كيف وُلِدت الحضارة الغربية الحديثة؟
تعايش العلم واللاهوت في العالم المسيحي زهاء ألف وخمسمئة عام. أي منذ ظهور المسيحية حتى القرن الخامس عشر، عندما بدأت عرى هذا التعايش، الذي كانت ترعاه الكنيسة وتتحكم فيه بصرامة، تتفكك، نتيجة عوامل متعددة لتحل مكانها صراعات وحروب ضروس نتيجة التعصب والفهم الخاطئ للدين، ذهب ضحيتها آلاف الأشخاص الأبرياء من أصحاب الفكر العلمي الجديد الذي أخذ يحلّ رويدًا رويدًا مكان الفكر العلمي القديم، ويسهم في تشكيل العالم الحديث وحضارته، ونستعرض هنا أهم العوامل التي كانت أوربا مسرحها الرئيس.
حركة النهضة والإصلاح القرن الرابع عشر
تركزت اهتمامات رجالاتها على شؤون الإنسان الدنيوية، خصوصًا حرياته الفكرية والدينية والأخلاقية، وأصبحت هذه الاهتمامات قاعدة الثقافة البورجوازية في المدن، وكان نيكولا مكيافيللي في كتابه «الأمير» أحد أشهر المعبّرين عنها.
الحركة الإنسانية القرن الخامس عشر
كان أتباعها متمردين على هيمنة الكنيسة والإقطاع، وطرحوا أفكارًا وقيمًا جديدة أسهمت في تقويض المعالم الفكرية والاقتصادية والسياسية للعصور الوسطى، فكانوا بذلك إحدى قوى التغيير والتمهيد للعصور الحديثة.
حركة الإصلاح الديني، لوثر وأتباعه القرن السادس عشر
ساهمت بقوة في هدم سلطان الكنيسة ووحدتها وعنفوانها، وبالتالي في نشأة الشعور القومي والأفكار التحررية، وأخذ أتباعها يتنافسون مع الكاثوليك في النفوذ الديني والسياسي والتعليمي، ووقعت بينهم حروب أشهرها حرب الثلاثين عامًا (1618 - 1648)، التي انتهت بصلح وستفاليا (1648)، وذهب ضحيتها الآلاف من الجانبين.
وتعتبر البروتستانتية رؤية مسيحية جديدة ومبسطة عن الله والإنسان والمجتمع، الدين فيها أمر شخصي، والخلاص الفردي علاقة مباشرة بين الله والإنسان، والثقة المطلقة بمحبة الله هي أساس العقيدة، لأن الإيمان بهذه المحبة يحرر الإنسان من خوف العقاب المنتظر في الآخرة، بسبب تلك الخطيئة التي ارتكبها آدم وزوجه حواء مع بدء الخليقة.
أدت هذه الأفكار إلى إعادة ثقة الإنسان بنفسه، وإلى تحطيم تلك القيود التي كبّلته بها الكنيسة، وإلى بناء طريقة جديدة في الحياة أفسحت مجالًا واسعًا لانصراف الإنسان إلى الأعمال الاقتصادية المجدية والصناعة، والادخار والجهد من أجل الربح، وأصبحت هذه الأعمال من الفضائل السامية الأساسية في الحياة، فازداد حب الناس للرخاء والنجاح، وقدّسوا العمل، واعتبروا العزلة أنانية، والتأمل كسلًا، والفقر عقابًا، والثروة تعبيرًا عن محبة الله لعباده، مما دفع عالم الاجتماع الشهير ماكس ويبر (1864 - 1920م) إلى القول «إن تشدد البروتستانتية، خاصة أتباع المتطهرين على هذه الاتجاهات، أدى إلى تنمية روح الصناعة، والمشاريع، وتكوين رؤوس الأموال التي تولدت عنها الرأسمالية الحديثة بقيادة الطبقة الوسطى».
اكتشاف الطباعة
كان للطباعة التي عرفتها أوربا في القرن الخامس عشر آثار ضخمة في إيصال المعارف إلى معظم الناس، ونشر الأفكار الجديدة بينهم. وقد برع البروتستانت في استخدامها لنشر عقائدهم في الأوساط الشعبية، فوضعوا ترجمات مطبوعة للكتاب المقدس باللغات المحلية، بدلًا من اللاتينية التي كانت لغة الكنيسة والخاصة، حيث أصبحت هذه اللغات أساسًا للآداب القومية الأوربية، كما أسسوا عددًا من الجامعات والمدارس لنشر المعرفة، وكانت جامعة لايدن في هولندا من أعظم هذه الجامعات، وأكثرها تقدمية وتشجيعًا للأفكار الجديدة، تأتي بعدها جامعة جنيف التي كان لها فضل كبير في نشر الأفكار العلمية الجديدة في أوربا.
الثورة العلمية الحديثة
المقصود بالعلوم الحديثة علوم الطبيعة والكيمياء والأحياء والفلك والرياضيات. نشأت هذه العلوم على أساس من الملاحظات والتجربة، بعد أن كانت زمن اليونان والقرون الوسطى الأوربية تقوم على أسس ميتافيزيقية. وبدأ هذا الاتجاه العلمي الجديد في القرن الخامس عشر متزامنًا مع حركتي النهضة والإصلاح، وعظم قدره في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حين أخذ يحل ببطء، لكن بشكل لا يقاوم، محل الدين كعامل متحكم في تشكيل أفكار الناس.
وبدأت مقولات الكنيسة عن الإنسان والحياة تتهاوى أمام أفكار النهضة والإصلاح، لكن أفكارها عن نظام الكون وما وراء الطبيعة المستمدة في معظمها من نظريات أرسطو العلمية والفلسفية، لم تتقهقر وتنهزم إلا بسلاح العقل العلمي.
وتعتبر نظرية الراهب البولندي كوبر نيكوس (1473 - 1543) عن مركزية الشمس ودوران الأرض فاتحة الثورات العلمية التي أسهمت بقوة في تهافت المرتكزات الفكرية اللاهوتية والنظريات العلمية المرتبطة بها والقائلة بثبات الأرض.
وجاءت بعد ذلك اكتشافات النبيل الدنماركي تيكو براهي (1456 - 1601)، وكبلر (15671 - 1620)، وجاليليو (1564 - 1642) عن حركات الأجسام ومسارات الكواكب والجاذبية، لتكمل الثورة الكوبرنيكية وتصحح أخطاءها وتجعل من المعتقدات السابقة إرثًا باليًا تكذّبه التجربة والعقل.
استقبل اللوثريون والكاثوليك، على حد سواء، هذه النظريات بعداء شديد، لشعورهم بخطرها على معتقداتهم وعلى المبادئ السلطوية التي كانت مؤسساتهم الدينية تعتمد عليها.
ولجأت السلطات الكنسية الكاثوليكية إلى محاكم التفتيش لوقف هذا الخطر الداهم، وإلقاء الرعب في قلوب المتمردين على مفاهيمها من العلماء والمفكرين، فأحرقت بعضهم أحياء، وسجنت بعضهم الآخر وعذّبته وقد بلغوا الآلاف، ومن أشهر الذين سجنوا وعذبوا العالِم جاليليو، أحد مؤسسي العلم الحديث. ومن أشهر الذين أحرقوا الراهب الدومنيكاني والفيلسوف جردانو برونو، الذي التهبت نفسه حماسة لاكتشافات كوبر نيكوس، لكنّ النار التي أحرقت جسده كانت في الواقع تحرق معه عالمًا قديمًا لتضيء مشعل الحرية أمام الفكر الجديد.
وقد استطاعت هذه الإجراءات القاسية أن توقف مدّ الفكر العلمي واكتشافاته الجديدة لأجيال عدة في إيطاليا وإسبانيا الكاثوليكيتين. أما في البلاد الأوربية الأخرى، خاصة البروتستانتية منها، فقد حصل خلال القرنين التاليين على نشر نظرية كوبر نيكوس، تقدّم هائل في شتى الميادين العلمية، بعد توافر بيئة اقتصادية واجتماعية ملائمة.
وأصبح العلم والاختراع الشغل الشاغل للعقول في كل أنحاء أوربا، بعد اتخاذه طابعًا تجاريًّا، فتوالت البحوث والاكتشافات، وتراكمت المعارف العلمية الجديدة، وتحقق تقدّم كبير في صناعة الأدوات العلمية التي ساعدت العلماء على الدقة في الملاحظة وصياغة النظريات العلمية، كالميكروسكوب والتلسكوب والبوصلة. وبدأت معظم الحكومات الأوربية تعترف بأهمية العلوم ودورها في عملية التقدم وزيادة الثروات، بعد ارتباطها بالأهداف الاقتصادية للطبقة الوسطى، فأخذت تسهم في إنشاء الجمعيات والأكاديميات ورعايتها لتشجيع البحوث والاختراعات، وأصبح الاختراع ثروة قومية ورجل العلم جزءًا من المجد الوطني.
وأعطى التقدم العلمي تفسيرًا للعالم جعل الرأي اللاهوتي الأرسطي المنافس متهافتًا ومقيدًا لطموحات الإنسان الحديث، كما جعل البحث عن كل جديد لتقدم البحوث العلمية وتوسيع نطاق المعرفة الإنسانية عن الكون والطبيعة أمرًا ملحًّا وضروريًّا.
فرنسيس بيكون والمنهج العلمي الجديد
كان المنطق الأرسطي الصوري المنهج المعتمد في معرفة حقائق الأشياء، وهو منهج جدلي استقصائي قائم على القياس، يستنتج من الحقائق المعروفة أكثر من البحث عن حقائق جديدة. وبدأ هذا المنهج يتعرّض لنقد عنيف من مفكرين أوربيين متنورين، اكتشفوا عقمه وعدم جدواه، بعد اتصالهم بالعلم العربي التجريبي الذي كان مزدهرًا في بلاد الأندلس منذ القرن العاشر، ثم انتقل إلى أوربا عن طريق الترجمات مع بدايات القرن الثاني عشر. وكان فرنسيس بيكون (1561 - 1626) من أوائل الذين تبنّوا هذا الاتجاه الذي يهدف إلى استخدام العلم لخدمة الإنسان وتوسيع نطاق سيطرته على الطبيعة عن طريق المنهج التجريبي.
وكان هدف العلم عند بيكون إخضاع الطبيعة لخدمة الإنسان، من أجل رفاهية الحياة الإنسانية وتطورها، أي تحقيق ما كانت تسعى إليه الطبقات التجارية والصناعية. لكن تحقيق سيطرة الإنسان على الطبيعة كان يقتضي إيجاد منهج جديد للبحث يكشف قوانينها ويفسّر حوادثها. وهذا ما هدف إليه بيكون بالضبط من خلال منهجه الجديد. فالمنهج، كما يقول، «هو السرّ كله في نجاح العلم، والتقليد هو العدو كله للعقل وللتقدم».
يقوم هذا المنهج أو الأروجانون الجديد (1620) على ملاحظة الوقائع الجزئية، والصعود تدريجيًا إلى الكليات، أي الروابط والعلاقات المشتركة بين هذه الوقائع. يتم الكشف عن هذه العلاقات والروابط بالاستقراء والتجربة تدرّجًا من الجزئيات إلى صياغة المبدأ الكلي، أي القانون العلمي.
بعد بيكون حاول معاصره رينيه ديكارت (1596 - 1650) إيجاد منهج يؤدي إلى استنتاجات يقينية في العلوم والفلسفة على حد سواء، إلا أنه لم يدرك كيفية استخدام النتائج الرياضية تجريبيًّا عندما عرض نظريته الثورية عن آلية الطبيعة والمخلوقات الحية وقوانينها الرياضية الدقيقة.
وهذا ما نجح في تحقيقه إسحق نيوتن (1642 - 1727)، الذي كانت له الاهتمامات نفسها، واستطاع أن يطور أفكار كوبر نيكوس وكبلر وجاليليو وديكارت العلمية، ليصوغ منهجًا آليًّا متناسقًا عن الكون والطبيعة عُرف فيما بعد باسم «الآلة العالمية النيوتونية» التي اكتشفت المفتاح الرياضي للكون الذي كـان مطمـح رجال العلم منذ الإغريق، ووضعت تأويلًا آليًّا كاملًا للطبيعة بتعابير رياضية استنتاجية دقيقة، حيث أصبح حقيقة علمية واقعية يمكن تطبيقها على كل مظاهر الحياة، حتى على الطبيعة البشرية والمجتمع الإنساني. وهذا ما فصّله جون لوك (1632 - 1704) في كتابه «بحث في العقل الإنساني» (1690).
تأثير نيوتن ولوك
كان جون لوك من أشهر المتحمسين للنظريات النيوتونية الجديدة، حيث إن نجاحه الهائل ارتبط بالانتصار الكاسح الذي أحرزه نيوتن، وأدى إلى القضاء على سلطة أرسطو بصورة نهائية وحاسمة. وقد مارست أفكاره تأثيرًا قويًّا في الفلسفة والسياسة معًا. فهو في الفلسفة من أوائل القائلين بالمذهب التجريبي الحديث الذي يعد التجربة الحسية المصدر الوحيد للمعرفة الإنسانية، والذي يعطي البيئة والتربية الأثر الكبير في تكوين شخصية الإنسان وسلوكه.
وهو المذهب الذي طوره بعد ذلك باركلي وهيوم، ثم بنتام وجون ستيوارت ميل. تأثر بأفكاره أيضًا الموسوعيون الفرنسيون في القرن الثامن عشر، باستثناء روسو وأتباعه، كما أن المذاق العلمي للماركسية يدين لأفكاره وفلسفته.
أما في المجال السياسي، فقد حاول لوك إقامة نظرية جديدة في الدولة تدحض الحق الإلهي للملوك، وتدعو إلى مبدأ فصل السلطات، وتوفق بين السلطة والحرية بطريقة تعطي للطبقة المتوسطة الأفكار التي تنشدها بالضبط، والتي تؤكد أهمية الملكية الخاصة، والحرية الفردية، والتسامح الديني، والاستقرار الأمني.
عصر التنوير
يستحق هذا العصر وقفة خاصة، لأنه عصر تحوّلات كبرى وأفكار عظيمة. فقد تحقّقت فيه، بتأثير من نيوتن ولوك، تلك الثورة التي أدت بالإنسان الأوربي إلى الانفصال الكامل والنهائي عن معتقدات العصور الوسطى اللاهوتية، بعد اعتماده العلم والعقل أساسًا لحياته. فأنشأ علم الطبيعة البشرية والعلاقات الاجتماعية، وجعل الإنسان جزءًا من الكون المادي وخاضعًا لقوانينه، وزرع البذور الأولى للشعور القومي الحديث الذي نما وتطور في القرن التالي، وظهرت على أساسه دول كثيرة، ورسخ نفوذ الطبقة الوسطى في معظم الأقطار الأوربية، وصاغ مذاهب فلسفية جسّدت أفكارها وتطلعاتها في الدين والسياسة والاقتصاد والاجتماع، بحيث أصبحت المحرك الأساسي للثورتين الفرنسية والصناعية، كما أدى إلى فكرتي التطور والنسبية اللتين أضافهما القرنان التاسع عشر والعشرين إلى التراث العلمي الحديث، إنه باختصار العصر الذي وضعت فيه أسس معظم معتقدات الغرب الحالية في مختلف الحقول.
الطبقة الوسطى وفلاسفة التنوير
كان من أهداف التنوير إبراز أهمية الأيديولوجيا كعامل مقرر في التطور البشري ليحل مكان الأيديولوجيا الدينية التي سيطرت على العقل الأوربي زهاء ألف وخمسمئة عام، فاستغلت البورجوازية هذا الموقف وحوّلته لمصلحتها.
واستطاعت هذه البورجوازية أن تعمم أفكارها عن منافع الحرية الاقتصادية وجمع الثروات، وأن تجعل التقدم الاجتماعي والاقتصادي مرتبطًا بها، وأخضعت عادات المجتمع كلها لأغراض دنيوية، وغيرت مادة تفكير الناس وطريقة هذا التفكير وهي تسعى إلى تحقيق أهدافها. فأخذ حب الثروة والترف يشغل العقول ويبعدها عن قبضة الدين، وامتلأت مواعظ الكنائس بالحزن والمرارة على هذا الاتجاه الدنيوي الذي لا يقاوَم. وانفصلت الأخلاق عن الدين، بحيث اختلف معناهما باختلاف الطبقات الاجتماعية. وأصبح الدين عند أصحاب الثروات مسألة خاصة بين الله والإنسان، بينما أصبح عند الفقراء نظامًا إطاره الاجتماعي والأخلاقي ضرورة الحفاظ على النظام العام ومواساة الذين لا يملكون. كما أصبحت ديانة العقل هي السائدة بتأثير العلم النيوتوني والمنهج العقلي. وقد برهن فلاسفة عصر التنوير على أهميتهم بالنسبة للطبقة الوسطى وأيديولوجيتها بتأكيدهم على قيمة العلم وفضيلة الحرية، ومحاربتهم الاتجاهات الميتافيزيقية، ونشر الفكر الواقعي الذي يقارع المبادئ اللاهوتية المثالية، ويمجد الحياة، والحرية، والطبيعة، والإنسان.
ولعب المفكرون الموسوعيون دورًا عظيمًا في هذا المجال، إذ كانوا أحد العوامل الفعالة في التمهيد للثورة الفرنسية وتكوين أيديولوجيتها، ونشر مبادئ العدالة والمساواة وعقيدة التقدم الجديدة، نذكر منهم دالمبير، وديدرو، وفولتير، ومونتسكيو، وفونتنيل، وروسو، وهلفيسوس، وتيرجو.
الثورة الفرنسية
كانت الثورة الفرنسية بداية عصر جديد في تاريخ العالم، وآخر فصل في «مسرحية» تولّي الطبقة الوسطى زمام السلطة في فرنسا وسائر أنحاء أوربا. وقد سعى رجالاتها إلى التخلّص من كل ما يحدّ من حرية الفرد في أن يصنع شروطه الخاصة مع الحياة. وامتدت تأثيراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى سائر مجتمعات العالم، وهزتها من الأعماق.
علمنة المؤسسات العامة والفصل بين الدين والدولة
لم يكن باستطاعة الدولة الانفصال عن الكنيسة من دون وضع مبادئ جديدة تضبط بها العلاقات الاجتماعية وتنظم أمور الناس الحياتية بعيدًا من المؤثرات اللاهوتية، وبذلك ظهرت التشريعات المدنية، ونزعت المؤسسات العامة من أيدي الإكليروس، وكانت الأحوال الشخصية وقوانين الزواج في طليعة تلك التشريعات التي جعلتها الثورة الفرنسية عقودًا مدنية يسجلها قضاة مدنيون، وتخضع للقواعد العامة التي تخضع لها تلك العقود، وبالتالي أصبحت قابلة للفسخ والانحلال (أي الطلاق)، كما يقرّها القانون المدني، الذي أصبح أحد ركائز المجتمعات العصرية.
وبالرغم من كل الاحتجاجات الكنسية العنيفة ضد الاتجاهات العلمانية للدولة الحديثة، فقد استمرت عملية الابتعاد عن التأثيرات اللاهوتية ومؤسساتها بالتقدم، بعد أن خضعت البنى التحتية للمجتمعات الأوربية لتغييرات علمية وفكرية واقتصادية عميقة جعلت مسؤوليات الدولة تتطور وتتوسع، لتشمل أهم الحقول تأثيرًا في تشكيل أفكار الناس وعلاقاتهم الاجتماعية، أي حقل التربية والتعليم.
كان التعليم ومؤسساته قبل الثورة الفرنسية من المهمات الرئيسة للكنيسة، وكانت من خلال مدارسها وجامعاتها تحتكر وحدها ميدان التعليم وتتحكم بعقول الأجيال الناشئة، وتجعلها أدوات طيّعة لأهدافها.
وعندما جاءت الثورة الفرنسية، هدمت ذلك الصرح التعليمي المتين الذي شيّدته الكنيسة عبر العصور، وجعلته من مهمات الحكم المدني وأجهزته العلمانية، وبذلك استطاعت الدولة أن تجرّد الكنيسة من أهم أسلحتها، وأخذت تشجع الحركة العلمية والاختراعات، ضمن مشروع تعليمي وتربوي مدني حديث، يستوحي مصالح الإنسان الدنيوية وطموحاته المستقبلية، بعيدًا من أي مؤثرات دينية أو لاهوتية.
كانت هذه باختصار العوامل الرئيسة التي أدت إلى ولادة المجتمعات الحديثة في الغرب وتكوين خصائصها الجوهرية المنفصلة عن اللاهوت، وهي خصائص أصبحت تراثًا للإنسانية كلها تستفيد منها المجتمعات التي تعاني مشكلات التخلف والانحطاط، لكي تنهض وتتطور. ولو بقي العقل الأوربي أسير الفكر اللاهوتي وتصوراته عن الله والكون والحياة والإنسان، لما كان البشر ينعمون الآن، ولو بدرجات متفاوتة، بآلاف المخترعات الخارقة والنظم السياسية والاقتصادية التي خففت الكثير من بؤسهم ومعاناتهم التي عاشوا فيها آلاف السنين.