الأذريّون والأرمن أتعبوا اللغة العربيّة

الأذريّون والأرمن  أتعبوا اللغة العربيّة

كانت أسماء العَلَم الأجنبيّة الداخلة على العربية محل خلاف دائم بين المستعملين لها، سواء في حروفها أو في حركاتها أو في مشتقاتها، وذلك إما لتباعد المسافات بين المعرِّبين، أو لاختلاف المصادر التي أخذوا منها؛ ومن ذلك اسما أذربيجان وإرمينية. ونحن في هذه المقالة سنبحث في هذين الاسمين لغويًا إنْ من حيث لفظهما أو من حيث النسبة إليهما.  

 علاقة العرب بالأذريّين والأرمن قديمة، وكثيرًا ما يُذكر بلداهما معًا في كتب التاريخ والثقافة العامة والأدب. وتعود هذه العلاقة إلى أيام الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ فتح المسلمون في عهده ما سمي بإِرْمِينْيَة الرابعة وأذربيجان. ومن الطبيعي أن يجرى بعد ذلك، على مر العصور، تعامل بين المسلمين وأهل هذين البلدين، وأن يكثر الاختلاف في الألفاظ الدخيلة أو المعرَّبة المتصلة بهم.

 في اسم البلدين
1 - أذربيجان
يقال هذا الاسم بفتح الهمزة فتحة قصيرة، وبفتحها فتحة طويلة أيضًا، أي بمدّة؛ وبسكون الذال وفتح الراء، وبفتح الذال وسكون الراء؛ وبكسر الباء كسرة طويلة، أي بياء ممدودة، وبفتح الباء وتسكين الياء بعدها، وكأن الصيغة صيغة تصغير؛ وبكسر الراء وتقديم الياء على الباء وجعلها كسرة طويلة، على ما يذكره عِياض بن موسى اليحصبيّ (ت 544 هـ) في «مشارق الأنوار»، وكذلك ياقوت الحمويّ (ت 626 هـ) في «معجم البلدان»، حيث نعلم أن تقديم الياء على الباء يقتضي فتح الباء، ولعل بوسعنا أن نزيد على ذلك وضع الدال مكان الذال، وهو ما وجدناه في «الفهرست» لابن النديم (ت 438 هـ)، وفي «نهاية الأرب» للنويريّ (ت 733 هـ)، وإن كنا نخشى أن يكون في الأمر تصحيف. 
فإذا استبعدنا ما فيه مدة يليها ذال ساكنة وجدنا لهذا الاسم تسعة احتمالات هي: أذْرَبِيجان، أذَرْبِيجان، أذْرَبَيْجان، أذَرْبَيْجان، أذْرِيبَجان، أذَرِيبَجان، آذَرْبِيجان، آذَرْبَيْجان، آذَرِيبَجان؛ عدا احتمالات الصيغة التي فيها حرف الدال. ولا ندري ما الذي استخدمه العرب من هذه الاحتمالات، لكن شبه المؤكد أنهم لم يستخدموها كلها.
2 - إرمينية
في «معجم البلدان» و«لسان العرب» تحريك دقيق للكلمة مخالف لما يُستعمل في أيامنا، فهو فيهما بلفظ: إِرْمِينِيَة، بكسر الهمزة وبتاء التأنيث. وقد التزم بعض المؤلفين القدماء بذلك، مثل المسعوديّ (ت 346 هـ) في «مروج الذهب»، لكن كثيرًا من الكتب القديمة، ربما بعمل من المحققين، تفتح همزة الكلمة، كالذي نجده في «تاريخ الرّسل والملوك» للطبري (ت 310 هـ)، وفي «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (ت 626 هـ)؛ بل إن محققي «معجم البلدان» يحركون همزة إرمينية بالفتح، في الباب الذي خصها ياقوت به، على خلاف ما جعله هو نفسه عنوانًا لها. 
أما اليوم فالأكثرون، ولاسيما من لا يحرصون على دقة اللغة، يقولون أَرْمِينْيا، يأخذون ذلك من بعض اللغات الأوربية، ولاسيّما الإنجليزية، وهو ما لا يستعمله الأرمن أنفسهم على ما يبدو، إذ إنهم يستخدمون اسم هايْكْ للأمة الأرمنيّة، وذلك أمر غريب محيّر؛ وكان الفرس يسمون بلاد الأرمن هايكستان، أي بلاد الهايْك، وتسمى الجمهورية الأرمنيّة اليوم: هياستاني هانر أبيتوتيون؛ ولا يُعرف أصل التسمية التي يستعملها العرب، وإن حاول بعضهم ردها إلى إرم الذي يقال إنه سليل هايْك.

في النسبة إلى البلدين
1 - النسبة إلى أذربيجان
يرى اللغويون العرب وأصحاب الكتب الجغرافية وغيرها أن أذربيجان كلمة مركّبة من أذر وبيجان، فيطبّقون عليها القاعدة التي تقصر النسبة على الجزء الأول من التركيب، لينشأ عندهم: أذريّ، في مختلف صورة أذر التي رأيناها. لكنّ المستعملين لم يلتزموا هذه القاعدة، فقال بعضهم: أذربيّ، على مختلف صور أذر أيضًا، فعدّ اللغويون هذا مخالفًا للقياس. والحقيقة أنه ليس كذلك؛ لأن العرب إما أن تراعي شأن التركيب، وإما أن تنظر إلى الاسم بكلّيته، فإن كان طويلًا اكتفت بأحرفه الأربعة الأولى ونسبت إليها، ومن ذلك قولهم حَضْرَميّ في النسبة إلى حضرموت؛ وربما أجروا على الاسم ضربًا من النحت فقالوا عَبْدَريّ نسبة إلى عبدالدار، وعَبْشَميّ نسبة إلى عبدشمس. مهما يكن من أمر فإن هاتين النسبتين قد استُعملتا معًا، فقيل صوف أذربيّ ولغة أذريّة وأذربيّة. 
لكن ثمة نسبة ثالثة لم يلحظها اللغويون وهي أذربيجانيّ، أي باعتماد اللفظ كله؛ فقد استعمل هذه النسبة عبدالكريم السَّمعانيّ (ت 562 هـ) في «كتاب الأنساب» لمن سماهما نافع بن عليّ الأذربيجانيّ ومحمد بن موسى الأذربيجانيّ، كما استعملها الزركليّ في «الأعلام»، وصفًا لأحد تلاميذ ابن سينا: بهمنيار بن المرزبان (ت 458 هـ)، ولا ندري أوجد ذلك في مصادره أم صاغ النسبة على طريقته. واليوم كثيرون يستعملون هذه النسبة، لكنها ثقيلة ويتحاشى العرب أمثالها. 
 2 - النسبة إلى إرمينية
أما النسبة إلى إرمينية فهي، وفق «الصحاح» و«اللسان» و«المصباح المنير»: أرمنيّ، بفتح الهمزة والميم، أما وفق «معجم البلدان» فالنسبة إليها: أرمِنيّ، بفتح الهمزة وكسر الميم؛ وقد استشهد «المعجم» و«اللسان» كلاهما لذلك ببيت شعر منسوب إلى أحد شعراء الحماسة الذين اختارهم أبو تمام، واسمه سيّار بن قَصير الطائيّ، ويقول:
 ولو شَهِدتْ أمُّ القُدَيْدِ طِعانَنا
بمَرْعَشَ خَيْلَ الأرمنيّ أَرنّتِ
 لكن «اللسان» روى ذلك البيت بلفظ: «ولو أبصرت» بدلًا من «ولو شهدتْ»، وبفتح ميم الأرمنيّ، ورواه «معجم البلدان» بكسر الميم، ورُوي البيت في «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقيّ (ت 421 هـ) بفتحها، ولا ندري أهو هكذا في أصل مخطوطات الشرح، أم هو اجتهاد من المحققين أحمد أمين وعبدالسلام هارون.
 وقد وضح المرزوقيّ أن مَرْعَش من ثغور إرمينية، ونعلم اليوم أنها كانت تابعة لولاية حلب إبان الحكم العثماني، ثم أصبحت عاصمة لمحافظةٍ في جنوب تركيا تحمل اسمها. ولا شك في أن أرمَنيّ أكثر قبولًا، للتناسب الصوتي بين فتحة الهمزة وفتحة الميم. 
وقد رأى أبو عليّ الفارسيّ (ت 377 هـ) في «المسائل الحلبيّة» أن همزة إرمينية زائدة، وأن القياس يقضي بأن تكون النسبة إليها هي إرْمِينيّ، لكنهم حذفوا الياء كما حذفوها من حنيفة في حنفيّ معتبرًا الياء الثانية في إرمينية كالتاء في حنيفة؛ وهو تأويل غير مقنع، لأن الياء تُحذف في النسبة مما هو على وزن فَعِيلة فقط، وليست إرمينية على ذلك الوزن. 
كما أنه يشبّه ذلك الحذف، وبطريقة ملتبسة، بحذف ياء النسب في رومي وسِندي، لنحصل على روم وسِند. ثم يضع احتمالًا ثانيًا هو أن أرمنيّ نسبٌ على غير القياس مثل بدويّ، يعني نسبة إلى البادية.
 وذهب الفيوميّ (ت 770 هـ) في «المصباح المنير» إلى أن النسبة القياسية هي إِرمينيّ، مثل كِبريتيّ، لكنهم استثقلوا اجتماع ثلاث ياءات وتوالي كسرتين مع ياء النسب فحذفوا ياءَي إرمينية وفتحوا الميم تخفيفًا فقالوا أرمَنيّ، ومنه الطين الأرمَنيّ، من غير أن يوضح لماذا استبدلوا من كسرة الهمزة فتحة.
والحقيقة التي كاد الفارسيّ يَلمحها، من غير أن يعبّر عنها، هي أن أرمن اسم جنس جمعي نحصل على مفرده بزيادة ياء النسبة عليه: أرمنيّ، مثل عرب وعربي وروم ورومي وتُرك وتُركي. وبحسب أحد الباحثين الأرمن فإن الفرس واليونان استعملوا كلمة أرمَن وأرمِن للدلالة على هذا الشعب، ونعلم أن إرمينية تسمى اليوم بالفارسية أرمنستان، أي بلاد الأرمن، ولذلك نرجح أن يكون العرب قد أخذوا كلمة أرمن من الفرس ونسبوا إليها، من غير العودة إلى اسم البلد، أي إرمينية، وإجراء الحذف عليه. وعلى أية حال فإن همزة هذه الكلمة أصلية، خلافًا للفارسي. 
لكنّ ما أوحى بعض اللغويّين أنه قياسيّ لكن غير مستعمل، نعني أرمينيّ، وهو ما علل الفيوميّ عدم استعماله بثقله، إنما هو مستعمل أيضًا بقدر لا بأس به، وربما كان استعماله أقدم من استعمال أرمنيّ، وإن كنا لا نستطيع أن نعرف أي الصيغتين كانت أكثر استعمالًا في العصور القديمة.
فهذا ياقوت ينسب إلى ابن الكلبيّ (ت 204 هـ) لفظ أرمينيّ، لكن في غير باب إرمينية، بل في باب صقلب، وهذا الجاحظ (ت 255 هـ) يذكر في «الحيوان» رجلًا يصفه بالأرمينيّ، وذلك في كلامه على انسلاخ جلد الإنسان انسلاخ جلد الحيات، وهذا ابن سيده (ت 458 هـ) يصف بالإرمينيّ ضربًا من الثياب، لكنه يجعل الهمزة مكسورة - ومن ابن سيده يأخذ ابن منظور هذا الوصف (اللسان، درقل)، مع أنه يستعمل صيغة أرمَنيّ وصفًا لبعض صباغ الثياب - وهذا الزمخشريّ (ت 538 هـ) يستشهد في «أساس البلاغة» رجزًا للشاعر أبي نُخيلة (ت نحو 145 هـ) يمدح فيه الخليفة الأموي مروان حين كان بإرمينية، يعني، على الأرجح، مروان بن محمد (ت 132 هـ)،  فيقول:
إنّا وكنّا حَنَكًا نَجْديّا
لـَمّا انتجعنا الوَرَقَ المرْعِيّا
ولم نَجدْ رَطْبًا ولا لَوِيّا
أصبحَ وجهُ الأرضِ إِرمينيّا
(مادة حنك)؛ وهذا عبدالكريم السَّمعانيّ يستعمل تلك الصيغة حين يتكلم على بلدة أَرْدَبِيل، ويؤكد أنها في جوار آذربَيْجان، زاعمًا أن الذي بناها هو أردبيل بن أرميني فنُسبت إليه، وكذلك حين يترجم لمحدِّث اسمه عيسى بن مالك الأَرمينيّ، من غير أن يعين تاريخ ولادته ولا وفاته، موضحًا أن أرمينيّ هي النسبة إلى إرمينية، وحين يتحدث عن بلدة بَيْلقان جاعلًا من المحتمل أن يكون من بناها هو بيلقان بن أرميني، وأخيرًا حين يتكلم على عبدالواحد بن بكر الوَرْثاني.
لكنه يستعمل أيضًا صفة الأرمَنيّ لعدد من المحدِّثين، موضحًا أنها نسبة إلى بلاد الأرمن؛ وهذا أحمد بن عبدالوهاب النويريّ (ت 733 هـ) صاحب «نهاية الأرب في فنون العرب» يستعمل كلمة أَرمينيّة وصفًا لأمّ المستضيء بأمر الله، الخليفة العباسيّ، كما يستعملها حين يتكلم على لغة أهل إرمينيَة. فالصيغتان صحيحتان، لكن الفرق بينهما، وهو فرق لم يدركه القدماء، على ما يبدو، هو أن أرمنيّ مفرد لاسم جنس جمعي هو أرمن، أي هو نسبة إلى أمة الأرمن، وأن إرمينيّ نسبة إلى البلد: إرمينية.
هذا، ولم نظفر بجمع لأي من الكلمتين جمعًا سالمًا على أرمنيّين أو أرمِينيّين قط، مع أنه جمع قياسي، مثله مثل أُردنيّين وإشبيليّين؛ كما لم نظفر بجمعهما على أرامنة، مثل أفارقة (جمع إفريقي)، لكننا وجدنا النويريّ يجمع الكلمة على أَرمينيّة، في عبارة: الأكراد الأرمينيّة، حيث ضمّن جمع التكسير معنى الجماعة، فكأنه قال: جماعة الأكراد الأرمينيّة. 
والطريف في أيامنا أن الفرد من الأرمن الذين هاجروا إلى البلاد العربية في مطلع القرن العشرين يقال له أرمنيّ، وأن وسائل الإعلام تقول للمقيم منهم في إِرمينية أَرمينيّ، وكأنهم يفرقون بين المهاجر والمقيم، وهذا تفريق حسن، لأنهم ينسبون من هم خارج إرمينية إلى أمتهم، ولاسيما أن أكثر هؤلاء حازوا جنسية البلاد التي يقيمون فيها، وينسبون إلى إرمينية من ولد وبقي فيها، لكن بفتح الهمزة. 
 
المسألة الأخيرة
والملحوظ أنهم اختلفوا في همزة أذربيجان أهي بفتحة قصيرة أم طويلة، لكنهم لم يختلفوا في فتحها نفسه، سواء في الاسم أم في المنسوب إليه؛ أما المنسوب إلى إرمينية، فقد استقر أكثرهم على فتح همزته وتركوا كسرها، وهو الأصل، فقـالوا أرمَنيّ، وقال بعضهم أرمِنيّ، وقال الباقون أَرمينيّ، وقلّ من قال إرمينيّ؟ إن لذلك تعليلين: الأول ما ذكروه في همزة إنجيل؛ إذ يشير القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره وابن منظور في «اللسان» إلى أن الحسن البصريّ قرأ الكلمة بفتح الهمزة، خلافًا للقراءة المشهورة ولموازين العربية، وذلك، في رأي الزجاج (ت 311 هـ)، لأن إنجيلًا كلمة أعجمية، وكثير من الأمثلة الأعجمية (يعني الصيغ أو الأوزان) يخالف الأمثلة العربية نحو آجَر (هكذا في مطبوع اللسان، ولعل الصواب: آجُرّ، بضم الجيم وكسرها، وجمعه آجُرٌ) وإبراهيم وهابيل وقابيل. وهي حقيقة واقعة نلحظها في الكلمات المعرّبة التي تُقرأ على وجوه متعددة، وقد لاحظناها آنفًا في همزة أذربيجان، خاصة، ونلحظها في أسماء معرّبة كثيرة.
وأما الأمر الثاني والأهمّ فهو أن سبب فتح الأكثرين لهمزة أرمنيّ أو أرمينيّ هو أن الفتح أخفّ الحركات نطقًا، وهو يساعد المتكلم على الاقتصاد في الجهد الذي يقتضيه لفظ الهمزة في أول الكلمة، والذي بعث بعض القبائل على تسهيلها أو حذفها ■