كيف وُلِدت الحضارة الغربية الحديثة؟

كيف وُلِدت الحضارة الغربية الحديثة؟

تعايش‭ ‬العلم‭ ‬واللاهوت‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬المسيحي‭ ‬زهاء‭ ‬ألف‭ ‬وخمسمئة‭ ‬عام‭. ‬أي‭ ‬منذ‭ ‬ظهور‭ ‬المسيحية‭ ‬حتى‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر،‭ ‬عندما‭ ‬بدأت‭ ‬عرى‭ ‬هذا‭ ‬التعايش،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬ترعاه‭ ‬الكنيسة‭ ‬وتتحكم‭ ‬فيه‭ ‬بصرامة،‭ ‬تتفكك،‭ ‬نتيجة‭ ‬عوامل‭ ‬متعددة‭ ‬لتحل‭ ‬مكانها‭ ‬صراعات‭ ‬وحروب‭ ‬ضروس‭ ‬نتيجة‭ ‬التعصب‭ ‬والفهم‭ ‬الخاطئ‭ ‬للدين،‭ ‬ذهب‭ ‬ضحيتها‭ ‬آلاف‭ ‬الأشخاص‭ ‬الأبرياء‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬الفكر‭ ‬العلمي‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬يحلّ‭ ‬رويدًا‭ ‬رويدًا‭ ‬مكان‭ ‬الفكر‭ ‬العلمي‭ ‬القديم،‭ ‬ويسهم‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬العالم‭ ‬الحديث‭ ‬وحضارته،‭ ‬ونستعرض‭ ‬هنا‭ ‬أهم‭ ‬العوامل‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬أوربا‭ ‬مسرحها‭ ‬الرئيس‭.‬

حركة‭ ‬النهضة‭ ‬والإصلاح‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬عشر

تركزت‭ ‬اهتمامات‭ ‬رجالاتها‭ ‬على‭ ‬شؤون‭ ‬الإنسان‭ ‬الدنيوية،‭ ‬خصوصًا‭ ‬حرياته‭ ‬الفكرية‭ ‬والدينية‭ ‬والأخلاقية،‭ ‬وأصبحت‭ ‬هذه‭ ‬الاهتمامات‭ ‬قاعدة‭ ‬الثقافة‭ ‬البورجوازية‭ ‬في‭ ‬المدن،‭ ‬وكان‭ ‬نيكولا‭ ‬مكيافيللي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الأمير‮»‬‭ ‬أحد‭ ‬أشهر‭ ‬المعبّرين‭ ‬عنها‭.‬

الحركة‭ ‬الإنسانية‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭

كان‭ ‬أتباعها‭ ‬متمردين‭ ‬على‭ ‬هيمنة‭ ‬الكنيسة‭ ‬والإقطاع،‭ ‬وطرحوا‭ ‬أفكارًا‭ ‬وقيمًا‭ ‬جديدة‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬تقويض‭ ‬المعالم‭ ‬الفكرية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬للعصور‭ ‬الوسطى،‭ ‬فكانوا‭ ‬بذلك‭ ‬إحدى‭ ‬قوى‭ ‬التغيير‭ ‬والتمهيد‭ ‬للعصور‭ ‬الحديثة‭.‬

حركة‭ ‬الإصلاح‭ ‬الديني،‭ ‬لوثر‭ ‬وأتباعه‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭

ساهمت‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬هدم‭ ‬سلطان‭ ‬الكنيسة‭ ‬ووحدتها‭ ‬وعنفوانها،‭ ‬وبالتالي‭ ‬في‭ ‬نشأة‭ ‬الشعور‭ ‬القومي‭ ‬والأفكار‭ ‬التحررية،‭ ‬وأخذ‭ ‬أتباعها‭ ‬يتنافسون‭ ‬مع‭ ‬الكاثوليك‭ ‬في‭ ‬النفوذ‭ ‬الديني‭ ‬والسياسي‭ ‬والتعليمي،‭ ‬ووقعت‭ ‬بينهم‭ ‬حروب‭ ‬أشهرها‭ ‬حرب‭ ‬الثلاثين‭ ‬عامًا‭ (‬1618‭ - ‬1648‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬انتهت‭ ‬بصلح‭ ‬وستفاليا‭ (‬1648‭)‬،‭ ‬وذهب‭ ‬ضحيتها‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الجانبين‭.‬

وتعتبر‭ ‬البروتستانتية‭ ‬رؤية‭ ‬مسيحية‭ ‬جديدة‭ ‬ومبسطة‭ ‬عن‭ ‬الله‭ ‬والإنسان‭ ‬والمجتمع،‭ ‬الدين‭ ‬فيها‭ ‬أمر‭ ‬شخصي،‭ ‬والخلاص‭ ‬الفردي‭ ‬علاقة‭ ‬مباشرة‭ ‬بين‭ ‬الله‭ ‬والإنسان،‭ ‬والثقة‭ ‬المطلقة‭ ‬بمحبة‭ ‬الله‭ ‬هي‭ ‬أساس‭ ‬العقيدة،‭ ‬لأن‭ ‬الإيمان‭ ‬بهذه‭ ‬المحبة‭ ‬يحرر‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬خوف‭ ‬العقاب‭ ‬المنتظر‭ ‬في‭ ‬الآخرة،‭ ‬بسبب‭ ‬تلك‭ ‬الخطيئة‭ ‬التي‭ ‬ارتكبها‭ ‬آدم‭ ‬وزوجه‭ ‬حواء‭ ‬مع‭ ‬بدء‭ ‬الخليقة‭. ‬

أدت‭ ‬هذه‭ ‬الأفكار‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬ثقة‭ ‬الإنسان‭ ‬بنفسه،‭ ‬وإلى‭ ‬تحطيم‭ ‬تلك‭ ‬القيود‭ ‬التي‭ ‬كبّلته‭ ‬بها‭ ‬الكنيسة،‭ ‬وإلى‭ ‬بناء‭ ‬طريقة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬أفسحت‭ ‬مجالًا‭ ‬واسعًا‭ ‬لانصراف‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬الأعمال‭ ‬الاقتصادية‭ ‬المجدية‭ ‬والصناعة،‭ ‬والادخار‭ ‬والجهد‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الربح،‭ ‬وأصبحت‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬من‭ ‬الفضائل‭ ‬السامية‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬فازداد‭ ‬حب‭ ‬الناس‭ ‬للرخاء‭ ‬والنجاح،‭ ‬وقدّسوا‭ ‬العمل،‭ ‬واعتبروا‭ ‬العزلة‭ ‬أنانية،‭ ‬والتأمل‭ ‬كسلًا،‭ ‬والفقر‭ ‬عقابًا،‭ ‬والثروة‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬محبة‭ ‬الله‭ ‬لعباده،‭ ‬مما‭ ‬دفع‭ ‬عالم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الشهير‭ ‬ماكس‭ ‬ويبر‭ (‬1864‭ - ‬1920م‭) ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬‮«‬إن‭ ‬تشدد‭ ‬البروتستانتية،‭ ‬خاصة‭ ‬أتباع‭ ‬المتطهرين‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الاتجاهات،‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تنمية‭ ‬روح‭ ‬الصناعة،‭ ‬والمشاريع،‭ ‬وتكوين‭ ‬رؤوس‭ ‬الأموال‭ ‬التي‭ ‬تولدت‭ ‬عنها‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الحديثة‭ ‬بقيادة‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‮»‬‭.‬

 

اكتشاف‭ ‬الطباعة

كان‭ ‬للطباعة‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬آثار‭ ‬ضخمة‭ ‬في‭ ‬إيصال‭ ‬المعارف‭ ‬إلى‭ ‬معظم‭ ‬الناس،‭ ‬ونشر‭ ‬الأفكار‭ ‬الجديدة‭ ‬بينهم‭. ‬وقد‭ ‬برع‭ ‬البروتستانت‭ ‬في‭ ‬استخدامها‭ ‬لنشر‭ ‬عقائدهم‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬الشعبية،‭ ‬فوضعوا‭ ‬ترجمات‭ ‬مطبوعة‭ ‬للكتاب‭ ‬المقدس‭ ‬باللغات‭ ‬المحلية،‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬اللاتينية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬لغة‭ ‬الكنيسة‭ ‬والخاصة،‭ ‬حيث‭ ‬أصبحت‭ ‬هذه‭ ‬اللغات‭ ‬أساسًا‭ ‬للآداب‭ ‬القومية‭ ‬الأوربية،‭ ‬كما‭ ‬أسسوا‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الجامعات‭ ‬والمدارس‭ ‬لنشر‭ ‬المعرفة،‭ ‬وكانت‭ ‬جامعة‭ ‬لايدن‭ ‬في‭ ‬هولندا‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬هذه‭ ‬الجامعات،‭ ‬وأكثرها‭ ‬تقدمية‭ ‬وتشجيعًا‭ ‬للأفكار‭ ‬الجديدة،‭ ‬تأتي‭ ‬بعدها‭ ‬جامعة‭ ‬جنيف‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬فضل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬الأفكار‭ ‬العلمية‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬أوربا‭.‬

 

الثورة‭ ‬العلمية‭ ‬الحديثة

المقصود‭ ‬بالعلوم‭ ‬الحديثة‭ ‬علوم‭ ‬الطبيعة‭ ‬والكيمياء‭ ‬والأحياء‭ ‬والفلك‭ ‬والرياضيات‭. ‬نشأت‭ ‬هذه‭ ‬العلوم‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬من‭ ‬الملاحظات‭ ‬والتجربة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬زمن‭ ‬اليونان‭ ‬والقرون‭ ‬الوسطى‭ ‬الأوربية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬ميتافيزيقية‭. ‬وبدأ‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬العلمي‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬متزامنًا‭ ‬مع‭ ‬حركتي‭ ‬النهضة‭ ‬والإصلاح،‭ ‬وعظم‭ ‬قدره‭ ‬في‭ ‬القرنين‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭ ‬والثامن‭ ‬عشر،‭ ‬حين‭ ‬أخذ‭ ‬يحل‭ ‬ببطء،‭ ‬لكن‭ ‬بشكل‭ ‬لا‭ ‬يقاوم،‭ ‬محل‭ ‬الدين‭ ‬كعامل‭ ‬متحكم‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬أفكار‭ ‬الناس‭.‬

وبدأت‭ ‬مقولات‭ ‬الكنيسة‭ ‬عن‭ ‬الإنسان‭ ‬والحياة‭ ‬تتهاوى‭ ‬أمام‭ ‬أفكار‭ ‬النهضة‭ ‬والإصلاح،‭ ‬لكن‭ ‬أفكارها‭ ‬عن‭ ‬نظام‭ ‬الكون‭ ‬وما‭ ‬وراء‭ ‬الطبيعة‭ ‬المستمدة‭ ‬في‭ ‬معظمها‭ ‬من‭ ‬نظريات‭ ‬أرسطو‭ ‬العلمية‭ ‬والفلسفية،‭ ‬لم‭ ‬تتقهقر‭ ‬وتنهزم‭ ‬إلا‭ ‬بسلاح‭ ‬العقل‭ ‬العلمي‭.‬

وتعتبر‭ ‬نظرية‭ ‬الراهب‭ ‬البولندي‭ ‬كوبر‭ ‬نيكوس‭ (‬1473‭ - ‬1543‭) ‬عن‭ ‬مركزية‭ ‬الشمس‭ ‬ودوران‭ ‬الأرض‭ ‬فاتحة‭ ‬الثورات‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬أسهمت‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬تهافت‭ ‬المرتكزات‭ ‬الفكرية‭ ‬اللاهوتية‭ ‬والنظريات‭ ‬العلمية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بها‭ ‬والقائلة‭ ‬بثبات‭ ‬الأرض‭.‬

وجاءت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬اكتشافات‭ ‬النبيل‭ ‬الدنماركي‭ ‬تيكو‭ ‬براهي‭ (‬1456‭ - ‬1601‭)‬،‭ ‬وكبلر‭ (‬15671‭ - ‬1620‭)‬،‭ ‬وجاليليو‭ (‬1564‭ - ‬1642‭) ‬عن‭ ‬حركات‭ ‬الأجسام‭ ‬ومسارات‭ ‬الكواكب‭ ‬والجاذبية،‭ ‬لتكمل‭ ‬الثورة‭ ‬الكوبرنيكية‭ ‬وتصحح‭ ‬أخطاءها‭ ‬وتجعل‭ ‬من‭ ‬المعتقدات‭ ‬السابقة‭ ‬إرثًا‭ ‬باليًا‭ ‬تكذّبه‭ ‬التجربة‭ ‬والعقل‭. ‬

استقبل‭ ‬اللوثريون‭ ‬والكاثوليك،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء،‭ ‬هذه‭ ‬النظريات‭ ‬بعداء‭ ‬شديد،‭ ‬لشعورهم‭ ‬بخطرها‭ ‬على‭ ‬معتقداتهم‭ ‬وعلى‭ ‬المبادئ‭ ‬السلطوية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مؤسساتهم‭ ‬الدينية‭ ‬تعتمد‭ ‬عليها‭.‬

ولجأت‭ ‬السلطات‭ ‬الكنسية‭ ‬الكاثوليكية‭ ‬إلى‭ ‬محاكم‭ ‬التفتيش‭ ‬لوقف‭ ‬هذا‭ ‬الخطر‭ ‬الداهم،‭ ‬وإلقاء‭ ‬الرعب‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬المتمردين‭ ‬على‭ ‬مفاهيمها‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬والمفكرين،‭ ‬فأحرقت‭ ‬بعضهم‭ ‬أحياء،‭ ‬وسجنت‭ ‬بعضهم‭ ‬الآخر‭ ‬وعذّبته‭ ‬وقد‭ ‬بلغوا‭ ‬الآلاف،‭ ‬ومن‭ ‬أشهر‭ ‬الذين‭ ‬سجنوا‭ ‬وعذبوا‭ ‬العالِم‭ ‬جاليليو،‭ ‬أحد‭ ‬مؤسسي‭ ‬العلم‭ ‬الحديث‭. ‬ومن‭ ‬أشهر‭ ‬الذين‭ ‬أحرقوا‭ ‬الراهب‭ ‬الدومنيكاني‭ ‬والفيلسوف‭ ‬جردانو‭ ‬برونو،‭ ‬الذي‭ ‬التهبت‭ ‬نفسه‭ ‬حماسة‭ ‬لاكتشافات‭ ‬كوبر‭ ‬نيكوس،‭ ‬لكنّ‭ ‬النار‭ ‬التي‭ ‬أحرقت‭ ‬جسده‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬تحرق‭ ‬معه‭ ‬عالمًا‭ ‬قديمًا‭ ‬لتضيء‭ ‬مشعل‭ ‬الحرية‭ ‬أمام‭ ‬الفكر‭ ‬الجديد‭.‬

وقد‭ ‬استطاعت‭ ‬هذه‭ ‬الإجراءات‭ ‬القاسية‭ ‬أن‭ ‬توقف‭ ‬مدّ‭ ‬الفكر‭ ‬العلمي‭ ‬واكتشافاته‭ ‬الجديدة‭ ‬لأجيال‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬وإسبانيا‭ ‬الكاثوليكيتين‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬الأوربية‭ ‬الأخرى،‭ ‬خاصة‭ ‬البروتستانتية‭ ‬منها،‭ ‬فقد‭ ‬حصل‭ ‬خلال‭ ‬القرنين‭ ‬التاليين‭ ‬على‭ ‬نشر‭ ‬نظرية‭ ‬كوبر‭ ‬نيكوس،‭ ‬تقدّم‭ ‬هائل‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬الميادين‭ ‬العلمية،‭ ‬بعد‭ ‬توافر‭ ‬بيئة‭ ‬اقتصادية‭ ‬واجتماعية‭ ‬ملائمة‭. ‬

وأصبح‭ ‬العلم‭ ‬والاختراع‭ ‬الشغل‭ ‬الشاغل‭ ‬للعقول‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬أوربا،‭ ‬بعد‭ ‬اتخاذه‭ ‬طابعًا‭ ‬تجاريًّا،‭ ‬فتوالت‭ ‬البحوث‭ ‬والاكتشافات،‭ ‬وتراكمت‭ ‬المعارف‭ ‬العلمية‭ ‬الجديدة،‭ ‬وتحقق‭ ‬تقدّم‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬الأدوات‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬ساعدت‭ ‬العلماء‭ ‬على‭ ‬الدقة‭ ‬في‭ ‬الملاحظة‭ ‬وصياغة‭ ‬النظريات‭ ‬العلمية،‭ ‬كالميكروسكوب‭ ‬والتلسكوب‭ ‬والبوصلة‭.  ‬وبدأت‭ ‬معظم‭ ‬الحكومات‭ ‬الأوربية‭ ‬تعترف‭ ‬بأهمية‭ ‬العلوم‭ ‬ودورها‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التقدم‭ ‬وزيادة‭ ‬الثروات،‭ ‬بعد‭ ‬ارتباطها‭ ‬بالأهداف‭ ‬الاقتصادية‭ ‬للطبقة‭ ‬الوسطى،‭ ‬فأخذت‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬الجمعيات‭ ‬والأكاديميات‭ ‬ورعايتها‭ ‬لتشجيع‭ ‬البحوث‭ ‬والاختراعات،‭ ‬وأصبح‭ ‬الاختراع‭ ‬ثروة‭ ‬قومية‭ ‬ورجل‭ ‬العلم‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬المجد‭ ‬الوطني‭.‬

وأعطى‭ ‬التقدم‭ ‬العلمي‭ ‬تفسيرًا‭ ‬للعالم‭ ‬جعل‭ ‬الرأي‭ ‬اللاهوتي‭ ‬الأرسطي‭ ‬المنافس‭ ‬متهافتًا‭ ‬ومقيدًا‭ ‬لطموحات‭ ‬الإنسان‭ ‬الحديث،‭ ‬كما‭ ‬جعل‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬جديد‭ ‬لتقدم‭ ‬البحوث‭ ‬العلمية‭ ‬وتوسيع‭ ‬نطاق‭ ‬المعرفة‭ ‬الإنسانية‭ ‬عن‭ ‬الكون‭ ‬والطبيعة‭ ‬أمرًا‭ ‬ملحًّا‭ ‬وضروريًّا‭.‬

 

فرنسيس‭ ‬بيكون‭ ‬والمنهج‭ ‬العلمي‭ ‬الجديد

كان‭ ‬المنطق‭ ‬الأرسطي‭ ‬الصوري‭ ‬المنهج‭ ‬المعتمد‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬حقائق‭ ‬الأشياء،‭ ‬وهو‭ ‬منهج‭ ‬جدلي‭ ‬استقصائي‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬القياس،‭ ‬يستنتج‭ ‬من‭ ‬الحقائق‭ ‬المعروفة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬حقائق‭ ‬جديدة‭. ‬وبدأ‭ ‬هذا‭ ‬المنهج‭ ‬يتعرّض‭ ‬لنقد‭ ‬عنيف‭ ‬من‭ ‬مفكرين‭ ‬أوربيين‭ ‬متنورين،‭ ‬اكتشفوا‭ ‬عقمه‭ ‬وعدم‭ ‬جدواه،‭ ‬بعد‭ ‬اتصالهم‭ ‬بالعلم‭ ‬العربي‭ ‬التجريبي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مزدهرًا‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الأندلس‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬العاشر،‭ ‬ثم‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬أوربا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الترجمات‭ ‬مع‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬عشر‭. ‬وكان‭ ‬فرنسيس‭ ‬بيكون‭ (‬1561‭ - ‬1626‭) ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬الذين‭ ‬تبنّوا‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬الذي‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬العلم‭ ‬لخدمة‭ ‬الإنسان‭ ‬وتوسيع‭ ‬نطاق‭ ‬سيطرته‭ ‬على‭ ‬الطبيعة‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬المنهج‭ ‬التجريبي‭.‬

وكان‭ ‬هدف‭ ‬العلم‭ ‬عند‭ ‬بيكون‭ ‬إخضاع‭ ‬الطبيعة‭ ‬لخدمة‭ ‬الإنسان،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬رفاهية‭ ‬الحياة‭ ‬الإنسانية‭ ‬وتطورها،‭ ‬أي‭ ‬تحقيق‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تسعى‭ ‬إليه‭ ‬الطبقات‭ ‬التجارية‭ ‬والصناعية‭. ‬لكن‭ ‬تحقيق‭ ‬سيطرة‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬الطبيعة‭ ‬كان‭ ‬يقتضي‭ ‬إيجاد‭ ‬منهج‭ ‬جديد‭ ‬للبحث‭ ‬يكشف‭ ‬قوانينها‭ ‬ويفسّر‭ ‬حوادثها‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬هدف‭ ‬إليه‭ ‬بيكون‭ ‬بالضبط‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬منهجه‭ ‬الجديد‭. ‬فالمنهج،‭ ‬كما‭ ‬يقول،‭ ‬‮«‬هو‭ ‬السرّ‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬نجاح‭ ‬العلم،‭ ‬والتقليد‭ ‬هو‭ ‬العدو‭ ‬كله‭ ‬للعقل‭ ‬وللتقدم‮»‬‭.‬

يقوم‭ ‬هذا‭ ‬المنهج‭ ‬أو‭ ‬الأروجانون‭ ‬الجديد‭ (‬1620‭) ‬على‭ ‬ملاحظة‭ ‬الوقائع‭ ‬الجزئية،‭ ‬والصعود‭ ‬تدريجيًا‭ ‬إلى‭ ‬الكليات،‭ ‬أي‭ ‬الروابط‭ ‬والعلاقات‭ ‬المشتركة‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الوقائع‭. ‬يتم‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬العلاقات‭ ‬والروابط‭ ‬بالاستقراء‭ ‬والتجربة‭ ‬تدرّجًا‭ ‬من‭ ‬الجزئيات‭ ‬إلى‭ ‬صياغة‭ ‬المبدأ‭ ‬الكلي،‭ ‬أي‭ ‬القانون‭ ‬العلمي‭.‬

بعد‭ ‬بيكون‭ ‬حاول‭ ‬معاصره‭ ‬رينيه‭ ‬ديكارت‭ (‬1596‭ - ‬1650‭) ‬إيجاد‭ ‬منهج‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬استنتاجات‭ ‬يقينية‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬والفلسفة‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يدرك‭ ‬كيفية‭ ‬استخدام‭ ‬النتائج‭ ‬الرياضية‭ ‬تجريبيًّا‭ ‬عندما‭ ‬عرض‭ ‬نظريته‭ ‬الثورية‭ ‬عن‭ ‬آلية‭ ‬الطبيعة‭ ‬والمخلوقات‭ ‬الحية‭ ‬وقوانينها‭ ‬الرياضية‭ ‬الدقيقة‭.‬

وهذا‭ ‬ما‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬تحقيقه‭ ‬إسحق‭ ‬نيوتن‭ (‬1642‭ - ‬1727‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬الاهتمامات‭ ‬نفسها،‭ ‬واستطاع‭ ‬أن‭ ‬يطور‭ ‬أفكار‭ ‬كوبر‭ ‬نيكوس‭ ‬وكبلر‭ ‬وجاليليو‭ ‬وديكارت‭ ‬العلمية،‭ ‬ليصوغ‭ ‬منهجًا‭ ‬آليًّا‭ ‬متناسقًا‭ ‬عن‭ ‬الكون‭ ‬والطبيعة‭ ‬عُرف‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬الآلة‭ ‬العالمية‭ ‬النيوتونية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬اكتشفت‭ ‬المفتاح‭ ‬الرياضي‭ ‬للكون‭ ‬الذي‭ ‬كـان‭ ‬مطمـح‭ ‬رجال‭ ‬العلم‭ ‬منذ‭ ‬الإغريق،‭ ‬ووضعت‭ ‬تأويلًا‭ ‬آليًّا‭ ‬كاملًا‭ ‬للطبيعة‭ ‬بتعابير‭ ‬رياضية‭ ‬استنتاجية‭ ‬دقيقة،‭ ‬حيث‭ ‬أصبح‭ ‬حقيقة‭ ‬علمية‭ ‬واقعية‭ ‬يمكن‭ ‬تطبيقها‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مظاهر‭ ‬الحياة،‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬الطبيعة‭ ‬البشرية‭ ‬والمجتمع‭ ‬الإنساني‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬فصّله‭ ‬جون‭ ‬لوك‭ (‬1632‭ - ‬1704‭) ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬بحث‭ ‬في‭ ‬العقل‭ ‬الإنساني‮»‬‭ (‬1690‭).‬

 

تأثير‭ ‬نيوتن‭ ‬ولوك

كان‭ ‬جون‭ ‬لوك‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬المتحمسين‭ ‬للنظريات‭ ‬النيوتونية‭ ‬الجديدة،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬نجاحه‭ ‬الهائل‭ ‬ارتبط‭ ‬بالانتصار‭ ‬الكاسح‭ ‬الذي‭ ‬أحرزه‭ ‬نيوتن،‭ ‬وأدى‭ ‬إلى‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬سلطة‭ ‬أرسطو‭ ‬بصورة‭ ‬نهائية‭ ‬وحاسمة‭. ‬وقد‭ ‬مارست‭ ‬أفكاره‭ ‬تأثيرًا‭ ‬قويًّا‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬والسياسة‭ ‬معًا‭. ‬فهو‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬القائلين‭ ‬بالمذهب‭ ‬التجريبي‭ ‬الحديث‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬التجربة‭ ‬الحسية‭ ‬المصدر‭ ‬الوحيد‭ ‬للمعرفة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬والذي‭ ‬يعطي‭ ‬البيئة‭ ‬والتربية‭ ‬الأثر‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬شخصية‭ ‬الإنسان‭ ‬وسلوكه‭. ‬

وهو‭ ‬المذهب‭ ‬الذي‭ ‬طوره‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬باركلي‭ ‬وهيوم،‭ ‬ثم‭ ‬بنتام‭ ‬وجون‭ ‬ستيوارت‭ ‬ميل‭. ‬تأثر‭ ‬بأفكاره‭ ‬أيضًا‭ ‬الموسوعيون‭ ‬الفرنسيون‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬باستثناء‭ ‬روسو‭ ‬وأتباعه،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬المذاق‭ ‬العلمي‭ ‬للماركسية‭ ‬يدين‭ ‬لأفكاره‭ ‬وفلسفته‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬السياسي،‭ ‬فقد‭ ‬حاول‭ ‬لوك‭ ‬إقامة‭ ‬نظرية‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬تدحض‭ ‬الحق‭ ‬الإلهي‭ ‬للملوك،‭ ‬وتدعو‭ ‬إلى‭ ‬مبدأ‭ ‬فصل‭ ‬السلطات،‭ ‬وتوفق‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬والحرية‭ ‬بطريقة‭ ‬تعطي‭ ‬للطبقة‭ ‬المتوسطة‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬تنشدها‭ ‬بالضبط،‭ ‬والتي‭ ‬تؤكد‭ ‬أهمية‭ ‬الملكية‭ ‬الخاصة،‭ ‬والحرية‭ ‬الفردية،‭ ‬والتسامح‭ ‬الديني،‭ ‬والاستقرار‭ ‬الأمني‭.‬

 

عصر‭ ‬التنوير

يستحق‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬وقفة‭ ‬خاصة،‭ ‬لأنه‭ ‬عصر‭ ‬تحوّلات‭ ‬كبرى‭ ‬وأفكار‭ ‬عظيمة‭. ‬فقد‭ ‬تحقّقت‭ ‬فيه،‭ ‬بتأثير‭ ‬من‭ ‬نيوتن‭ ‬ولوك،‭ ‬تلك‭ ‬الثورة‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬بالإنسان‭ ‬الأوربي‭ ‬إلى‭ ‬الانفصال‭ ‬الكامل‭ ‬والنهائي‭ ‬عن‭ ‬معتقدات‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭ ‬اللاهوتية،‭ ‬بعد‭ ‬اعتماده‭ ‬العلم‭ ‬والعقل‭ ‬أساسًا‭ ‬لحياته‭. ‬فأنشأ‭ ‬علم‭ ‬الطبيعة‭ ‬البشرية‭ ‬والعلاقات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وجعل‭ ‬الإنسان‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الكون‭ ‬المادي‭ ‬وخاضعًا‭ ‬لقوانينه،‭ ‬وزرع‭ ‬البذور‭ ‬الأولى‭ ‬للشعور‭ ‬القومي‭ ‬الحديث‭ ‬الذي‭ ‬نما‭ ‬وتطور‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التالي،‭ ‬وظهرت‭ ‬على‭ ‬أساسه‭ ‬دول‭ ‬كثيرة،‭ ‬ورسخ‭ ‬نفوذ‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأقطار‭ ‬الأوربية،‭ ‬وصاغ‭ ‬مذاهب‭ ‬فلسفية‭ ‬جسّدت‭ ‬أفكارها‭ ‬وتطلعاتها‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬والسياسة‭ ‬والاقتصاد‭ ‬والاجتماع،‭ ‬بحيث‭ ‬أصبحت‭ ‬المحرك‭ ‬الأساسي‭ ‬للثورتين‭ ‬الفرنسية‭ ‬والصناعية،‭ ‬كما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬فكرتي‭ ‬التطور‭ ‬والنسبية‭ ‬اللتين‭ ‬أضافهما‭ ‬القرنان‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬والعشرين‭ ‬إلى‭ ‬التراث‭ ‬العلمي‭ ‬الحديث،‭ ‬إنه‭ ‬باختصار‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬وضعت‭ ‬فيه‭ ‬أسس‭ ‬معظم‭ ‬معتقدات‭ ‬الغرب‭ ‬الحالية‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الحقول‭.‬

 

الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬وفلاسفة‭ ‬التنوير

كان‭ ‬من‭ ‬أهداف‭ ‬التنوير‭ ‬إبراز‭ ‬أهمية‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬كعامل‭ ‬مقرر‭ ‬في‭ ‬التطور‭ ‬البشري‭ ‬ليحل‭ ‬مكان‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬سيطرت‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬الأوربي‭ ‬زهاء‭ ‬ألف‭ ‬وخمسمئة‭ ‬عام،‭ ‬فاستغلت‭ ‬البورجوازية‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬وحوّلته‭ ‬لمصلحتها‭.‬

واستطاعت‭ ‬هذه‭ ‬البورجوازية‭ ‬أن‭ ‬تعمم‭ ‬أفكارها‭ ‬عن‭ ‬منافع‭ ‬الحرية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬وجمع‭ ‬الثروات،‭ ‬وأن‭ ‬تجعل‭ ‬التقدم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬مرتبطًا‭ ‬بها،‭ ‬وأخضعت‭ ‬عادات‭ ‬المجتمع‭ ‬كلها‭ ‬لأغراض‭ ‬دنيوية،‭ ‬وغيرت‭ ‬مادة‭ ‬تفكير‭ ‬الناس‭ ‬وطريقة‭ ‬هذا‭ ‬التفكير‭ ‬وهي‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬أهدافها‭. ‬فأخذ‭ ‬حب‭ ‬الثروة‭ ‬والترف‭ ‬يشغل‭ ‬العقول‭ ‬ويبعدها‭ ‬عن‭ ‬قبضة‭ ‬الدين،‭ ‬وامتلأت‭ ‬مواعظ‭ ‬الكنائس‭ ‬بالحزن‭ ‬والمرارة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬الدنيوي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يقاوَم‭. ‬وانفصلت‭ ‬الأخلاق‭ ‬عن‭ ‬الدين،‭ ‬بحيث‭ ‬اختلف‭ ‬معناهما‭ ‬باختلاف‭ ‬الطبقات‭ ‬الاجتماعية‭. ‬وأصبح‭ ‬الدين‭ ‬عند‭ ‬أصحاب‭ ‬الثروات‭ ‬مسألة‭ ‬خاصة‭ ‬بين‭ ‬الله‭ ‬والإنسان،‭ ‬بينما‭ ‬أصبح‭ ‬عند‭ ‬الفقراء‭ ‬نظامًا‭ ‬إطاره‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والأخلاقي‭ ‬ضرورة‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬العام‭ ‬ومواساة‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يملكون‭. ‬كما‭ ‬أصبحت‭ ‬ديانة‭ ‬العقل‭ ‬هي‭ ‬السائدة‭ ‬بتأثير‭ ‬العلم‭ ‬النيوتوني‭ ‬والمنهج‭ ‬العقلي‭. ‬وقد‭ ‬برهن‭ ‬فلاسفة‭ ‬عصر‭ ‬التنوير‭ ‬على‭ ‬أهميتهم‭ ‬بالنسبة‭ ‬للطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬وأيديولوجيتها‭ ‬بتأكيدهم‭ ‬على‭ ‬قيمة‭ ‬العلم‭ ‬وفضيلة‭ ‬الحرية،‭ ‬ومحاربتهم‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الميتافيزيقية،‭ ‬ونشر‭ ‬الفكر‭ ‬الواقعي‭ ‬الذي‭ ‬يقارع‭ ‬المبادئ‭ ‬اللاهوتية‭ ‬المثالية،‭ ‬ويمجد‭ ‬الحياة،‭ ‬والحرية،‭ ‬والطبيعة،‭ ‬والإنسان‭. ‬

ولعب‭ ‬المفكرون‭ ‬الموسوعيون‭ ‬دورًا‭ ‬عظيمًا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬إذ‭ ‬كانوا‭ ‬أحد‭ ‬العوامل‭ ‬الفعالة‭ ‬في‭ ‬التمهيد‭ ‬للثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬وتكوين‭ ‬أيديولوجيتها،‭ ‬ونشر‭ ‬مبادئ‭ ‬العدالة‭ ‬والمساواة‭ ‬وعقيدة‭ ‬التقدم‭ ‬الجديدة،‭ ‬نذكر‭ ‬منهم‭ ‬دالمبير،‭ ‬وديدرو،‭ ‬وفولتير،‭ ‬ومونتسكيو،‭ ‬وفونتنيل،‭ ‬وروسو،‭ ‬وهلفيسوس،‭ ‬وتيرجو‭.‬

 

الثورة‭ ‬الفرنسية

كانت‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬بداية‭ ‬عصر‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العالم،‭ ‬وآخر‭ ‬فصل‭ ‬في‭ ‬‮«‬مسرحية‮»‬‭ ‬تولّي‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬زمام‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬وسائر‭ ‬أنحاء‭ ‬أوربا‭. ‬وقد‭ ‬سعى‭ ‬رجالاتها‭ ‬إلى‭ ‬التخلّص‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحدّ‭ ‬من‭ ‬حرية‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يصنع‭ ‬شروطه‭ ‬الخاصة‭ ‬مع‭ ‬الحياة‭. ‬وامتدت‭ ‬تأثيراتها‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬إلى‭ ‬سائر‭ ‬مجتمعات‭ ‬العالم،‭ ‬وهزتها‭ ‬من‭ ‬الأعماق‭.‬

علمنة‭ ‬المؤسسات‭ ‬العامة‭ ‬والفصل‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والدولة

لم‭ ‬يكن‭ ‬باستطاعة‭ ‬الدولة‭ ‬الانفصال‭ ‬عن‭ ‬الكنيسة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬وضع‭ ‬مبادئ‭ ‬جديدة‭ ‬تضبط‭ ‬بها‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وتنظم‭ ‬أمور‭ ‬الناس‭ ‬الحياتية‭ ‬بعيدًا‭ ‬من‭ ‬المؤثرات‭ ‬اللاهوتية،‭ ‬وبذلك‭ ‬ظهرت‭ ‬التشريعات‭ ‬المدنية،‭ ‬ونزعت‭ ‬المؤسسات‭ ‬العامة‭ ‬من‭ ‬أيدي‭ ‬الإكليروس،‭ ‬وكانت‭ ‬الأحوال‭ ‬الشخصية‭ ‬وقوانين‭ ‬الزواج‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬تلك‭ ‬التشريعات‭ ‬التي‭ ‬جعلتها‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬عقودًا‭ ‬مدنية‭ ‬يسجلها‭ ‬قضاة‭ ‬مدنيون،‭ ‬وتخضع‭ ‬للقواعد‭ ‬العامة‭ ‬التي‭ ‬تخضع‭ ‬لها‭ ‬تلك‭ ‬العقود،‭ ‬وبالتالي‭ ‬أصبحت‭ ‬قابلة‭ ‬للفسخ‭ ‬والانحلال‭ (‬أي‭ ‬الطلاق‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬يقرّها‭ ‬القانون‭ ‬المدني،‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬أحد‭ ‬ركائز‭ ‬المجتمعات‭ ‬العصرية‭.‬

وبالرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬الكنسية‭ ‬العنيفة‭ ‬ضد‭ ‬الاتجاهات‭ ‬العلمانية‭ ‬للدولة‭ ‬الحديثة،‭ ‬فقد‭ ‬استمرت‭ ‬عملية‭ ‬الابتعاد‭ ‬عن‭ ‬التأثيرات‭ ‬اللاهوتية‭ ‬ومؤسساتها‭ ‬بالتقدم،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬خضعت‭ ‬البنى‭ ‬التحتية‭ ‬للمجتمعات‭ ‬الأوربية‭ ‬لتغييرات‭ ‬علمية‭ ‬وفكرية‭ ‬واقتصادية‭ ‬عميقة‭ ‬جعلت‭ ‬مسؤوليات‭ ‬الدولة‭ ‬تتطور‭ ‬وتتوسع،‭ ‬لتشمل‭ ‬أهم‭ ‬الحقول‭ ‬تأثيرًا‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬أفكار‭ ‬الناس‭ ‬وعلاقاتهم‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬أي‭ ‬حقل‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭.‬

كان‭ ‬التعليم‭ ‬ومؤسساته‭ ‬قبل‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬من‭ ‬المهمات‭ ‬الرئيسة‭ ‬للكنيسة،‭ ‬وكانت‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مدارسها‭ ‬وجامعاتها‭ ‬تحتكر‭ ‬وحدها‭ ‬ميدان‭ ‬التعليم‭ ‬وتتحكم‭ ‬بعقول‭ ‬الأجيال‭ ‬الناشئة،‭ ‬وتجعلها‭ ‬أدوات‭ ‬طيّعة‭ ‬لأهدافها‭.‬

وعندما‭ ‬جاءت‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬هدمت‭ ‬ذلك‭ ‬الصرح‭ ‬التعليمي‭ ‬المتين‭ ‬الذي‭ ‬شيّدته‭ ‬الكنيسة‭ ‬عبر‭ ‬العصور،‭ ‬وجعلته‭ ‬من‭ ‬مهمات‭ ‬الحكم‭ ‬المدني‭ ‬وأجهزته‭ ‬العلمانية،‭ ‬وبذلك‭ ‬استطاعت‭ ‬الدولة‭ ‬أن‭ ‬تجرّد‭ ‬الكنيسة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أسلحتها،‭ ‬وأخذت‭ ‬تشجع‭ ‬الحركة‭ ‬العلمية‭ ‬والاختراعات،‭ ‬ضمن‭ ‬مشروع‭ ‬تعليمي‭ ‬وتربوي‭ ‬مدني‭ ‬حديث،‭ ‬يستوحي‭ ‬مصالح‭ ‬الإنسان‭ ‬الدنيوية‭ ‬وطموحاته‭ ‬المستقبلية،‭ ‬بعيدًا‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬مؤثرات‭ ‬دينية‭ ‬أو‭ ‬لاهوتية‭.‬

كانت‭ ‬هذه‭ ‬باختصار‭ ‬العوامل‭ ‬الرئيسة‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬ولادة‭ ‬المجتمعات‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬وتكوين‭ ‬خصائصها‭ ‬الجوهرية‭ ‬المنفصلة‭ ‬عن‭ ‬اللاهوت،‭ ‬وهي‭ ‬خصائص‭ ‬أصبحت‭ ‬تراثًا‭ ‬للإنسانية‭ ‬كلها‭ ‬تستفيد‭ ‬منها‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬مشكلات‭ ‬التخلف‭ ‬والانحطاط،‭ ‬لكي‭ ‬تنهض‭ ‬وتتطور‭.  ‬ولو‭ ‬بقي‭ ‬العقل‭ ‬الأوربي‭ ‬أسير‭ ‬الفكر‭ ‬اللاهوتي‭ ‬وتصوراته‭ ‬عن‭ ‬الله‭ ‬والكون‭ ‬والحياة‭ ‬والإنسان،‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬البشر‭ ‬ينعمون‭ ‬الآن،‭ ‬ولو‭ ‬بدرجات‭ ‬متفاوتة،‭ ‬بآلاف‭ ‬المخترعات‭ ‬الخارقة‭ ‬والنظم‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬خففت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬بؤسهم‭ ‬ومعاناتهم‭ ‬التي‭ ‬عاشوا‭ ‬فيها‭ ‬آلاف‭ ‬السنين‭.‬