوفًا‭ ‬أو‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬اليأس‭ ‬المُطلق‭. ‬هكذا‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬المقطع‭ ‬الخامس‭ ‬الذي‭ ‬يقدِّم‭ ‬لنا‭ ‬بعض‭ ‬المفاتيح‭ ‬الصوفية‭ ‬لإدراك‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة،‭ ‬فنسمع‭ ‬حوارًا‭ ‬بين‭ ‬شيخ‭ ‬ومريد،‭ ‬والمريد‭ ‬هو‭ ‬بشر،‭ ‬أو‭ ‬القناع‭ ‬الذي‭ ‬يختفي‭ ‬وراءه‭ ‬الشاعر‭:‬

شيخي‭ ‬بسام‭ ‬الدين‭ ‬يقول‭:‬

يا‭ ‬بِشر‭.. ‬اصبرْ

دنيانا‭ ‬أجمل‭ ‬مما‭ ‬تذكر

ها‭ ‬أنت‭ ‬ترى‭ ‬الدنيا‭ ‬من‭ ‬قمة‭ ‬وجدك

لا‭ ‬تبصر‭ ‬إلا‭ ‬الأنقاض‭ ‬السوداء

 

عالم‭ ‬وحشي

وبعد‭ ‬ذلك،‭ ‬وفي‭ ‬المقطع‭ ‬نفسه،‭ ‬ندخل‭ ‬مع‭ ‬بِشر‭ ‬إلى‭ ‬رؤياه،‭ ‬أو‭ ‬بعبارة‭ ‬أدق‭ ‬يُدخِلنا‭ ‬بِشر‭ ‬في‭ ‬رؤياه‭ ‬التي‭ ‬ليست‭ ‬سوى‭ ‬رؤيا‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور،‭ ‬فنرى‭ ‬بأعين‭ ‬الاثنين‭ ‬التي‭ ‬صارت‭ ‬أعيننا‭ ‬عالمًا‭ ‬وحشيًّا‭ ‬لغابة‭ ‬هي‭ ‬الكون‭ ‬بأسرِه،‭ ‬فنقرأ‭ ‬مندهشين‭ ‬متعجبين‭:‬

 

ونزلنا‭ ‬نحو‭ ‬السوق‭ ‬أنا‭ ‬والشيخ

كان‭ ‬الإنسان‭ ‬الأفعى‭ ‬يجهد‭ ‬أن‭ ‬يلتفّ‭ ‬على‭ ‬الإنسان

الكركي

فمشى‭ ‬من‭ ‬بينهما‭ ‬الإنسان‭ ‬الثعلب

عجبًا،‭...‬

زور‭ ‬الإنسان‭ ‬الكركي‭ ‬في‭ ‬فم‭ ‬الإنسان‭ ‬الثعلب

نزل‭ ‬السوقَ‭ ‬الإنسانُ‭ ‬الكلب

كي‭ ‬يفقأ‭ ‬عين‭ ‬الإنسان‭ ‬الثعلب

ويدوس‭ ‬دماغ‭ ‬الإنسان‭ ‬الأفعى

واهتز‭ ‬السوق‭ ‬بخطوات‭ ‬الإنسان‭ ‬الفهد

قد‭ ‬جاء‭ ‬ليبقر‭ ‬بطن‭ ‬الإنسان‭ ‬الكلب

  ‬ويمصّ‭ ‬نخاع‭ ‬الإنسان‭ ‬الثعلب

 

هكذا‭ ‬تكاد‭ ‬الصرخة‭ ‬تندفع‭ ‬من‭ ‬أعماقنا‭ ‬اندهاشًا‭ ‬واستغرابًا‭ ‬وتعجبًا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الرؤيا‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬لها‭ ‬أي‭ ‬أصل‭ ‬من‭ ‬الواقع،‭ ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭ ‬لها‭ ‬سند‭ ‬من‭ ‬الخيال‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يصوغ‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬هيئات‭ ‬لا‭ ‬نعرفها،‭ ‬كما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يصوغ‭ ‬الواقع‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬لا‭ ‬ندركه‭ ‬ولا‭ ‬نتخيل‭ ‬حضوره،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬موجود،‭ ‬ومع‭ ‬أننا‭ ‬نراه‭ ‬بأعيننا‭ ‬العادية،‭ ‬فما‭ ‬لا‭ ‬نراه‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬هذا‭ ‬الكون‭ ‬الذى‭ ‬نحيا‭ ‬فيه‭ ‬والذي‭ ‬نسميه‭ ‬‮«‬عالم‭ ‬البشر‮»‬،‭ ‬هو‭ ‬حقيقة‭ ‬لم‭ ‬نرها‭ ‬بهذا‭ ‬القدر‭ ‬من‭ ‬الرعب‭ ‬أو‭ ‬الخوف‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬نتخيل‭ ‬معه‭ ‬أنه‭ ‬موجود‭ ‬في‭ ‬الكون،‭ ‬ولكنه‭ ‬موجود‭ ‬وإن‭ ‬كنا‭ ‬لا‭ ‬نراه،‭ ‬لكن‭ ‬طرائق‭ ‬التصوير‭ ‬الشعري‭ ‬تجعلنا‭ ‬نبدو‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كنا‭ ‬نتخيل‭ ‬أنفسنا‭ ‬في‭ ‬حضرته،‭ ‬فنقول‭ ‬مع‭ ‬الشاعر‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬أخرى‭.‬

 

صرخة‭ ‬ختامية

إن‭ ‬الألفاظ‭ ‬التي‭ ‬تلتف‭ ‬في‭ ‬الأثمال‭ ‬الرمزية‭ ‬تكشف‭ ‬جسد‭ ‬الكون،‭ ‬فتُبدي‭ ‬لنا‭ ‬حقيقته‭ ‬المرعبة‭ ‬الوحشية‭ ‬التي‭ ‬ترعبنا،‭ ‬فتدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نسأل‭ ‬ما‭ ‬يسأله‭ ‬بِشر‭ ‬لشيخه‭ ‬بسام‭ ‬الدين‭:‬

 

يا‭ ‬شيخي‭ ‬بسام‭ ‬الدين

قُل‭ ‬لي‭: ‬أين‭ ‬الإنسان‭... ‬الإنسان؟

فلا‭ ‬يملك‭ ‬الشيخ‭ ‬بسام‭ ‬الدين‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬لنا‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬لبشر‭:‬

اصبر‭.. ‬سيجيء

سيهلّ‭ ‬على‭ ‬الدنيا‭ ‬يومًا‭ ‬رَكبُه

 

فلا‭ ‬نملك‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نصرخ‭ ‬مع‭ ‬بِشر‭ ‬الصوفي،‭ ‬متّحدين‭ ‬معه،‭ ‬أو‭ ‬حالين‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬صوت‭ ‬واحد‭ ‬يائس‭ ‬وعاجز‭:‬

‮«‬يا‭ ‬شيخي‭ ‬الطيب‭!‬

هل‭ ‬تدري‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬الأيام‭ ‬نعيش؟

هذا‭ ‬اليوم‭ ‬الموبوء‭ ‬هو‭ ‬اليوم‭ ‬الثامن

من‭ ‬أيام‭ ‬الأسبوع‭ ‬الخامس

من‭ ‬الشهر‭ ‬الثالث‭ ‬عشر

الإنسان‭ ‬الإنسان‭.. ‬عبر

من‭ ‬أعوام

ومضى‭ ‬لم‭ ‬يعرفه‭ ‬بشر

حفر‭ ‬الحصباء،‭ ‬ونام

وتغطى‭ ‬بالآلام

 

هذه‭ ‬الصرخة‭ ‬الختامية‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬ليست‭ ‬صرختنا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الواقع،‭ ‬لكنها‭ ‬صرخة‭ ‬بشر‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الرمز‭ ‬والإشارة،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإنها‭ ‬صرخة‭ ‬تجافي‭ ‬الواقع‭ ‬والمنطق؛‭ ‬لأنها‭ ‬تتباعد‭ ‬بنا،‭ ‬عمدًا،‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭ ‬والمعروف،‭ ‬ولذلك‭ ‬نقبل‭ ‬مفارقتها‭ ‬للواقع‭ ‬ومناقضتها‭ ‬له،‭ ‬ونكتفي‭ ‬بتأمل‭ ‬دلالاتها‭ ‬الرمزية‭ ‬كي‭ ‬تقودنا‭ ‬هذه‭ ‬الدلالات‭ ‬في‭ ‬تكامل‭ ‬أجزائها‭ ‬وفي‭ ‬تفاعل‭ ‬علاقاتها‭ ‬إلى‭ ‬المعنى‭ ‬الكلي‭ ‬والرمزي‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭.‬

 

حقيقة‭ ‬مطلقة

وهو‭ ‬معنى‭ ‬يذكِّرنا‭ ‬بسعي‭ ‬الإنسان‭ ‬وراء‭ ‬اكتشاف‭ ‬الحقيقة‭ ‬المطلقة‭ ‬للكون‭ ‬أو‭ ‬الوجود،‭ ‬فتنتهي‭ ‬إلى‭ ‬الفشل‭ ‬الدائم‭ ‬في‭ ‬الإمساك‭ ‬بهذه‭ ‬الحقيقة؛‭ ‬أو‭ ‬إدراكها‭ ‬في‭ ‬أقسى‭ ‬تجليات‭ ‬بشاعتها،‭ ‬خصوصًا‭ ‬إذا‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬قلب‭ ‬الظلام‮»‬‭ ‬من‭ ‬سوداوية‭ ‬توحده،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬قلب‭ ‬الليل‮»‬‭ ‬في‭ ‬توحده‭ ‬المكتفي‭ ‬بعزلته،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تخيله‭ ‬لحقيقة‭ ‬بشعة‭ ‬يتوهمها‭ ‬في‭ ‬معنى‭ ‬من‭ ‬معاني‭ ‬الوجود،‭ ‬أقصد‭ ‬إلى‭ ‬حقيقة‭ ‬لا‭ ‬يراها‭ ‬سواه‭ ‬عندما‭ ‬يفقد‭ ‬معنى‭ ‬إنسانيته‭ ‬المقترنة‭ ‬بالأنس‭ ‬والإيناس‭ ‬والائتناس‭ ‬بالآخر‭ ‬ومؤانسته،‭ ‬ولأن‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬في‭ ‬تجليها‭ ‬المطلق‭ ‬هي‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تدركها‭ ‬حواس‭ ‬الإنسان،‭ ‬بل‭ ‬أسمى‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يُدركها‭ ‬عقله،‭ ‬فهي‭ ‬حقيقة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يدركها‭ ‬الإنسان‭ ‬إلا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬اللمح‭ ‬أو‭ ‬الإشارة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الاستنباط‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬حسي‭ ‬متناثر‭ ‬الأجزاء‭ ‬متنافر‭ ‬الأطراف‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬للعقل‭ ‬الصافي‭ ‬والروح‭ ‬الطاهر‭ ‬والقلب‭ ‬النقي‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يتضافروا‭ ‬معًا‭ ‬للابتعاد‭ ‬عن‭ ‬حواس‭ ‬الدنيا‭ ‬الفانية‭ ‬ومغرياتها‭ ‬الزائلة،‭ ‬لكي‭ ‬يكونوا‭ ‬أخف‭ ‬من‭ ‬الريشة‭ ‬في‭ ‬الهواء،‭ ‬فيحلِّقوا‭ ‬صاعدين‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬توجد‭ ‬الحقيقة‭ ‬المطلقة‭ ‬للكون‭ ‬الذي‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬المنغمس‭ ‬في‭ ‬الخطايا‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬منه‭ ‬حيوانًا‭ ‬غريزيًّا‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬كائن‭ ‬وحشي‭ ‬لا‭ ‬يجاوز‭ ‬نفسه‭ ‬إلا‭ ‬ليؤذي‭ ‬غيره،‭ ‬فينتهي‭ ‬به‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬الموت‭ ‬بعد‭ ‬عذاب‭ ‬لم‭ ‬يعرفه‭ ‬بَشر،‭ ‬فيحفر‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬القبر‭ ‬كي‭ ‬يتغطى‭ ‬بالآلام‭ ‬كأنه‭ ‬مسيح‭ ‬آخر‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يفتدي‭ ‬نفسه‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يدفن‭ ‬ذاته‭ ‬الوحشية‭ ‬بذاته‭ ‬الإنسانية،‭ ‬فيعرف‭ - ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الألم‭ - ‬كيف‭ ‬يستعيد‭ ‬إنسانيته‭ ‬فيدرك‭ ‬معنى‭ ‬الوجود‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الوجود،‭ ‬أو‭ ‬يدرك‭ ‬معنى‭ ‬الكلّي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الجزئي‭. ‬

قد‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬قصيدة‭ ‬ميتافيزيقية،‭ ‬وهي‭ ‬قصيدة‭ ‬ميتافيزيقية‭ ‬بالفعل،‭ ‬وقد‭ ‬يقول‭ ‬البعض‭ ‬إنها‭ ‬قصيدة‭ ‬متأثرة‭ ‬بالاتجاه‭ ‬الشعري‭ ‬الذي‭ ‬أسسه‭ ‬الشعراء‭ ‬الميتافيزيقيون‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الإنجليزي‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭ ‬أمثال‭: ‬جون‭ ‬دن،‭ ‬وجون‭ ‬هيربرت،‭ ‬وهنري‭ ‬فون،‭ ‬وروبرت‭ ‬كرشوا،‭ ‬وأندرو‭ ‬مارفيل،‭ ‬وإبراهام‭ ‬كاولي‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭. ‬

وهذا‭ ‬أيضًا‭ ‬صحيح،‭ ‬فقد‭ ‬تأثر‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬تأثرًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬بهؤلاء‭ ‬الشعراء‭ ‬كما‭ ‬تأثر‭ ‬بغيرهم‭ ‬من‭ ‬فلاسفة‭ ‬التشاؤم‭ ‬ذوي‭ ‬الرؤية‭ ‬السوداء‭ ‬إلى‭ ‬العالم،‭ ‬فنزع‭ ‬هذا‭ ‬المنزع‭ ‬الميتافيزيقي‭ ‬الذي‭ ‬يكشف‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الأمر‭ ‬عن‭ ‬رؤيته‭ ‬المأساوية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬في‭ ‬معناها‭ ‬الفلسفي‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬امتدت‭ ‬إلى‭ ‬معانٍ‭ ‬أخرى‭ ‬وتجليات‭ ‬أخرى‭ ‬نراها‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬الشعرية‭ .

الناقد‭ ‬الأمريكى‭ ‬موراي‭ ‬كريجر