أحمد شوقي ومجلة الزهور

أحمد شوقي ومجلة الزهور

كنت أراجع مجلة الزهور (1910 - 1913) في سنتها الأولى ‏(1910) لصاحبها ومديرها أنطون الجميّل، ثم مع الشاعر أمين تقي الدين، قرأت أن صاحب السمو عباس باشا حلمي الثاني (خديوي مصر) حجّ عام 1910 إلى البيت الحرام وعاد محفوفًا باليُمن والبركات، ودعا الشعراء إلى التباري في وداعه واستقباله، ومنهم أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وأوردت المجلة بعددها الأول في سنتها الأولى (مارس 1910)، مقارنة بين قصيدة «البُردة» في مدح النبي، صلى الله عليه وسلم، للبوصيري، وهو الشيخ شرف الدين أبو عبدالله محمد البوصيري، الذي ولد في ناحية دلاص سنة 608 هـ وتوفي في ‏الإسكندرية سنة 696‏ هـ.

‏   استلهم شوقي تلك القصيدة في نظم قصيدته «نهج البُردة» مع عودة الأمير من حجّه المبرور، وجاء ينسج على منوالها قصيدة طويلة عصماء في 190 بيتًا، غنّت بعض أبياتها أم كلثوم، ومطلعها: 
ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ
أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ 
يا لائِمي في هَواهُ وَالهَوى قَدَرٌ  
لَو شَفَّكَ الوَجدُ لَم تَعذِل وَلَم تَلُمِ 
ويقرّ بأنه يتأثر خطى صاحب «البردة»، وبأنه يركب في ذلك مركبًا وعرًا، فليس من السهل المجاراة ومعارضة تلك القصيدة الشهيرة. 
‏تشير مجلة الزهور إلى ذلك (ص 15): 
‏«لم تَخْفَ على شوقي بك وعورة هذا المسلك، فتنصل قائلًا:
المادِحونَ وَأَربابُ الهَوى تَبَعٌ 
لِصاحِبِ البُردَةِ الفَيحاءِ ذي القدَمِ  
اللهُ يَشهَدُ أَنّي لا أُعارِضُهُ   
من ذا يُعارِضُ صَوبَ العارِضِ العَرِمِ؟
‏على أن شوقي - رغم هذا التنصل الذي قضى به حُسن الذوق - عارض سلفه ولم يقصّر عنه في أكثر المواقف». 
‏قال البوصيري في الآيات القرآنية: 
لَوْ نَاسَبَتْ قَدْرَهُ آيَاتُهُ عِظَمًا
أَحْيَا اسْمُهُ حِيْنَ يُدْعَى دَارِس الرِّمَمِ
وَكُلُّ آيٍ أتى الرسْلُ الْكِرامُ بهَا
فَإنَّمَا اتصَلَت مِنْ نُوْرهِ بهِمِ
آياتُ حق من الرحمن مُحدثـــةٌ 
قديمةٌ صفةُ الموصوف بالقــدمِ
لم تقترن بزمانٍ وهي تخبرنـا
عن المعادِ وعن عادٍ وعــن إِرَم 
‏وقال شوقي في مثل هذا المعنى:
جاءَ النبِيّونَ بِالآياتِ فَانصَرَمَتْ
وَجِئتَنا بِحَكيمٍ غَيرِ مُنصَرِمِ 
آياتُهُ كُلَّما طالَ المدى جُدُدٌ
يزيّنهنَّ جَلالُ العِتقِ وَالقِدَمِ
يا أَفصَحَ الناطِقينَ الضادَ قاطِبَةً
حَديثُكَ الشهدُ عِندَ الذائِقِ الفَهِمِ
حَلَّيتَ مِن عَطَلٍ جِيدَ الزمانِ به
في كُلِّ مُنتَثِرٍ في حُسنِ مُنتَظِمِ
بِكُلِّ قَولٍ كَريمٍ أَنتَ قائِلُهُ
تُحييِ القُلوبَ، وَتُحييِ مَيِّتَ الهِمَمِ
‏وأشار (محمد) البوصيري إلى اسمه فقال: 
فَإِنَّ لِي ذِمَّةً مِنْهُ بتَسْمِيَتِي
مُحمَّدًا وَهُوَ أَوْفَى الخَلْقِ بِالذِّمَمِ

وأشار (أحمد) شوقي إلى اسمه أيضًا فقال: 
يا أحمد الخير، لي جاهٌ بتسميتي
وكيف لا يتسامى بالرسول سَمِي؟

ليس الهدف أن نتابع المقارنة بين ‏القصيدتين وتبيان من هو المجلّي، ومن هو المقصّر، بل نكتفي بما تورده مجلة الزهور (ص 22): 
«كان الشعراء بالأمس يقفون على أبواب الملوك والعظماء لينشدوهم الشعر، ونراهم اليوم المقرّبين الجالسين في الصدر».
‏نظم شوقي بك هذا المعنى فأبدع وأجاد. ولشاعر أمير مصر ولع بشعر ابن هاني شاعر هارون الرشيد، وأطلق على منزله في منطقة المطرية اسم «كرمة ابن هاني»، وكان هذا المنزل مزدانًا بأبهج الزينات ليلة عودة سمو الخديوي من الحج، فاتفق أن سموّه مرّ تلك الليلة أمام «كرمة ابن هاني»، فألفى شاعره واقفًا على الباب، فقال له: 
«يا شوقي أعجبتني قصيدتك كما أعجبتني زينتك»، فارتجل شوقي بك الأبيات الآتية التي أشرنا إليها كحاشية لطراز البردة:
زينُ الملوكِ الصيدِ مَرَّ بزينتي 
كرمًا وبابُ الله طاف ببابي 
يا ليلة القدر التي بلّغتها
ما فيك بعد اليوم من مرتابِ
ما كنت أهلًا للنوال، وإنما
نفحات أحمد فوق كل حسابِ
لما بلغتُ السُّؤلَ ليلةَ مدحه
بعث الملوك يعظّمون جنابي
بدران: بدرٌ في السماء منورٌ
وأخوه فوق الأرض نور رحابي
هذا (ابن هاني) نال ما قد نلتُ من
حسبٍ نُدلُّ به على الأحسابِ
قد كان يسعى للرشيد وبابه
فسعى الرشيد إليه وهو ببابي

وهكذا يتيه على سائر الشعراء، لأن الأمير يقف في بابه، بينما سائر الشعراء يقفون هم على أبواب الأمراء.  ‏هذا هو أحمد شوقي الذي كان يفاخر بأنه ولد في باب إسماعيل خديوي مصر. 
‏وما دام الحديث يجري عن شوقي، فلا بأس أن نورد ما جاء في السنة الأولى من «الزهور» (ص 213) ‏حول قصة نظم شوقي لقصيدته الشهيرة التي يغنيها محمد عبدالوهاب «مُضْناكَ جفاه مرقده»: 
في الشهر الغابر ضمّ مجلس طرب سعادة شاعر الأمير شوقي بك وطائفة من الأدباء. وكان المغني ينشد القصيدة التي مطلعها:
يا ليلُ الصبُّ متى غدهُ
أقيامُ الساعة موعدُه؟ 

‏وهذه القصيدة لابن الابّار الذي قتله في تونس سنة 658 هـ صاحبها المستنصر ومن أبياتها:
منظومُ الخدّ موردهُ 
يكسوني السّقم مُجرّدُه
شفّاف الدرّ له جسد
بأبي ما أودع مَجســده
في وجنته من نعمته
جمرٌ بفؤادي موقدهُ
ولاّه الحســـــنُ وأمّــــــــره
وأتاه السحرُ يؤيدُهُ 
يا من سفكتْ عيناه دمي
وعلى خدّيه تورُّدُهُ
سأموت غدا أو بعدَ غدٍ
هل من نظر أتزوّدهُ؟!

‏وكان لها وقعٌ عظيم في النفوس. فطلب أحد الحاضرين من شوقي أن ينظم شيئًا على هذا النمط للإنشاد. فوعد أن يفعل. ثم زاره المقترح وذكّره بوعده، فلم يتأخّر وأملى عليه هذه الأبيات المنسجمة عذوبة ورقّةً، فكانت من نصيب قرّاء «الزهور»، ومنها:
مُضناك جفاهُ مَرْقَدُه
وبكاه ورَحَّمَ عُوَّدُهُ
حيرانُ القلبِ مُعَذَّبُهُ
مقروحُ الجفنِ مُسهَّدُه 
يستهوي الوُرْق تأوُّهه
ويذيب الصخرَ تنهُّدهُ
ويناجي النجمَ ويتبعُهُ
ويُقيم الليلَ ويُقْعِدهُ
جَحَدَتْ عَيْنَاك زَكِيَّ دَمِي
أكذلك خدُّك يَجْحَدُه؟
قد عزَّ شُهودي إذ رمَتا
فأشرتُ لخدِّك أُشهده
مَوْلايَ ورُوحِي في يَدِه
قد ضَيَّعها سَلِمتْ يَدُه

ثم تعود «الزهور» إلى هذه القصيدة التي شغلت الناس كما شغلت الشعراء الذين راحوا يعارضونها. فتقول (ص 458): 
‏في «كرمة ابن هاني»، في مهبط الشعر وكعبة الأدباء، في منزل شوقي بالمطرية، بين متلألئ الأنوار، ومفتّح الأزهار، على رنّات العود والقانون، ونغمات المنشدين المطربين، تحت الخمائل الجميلة، والسرادقات الفخيمة، التقت جماعة من الوجهاء والأدباء، مساء الخميس الماضي، ابتهاجًا بعودة سمو أمير مصر إلى عاصمته. 
‏فالتفت الحلقات حول وزيرٍ جليل، أو شاعر أديب، أو منشد مبدع؛ والمضيف الكريم يتنقل بين هذه الحلقات، فكانت ليلة سمرٍ وأُنس وسماع فريدة، والزمان بمثلها ضنين. وفي الحديقة الغنّاء مُدَّت الموائد المثقلة بألوان الطعام وأنواع الشراب. 
وكانت فترة أنشد خلالها أحد المنشدين بحضور رئيس النظّار غزلية شوقي «مضناك جفاه مرقده» (وهي الأبيات التي نشرتها «الزهور» ص 213 وعارضها كبار شعرائنا)، ‏وزاد عليها الشاعر أبياتًا كثيرة، منها الغزل: 
الحُسنُ حلفتُ «بيوسفه»
و«السورةِ» أنك مفردُهُ
بيني في الحبِّ وبينَك ما
لا يقدرُ واشٍ يفسِدُهُ
ما بالُ العاذلِ يفتح لي
بابَ السُّلوان وأوصدهُ؟
ويقول: تكادُ تُجَنُّ به
فأقولُ: وأوشكُ أعبُدُهُ
‏قسمًا بثنايا لؤلؤها
قسمَ الياقوتِ مُنَضِّدُهُ
‏ورُضابٍ يُوعَدُ كوثَرَهُ
مقتولُ العشق ومشهَدُهُ 
وقوام يروي الغصنُ له
نسبًا، والرمحُ يفنّدهُ
ما خنتُ هواكَ، ولا خطرت
سلوى بالقلب تُبرِّدُهُ

‏ومن الأبيات التي يمدح بها الأمير، وهي ليست منشورة في «الشوقيات»:
يا سيف الدولة عش أبدًا 
للعصر يهزُّكَ «أحمدهُ»
‏ما كان الله مجرّده
لا يقدرُ خلقٌ يُغمدُهُ 
سعدتْ بقدومك مصر ضحى
وتلاقى الأوجُ وفرقدُهُ

‏ثم يختمها بنشيد وطني منه:
يا مصر سماؤك جوهرةٌ 
وثراك بحارٌ عسجدُهُ
‏والنيل حياةٌ دافقةٌ
ونعيمٌ عذبٌ موردُهُ
والملك سعيدٌ حاضرهُ
لك في ‏الدنيا حرٌّ غدُهُ
والعصرُ إليكِ تقرُّبهُ
وإلى حاميك ‏تودّدُهُ
والشرق رقيُّك مظهرهُ
وحضارة جيلك سؤددُهُ
لسريركِ بين أسرّتهِ
أعلى التاريخِ وأمجدُهُ 
بعلوِّ الهمّة نرجعهُ
وبنشر العلم نجدّدُهُ 

‏هذه أوراق مطويّة من ذكريات عذبة سجّلتها لنا «الزهور»، فقطفنا منها «زهرات»، فكانت لنا هذه النفحة العطرة ■