التقديم والتأخير وأثرهما على موسيقا اللغة العربية

التقديم والتأخير وأثرهما  على موسيقا اللغة العربية

لطالما استوقفني سؤال محيّر أثناء دراستي وتدريسي للغة العربية، يدور حول الثراء الموسيقي الهائل لهذه اللغة في أشكالها التعبيرية، بين نظم ونثر.  ولعلّي سأركز هنا أكثر على المنظوم الذي يعرف أكثر من تلقّاه من الطلبة والمتخصصين أنه يعتمد على 15 بحرًا شعريًا خليليًا، أضاف الأخفش الأوسط إليها واحدًا ليكون المجموع 16، وهذه معلومة قد لا تخفى على كثير ممن يعرف من إيقاع النظم سطحه وملامحه العامة.

 لكن الحقيقة الأعمق أن للإيقاع عند الشاعر العربي 197 احتمالًا، كما نصّ على ذلك الخطيب التبريزي بقوله «والشعر كله أربع وثلاثون عروضًا، وثلاثة وستون ضربًا» أي ما مجموعه 97 احتمالًا! ما بين مشطور ومجزوء ومنهوك، وبين معتلّ بأنواع علل الزيادة والنقص، بالإضافة إلى مختلف الأعاريض والأضرب، مما يشكل شكل القصيدة الخارجي، ويتم الالتزام به وجوبًا في كل أبياتها.
ولو أننا أدخلنا أيضًا احتمالات التغييرات في الحشو من البيت لتجاوزنا الـ 200 احتمال، لكننا سنكتفي بالـ 97 احتمالًا إيقاعيًا؛ لأن القصيدة تلتزم أحدها كاملة على عكس ما يجوز للشاعر في الحشو، هذا وقد نظم العربي على كل هذه الأشكال الإيقاعية! التي لم تخرج من الإطار العام للنظام الموسيقي.
فهل احتاج العربي إلى كل هذه الإيقاعات التي مكّنته منها لغته العربية ليؤدي وظيفة اللغة المحدودة بالتواصل مع الآخرين فقط؟!... فإن لم يكن... فلماذا احتاج إليها أصلًا؟
في الحقيقة، إن عدد هذه الاحتمالات الإيقاعية هائل بشكل ملحوظ، وكون العربي طرقها كلها يعطينا انطباعًا بأن لهذا التنوع سببًا علميًا منطقيًا، ولعلنا نفترض أن مرجع هذا التنوع هو مرونة اللغة ورشاقتها، إضافة إلى بعض الخصائص التي قد يهتدي إليها الشعراء بفطرتهم وموهبتهم ربما من دون الانتباه لها أحيانًا! 

سبب محتمل
فلو لم تكن اللغة نفسها مرنة مطواعة، لتقيّد الشعراء بأشكال نمطية، ولما تجاوزوها أبدًا، وهذا ما لم يحدث في الشعر العربي، ولكننا أيضًا لا يمكننا أن نعتمد على ما هو بدهي من وجهة نظرنا نحن، من غير أن نحقق ونحلل ونبين السبب العلمي المحتمل، وهنا يجب التوقف عند نقطتين مهمتين:
1 - طبيعة هذه اللغة من خلال أنساق الكلام فيها وتقديمه وتأخيره.
2 - طبيعة خصائص الشعر العربي والنظر في ضوابطه وضروراته.
وبالحديث عن النقطة الأولى، فقد أشار Tomlin (عام 1986) في كتابه «Basic Word Order: Functional Principles»، وهو عبارة عن دراسة تحليلية على أنساق التقديم والتأخير فيما تجاوز الـ 1000 لغة بشرية، أن اللغات تنقسم إلى قسمين:
أ - النسق الثابت: أي أن السياق فيها له ترتيب واحد، كأن يكون سياق الجمل فيه (مسند إليه + فعل + مفعول).

ب - النسق الحر: (وإليه تنتسب اللغة العربية)، وهو أن يعبّر الإنسان عن المعنى الواحد بالألفاظ ذاتها معتمدًا البنية البسيطة للجملة التي تتضمن معنى الفعل والفاعل والمفعول، ولكن بأكثر من ترتيب لمفردات السياق، وهذه الأنساق كلها لا تتعدّى ستة أنساق فقط في كل اللغات المدروسة في كتابه.
وفيه يرمز للفعل والمسند إليه والمفعول به بهذه الرموز:
• الفعل ويرمز له بالرمز (V)
• المسند إليه ويرمز له بالرمز (S)
• المفعول به ويرمز له بالرمز (O)
فهل نستطيع القول إن لحرية النَّسق بالعربية علاقة وثيقة بالثراء الموسيقي في الشعر العربي؟

ترتيب مختلف
قبل الخوض فيما أتصور أنه الإجابة عن هذا السؤال بـ «نعم» سأشرح قضية الأنساق باختصار، وهي أن تعبّر عن المعنى الواحد بالألفاظ ذاتها، لكن بترتيب مختلف، عن طريق التقديم والتأخير، وهذا ما تتيحه لغات النسق الحرّ، فلو أردنا مثلًا أن نعبّر بالعربية عن معنى أن رجلًا اسمه محمد أكل تفاحةً؛ فإننا سنتمكن من التعبير عن هذا المعنى بالأشكال التالية:
1 - أكلَ محمدٌ التفاحةَ.  (VSO)
2 - أكلَ التفاحةَ محمدٌ.  (VOS)
3 - محمدٌ أكلَ التفاحةَ.  (SVO)
4 - محمدٌ التفاحةَ أكلَ.  (SOV)
5 - التفاحةَ محمدٌ أكلَ.  (OSV)
6 - التفاحةَ أكلَ محمدٌ.  (OVS)
وهذه هي كل الاحتمالات في التعبير عن هذا المعنى من غير زيادة أو نقص في الألفاظ، ولا تأتي لغة بأكثر من هذه الاحتمالات للتعبير عن المعنى الواحد بترتيب الفعل والمسند إليه والمفعول به من ضمن لغات توملن على الأقل، وبعد تبسيط الشرح في قضية الأنساق، سأستشهد بالجدول التالي لورود هذه الأنساق كلها بالعربية:

لا تقديم ولا تأخير إلا بقصد
يحق لنا هنا أن نتساءل عن الداعي الذي جعل «العربية» تتنوع بأساليب التقديم والتأخير، وتستخدم الأنساق الستة كلها، فهل كان ذلك من باب التلوين الأسلوبي فقط أو التنوع العبثي، لكون اللغة تحتمل كل هذه الأساليب، أو غير ذلك من الأسباب؟
ولعل الجواب عن هذا السؤال هو ما قاله د. سعد مصلوح في كتابه «العربية بين اللغات» (2016) إنه «لا تقديم ولا تأخير إلا بقصد، وعلى ذلك لم تسر البلاغة والنحو في اللغة العربية في خطين متوازيين، إنما تعامدًا واعتمد كل منهما على الآخر».
إذن، وبعد الانتهاء من قضية حرية النسق باللغة العربية وإثبات احتوائها للأنساق الستة جميعها سننتقل إلى النقطة الثانية من الفرضية، وهي ما طبيعة خصائص الشعر العربي؟ وما هي الضوابط والضرورات التي يحتمل أنها أثَّرت على الإيقاع الشعري، فنتج عنها كل هذا التنوع بالإيقاعات؟
إن للشعر ضوابط أكثر من النثر - كما هو معلوم - مما يجعل الشاعر يلجأ في كثير من الأحيان للتقديم والتأخيـــر، وهــــي ميــــزة أتاحتهــــا له حريّة النسق؛ سواء كان ذلك للحفاظ على الوزن أو القافية، أو بالاعتماد على خصائص شعرية وضوابط وضرورات، ولعل أهمها، والتي ربما يكون لها تدخّل مباشر في هذه القضية، هي:
1 - الإشباع كما عرَّفه السيد أحمد الهاشمي، وهو «إطالة الحركة القصيرة حتى يتولد منها مدّ» في هاء الضمير وغيرها.
2 - تسكين حرف الرويّ بالقافية المقيدة للوقف في نهاية البيت.
3 - إطلاق القافية وإشباع حركتها في نهاية البيت.
وسأمثِّل لكل واحد منها في الجدول التالي:

مزيّة النسق الحر
 الآن يطالعنا السؤال الأهم، وهو هل يمكن أن نقدّم ونؤخر بالكلام السليم لفظًا وتركيبًا معتمدين على مزيّة النسق الحر في اللغة، بالإضافة إلى بعض «ميزات الشعر العربي وخصائصه» لنخرج الكلام من بحر شعري إلى آخر؟!
إن ثبت هذا - وقد ثبت عندي - فإنه لا يدع مجالًا للشك بأن نظام اللغة العربية نفسه وخصائصها الأصيلة أدت بشكل مباشر إلى هذا الثراء العروضي والموسيقي في كلام العرب. 
وفيما يلي سأطبّق بأمثلة شعرية نظمتها بنفسي لتبيين هذه الفكرة وتوضيحها، ولن تتعرّض هذه الأبيات لتغيير في الألفاظ ولا في رسمها قيد أنملة، وإنما ستتبدل مواضعها فقط، وسأضع البيت وأمامه اسم بحره قبل تغيير مواضع الألفاظ، ثم أضع اسم البحر الجديد بعد تغيير المواضع، وبالمثال يتضح المقال:
- أولًا: بيت يُنظم على ثلاثة بحور:

3 بحور مختلفة
نلاحظ أن البيت السابق مؤلف من الكلمات نفسها تمامًا، ولم نضف أو نحذف منه شيئًا على الإطلاق، لكننا بالتقديم والتأخير وما صاحبهما تلقائيًا من ظواهر لغوية كالإشباع وتقييد وإطلاق للقافية بحكم مواضع الكلمات في كل نسق حصلنا على ثلاثة بحور مختلفة، فكان إيقاع الأول على مجزوء الرمل (فاعلاتن/ فاعلاتن)، وكان الثاني على مجزوء الوافر (مفاعلتن / مفاعلْتن)، بينما أتى الثالث على إيقاع بحر المجتث (مفاعلن/ فاعلاتن)، وهنا قد يقول قائل: إن هذا إنما استقام في هذا البيت من قبيل المصادفة لا غير.
ولأجل ذلك نضيف هذا البيت أيضًا:
 وهكذا نلاحظ أيضًا أن التقديم والتأخير خلق لنا ثلاثة أشكال إيقاعية من غير تغيير، ولا تبديل إلّا في ترتيب الكلمات، مع أن تراكيبها كلها صحيحة سليمة تدل على المعنى المراد.
- ثانيًا: أبيات تُنظم على بحرين عروضيين:

احتمالات إيقاعية
هذه ثمانية أبيات أنتجت 10 احتمالات إيقاعية جديدة، نتج عن بعضها بحران عروضيان مختلفان، بينما نتج عن بعضها الآخر بحر آخر ولم يحدث فيها تغيير إلا بمواضع الألفاظ فقط وإجراء جوازات الشعر وضوابطه تلقائيًا من دون تغيير في رسم الألفاظ أبدًا، وأعتقد أنها كافية لإثبات وجهة النظر.
ونلاحظ بعد هذه السلسلة من الأبيات أن الشعر الموزون بعد أن تغيّرت مواضع الألفاظ فيه دون تغيير رسم الكلمات وحروفها، بالإضافة إلى ما نتج تلقائيًا من ظواهر وخصائص شعرية كالتقييد والإطلاق والإشباع، تغيّرت إيقاعاته فخرج من بحر خليلي إلى بحر آخر! وكان ذلك بكل سلاسة ويُسر مع صحة سبكه ونظمه وفصاحة تركيبه في الأشكال الأصلية والمتحولة، مما يؤكد فرضية كون الثراء العروضي إنما جاء نتائج طبيعية لهذه اللغة الغنية الثرية التي تتمتع بهذه الرشاقة.
كما نلاحظ أنّ في «العربية» كوامن حسَّنت من موسيقاها، حتى ولو لم يتغير رسم ألفاظها، فمن ذلك تحريك الساكن كما جرى في (كاف الخطاب) في الصورة الأولى من البيت الأول (مجزوء الرمل) في كلمة (مساءكْ)، حيث كان تسكينها واجبًا بسبب القافية المقيدة في تلك الصورة، ومن ثم تحريكها في الصورتين التاليتين (المجتث - مجزوء الوافر)، حيث لم يعد لتسكينها ضرورة لكونها لم تعد كلمة القافية، وكذلك إشباع هاء الضمير وتسكينها في المثال الثالث بلفظة (فلتخبروهْ)، وغير ذلك من الصفات التي اكتسبتها الكلمات تلقائيًا بمجرد تغيير مواضعها في النسق بإيقاع البيت نفسه، وهذه إضافة تُحسب لهذه اللغة.

مصطلح الدوائر العروضية
يمكننا القول من باب الإنصاف إن الخليل بن أحمد - يرحمه الله - سبق أن وضع نواة نظرية لبعض أشكال هذه التقديمات التي قد تنقل الكلام من بحر إلى آخر، كما وضَّح عبدالرحمن في دراسته «مهملات الأوزان...» (2012)، «حيث حصر الخليل أجناس الأوزان فجعلها ثمانية، وكل جزء من هذه الأجزاء له أسباب وأوتاد، فبدأ بتقليب أسباب هذه الأجناس على أوتادها مخرجًا بعضها من بعض».
وهذا ما يعرفه أهل العروض بمصطلح الدوائر العروضية ذلك أن التفعيلات العشر لو أزلنا بعضًا من أجزائها وبدَّلنا مكانه، فإننا سنحصل على تفعيلة أخرى ضمن دائرة واحدة (لا نخرج منها)، ومثال ذلك:
من دائرة المجتلب وتفعيلاتها (مفاعيلن - مستفعلن - فاعلاتن)، فلو أخذنا واحدة منها فقط، ولتكن (مفاعيلن)، فإنه ينتج منها (لن مفا عي)، وهي تعادل فاعلاتن كما ينتج عنها (عي لن مفا) التي تعادل مستفعلن، وهكذا.
ولكن المميز في بحثنا هنا أن المرونة أضافت على العروض الخليلي فتحًا جديدًا، حيث انتقلت بعض الأبيات من بحر إلى بحر آخر (خارج دوائر الخليل)، إضافة إلى ما تبدل  دون الخروج عن الدوائر منتجًا أمثلة تطبيقية على الدوائر، مثل البيت الثالث الذي انتقل من الرجز إلى الرمل، وهما من الدائرة العروضية نفسها، وكذلك البيت الخامس الذي انتقل من الهزج إلى الرجز، وهما من الدائرة نفسها، بينما انتقلت بعض الأبيات من دائرة عروضية إلى أخرى: كما جرى ذلك في البيت الأول، حيث خرج من مجزوء الرمل في دائرة المجتلب إلى مجزوء الوافر في دائرة المؤتلف إلى المجتث في دائرة المشتبه، علمًا بأننا لم نغير إلّا في ترتيب الألفاظ المرسومة التي انتظمت لتشكل إيقاع هذا البيت!
   ولعلنا نخلص بعد هذا المقال إلى أن نظام اللغة العربية المرن ورشاقة تقديمها وتأخيرها وطواعية الفصاحة وغناها للتعبير عن المعنى الواحد بأكثر من أسلوب، مع ما يختص به نظام الشعر العربي من الإطلاق والتقييد للقافية والإشباع وعدمه لبعض الضمائر نتج عنه كل هذا الثراء الهائل في الموسيقا الشعرية عند العرب، فنظموا على 97 شكلًا إيقاعيًا مستنبطًا من 16 بحرًا، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن هذه اللغة بعناصرها الأصيلة وسماتها التركيبية والأسلوبية قادرة على أن تنتج ما هو أكثر بكثير مما هو مجرد تنظيم التواصل بين الناس فقط!
هذا والله أعلى وأعلم... ■