ظاهرة تسييس كل شيء

ظاهرة تسييس كل شيء

تستحق‭ ‬ظاهرة‭ ‬تسييس‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬الوقوف‭ ‬عندها‭ ‬وتحليلها‭ ‬بصورة‭ ‬نقدية،‭ ‬لما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬سلبية‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الصُّعد‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬طرف‭ ‬معيّن،‭ ‬بل‭ ‬تمتد‭ ‬لتشمل‭ ‬الحكومات‭ ‬ومعارضيها‭ ‬والمثقفين‭ ‬والمفكرين،‭ ‬وغيرهم‭ ‬ممن‭ ‬ينظرون‭ ‬لأي‭ ‬مشكلة‭ ‬أو‭ ‬قضية‭ ‬نظرة‭ ‬سياسية‭ ‬تتحكم‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬وتفسيرها،‭ ‬وحتى‭ ‬الحلول‭ ‬التي‭ ‬تقدم‭ ‬لها‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تأخذ‭ ‬صبغة‭ ‬سياسية‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أسبابًا‭ ‬عدة‭ ‬تقف‭ ‬وراء‭ ‬ذلك؛‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬سياسي‭ ‬وثقافي‭ ‬وبنيوي‭ ‬وغيرها‭.‬

عادة‭ ‬ما‭ ‬يقوم‭ ‬أي‭ ‬مجتمع‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬معيّن‭ ‬يلتف‭ ‬حوله‭ ‬الأفراد‭ ‬ويشكّل‭ ‬طريقة‭ ‬حياتهم‭ ‬ويكون‭ ‬مسؤولًا‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬عن‭ ‬طريقة‭ ‬الإنتاج‭ ‬التي‭ ‬تسود‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭. ‬

وإذا‭ ‬نظرنا‭ ‬بشكل‭ ‬تاريخي‭ ‬لتطور‭ ‬المجتمع‭ ‬الإنساني،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الطبيعة،‭ ‬أي‭ ‬علاقة‭ ‬الإنسان‭ ‬بالطبيعة،‭ ‬كانت‭ ‬العامل‭ ‬الأساسي‭ ‬الذي‭ ‬شكّل‭ ‬واقع‭ ‬المجتمعات‭ ‬وقيمها‭ ‬معظم‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬العلم‭ ‬منذ‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬وأصبح‭ ‬العماد‭ ‬الذي‭ ‬تقوم‭ ‬عليه‭ ‬الحضارة‭ ‬المدنية‭ ‬الحديثة،‭ ‬وارتبط‭ ‬مصير‭ ‬الأفراد‭ ‬والمجتمعات‭ ‬وتطورها‭ ‬به،‭ ‬وغيّر‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬المجتمعات‭ ‬وكيانها‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬وأثّر‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬طرق‭ ‬التفكير‭ ‬والثقافة‭ ‬الإنسانية‭. ‬

كما‭ ‬غيّر‭ ‬العلم‭ ‬نظرة‭ ‬الإنسان‭ ‬لنفسه‭ ‬وموقفه‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬والعالم،‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يمارس‭ ‬حياته‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اختيار‭ ‬أفضل‭ ‬النظم‭ ‬السياسية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬التعددية‭ ‬والمساواة‭ ‬والعدالة‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والتداول‭ ‬الديمقراطي‭ ‬للسلطة،‭ ‬وكيف‭ ‬يطور‭ ‬واقعه‭ ‬بشكل‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬التوقـــف‭ ‬عنـــد‭ ‬نقـــطة‭ ‬ما‭.‬

وما‭ ‬حققته‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬السياسي،‭ ‬أصبح‭ ‬النموذج‭ ‬الذي‭ ‬اتّبع‭ ‬منذ‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وحتى‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬دول‭ ‬العالم‭. ‬فعبر‭ ‬التقدم‭ ‬العلمي‭ ‬والثقافي‭ ‬المتزامنين‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬المتطورة،‭ ‬تم‭ ‬بناء‭ ‬شكل‭ ‬الدولة‭ ‬السياسي‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬المدني،‭ ‬وهي‭ ‬دولة‭ ‬تقسّم‭ ‬فيها‭ ‬السلطات‭ ‬عادة‭ ‬إلى‭ ‬ثلاث،‭ ‬وتقوم‭ ‬على‭ ‬المؤسسات‭ ‬الراسخة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والتعليمية‭ ‬والثقافية‭ ‬وغيرها،‭ ‬ويسود‭ ‬فيها‭ ‬القانون‭ ‬والنظم‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬مسيرة‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬ومؤسساتها،‭ ‬ويتم‭ ‬تطور‭ ‬تلك‭ ‬المؤسسات‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬القائمين‭ ‬عليها‭ ‬الذين‭ ‬يحظون‭ ‬عادة‭ ‬باستقلالية‭ ‬تامة‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬ضغوط‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬أيديولوجية،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬عن‭ ‬المؤسسات‭ ‬السياسية‭ ‬القائمة‭.‬

 

رؤية‭ ‬وطنية

أدى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬استمرارية‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬وفق‭ ‬رؤية‭ ‬وطنية‭ ‬ومؤسسية‭ ‬تنبع‭ ‬من‭ ‬الارتباط‭ ‬بالصالح‭ ‬العام‭ ‬للمجتمع،‭ ‬لا‭ ‬مصالح‭ ‬أحزاب‭ ‬أو‭ ‬تنظيمات‭ ‬سياسية،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬الديمقراطية‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تتغير‭ ‬بها‭ ‬الحكومات‭ ‬السياسية‭ ‬وتوجهاتها‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬أحزابًا‭ ‬مختلفة‭ ‬الأفكار‭ ‬والأيديولوجيات‭ ‬السياسية‭.‬

إذاً‭ ‬كيان‭ ‬الدولة‭ ‬ومؤسساتها‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬المتقدمة‭ ‬كيانًا‭ ‬موضوعيًّا‭ ‬ليس‭ ‬حكرًا‭ ‬على‭ ‬فئة‭ ‬ما،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينفرد‭ ‬طرف‭ ‬برسم‭ ‬سياساته‭ ‬وسير‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬مؤسساته،‭ ‬وتدار‭ ‬المؤسسات‭ ‬وفق‭ ‬مبدأ‭ ‬الإدارة‭ ‬الذاتية‭ ‬ووفق‭ ‬اللوائح‭ ‬التي‭ ‬تنظمها‭.‬

وتزامن‭ ‬مع‭ ‬التطور‭ ‬العلمي‭ ‬تطورات‭ ‬فكــــرية‭ ‬تصــــاغ‭ ‬مـــن‭ ‬خـــلال‭ ‬الأســـس‭ ‬الفكــــرية‭ ‬والفلسفيــــة‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬عليها‭ ‬المؤسسات‭ ‬والثقافة‭ ‬والفكر‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬إذ‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬الصياغات‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭ ‬الأكاديميون‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬العلوم،‭ ‬الإنسانية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والتجريبية،‭ ‬يساهم‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والمفكرون‭ ‬والمثقفون‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬المفاهيم‭ ‬والقيم‭ ‬والأفكار‭ ‬العامة‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬الأرضية‭ ‬الفكرية‭ ‬لمسيرة‭ ‬تلك‭ ‬المؤسسات‭ ‬واستمراريتها‭.‬

ولا‭ ‬يفوت‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬دور‭ ‬الاقتصاديين‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬المجتمعات‭ ‬وتطورها،‭ ‬فالنجاح‭ ‬في‭ ‬التطور‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الذي‭ ‬تحققه‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمعات‭ ‬ينعكس‭ ‬دائمًا‭ ‬على‭ ‬سياساتها،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الحالية‭ ‬عالميًّا،‭ ‬حيث‭ ‬يؤدي‭ ‬الاقتصاديون‭ ‬الدور‭ ‬الأساسي‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التنمية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬‮«‬اقتصاد‭ ‬السوق‮»‬،‭ ‬وأصبحوا‭ ‬يتحكمون‭ ‬بالسياسيين‭ ‬وقراراتهم،‭ ‬بل‭ ‬وفي‭ ‬نجـــاح‭ ‬الأحـــزاب‭ ‬بالانتخـــابـــات‭ ‬من‭ ‬عدمه‭ ‬أحياناً‭.‬

 

ثلاثة‭ ‬عناصر

خلاصة‭ ‬القول،‭ ‬هنـــالك‭ ‬ثلاثـــة‭ ‬عناصر‭ ‬رئيسة‭ ‬تلعب‭ ‬الدور‭ ‬الأساسي‭ ‬في‭ ‬بـــناء‭ ‬المجتمعات‭ ‬المتقدمة،‭ ‬وهي‭ ‬العلم‭ ‬والاقتصاد‭ ‬والفكر،‭ ‬فالإنتاج‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬الصناعي،‭ ‬يعتمـــد‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬التطورات‭ ‬العلمية‭ ‬والتكنولوجية‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬بمؤثرات‭ ‬فكرية‭ ‬وثقافية‭ ‬على‭ ‬المجتمع،‭ ‬التي‭ ‬تنعكس‭ ‬بدورها‭ ‬على‭ ‬العملية‭ ‬السياسية،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬السياسة‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬متأخرة‭.‬

ولعل‭ ‬النجاح‭ ‬الفعلي‭ ‬الذي‭ ‬تحقق‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬هو‭ ‬عدم‭ ‬تسييس‭ ‬المؤسسات‭ ‬بمختلف‭ ‬أنماطها،‭ ‬فأبعدت‭ ‬عن‭ ‬الصراعات‭ ‬السياسية،‭ ‬وأصبحت‭ ‬تسنّ‭ ‬تشريعاتها‭ ‬وتتطور‭ ‬بقواها‭ ‬الذاتية‭.‬

 

ظاهرة‭ ‬التسييس‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي

رأينا‭ ‬الأسس‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬عليها‭ ‬المجتمعات‭ ‬الحديثة،‭ ‬وكيف‭ ‬استطاعت‭ ‬شعوب‭ ‬المعمورة‭ ‬الأكثر‭ ‬تقدمًا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬السّير‭ ‬قُدمًا‭ ‬في‭ ‬تطورها،‭ ‬وتحقيق‭ ‬الاستقرار‭ ‬والتعايش‭ ‬فيها،‭ ‬والتقدم‭ ‬والرقي‭ ‬في‭ ‬مفاهيمها‭ ‬وقيمها‭. ‬لكنّ‭ ‬واقعنا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬مختلف‭ ‬تمامًا،‭ ‬فالأساس‭ ‬الذي‭ ‬تقوم‭ ‬عليه‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬ليس‭ ‬العلم‭ ‬والإنتاج‭ ‬الصناعي‭ ‬والاقتصادي،‭ ‬أي‭ ‬لسنا‭ ‬مجتمعات‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬علمية‭ ‬وكذلك‭ ‬غير‭ ‬منتجة،‭ ‬فضلًا‭ ‬بالطبع‭ ‬عن‭ ‬غياب‭ ‬الفكر،‭ ‬خصوصًا‭ ‬العقلاني‭ ‬والتنويري‭ ‬ذا‭ ‬الطابع‭ ‬الفلسفي‭ ‬الذي‭ ‬تتميز‭ ‬به‭ ‬المجتمعات‭ ‬المعاصرة،‭ ‬باعتباره‭ ‬أساسًا‭ ‬لعملية‭ ‬التقدم‭ ‬والتطور‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬ككل‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الجوانب‭.‬

فواقع‭ ‬حالنا‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الأساس‭ ‬الذي‭ ‬تقوم‭ ‬عليه‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭ ‬هو‭ ‬أساس‭ ‬سياسي،‭ ‬أي‭ ‬السياسة‭ ‬هي‭ ‬الأساس،‭ ‬ومع‭ ‬الأسف‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬لا‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬نظريات‭ ‬فكرية‭ ‬فلسفية‭ ‬تعكس‭ ‬رؤية‭ ‬متقدمة‭ ‬ومتطورة،‭ ‬بل‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬عوامل‭ ‬اجتماعية‭ ‬صرفة،‭ ‬مهما‭ ‬حاول‭ ‬البعض‭ ‬تلميع‭ ‬صورة‭ ‬إدارة‭ ‬الدول‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أحزاب‭ ‬أو‭ ‬أشكال‭ ‬معيّنة،‭ ‬توسم‭ ‬بالديمقراطية‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭. ‬وقد‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬تم‭ ‬تسييس‭ ‬المجتمع‭ ‬ومؤسساته‭ ‬ومكوناته‭ ‬الاجتماعية‭.‬

ولعل‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬يشار‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬هو‭ ‬الإخفاق‭ ‬في‭ ‬إقامة‭ ‬مجتمعات‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬مؤسسات‭ ‬فعلية‭ ‬لها‭ ‬كيانها‭ ‬واستقلاليتها،‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬قيم‭ ‬حقيقية‭ ‬للمواطنة‭ ‬وتسودها‭ ‬المساواة‭ ‬والعدالة‭ ‬التي‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬قيام‭ ‬دولة‭ ‬المؤسسات‭ ‬الحديثة‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬الثقافة‭ ‬المدنية‭ ‬وتطبيق‭ ‬القانون‭. ‬

 

نظرة‭ ‬محايدة

فالدولة‭ ‬المدنية‭ ‬غير‭ ‬متحققة،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬مضيّ‭ ‬عدة‭ ‬عقود‭ ‬على‭ ‬الاستقلال‭ ‬من‭ ‬الاستعمار،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لا‭ ‬ينظر‭ ‬للدولة‭ ‬ككيان‭ ‬موضوعي‭ ‬مثلما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬المتقدمة،‭ ‬نتيجة‭ ‬للثقافة‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬تنظر‭ ‬للأمور‭ ‬بنظرة‭ ‬موضوعية‭ ‬ومحايدة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬النظرة‭ ‬لها‭ ‬تأخذ‭ ‬الأبعاد‭ ‬الذاتية‭ ‬نتيجة‭ ‬لكون‭ ‬الثقافة‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬اجتماعية‭ ‬وذاتية،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفتح‭ ‬المجال‭ ‬للجوانب‭ ‬السياسية‭ ‬للدخول‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬المجتمع‭ ‬والدولة‭. ‬

فالأفكار‭ ‬السياسية‭ ‬والأيديولوجية‭ ‬ذات‭ ‬بُعد‭ ‬ذاتي‭ ‬أو‭ ‬اجتماعي،‭ ‬وتعكس‭ ‬رؤى‭ ‬وتصورات‭ ‬ذاتية‭ ‬لأفراد‭ ‬أو‭ ‬مجاميع‭ ‬تحاول‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬تشكيل‭ ‬المجتمع‭ ‬والدولة،‭ ‬وأيضًا‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬محاولة‭ ‬خلق‭ ‬ثقافة‭ ‬معيّنة‭ ‬تتماشى‭ ‬مع‭ ‬طبيعة‭ ‬الحكم‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬تريد‭ ‬إقامته‭.‬

وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬تتميز‭ ‬طريقة‭ ‬إدارة‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع‭ ‬بوجود‭ ‬سلطة‭ ‬مركزية‭ ‬واحدة‭ ‬تنفرد‭ ‬بالإدارة‭ ‬ورسم‭ ‬السياسات،‭ ‬وتخضع‭ ‬جميع‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬لتوجهاتها‭ ‬السياسية‭.‬

والسلطة‭ ‬المركزية‭ ‬تكون،‭ ‬بالطبع،‭ ‬نتيجة‭ ‬لغياب‭ ‬الديمقراطية‭ ‬التي‭ ‬تعدّ‭ ‬النظام‭ ‬الأمثل‭ ‬لتحقيق‭ ‬استقلالية‭ ‬تامة‭ ‬للمؤسسات،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬عندنا‭ ‬هو‭ ‬تسييس‭ ‬تام‭ ‬لجميع‭ ‬مؤسسات‭ ‬المجتمع‭ ‬وهيئاته‭ ‬الرسمية،‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬حتى‭ ‬الهيئات‭ ‬والنقابات‭ ‬الشعبية،‭ ‬لا‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬الإطار‭ ‬السياسي‭ ‬العام‭. ‬

فــالمـــؤســــسات‭ ‬الاقـــــتصــــادية‭ ‬والاجــتمـــاعية‭ ‬والثقافية‭ ‬والأهم،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شك،‭ ‬المؤسسات‭ ‬التعليمية‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬مراحل‭ ‬التعلم‭ ‬المدرسي‭ ‬والجامعي‭ ‬تخضع‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬للسلطة‭ ‬السياسية،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنها‭ ‬تسيّس‭ ‬تمامًا‭ ‬وتفرّغ‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬إطار‭ ‬تنظيمي‭ ‬داخلي‭ ‬فعلي‭ ‬يسير‭ ‬وفق‭ ‬لوائح‭ ‬وقرارات‭ ‬ذاتية‭. ‬

 

تعيينات‭ ‬سياسية

تخضع‭ ‬المناصب‭ ‬المهمة‭ ‬والحساسة‭ ‬في‭ ‬أجهزة‭ ‬الدولة‭ ‬ومؤسساتها‭ ‬وهيئاتها‭ ‬لتعيينات‭ ‬سياسية‭ ‬لا‭ ‬تراعى‭ ‬فيها‭ ‬الكفاءة‭ ‬أو‭ ‬التخصص‭ ‬أو‭ ‬الخبرة،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬تتطلبها‭ ‬قيادة‭ ‬المؤسسات‭ ‬الناجحة،‭ ‬ويرتبط‭ ‬ما‭ ‬يصدر‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬قرارات‭ ‬وفعاليـــات‭ ‬وممـــارسات‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬سائد‭ ‬سياسيًّا‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬والخــروج‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬يعـــنـــي‭ ‬الإقــــالة‭ ‬على‭ ‬أقــل‭ ‬تقــــدير،‭ ‬أو‭ ‬قـــد‭ ‬تصل‭ ‬الأمـــور‭ ‬إلى‭ ‬وسائل‭ ‬العقاب‭ ‬المعروفـــة،‭ ‬وهناك‭ ‬بُعد‭ ‬سلبي‭ ‬جدًّا‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬التعيـــينات‭ ‬للمــــناصــــب،‭ ‬ويتـــــعلق‭ ‬بإخضاعها‭ ‬لنظام‭ ‬المحاصصة،‭ ‬حيث‭ ‬توزع‭ ‬على‭ ‬فئات‭ ‬وطوائف‭ ‬وقبائل‭ ‬وغيرها،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الأخذ‭ ‬بأي‭ ‬اعتبار‭ ‬لمبدأ‭ ‬الكفاءة‭ ‬أو‭ ‬التخصص‭.‬

وينتج‭ ‬عن‭ ‬تسييس‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع‭ ‬غياب‭ ‬العدالة‭ ‬والمساواة‭ ‬بين‭ ‬المواطنين،‭ ‬ويخضع‭ ‬تطبيق‭ ‬القانون‭ ‬على‭ ‬الأفراد‭ ‬لمعايير‭ ‬سياسية‭ ‬فئوية،‭ ‬وغياب‭ ‬فعلي‭ ‬لمبدأ‭ ‬تكافؤ‭ ‬الفرص،‭ ‬وتفشي‭ ‬البيروقراطية‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬والهيئات‭ ‬الرسمية،‭ ‬وخضوعها‭ ‬لرقابة‭ ‬مستمرة‭ ‬لما‭ ‬يصدر‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬قرارات‭.‬

هنالك‭ ‬بالطبع‭ ‬بُعد‭ ‬ثقافي‭ ‬لهذه‭ ‬المسألة،‭ ‬يتمثّل‭ ‬في‭ ‬فكرة‭ ‬الخضوع‭ ‬للسلطة‭ ‬ذات‭ ‬الأساس‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬فعادة‭ ‬ما‭ ‬تخضع‭ ‬التشكيلات‭ ‬والكيانات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬لتسلسل‭ ‬هرمي‭ ‬يكون‭ ‬فيه‭ ‬القرار‭ ‬عند‭ ‬فرد‭ ‬أو‭ ‬مجموعة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وما‭ ‬على‭ ‬الآخرين‭ ‬إلا‭ ‬اتباعها‭.‬

فلو‭ ‬نظرنا‭ ‬إلى‭ ‬الأسرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬ككيان‭ ‬اجتماعي،‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬الأغلب‭ ‬خضوع‭ ‬أفراد‭ ‬الأسرة‭ ‬لسلطة‭ ‬رب‭ ‬الأسرة‭ ‬الذي‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬يتدخل‭ ‬بكل‭ ‬كبيرة‭ ‬وصغيرة‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬أفرادها،‭ ‬ويحدد‭ ‬عنهم‭ ‬القرارات‭ ‬المصيرية،‭ ‬ولا‭ ‬تمكن‭ ‬مناقشته‭ ‬أو‭ ‬التمرد‭ ‬عليه،‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬سيوقع‭ ‬العقوبات‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬من‭ ‬يتمرّد‭. ‬

 

تسييس‭ ‬كل‭ ‬شيء

هذه‭ ‬البيئة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬تنتج‭ ‬ممارسات‭ ‬وقيمًا‭ ‬تسود‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬نجد‭ ‬لها‭ ‬صدى‭ ‬في‭ ‬ممارسات‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المسؤولين‭ ‬في‭ ‬الإدارات،‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬مؤسسات‭ ‬التعليم‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬أبسط‭ ‬مبادئ‭ ‬التفكير‭ ‬العقلاني‭ ‬والمستقل‭ ‬للطلاب‭ ‬الذين‭ ‬يخضعون‭ ‬بدورهم‭ ‬لسلطة‭ ‬المعلم‭.‬

لقد‭ ‬أفرزت‭ ‬ظاهرة‭ ‬تسييس‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الأوضاع‭ ‬التي‭ ‬نعيــشـــها‭ ‬في‭ ‬واقعنا‭ ‬العربي،‭ ‬فهي‭ ‬تعدّ‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬العوامل‭ ‬المسؤولة‭  ‬لحالة‭ ‬التخلف‭ ‬الذي‭ ‬نعيشه،‭ ‬وإعاقـــة‭ ‬أي‭ ‬تطور‭ ‬حقيقي‭ ‬للمجتمع‭ ‬والـــدولة‭ ‬ومـــؤسســــاتها،‭ ‬فـتـســيــيــــــس‭ ‬المــؤســسة‭ ‬والــثـقـــافـــة‭ ‬والــتـعـــلـــيم‭ ‬والاقتصـــاد‭ ‬والشرائح‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬موضوعات‭ ‬سينتج‭ ‬عنه‭ ‬تحجيم‭ ‬لهذه‭ ‬المؤسسات،‭ ‬وإعاقتها‭ ‬عن‭ ‬لعب‭ ‬دورها‭ ‬الحقيقي‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وسيقضي‭ ‬على‭ ‬التعددية‭ ‬في‭ ‬الآراء‭ ‬ومعالجة‭ ‬المشكلات،‭ ‬وسيقف‭ ‬حجر‭ ‬عثرة‭ ‬أمام‭ ‬الإبداع‭ ‬والأخذ‭ ‬بالأساليب‭ ‬الجديدة‭ ‬ومصادرة‭ ‬المبادرة‭ ‬الفردية‭ ‬والجماعية‭ ‬في‭ ‬طرح‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تُحدث‭ ‬نقلة‭ ‬نوعية‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬عمل‭ ‬المؤسسات‭ ‬وتطور‭ ‬أدائها‭ .