السلام ... من أقصى يمين الأرض إلى قلبها
بعيدًا عن السياسة، وعما قيل ويقال، فإن شد الرحال إلى يمين الأرض والخوض في الغابات والأدغال، مغامرة لا محال. تكمن إثارتها وأنت ترى الإسلام كدين وعقيدة في الخَلق والخُلُق، وتحظى بالسلام مع نفسك وآخرين غرباء وعوام، مستمتعًا بكل ساعات النهار وآمنًا مطمئنًا بخطواتك في عتمة الظلام، فكن على يقين أنك في دار السلام.
ولا عجب أن يحتفي العالم أجمع بيمينه، ويعلن مدينة بندر سيري بيكاوان عاصمة الثقافة الإسلامية عن القارة الآسيوية لعام 2019. ولا عجب أيضًا أن تحتفل بها االعربيب برفقة قرائها من خلال أهم معالم عاصمة السلام والإسلام من مساجد، ومتاحف، وأسواق.
«السلام عليكم، مرحبًا بك في بروناي دار السلام، من فضلك، للحصول على الفيزا عليك أن تدفع 20 دولارًا بروناويًا، ثم الاتجاه إلى شباك رقم 5»، كان ذلك ما قالته موظفة الجوازات، ولم يستغرق إنجازه بضع دقائق، كنا بعدها أمام الشريط المتحرك لتسلّم الحقائب، وكان فريدًا من نوعه، نظيفًا على غير العادة في المطارات الأخرى، ومرتّبًا، نعم، فالحقائب غير مكدسة، يبدو لأن حركة الطيران هادئة ولا رحلات كثيرة في هذا اليوم، ذلك ما ظننا.
المطارات مدن، فالمسافر يستشف حال المدينة وأهلها، من المطار، سواء من العاملين فيه، أو من النظام المتبع للعمل فيه، وكذلك هيئته. ورغم صغر مساحة مطار بروناي، وبساطة تصميمه الهندسي، وتواضع حركة المسافرين فيه، فإنه مثال جيد للعاصمة بندر سيري بيكاوان، فهو منظم وهادئ، حيث يؤدي الموظفون مهامهم بتراتبية وصمت، والمسافرون يبدأون إجراءات الدخول بسهولة دون الحاجة إلى أحد، ما لم تطلب خدمة أو مساعدة.
في منتصف قاعة الوصول مكتب استعلامات دائري الشكل، يجلس عليه موظف وموظفة، استفسرنا من أحدهما عن تكلفة سيارات الأجرة من المطار إلى الفندق، ومنه إلى بعض الوجهات التي نود زيارتها، فابتسم لنا بودٍ، وأخبرنا بندرة سيارات الأجرة في بروناي كلها، لاعتماد السكان على وسائل نقل خاصة بهم، وعرض علينا سيارة ترافقنا بشكل يومي، ثم عاد واستدرك ذاكرًا أن أغلب الأماكن التي ذكرناها قريبة من سكننا، ويمكن السير إليها. وعندما طلبنا منه سيارة تقلنا إلى الفندق، أشار إلى شخص يقف خلف طاولة صغيرة، لكونه المختص عن تلك المسألة.
على يمين المطار مباشرة يقبع مسجد أبيض له قبة زرقاء ذات نقوش دائرية ملونة بالأبيض والأصفر، مدخله بنفس اتجاه باب المطار، ويسمى مسجد مطار بروناي.
في تلك اللحظة تكوّنت لدي معلومات تلقائية لا تحتاج إلى مرشد سياحي ولا كتيب معلومات عن الدولة، لكن هل ستستمر؟ في الطريق رافقتنا زخات من المطر على طرق أسمنتية صلبة ملتوية، لانت بالمناظر الطبيعة النضرة، وانسيابية الحركة المرورية. فإذ بالعاصمة التي تعتمد على وسائل النقل الخاصة، في وقت الذروة اليومية الذي يتراوح بين 2 و5 مساءً، بعيدة كل البعد عن الاختناقات المرورية المعتادة وأبواق السيارات المزعجة، بل وأكد لنا السائق أن ازدحام السيارات واكتظاظها في الشوارع أمر نادر حدوثه في العاصمة، بل ويعطى المتسبب بها مخالفة مرور، وكذلك لمستخدم البوق، فذلك تلوّث سمعي لا ترضى به الحكومة. ما قاله بدا أمرًا غريبًا، ولإثباته نحتاج إلى معايشته، لذلك فإن عدد الأيام مهما كثر، يظل قليلًا بحق الأماكن التي تطأها القدم للمرة الأولى، وتكاد تكون قصيرة وإن طالت، وغامضة وإن حطت بها الرحال في فترات زمنية مغايرة.
ولأن أحوال الدول تتغير، فإن عودة مجلة العربي مرة أخرى إلى يمين الأرض، وبعد مرور أكثر من 30 عامًا أمر شائق جدًّا. ولا يمكن القول سوى أن بروناي دار السلام، وطّنت السلام حتى غدا سكانها على درجة عالية من السلام، معتنقين الإسلام عقيدةً وفكرًا، ومتحلّين بتعاليمه فعلاً وقولاً، لا فرقة تذكر بين المسلمين وغيرهم، حيث كست السماحة وجوه الجميع، ومورست العبادات داخل أماكنها المقدسة، حتى حظي الزائر لدار السلام بأمن وسلام داخليين لا نظير لهما.
أسواق الليل... تجارة لا تكسد
انسيابية الزمن، باعدت بيننا وبين ساعات النهار التي كنا نتطلع إليها لاستطلاع العاصمة، فالليل وظلمته رافقانا على مدى يومين، فما كان لنا إلا استغلاله، وكيف لا، ونحن في دار السلام والأمن؟
أسواق الليل، عادة ما توجد في المدن الصناعية التي تعج بالحركة، وتوفر كل احتياجات الإنسان غالبًا، من مأكل ومشرب وملبس، ومن أسواق الليل في بروناي سوق غودنج ماركت، وهو عبارة عن مساحة شاسعة مقسمة بالتساوي، يضع فيها البائعون سلعهم، مغطّى بسقف أسمنتي من أعلاه، تفاديًا لقطرات المطر، ومكشوف من جوانــــبه الأربعة.
تدافعنا للدخول تحت سقف السوق بعد أن أخذنا نصيبًا وافيًا من مياه الأمطار، وكانت ألوان الفاكهة المشعة وأصنافها الغريبة - بالنسبة لنا - أول شيء التقطته أعيننا، وخاصة تلك التي احتضنها كثير من كفوف المتسوقين، إنها الدوريان، وهي دائرية خضراء بحجم الشمام تقريبًا، خشنة الملمس الخارجي، تقطع من المنتصف إلى جزأين، داخلها أصفر يقطع إلى قطع صغيرة، شكلها قريب من الأفوكادو، وكذلك مذاقها الدسم.
ولما طال وقوفنا أمام سيدة وزوجهــا يبيعانها، دعوانا لتذوقها، وقالا: إنها مشبعة ولذيذة، نسيجها كريمي. كانت لها رائحة نفاذة لا تُنسى. يمتلئ السوق بالفاكهة الآسيوية الاستوائية، مثل المانقــــيس، كمبايو، ورامبوتان.
في هذا السوق يلفت انتباهك أيضًا العمل الأسري، فلا بائع يقف وحده، أو بمعنى أكثر دقة فإن البائع هو أسرة، زوج وزوجة، أم وابنها، أو أخت وأختها، يعملون بنظام ونظافة وهدوء، فإن كان الهرج والمرج سمة أسواق الليل حول العالم، فذلك ليس في بروناي.
لوحة رسمها المطر
سيطر المناخ الاستوائي على جولتنا في سوق الليل، وعرّفنا على نفسه بالصوت والصورة، فقبل خروجنا انهمر المطر كلوحة فنيّة مرسومة بعناية فائقة، ووسط دهشتنا بدا الوضع عند الآخرين أمرًا اعتياديًّا وطبيعيًّا، وكيف لا ومعدل هطول الأمطار في شهر نوفمبر يتراوح بين 300 و330 ملم في السنة؟ فالمطر لم يتلف البضائع ولم يمنع رواد السوق من الدخول إليه. تصميم السوق يراعي مناخ العاصمة ونظافتها، بحيث وزعت في أطراف أرضه فتحات حديدية صغيرة تسمح بجريان المياه بسهولة ويُسر. ولأننا فوجئنا بغزارة المطر، فقد عرض علينا زوج بائعة الفاكهة الاحتماء بمظلته لنصل بسلامة إلى الفندق، وأرشدنا إلى أقرب الطرق للعودة.
سوق كيانغيه ماركت، زرناه في الصباح الباكر يوم الجمعة، بناء على نصيحة أحدهم، حيث يكون مكتظًا بالبائعين والمشترين وبالبضائع المتنوعة أيضًا. يمتلئ السوق من فجر الجمعة حتى منتصف النهار، وتحديدًا قبيل صلاة الجمعة يبدأ جمهوره بالانحسار. وتشبه بضائعه «غودنج ماركــــت»، وفــــيه أقســـام لبيع الطيور والأسماك الحية والمعدّة للأكل.
ما يميز سوق كيانغيه تحديدًا موقعه الجغرافي، حيث يقع على ضفاف نهر بروناي، فهو سوق حيوي لسكان قرية الماء وسكان اليابسة، يوفر لهما الاحتياجات الأساسية للأسرة من أطعمة تشمل الفواكه واللحوم الطازجة والمجففة والمياه والعصائر والبهارات والتوابل، وبعض قطع الأثاث البسيطة، والإكسسوار المصنّع من قماش وبلاستيك وسعف النخيل، الذي يلقى رواجًا وإقبالًا كبيرين، خاصة من السائحين الأجانب الذين يجدون فيها هدايا تذكارية رائعة.
التفاف اجتماعي نادر
في أسواق الليل الشعبية قلّما تجد شخصًا يبيع أو يشتري أو حتى يأكل بمفرده، هناك التفاف اجتماعي تندر رؤيته في دول أخرى. وفي تلك الأسواق أيضًا تجد كثيرًا من كبار السن إناثًا وذكورًا، منهم من يعمل، ومنهم من يكتفي بالجلوس مع صديق أو زوج ومناظرة حركة البيع والشراء أو الحديث الجانبي.
ومن جهة أخرى، هناك الأسواق الحديثة والمجمعات التجارية الضخمة التي تظهر في جميع عواصم العالم، بهيئتها المعمارية المميزة، كجزء مهم من معالم المدن التجارية والترفيهية. ففي العاصمة وبالقرب من سوق الليل «غودنج ماركت» يستقر المجمع التجاري The Mall، وهو أفخم وأكبر مجمع في العاصمة، وفيه تشكيلة واسعة من الماركات العالمية للملابس والأحذية وأدوات الزينة والتجميل، والأثاث، والمطاعم، حيث تقبع مطاعم المأكولات الأمريكية السريعة في ركن المطاعم، ويقبل عليها كثيرون، خاصة الشباب والسائحين الأوربيين والأمريكيين، لكن ذلك لا يلغي مطاعم المأكولات المحلية الآسيوية التي لها محبوها من مختلف الجنسيات، وتوجد كذلك أيضًا محال تعرض الصناعات المحلية، خاصة المتعلقة بالملابس الرسمية في بروناي. وهناك مجمع آخر يسمى ياياس مول، وهو - نسبيًا - أصغر حجمًا من سابقه، وفيه خليط من الماركات التجارية المحلية والعالمية وردهة واسعة تقدم المأكولات الشعبية الآسيوية فقط.
في المجمعات التجارية الضخمة، وعندما يحين موعد الأذان تصدح مكبّرات الصوت فيها بصوت شجي وجميل، دون أن تغلق المحال، وتجد المصليات التي أعدت بطرق هندسية متكاملة، بحيث تجمع فيها المرافق الأخرى إلى جانب أماكن الوضوء، تعمّها النظافة والترتيب والنظام، وتجد أيضًا التزام مستخدمي تلك المرافق وحرصهم على ذلك، خاصة أنها عامة، ولا تعتمد على عامل تنظيف دائم الوجود فيها.
متاحف بروناي... تاريخ وحضارة
تهتم الحكومات بإنشاء المتاحف لكونها قبلة السياح، ووجهة الباحثين والمؤرخين، والبنك المعلوماتي لتاريخ وحضارة وجغرافيا الدول، وقد أدركت حكومة بروناي أهمية المتاحف بمختلف أنواعها، فجعلت الدخول إليها مجانيًا للمواطنين والأجانب، مع تعليمات دقيقة وصارمة أحيانًا بضرورة الحفاظ على سلامة مقتنياتها، نظراً لمكانتها المعنوية القيّمة لدى الأسرة المالكة والشعب.
متحف العائلة الملكية، كان أول مدخل لنا للتعرف على من يدير السلام في دار السلام. يطلق عليه Royal The Regalia Building، وافتتح في 30 سبتمبر 1992، وهو مَعلَم من معالم العاصمة، صمم بهدف تبيان قدرة الأسرة الحاكمة على دمج السمات المميزة للإسلام كعقيدة، والملاوية كأصل وعرق، وما نتج عنه من نظام حكم امتد لمئات السنين. وفيه يُعرض عدد كبير من الممتلكات الملكية كالملابس الرسمية، وأوسمة الشرف والشجاعة، والهدايا الثمينة، المتوارثة جيلًا بعد جيل، لاعتبارها كنزًا أثريًّا لأسرة الحكم في بروناي.
عربة السلطان
في الخارج وقبيل الدخول إلى المعرض، وضعت أرفف خشبية، حيث يطلب من الزوار نزع أحذيتهم، إجلالاً واحترامًا لمقتنيات المتحف، والشخوص العائدة إليهم. وما إن تدخل، حتى تجد نفسك في قاعة دائرية ضخمة ومهيبة، في منتصفها تستقر عربة مذهّبة برّاقة، سارت بسلطان بروناي حسن البلقية، في الموكب الملكي في أثناء تقلّده مراسم الحكم في احتفال عام 1968. وتحيط بالعربة أدوات أخرى استخدمت في ذلك الاحتفال، وكان من أبرزها المظلات الشمسية الملونة الثابتة والمتقلبة التي زهت بها القاعة، وفاق عددها الـ 80 مظلة، ورمحان ضخمان شائكان، وبجانبهما 40 رمحًا و40 درعًا تم تلوينها وتزيينها بنقوش باهرة. صف وتنظيم المعروضات في هذه القاعة كفيل بتصوير ما ستراه في القاعات الأخرى من حيث قيمة المحتوى وروعة التصميم.
ومن سلّم جانبي معتدل الارتفاع، تصل إلى مكتب الاستقبال، وفيه تودع هاتفك المحمول وكل وسائل التصوير، الأمر الذي أثار حفيظتنا، وعند الاستفسار عن سبب ذلك، أجاب موظف الاستقبال:
«إنها أوامر ملكية تحظر تصوير أيّ من المقتنيات دون موافقة رسمية من الحاكم نفسه»!
يتكون المعرض من طابقين و3 قاعات ضخمة:
ــ قاعة عرض صور سلطان بروناي: تشمل صورًا منذ طفولته وحتى توليه الحكم، ومقتنياته الشخصية، ومن أهم ما فيها نسخة طبق الأصل للعرش، وتاج الملك، وكرسي، ووسادة كبيرة تستخدم في الاحتفالات، وأيضًا خنجر مذهّب، وصولجان الاحتفالات، وسيوف وبنادق، وأهمها دعاء يُقرأ في مراسم الاحتفالات الملكية.
- قاعة عرض احتفالية اليوبيل الفضي لتسلّم السلطان مقاليد الحكم؛ وفيها تُعرض صور، وعرض مرئي ومسموع للاحتفالية التي كانت في 5 أكتوبر 1992، للحفل الجمهوري في القصر الرئاسي، والموكب الملكي في العاصمة، والأوسمة والهدايا التذكارية التي قُدمت له من الدول والمنظمات العالمية.
ــ قاعة عرض التطور التاريخي للملكية الدستورية في بروناي؛ وفيها يُقدم عرض بالصوت والصورة لتطور النظام السياسي في الفترة ما قبل عام 1959، والفترة التي تلتها لاعتبارها سنة إقرار الدستور، وما حدث فيها من أحداث سياسية مهمة.
مركز تاريخ بروناي
وفي أثناء الانتقال من قاعة إلى أخرى، يتوقف الزائر كثيرًا أمام المعروضات التي زينت الجدران، وأضفت بعدًا دوليًا، حيث تضمنت هدايا وإهداءات وصورًا فوتوغرافية واتفاقيات تعاونية لحكومة بروناي مع الدول الآسيوية الإقليمية، والدول العربية، والعالم بأسره، مما يعكس نهجها السياسي المسالم في علاقاتها الخارجية، وقي الوقت ذاته فإنها تفخر بإهداءات تضمنت نسخًا نادرة من القرآن الكريم، ونماذج هندسية دقيقة للحرمين المكّي والنبوي من الحكومة السعودية.
وبعد التعرف على العائلة الملكية، لا بد من المرور على مركز تاريخ بروناي، الذي يبعد بضعة مترات عن المعرض الملكي، وفيه كل المعلومات التاريخية التي تضمنتها الوثائق والخرائط القديمة للرحّالين والباحثين الصينيين والعرب والأوربيين عن بروناي كجغرافيا وشعب.
يتــكون المركـــــز من طابقيـــــن؛ الأرضــــي، فيه التـــاريخ القديــــم، ومقسّم إلى 6 أقــــسام: 1 - الخرائط الأولية لبروناي 2 - تاريخ بروناي القديمة 3 - الموقع الجغرافي لبروناي القديمة 4 - بداية النشوء السياسي للحكم 5- التراث الثقافي لبروناي 6 - نظام ملكية الأراضي، والجزء الماتع فيه هو المختص بعرض الجانب الثقافي لشعب الملايو خاصة، واعتمادهم شبه الكلّي على البحر كمصدر للرزق، وأثر ذلك على نتاجهم البشري المادي، حيث يجد الزائر نماذج لمراكب الصيد، ونتاجهم المعنوي، حيث الأدب والعلم.
أما الطابق الأول، فقد خصص لعرض الوثائق الأصلية التي تربط سلالة الأسرة الحاكمة تاريخيًا بالنبي آدم . واكتسى أحد الجدران بشجرة العائلة المالكة، وما تفرَّع منها من أجيال وأنساب، وعلى جدار آخر عرضت خريطة ترجع أصول العائلة الملكية إلى منطقة شبه الجزيرة العربية. ويعد هذا القسم غنيًّا لمحبي تتبُّع الأنساب والأصول.
متحف تكنولوجيا الملايو
من أمتع المتاحف وأكثرها ازدحامًا كان متحف تكنولوجيا الملايو، فهو وجهة محببة لدى طلبة المدارس والجامعات، والسياح أيضًا. وقد يفاجأ الزائر بعدم تطابق محتواه بالمعنى الدقيق للتكنولوجيا الواردة في اسمه، إلا أنه يستشف، بعد زيارته، الآليةَ التي استخدمها شعب الملايو في الماضي لتأسيس حضارة عريقة. وينتمي شعب الملايو إلى عرق الملايو، ويشكلون ما تفوق نسبته 60 في المئة من سكان بروناي، ويعتبرون السكان الأصليين لبروناي، ومؤسسي سلطنة ملقا - ماليزيا - عام 1400، ومنتشرين في إندونيسيا وسنغافورة وميانمار وتايلند.
العاملون في هذا المتحف يستقبلون الغرباء بلطف بالغ، رغم وصولنا إليه قبل انتهاء وقت العمل الرسمي فيه بساعة تقريبًا، إلا أنهم حرصوا على تعريفنا بكل ما فيه، ومرافقتنا إلى كل القاعات، ولِمَ لا وهو متحف يعزز قيمة العمل وآلية التطوير عند شعب الملايو؟
في 3 قاعات توزع الإرث الحضاري لشعب الملايو، حيث صممت مجسمات جسدت المساكن القديمة وطرق بنائها، ووسائل العيش كالصيد والزراعة والصناعات التقليدية كنجارة الخشب، والحدادة، وصناعة القوارب التي كانت وسيلتهم للتنقل والترحال. كما عرضت المجسمات الزي القديم والحديث للمرأة والرجل والطفل، وعكست جانبًا من الحياة الاجتماعية من خلال مجسمات لطرق بناء الأكواخ التي تستقبل الأزواج الجدد، والأثاث البسيط المصنّع يدويًا بمواد الطبيعة من حولهم كالخيزران والبامبو وسعف النخيل.
وجاءت المعروضات في بيئة مطابقة للواقع، حيث صفّت المزروعات الاصطناعية على خلفيات أظهرت تدرجات اللون الأزرق، لتوحي للزائر الغابات المطيرة التي استوطنها شعب الملايو وعمّرها.
في بروناي تجد الشعب يحرص على أن تكون المتاحف محطة الزائر الأولى لبلاده، فكل من نلتقي بهم يعرضون لنا قائمة طويلة لمتاحف العاصمة والمدن الأخرى، كما أن اهتمام الحكومة بالمعارض والمتاحف والمراكز الثقافية عمومًا، وتعزيز مكانتها ودورها لدى الشعب، ينميان شعور الفخر والانتماء، ويمنحان سمة الخصوصية والتميّز لسكان بروناي، والملايو تحديدًا، من بين شعوب المنطقة، الذين قد ينظر لهم العوام على أنهم متشابهون وسيّان، لذلك تجد الكثير من رواد المتاحف من دول شرق آسيا وآسيا الوسطى يتلمسون أوجه الشبه والاختلاف، ويبحثون في الروابط والانتماءات.
مركز النفط والغاز الاستكشافي
من المتاحف المميزة أيضًا مركز النفط والغاز الاستكشافي، الذي كان مغلقًا طوال فترة زيارتنا، ويعدّ قبلة الباحثين والمهتمين بالنفط والغاز الطبيعي، وكذلك وجهة محببة لدى الصغار والكبار، لكونه يستعرض تاريخ اكتشاف النفط في بروناي وطرق استخراجه، وبه ورش علمية وتكنولوجية ترفيهية لطلبة المدارس والجامعة.
وأيضًا كان ممر الابتكار، أو كما كان يعرف سابقًا بحديقة بروناي للتكنولوجيا الزراعية، وهو مشروع ضخم شرعت الحكومة في تنفيذه على مساحة 500 هكتار، ضمن مخطط تصوري للدولة عام 2035، يختص بتحسين الإنتاج الزراعي والحيواني العضوي، والصناعات الدوائية والصحية، بما يكفل للدولة تطورها إلى مصافّ الدول المتقدمة، لما يحققه للفرد من فرص وظيفية جمّة وارتفاع دخله السنوي.
مسجد عمر علي سيف الدين
قبّة ذهبية شاهقة، ذات لمعان لا يطفئه شعاع شمس ولا إنارة مصباح، لا تحتاج إلى انعكاس ضوء، فهي مصباح بعتمة الليل، وشمس ثانية في النهار، قبة بازغة من بين مبانٍ متواضعة الارتفاع في العاصمة، تخطف أبصار النظار حتى تجذبهم إليها وإلى فضائها، إنها قبّة مسجد عمر علي سيف الدين.
في صباح باكر، سيرًا على الأقدام، كنا نقترب من تحفة عمرانية بهيئة مسجد، كلما اقتربنا منه تضخّم حجمه وازداد جماله. عند البوابة الرئيسة وُجدت أعداد من السياح الأجانب الآسيويين والأوربيين، تناقلت أيديهم كاميرات الهاتف النقال والاحترافية، كل منهم يحاول التقاط أفضل صورة من أنسب زاوية. كان صفاء الجو وسطوع شمس ذلك اليوم مميزين، بحيث تلتقط صور حاضنة لعناصر الحياة الطبيعية، الماء، النهر المطل عليه، والتراب، اليابسة والحدائق الغنّاء التي أحاطت به، والنار تشكلت باللون الذهبي الفاقع الذي نتج عن تعامد أشعة الشمس على القبة الذهبية البراقة.
حظينا - كزائرين من مجلة العربي الكويتية - بترحيب حار من المشرفين على المسجد، الذين اصطفوا عند المدخل الرئيسي، وما إن نتعرف على أحدهم حتى يستدعي آخر، فهذا يجيد العربية، وهذا إمام، وهذا عمل في الخليج، وهذا... محاولين خلق جسور للتآلف الإنساني.
تشجعنا على الدخول، وتساءلنا عن مصلى للسيدات لصلاة تحية المسجد، قبيل الحديث عن تاريخ المسجد وتصميمه، فقال لنا أحد الواقفين:
- ادخلوا من الباب الكبير وفي جانبه على اليسار مساحة مقتطعة تصلي بها النساء.
الإمام الشاب حسنال
كان دخولًا باهرًا، المسجد من الداخل واسع جدًا، وتصميمه مهيب، فقد تدلّت من سقفه الأبيض والمحدد بالذهبي، ثريّات كريستالية إنجليزية الصنع، عكس رونقها إضاءات ملونة ساحرة، وافترش أرضيته سجاد سميك كالمرمر، قيل لنا إنه نسج في المملكة العربية السعودية، هالنا الهدوء والسكينة اللذان التزم بهما العاملون بالمسجد، وكذلك الزوار، وبعد أن صلينا في المكان المخصص للنساء، والذي كان شديد الترتيب والنظافة، رغم مساحته الصغيرة نسبيًّا، مقارنة بمساحة المسجد، أتى شاب يرتدي زيًّا إسلاميًّا عبارة عن ثوب طويل أبيض، فوقه معطف داكن اللون، ويلفّ عمامة بيضاء على رأسه، حدثنا بلغة عربية فصيحة وعرّفنا بنفسه، قائلاً:
- أنا الإمام حسنال محمد، عيّنت أخيرًا إمامًا للمسجد، بعد أن حفظت القرآن الكريم وأنهيت دراساتي الدينية. كثير من السائحين يأتون للمسجد تشدهم القبة البراقة، إنها القبة الرئيسة للمسجد، مكسوّة بأوراق الذهب الخالص، ترتفع 52 مترًا عن سطح الأرض، ويمكن رؤيتها من أي مكان في العاصمة.
طلاقة حسنال، باللغة العربية وتمكّنه من قواعدها، وانتقاؤه لمفرداته بدقة بالغة، دفعتنا لسؤاله:
لغتكم العربية سليمة، يبدو أنكم تعلمتم القرآن الكريم والعربية بأحد المراكز الدينية في العالم العربي، فهل درستم في مكة المكرمة بالمملكة العربية السعودية، أم الأزهر الشريف في جمهورية مصر العربية؟
- لا، لا، بل تعلمت ودرست القرآن الكريم، والفقه، واللغة العربية، وعلوم القرآن في بروناي، في معهد تحفيظ القرآن الكريم للسلطان الحاج حسن البلقية بالعاصمة بندر سيري بيكاوان في بروناي.
بدا فخورًا بردّه، وأشاد بالمعهد الذي يخرّج أئمة ومعلمين، كما تخرّج هو فيه. الإمام حسنال صغير السن ليكون إمامًا على مسجد عمر علي سيف الدين، خاصة أن صورة أئمة المساجد المطبوعة في أذهان كثير منا، هو رجل كبير تجاوز الخمسين سنة، لاعتبار أنه أكثر خبرة وعلمًا ودراية، وذلك دفعنا لسؤال حسنال وآخرين اصطفوا بجانبيه:
- كونك إمامًا لمسجد كهذا، لا بد أنك متميز، وعلى درجة عالية من العلم بالدين والتقوى.
خفض رأسه، ولم يجب، ووسط تساؤل الآخرين عمّا قلنا ترجم لهم، فانطلقت تعليقاتهم من كل جهة، طلبنا منه توضيح ما يقولون، فأجاب باسمًا:
- هم فخورون بي، لاختيار السلطان لي لأكون إمامًا للمسجد، وهذا تشريف وتكليف لي، إنه عامي الأول فيه، وأنا ومن عمل قبلي نعمل معًا في المسجد، في رفع الأذان للصلوات الخمس وإقامة الصلاة، وكذلك إقامة الدروس الدينية بين الصلوات، والتفقّه في أمور ديننا الحنيف.
لمحة تاريخية
بينما كنا في حديث مع الإمام الشاب حسنال، راح آخرون في ترتيب جلسة على أرض المسجد، تضمنت وضع كتيبات على قواعد خشبية بشكل شبه دائري، مطبوعة بلغة الملايو واللغة العربية، امتدت لها أيدينا وتصفحناها، فكانت عبارة عن أهازيج وأناشيد دينية، فتساءلنا عنها:
- إنها فرصة مواتية لكم، حيث إننا نقيم بعد صلاة العشاء بدءًا من اليوم (الثلاثاء 13 نوفمبر 2018 الموافق 5 ربيع الأول) مجلس ذكر لمدة أسبوع، احتفالاً بالمولد النبوي الشريف، وفيه ننشد الأناشيد ونردد الأذكار والصلاة والسلام على نبينا محمد عليه أفضل الصلوات، لمدة تتجاوز أحيانًا الساعة، وبعدها نوزع الطعام على الحضور. نأمل منكم مشاركتنا، فنحن نحتفل حتى يوم 12 من ربيع الأول.
باعد بيننا وبين أذان صلاة الظهر نحو ساعة، فطلبنا من الإمام الشاب معلومات حول تصميم المسجد، فبيّن أن له مداخل عدة؛ مدخل رئيس يقابل البوابة الرئيسة للمسجد، وآخر جانبي للنساء قريب من مكان الوضوء الخاص بهن، وثالث يقابل المنبر يسهّل دخول الإمام منه، وآخر ينتصف جهة اليمين مطلّ على بحيرة صناعية أحاطت بالمسجد من ثلاث جهات، حفرت وصممت خصيصًا للمسجد.
طلبنا منه لمحة تاريخية عن بناء المسجد، فأوضح قائلًا:
- شرع في بنائه عام 1952 في عهد سلطان بروناي الـ 28 عمر علي سيف الدين، وعليه وضعت 28 مئذنة محيطة بالمسجد. ويرمز للعقيدة الإسلامية التي يعتنقها غالبية الشعب، حيث أداء الصلوات مع الجماعة. صممه المهندس المعماري والنحات الإيطالي كافالير رودولفو نولي، ونفّذ فيه جماليات العمارة المغولية والطراز الملاوي، حيث القباب الذهبية، البصلية الشكل والأقل استدارة عن مثيلاتها، والمآذن النحيلة في الزوايا، المصنوعة من الرخام، والأبواب العالية، والقاعات الواسعة الضخمة، كما لم يخلُ تصميمه من الزخارف الدقيقة والنوافذ الواسعة على غرار العمارة الإيطالية، وافتتح عام 1958، أي أن عمره اليوم يتجاوز الـ 60 سنة، ويمكنكم التجول في الساحة المحيطة به، حيث البحيرة.
خرجنا برفقة أحد العاملين بالمسجد، من أحد الأبواب الجانبية من الجهة الغربية له، والمطل على بحيرة اصطناعية بنيت وفق تعليمات عمر علي سيف الدين، لخدمة سكان قرية الماء الموجودة منذ مئات السنين، وتسهّل لهم أداء عباداتهم في المسجد. ويصل المسجد بالقرية من خلال جسر مُدّ من البحيرة إلى منتصف نهر بروناي، بينما هناك جسر رخامي آخر يصل بمجسم حجري ضخم صمم على هيئة قارب فخم مطابق لبارجة ملكية اشتهرت في القرن الـ 16م. وعابر الجسر لابد أن يرى أسماكًا مختلفة الأشكال والأحجام والألوان متعايشة في بيئتها بسلاسة.
الإبداع في التصميم، هو حال غالبية المباني في العاصمة، حتى المعابد، ففي الجهة المقابلة لسوق كيانغيه يقبع مبنى أحمر ساطع، له بوابة ذهبية اللون، تجبر الناظر له على الاقتراب منه، (إنه معبد تيانغ ين، أو معبد الغيوم الطائرة للمتعبدين البوذيين)، كذلك وصفه أحد البائعين في السوق، بني على طراز المعابد الصينية، خاصة أن أغلب معتنقي الديانة البوذية هم من الصين، وهناك فئة محدودة من الهند. لقينا الترحيب حين طلبنا الدخول، كما سمح لنا بالتصوير، سواء وسط حراس المعبد أو المتعبدين، الذين مارسوا شعائرهم بحريّة تامة، وافتخر حراس المعبد بالأريحية التي ينعم بها البوذيون في بروناي. وكذلك الحال في الكنيسة التي توسطت العاصمة أيضًا، وتستقبل المصلين المسيحيين في جميع الأوقات والمناسبات.
بين القصر والجامع
هل ذهبتم إلى جامع الإمام حسن البلقية؟ هل شاهدتم التصميم الهندسي لهذا الجامع؟ أينما ذهبنا كانت الآراء تدفعنا إلى زيارة ذلك الجامع، وفي طريقنا للجامع، قال لنا مرافقنا:
- لابد من التوقف بالأستانا، آملُ أن يكون مفتوحًا، إنه قصر نور الإيمان، إنه قصر السلطان حسن البلقية، حيث يقيم والأسرة الملكية، إنه أكبر قصر سكني في العالم.
كان يتكلم بفخر واعتزاز عن القصر، حتى أنه اعتبره من أهم الوجهات السياحية، والدخول إليه في أيام رمضان والأعياد الدينية، ومصافحة السلطان وتحية عائلته، شرف عظيم، ومن الأحداث التي يحرص عليها الزائرون. وتحدث عن أهمية هذا الحدث قائلًا:
- في تلك الأوقات من السنة توزع الأطعمة والمشروبات، كما تعطى العيدية (مبلغ من المال) في خرق خضراء، للصغار والكبار.
وحين مررنا بالقصر، كان مغلقًا، ورحّب بنا الحرس وسمح لنا بالتقاط صور للبوابة العملاقة. وفي الطريق الجامع أكمل المرافق حديثه عن قصر نور الإيمان:
- صممه مهندس فلبيني يدعى لياندرو لوكسين، إنه كبير للغاية تبلغ مساحته 200 ألف متر مربع، وفيه 1788 غرفة، وإحداها غرفة لمآدب الطعام وتسَع 5 آلاف شخص، وفيه مسجد وإسطبل، في الليل له منظر خلاب، حيث يضيء عتمته 51 ألف مصباح.
بدأ المطر يتساقط، وانهمرت مياهه فور توقّف سيارة الأجرة في مواقف المسجد، منهمر بسرعة ثابتة، بينما استمر زائروه من كل الملل بالتقاط الصور مع الحدائق الخارجية التي أحاطت بنوافير ماء صبّت مياهها كشلالات عصيّة على التوقف، فكان خرير الماء سيمفونية موسيقية عزفت جمال المعمار والطبيعة في جامع الإمام حسن البلقية.
على مساحة 20 فدانًا بدأ العمل في جامع حسن البلقية عام 1988، واختير للجامع موقع يتوسط المناطق التجارية في بروناي، كما صمم بشكل معماري قد يقارب مسجد عمر علي سيف الدين، إلا أن فيه تمازجًا هندسيًّا لعديد من الطرز المعمارية، وأبرزها القائمة على الفسيفساء الملونة والنجوم المثمّنة. ومن الخارج وعلى مساحة 1000 متر مربع تقريبًا تحاط بالجامع حدائق منسقة بدقة متناهية، حيث اتخذت أشكالاً وتصاميم جميلة، كما بنيت نوافير وشلالات أطلقت هديرًا لا يتوقف، وتناغمت أصواتها مع تغريد عصافير سكنت في أشجار الحدائق.
اهتمام بالغ
كان الهدف أن يفتتح الجامع مع الذكرى الـ25 لتقلد السلطان حسن البلقية مقاليد الحكم، إلا أن الانتهاء منه بشكله النهائي كان في عام 1994، وعليه تم افتتاحه رسميًا يوم 14 يوليو من العام نفسه، الموافق يوم مولد السلطان الـ 48. بحضوره الذي تمثّل في أداء صلاتي المغرب والعشاء مع المصلين، وقد جرت العادة منذ ذلك الحين، أن يلتقي السلطان مواطنيه والمصلين بعد أداء صلاة الجمعة.
ولكونه جامعًا فهو أيضًا يجمع الجموع كما الجُمَع، ففيه قاعة للمؤتمرات والمحاضرات وتنظيم الدروس، كما أنشئت فيه مكتبة للكتب الإسلامية ضمت نسخًا نادرة من الكتب القيّمة في الفقه والعقيدة باللغات العربية والإنجليزية والملاوية، كما شاهدنا نسخة نادرة وقديمة للقرآن الكريم.
واحتلت تلك القاعات الدور الأرضي، بينما كان المسجد بالدور الأول، ويسع أكثر من 5 آلاف مصلٍّ ومصلية. ومن البوابة الرئيسة للمسجد يستقبل المصلين الرجال سلّم كهربائي متحرك وآخر تقليدي يوصلهم إليه، بينما مسجد النساء له جهة أخرى في الطابق ذاته. ويلاحظ الشكل شبه الدائري في المسجد، حيث لا زوايا فيه، بل أنصاف دوائر، وكأنه اتخذ شكل الزهرة.
يولي أهل بروناي مساجدهم وأماكن الصلاة اهتمامًا بالغًا، فكيف بجامع الإمام حسن البلقية، فلا يسمح لأي زائر من الجنسين بأن يدخل بملابس لا تليق بالمسجد، فقد خصصت عباءات سوداء مختلفة الأطوال والقياسات، وعلّقت عند مدخل الزوار، كما كانت أماكن الوضوء من أكثر الأماكن نظافة، ووضعت لافتات إرشادية عن طرق الاستخدام ونبذ الإسراف، وقد حرص القائمون عليه على التقاط الصور الفوتوغرافية في أثناء قيام المصلين بعباداتهم وفي المكتبة. وهو يفتح أبوابه للزوار المسلمين وغير المسلمين.
بروناي تحتضن الإسلام في روسيا
في بروناي دار السلام لا ينفصل الإسلام عن كل محفل من محافلها، إنه متجسد في كل الأروقة والأزمنة، وبعيدًا عن الشعب الذي بدا مسالمًا لأبعد الحدود، فإن العاصمة بندر سيري بيكاوان حاضنة جيدة لكل معلَم إسلامي، ففي إحدى صالات العرض الفني المطلة على نهر بروناي والقرية المائية، وضع إعلان كبير عن افتتاح معرض الصور الفوتوغرافية حول الإسلام في روسيا بتنظيم من الملحق الثقافي في روسيا، وحضور لافت لمسؤولين وشخصيات مهمة لدى البلدين. وعرضت فيه أكثر من 150 صورة تعبّر عن الحياة الإسلامية في الأقاليم الروسية لأكثر من 25 مليون مسلم يعيشون فيها. وقسم المعرض إلى 8 أقسام جغرافية (شمال القوقاز، الفولغا، سيبيريا، المنطقة الفدرالية الجنوبية، منطقة الأورال، المنطقة الفدرالية الشرقية، المنطقة الفدرالية الشمالية، والمركزية).
مسجد موسكو الجامع، ومدينة قازان عاصمة تتارستان ذات الأغلبية المسلمة، ومسجد قول شريف أحد أكبر مساجد روسيا، إلى جانب صور من الحياة اليومية للمسلمين والعادات والتقاليد في الأعياد والمناسبات الدينية.
كان المنظمون يستعدون لافتتاح قاعة أخرى تبعد عشرات الأمتار، تضم معرضًا فوتوغرافيًّا يحكي عن الإسلام في الصين. والسائر بين القاعتين يلمح مجسمًا ذهبيًا انتصب وسط ساحة مطلة على نهر ومقابلة للقرية المائية، يفسره الرائي له بأنه العدد 60 بسهولة، وقد كتب بجانبه، أنه هدية الشعب للسلطان حسن البلقية في احتفالية أقيمت بمناسبة يوم ميلاده الستين، وأحيط به 5 أعمدة ذهبية قصيرة يخرج منها الماء، لتصب جميعها في منتصف الـ 60. وتشير الأعمدة الـ 5 إلى عدد الصلوات المفروضة على المسلمين، وما فيها من دعاء يطلقه الشعب لحفظ السلطان وتسديد خطاه، وماؤها الذي يصب في المنتصف إشارة إلى الوئام والتجانس والإخاء.
مسجد يصدح حبَّا
عند زيارتنا الأولى لمسجد عمر علي سيف الدين، طلب منا الإمام محمد حسنال، مشاركتهم بعد أداء صلاة العشاء في احتفال يعد خصيصًا للمولد النبوي، حيث تقام جلسات ذكر للرسول محمد [ وآل بيته، وذلك قبيل أسبوع من تاريخ مولده الشريف في 12 ربيع الأول. وما إن غابت شمس ذلك اليوم، حتى صدحت مكبرات المسجد وسط هدوء مساء العاصمة وسطوع قمرها المكتمل، وسماء مزيّنة بغيوم بيضاء رشيقة.
يا نبي سلام عليك... يا رسول سلام عليك
يا حبيب سلام عليك... صلوات الله عليك
أشرق البدر علينا... مرحبًا مرحبًا يا مرحبًا
أهازيج المديح
كان ذلك نداء كافيًا لتلبيتنا الدعوة، حيث دخلنا من باب جانبي للمسجد كُتب عليه مدخل النساء، وفيه مكان لصلاتهن، ومنه مدخل لهنّ للمسجد الكبير، حيث يصلي الرجال. اصطفت النساء والفتيات الصغيرات في صفوف أفقية مرتبة وهنّ يحملن كتيبات، ويجلسن على بعد 10 أمتار تقريبًا، من الرجال الذين جلسوا في مقدمة المسجد وعلى يمين المنبر، على هيئة حرف U بالإنجليزية، وقد اصطف الإمام حسنال مع أئمة وشيوخ دين، بينما كان على جهة اليمين صفوف متتالية بلغت تقريبًا 3 صفوف، شملت رجالًا وصبية من الجالية الهندية المسلمة المقيمة في بروناي، وارتدوا الزي الهندي التقليدي للرجال، وقابله على الجهة اليسرى رجال وصبية من بروناي، وارتدوا كذلك زيهم التقليدي، وانطلقوا بأهازيج المديح والثناء على الرسول محمد [، وآل بيته، بادئين جملهم بـ «السلام عليك، زين الأنبياء، أتقى الأتقياء، أصفى الأصفياء، أزكى الأزكياء، السلام عليك من رب السماء، دائمًا بلا انقضاء.
السلام عليك أحمد يا حبيبي، طه يا طبيبي، يا مسكًا بطيب، يا ماحي الذنوب، يا عون الغريب».
وبعد ذكر طويل لسماته [، يأتي ذكر صحابته وأهل بيته الطاهرين:
«السلام على الخليفة منك فينا... أبي بكر مبيد الجاحدينا، وكذا عمر وليّ الصالحينا، وذي النورين رأس الناسكينا، وكذاك علي السامي يقينا.. السلام على أصحابك أجمعينا، رضي الله عنهم، وكذا الحسنين خير العالمين.. رضي عنهما وآلك كلهم والتابعينا.. رضي الله عنهم وتابعيهم وتابعي التابعينا».
امتدت جلسة الذكر إلى الساعتين تقريبًا، وكانت روح الإنشاد لا تخبو ولا تهفو، بين الرجال والنساء اللاتي حرصن على أن تكون نبرة ذكرهنّ أخفض من الرجال، وبين الكبار والصغار الذين برفقة الوالدين والجيران، كما التزم الجميع بالإنصات لبعضهم البعض، والتراتبية بالقول والكلمة، وفقًا لما جاء في تلك الكتيبات التي يحملونها. بعد الانتهاء، وزعت أكياس وضعت بها علبتان إحداها أرز أبيض، والأخرى صلصة، وتعد كوجبة عشاء لمن شارك في حلقة الذكر، إلا أنها لا تمنع الحاصلين عليها من الاستمتاع ببوفيه أعد بألذ المأكولات التقليدية خارج المسجد، وفي الساحة المطلة على البحيرة.
السيدة عزيزة في بروناي
عزيزة، سيدة في منتصف العمر، بيّنت لنا حرص الأسرة في بروناي على الوجود والاحتفال بالمولد النبوي في المسجد، حيث جاءت مع زوجها وابنها الشاب، وفتاة صغيرة في العاشرة من عمرها، ابنة جيرانها، الذين منعهم ظرف ما من المشاركة. وددنا من السيدة عزيزة أن تطلعنا على الأسرة في بروناي، فقالت:
- عادة ما تكون أسرنا ممتدة، فإن لم نسكن في بيت واحد، فنحن قريبون من بعضنا البعض، ويحظى الأجداد باحترام كبير، وتقدير بالغ. ونحرص على مخالطة أبنائنا لأجدادهم لاكتساب الحكمة والمعرفة الحياتية. كما نهتم بالتعليم وحصول أبنائنا على أعلى المراتب العلمية. ابني في منتصف العشرينيات بعد أن أنهى تعليمه الإلزامي اتجه إلى الخارج للتخصص في أحد مجالات الهندسة.
وعند سؤالنا عن التربية الإسلامية قالت:
- إن الإسلام محور حياتنا، نتمسك قدر استطاعتنا بتعاليمه السمحة، نحن نتعايش بسلام مع السكان من العقائد الأخرى، فأماكن العبادة متوافرة لهم، كما هي متوافرة لنا. وقد أطلقت حكومتنا في يوليو 2009 حملة «بروناي حلال»، لدعم الأغذية المصنّعة وفقًا للشريعة الإسلامية، بحيث تكون علامة تجارية عالمية تقتحم الأسواق العالمية، وتوفر الأغذية للمسلمين، كما بدأنا في مايو 2014 بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية.
وعن دور المرأة في الأسرة والمجتمع، اكتفت بالتعبير عن نفسها:
- أنا ربّة أسرة، ولم أعمل قط، لكن فرص التعليم والعمل للمرأة لدينا متساوية مع الرجل، فالمرأة تخدم بالجيش والشرطة وتشكّل قوة العمل الوطنية. وكذلك لا تمنع من بعض التقاليد المتعارف عليها، والتي تحرص على الالتزام بها كالحجاب، وعدم مصافحة الرجال، والحديث بصوت منخفض نسبيًا.
نزهات في حدائق وملاهٍ ومتنزهات
تعد أماكن الترفيه والترويح عن النفس لكل الفئات العمرية ضرورة ماسّة في كل الدول، وقد أجادت حكومة بروناي في تصميم حدائق وملاهٍ ومنتجعات فريدة من نوعها، حيث غلبت عليها الخضرة وتنسيق المزروعات بشكل هندسي، ونظافة المكان وتكامل كل خدماته للزوار، إلى جانب روعة التصميم والمعمار. في بروناي كل شيء بأبهى صوره، ومنها:
- حديقة داموان الترفيهية، التي تبعد عن قلب العاصمة 4.5 كيلومترات، لها شكل طولي، ومطلة على نهر بروناي، ومجاورة للقصر الرئاسي، ومما يجعل الحديقة تستحق الزيارة ساحة آسيان وما تحتويه من مجسمات خلابة قام بها نحاتون من الدول المؤسسة للرابطة وهي ماليزيا، وإندونيسيا، وسنغافورة، وتايلند، والفلبين، وبروناي التي انضمت إليها عام 1984، قدمت الأعمال تحت شعار الانسجام في التنوع، وفقًا لما ترمز إليه الرابطة عن دولها وهي مستقلة، وسلمية، ودينامية، ومتحدة، وعاكسة تطلعاتها المستقبلية وهي الحب، والسلام، والحرية، والاحترام المتبادل.
تم إنجاز المنحوتات خلال سمبوزيوم النحت لدول آسيان في الفترة من 11 يناير إلى 24 فبراير 1986، وتم عرضها للجمهور في احتفال رسمي أقيم في 12 ديسمبر 1987.
يتراوح علو المنحوتات من 3 إلى 6.5 أمتار. في الحديقة مرفقات أخرى، كملاعب الأطفال، ومسارات للمشي، ومطعم، ويتمتع زوارها أحيانًا بمشاهدة تماسيح النهر مختلفة الأحجام.
- ملاهي جيرودونغ، وهي مدينة ترفيهية ضخمة، تناسب كل أفراد العائلة، صنفت على أنها أكبر ملاهٍ في جنوب شرق آسيا، كلفت حكومة بروناي حوالي مليار دولار. وافتتحت للمرة الأولى عام 1994، وكان الدخول إليها مجانيًا، وشهدت استضافة مغنين عالميين لإحياء الحفلات الموسيقية فيها، واستمر ذلك حتى عام 2009، حيث أقرت إدارتها مبالغ متفاوتة للدخول، مراعية عُمر الزائر، والألعاب التي سيلعبها، كما وضع سعر مميّز للمجاميع المدرسية والسياحية، وقد تصنف على أنها من أغلى المدن الترفيهية، إلا أنها تستحق ذلك لما تقدمه لزوارها من متعة، ورعاية، حيث مرفق للإسعاف، وخدمات أخرى تشمل المصليّات والاستراحات، والتي تكفل استمتاع كل أفراد الأسرة طوال اليوم دون الحاجة إلى الخروج منها.
صممت على جزأين، بحيث يربط بينهما جسر معلّق، في الجزء الأول تنتشر النوافير الموسيقية، والألعاب التقليدية، وملعب مصغر للجولف، وقرية الألعاب المائية.
حديقة الشلال
أما الجزء الثاني فقد خصص لألعاب السرعة، وسباق السيارات الرياضية، وركوب الخيل، والعروض السينمائية الباهرة، والعروض المسرحية، وفيه أيضًا ردهة واسعة للمطاعم التقليدية والعالمية. ولإضفاء أجواء عائلية خصصت بها صالة مجهزة لإقامة الأفراح والاحتفالات، كما تحرص إدارة الملاهي على تنظيم عروض جاذبة كالسيرك، وعروض الطيور والزواحف التي تصادف مرورها في أثناء وجودنا، واللافت للنظر كان حرص القائمين عليه على تعقيم يدي الزائر لهم بمحلول مطهر، وتنظيف حذائه من الشوائب بمروره بآنية ماء وضعت عند مدخل الخيمة التي احتوت على الببغاوات، والبوم، والأفاعي وغيرها الكثير.
- متنزه تاسك لاما، أو حديقة الشلال، هي بمنزلة محمية طبيعية تعطي للزائر انطباعًا بأنه في جغرافيا بروناي الأولى، حيث الأشجار البازغة والأزهار المتناثرة، والثمار المتدلية، إنها كغابة من الغابات الاستوائية التي حافظت على كل مكوناتها الطبيعية، حتى الحيوانات، لابد أن ترى قرود الغابون تتقافز بين فروع الشجر، والسناجب والزواحف، حتى أن مشرفي المتنزه يحذرون الزائرين الجدد من اختطاف أمتعتهم من قبل القرود اللصوص.
فينيسيا الشرق
هذا إضافة إلى أن الشلال الذي يسري هديره في أرجاء المتنزه، يقال إنه من مصادر تغذية المدينة بالمياه. وفيه عليك أن تعتاد رؤية محبي رياضة المشي وممارسي اليوغا، كما أنه مكان مناسب للتدريب على مختلف الأنشطة الرياضية، كالتنس والأيروبيك. الارتفاعات المتفاوتة لسطح المتنزه أوجدت فيه قمة تمكّن الواصل إليها من الاستمتاع بمنظر العاصمة.
- القرية المائية، هي فينيسيا الشرق، كما لقبها الرحالة الإيطالي أنطونيو بيغافتا، هي مزار ووجهة كل زائر للعاصمة، وتعرف بأنها قرية قديمة بنيت على نهر بروناي، تتمثّل بمجموعة من المساكن الخشبية المعلقة، رفعت عن النهر بأعمدة خشبية، ويقال إنها تعود لسكان بروناي الأوائل، وهم شعب الملايو. ولأنها اليوم تستقطب السياح، فقد عنيت الحكومة بها، وأجرت أعمال ترميم وإصلاح للمساكن القديمة مرات عدة، كما بنت قرية جديدة بجانبها، محتفظة بالشكل الخارجي لها، ومواكبة لاحتياجات سكانها. تأخذكم القوارب الخشبية الموزعة على طول النهر إلى القرية مقابل نصف دولار للشخص. وفيها يمكن الاطلاع على مقتنيات طبق الأصل لسكان القرية، محتفظ بها في متحف صغير، حيث الألعاب التقليدية البسيطة، والملابس التراثية، وأدوات الزينة، إضافة إلى الصور لأهم المناسبات الاجتماعية وزوار القرية أيضًا، فضلًا عن مطعم صغير يقدم المأكولات التقليدية، ومركز للشرطة. يقول ابن خلدون إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، لكن في باطنه نظر وتحقيق. لقد انقضت مدة بقائنا في بروناي سريعًا، وتوالدت لدينا رغبات أكثر في طرق مدنها كافة، نظرًا وتحقيقًا وإخبارًا، فإن صح القول بأن هناك مدنًا لا تنام، فبكل ثقة نقول إن هناك مدنًا صحيّة تحظى بنوم هانئ ليلاً ونشاط فائق صباحًا، إنها بندر سيري بيكاوان، عاصمة الثقافة الإسلامية لعام 2019، العاصمة المسلمة للتطور والعمل المتقن، والنهج المعتدل، إنها العاصمة الطامحة لسياحة عائلية مبهجة وماتعة.
فاكهة الدوريان الآسيوية تملأ سوق الليل (غودنج ماركت) وتعج المكان برائحتها النفّاذة
سوق الجمعة (كيانغيه ماركت) يزخر بالمنتجات والصناعات المحلية، وتوظيف واستغلال جيد لكبار السن لممارسة وتعليم الحرف اليدوية القديمة، تحسبّا من اندثارها
البوابة الرئيسية لمسجد عمر علي سيف الدين
البارجة الملكية التي ينتهي بها الجسر الرخامي الممتد من البوابة الخلفية للمسجد، مرورًا بالبحيرة الاصطناعية
متحف تكنولوجيا الملايو يستعرض الحياة القديمة لشعب بروناي
النساء يشاركن في احتفالية المولد النبوي حيث يصحبهن الرجال في إنشاد المديح والصلوات على رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام