اتجه
إدجار مورين - شأنه في ذلك شأن معظم الفلاسفة المعاصرين - من علم الاجتماع إلى
الفلسفة، ولعل هذا هو الذي صبغ الفلسفة المعاصرة بالطابع الاجتماعي، وجعل مناقشة
القضايا الفلسفية غير ممكنة إلا من خلال البعد الإنساني والاجتماعي لها، لأن
الإنسان لا يعيش بمعزل عن الجماعة التي ينتمي إليها، ولقد ولد إدجار مورين في باريس
سنة 1921، ودرس في جامعتها أيضا، وتخصص في علم الاجتماع مثل كلودليفي ستروس، وتحول
إلى الفلسفة، واتضح هذا في كتاباته مثل: "النموذج ا لمفقود" 1973 Le Para
digme، و"المنهج" 1977Le Methode وفي هذين الكتابين يحاول مورين أن يدرس قضايا الإنسان من
خلال منظور جديد يجمع بين البيولوجيا (علوم الحياة) وبين نظرية الإعلام، ففي كتابه
"المنهج " يقدم تساؤلات حول علاقة الإنسان بالعالم الفيزيقي، هذه العلاقة التي ظهرت
قبل ذلك في كتابه "الإنسان والموت" 1951، حيث حاول أن يبحث علاقة الإنسان باعتباره
فردا أو جنسا أو مجتمعا بالعالم البيولوجي، والموت هو ظاهرة بيولوجية من الدرجة
الأولى، وإن تعددت أبعاده الإنسانية من خلال الأساطير والطقوس المرتبطة بالموت
وعلاقته بالآخرة. أما كتابه "النموذج
المفقود"، فهو محاولة من المؤلف لتأسيس ما يسمى بعلم اجتماع الحاضر، وفيه يكشف
مورين عن الأساطير الحديثة لثقافة المجتمع الصناعي، فالإنسان في عصرنا الراهن،
يتميز بأنه خيالي، في مقابل الإنسان العادي أو الذي يدعي ذلك في العصور السابقة،
والإنسان الصانع الذي تعددت إمكاناته وكثرت وسائله ومخترعاته، وقد كتب مورين بحثا
عن السينما أو الإنسان الخيالي، وهذا الكتاب لا يتعرض لدراسة السينما بشكل مباشر،
وإنما يدرس ذلك الإحساس الذي ينشأ فينا ويتكون نتيجة للصور المتحركة التي نراها على
الشاشة، وعلاقته - ذلك الإنسان - بتنمية الجانب الخيالي في الإنسان، وخلق ميثولوجيا
جديدة، جلبتها أو أتاحتها هذه الأدوات - التي لم تكن متاحة من. قبل - في تصدير صورة
للحياة يتبناها المرء، فالناس تمارس حياتها متأثرة بما تشاهده في السينما
والتلفزيون، وفي بعض الأحيان - لدى شرائح من صغار السن - تقليدا له، سواء في الجانب
السلبي أو الإيجابي،. وهذا يكشف عن تعاظم
دور السينما والتلفزيون في حياة الفرد، مما يلقي على كاهل هذه الأدوات مسئولية عظمى
في تحديد مستقبل البشرية.
أزمات المجتمع هي
دليل حياته
ومثلما يرى هيجل
أن الحاجة إلى الفلسفة تشتد مع الأزمات العنيفة التى تواجه المجتمعات الإنسانية،
فإن مورين يرى أيضا، أن الأزمات هي التي تسبب انطلاق الحقائق من الأعماق، بعد أن
كانت مختبئة في الكائنات والمجتمعات، ففي الأزمات تظهر بشائر التطورات المستقبلية،
ويتفاءل مورين بهذه الأزمات التي تجبر أي نظام في أي مجتمع على أن ينقد ذاته، وأن
يعيد النظر في سياساته الظالمة تجاه أفراده، بل ويرى أن الأزمات الكبرى في تاريخ
البشرية، هي التي أيقظت الوعي الإنساني وعبأت المشاعر لبداية عصر جديد، مثلما يكون
الألم دليل ولادة مرحلة جديدة لدى الإنسان في مراحل تطور وعيه بنفسه، ووعيه بالعالم
وبالآخرين من حوله. فالأزمات تكشف قصور
أنساق التفسير ومناهج البحث لدى الفلاسفة في تحليل الظواهر الإنسانية المستحدثة على
الواقع، وجعل الإنسان يطمح إلى اكتشاف مناهج جديدة وطرق ومختلفة في التفكير، بعدما
كشفت الأزمة قصور المناهج الحالية في إدراك الواقع والإمساك بما خفي من
جوانبه. وبفضل الأزمات الروحية والاجتماعية
بدأت العلوم الإنسانية في البحث عن مبادىء أكثر تركيبا وتعقيدا عن ذي قبل، ولم يعد
العقل الإنساني يرضى بالتبسيط الساذج للظواهر الإنسانية المترابطة - عضويا - بغيرها
من ظواهر الكون والطبيعة. ويضرب مورين مثالا على ذلك بثورة المجر 1956 التي استهدفت
- في ذلك الوقت - التخلص من التبعية للاتحاد السوفييتي، لكن روسيا سحقت الثورة
والثوار، واستخدمت أبشع صور البربرية والقهر في غزو المجر الشهير، وولد هذا نزعة
نقدية للفكر الماركسي، فلقد كان العديد من المفكرين المعاصرين على اقتناع تام بأن
خلاص البشرية من الظلم يكون عن طريق الأخذ بالنظام الماركسي، منهم مورين وجارودي
وألتوسير، فتحمس جارودي لرفض تطبيقات ستالين وكتب ألتوسير عن قصور التطبيق الماركسي
وقدم (قراءة جديدة لكتاب رأس المال) وتناول جان بول سارتر ذلك في كتابه "مواقف"،
حين أدان الغزو. وتحول مورين عن الشيوعية بعد ثورة المجر التي (بوصفها نتيجة لأزمة
في مجتمع أوربا الشرقية) أحدثت قطيعة مع مختلف المبادىء التي تبرر ممارسات البربرية
على يد الاشتراكية.
وبين مورين في
كتابه "مقدمة لسياسة إنسانية" 1965، أن البربرية تعاود الظهور في المجتمع المعاصر
بسبب النظام التقني البيروقراطي السائد في المجتمع المعاصر، وبسبب الإسراف في
التجريد المشوه للواقع، عن طريق اختزال أبعاده في الكم فقط، دون النظر إلى الكيفيات
المتداخلة، وعن طريق الاستغلال السيىء للنتائج العلمية بحيث توجه كأدوات للسيطرة
على الإنسان، وليس من أجل إطلاق الإمكانات الكامنة في الإنسان، وتفتح آفاقه
الروحية.
الحقيقة والسياسة
والمعرفة الإنسانية
يتوهم الإنسان
أنه قادر على وصف الأشياء الخارجية، بينما الحقيقة هي أننا نسقط على الأشياء
الخارجية ما لدينا من مقولات الفكر، وبناءات النفس الداخلية، وما تلقيناه من ثقافة،
ودون أن ندري نجد أننا نصف أنفسنا ولا نصف الواقع الخارجي، والسؤال الذي يجب أن
يطرحه الفيلسوف في عصرنا الراهن هو: كيف يمكن للذات الإنسانية أن تخرج عن إطارها
الداخلي لمعرفة الأشياء؟، وإجابة مورين عن ذلك لا تخرج عما قدمه الفيلسوف الألماني
إيمانويل كانط، فلقد سبق لكانط أن بين أن حدود العقل الإنساني في المعرفة مرتبطة
بما لديه من مقولات قبلية مثل الزمان والمكان، إذ لا يستطيع الإنسان أن يدرك
الموضوعات التي تخرج عن حيز الزمان والمكان، ولذلك يرى مورين أنه لا توجد معرفة
يمكنها أن تتجاوز القدرة التلقائية القبلية لدى الإنسان، إذ ينبغي أن نعرف أن
الإنسان حين يرسم أي شيء، فإنما يرسم يده في نفس الوقت، لأن الرسم يعكس قدرات اليد
في الرسم إذ إن كل عملية حيوية تنتج في النهاية ما يتضمن عناصرها الأولية، وهذا
يعني أن ينتج الفلسفات السابقة على ضوء المعارف الجديدة التي أتاحتها العلوم
المعاصرة، فهو لا يقوم برد الأنثربولوجي إلى البيولوجي، ثم يرد البيولوجي إلى
الفيزيقي، بل هو يحاول إيجاد علاقة اتصال بين هذه المجالات، ولذلك فهو يرى في البشر
كائنات فيزيقية وبيولوجية واجتماعية وإنسانية في الوقت نفسه. وينقد مورين العلوم الطبيعية لأنها تفصل بين هذه المجالات
بعضها البعض الآخر، وبالتالي تباعد بين الإنسان والطبيعة، بينما كل ثقافة تنشأ عن
الطبيعة ومن خلال علاقة الإنسان بها، في حين يجعل هذا الفصل، العلوم الطبيعية توصم
بطابع لا إنساني. وأزمة المعرفة المعاصرة
تتأتى من التصميم على تجزئة الواقع وطمس معالمه، بل وطمس الطاقات البشرية نفسها،
مما أدى إلى اغتراب الإنسان نتيجة لتفتيت الواقع الإنساني، ولذا فالبشرية تفتقر إلى
سياسة مستمدة من علم الاجتماع الأنثربولوجي، الذي ينبغي أن يستند بدوره إلى علم
الطبيعة، مما يترتب عليه ضرورة النظر في تنظيم جديد لتسلسل بناء المعرفة لا يعتمد
على تبسيط الواقع، الذي يقوم برد الوقائع الجزئية إلى مبدأ كلي عام تندرج
تحته. وهذا يعني التخلي عن هذا المفهوم
المبسط للواقع الذي يقدم تفسيرات تستند إلى فكرة النظام، بينما المعرفة المعاصرة
تتطلب مفاهيم جديدة تتصل بعدم النظام، مثل الاحتمال، والتبعثر والظن واللامعين
واللامحدود. ويدعو مورين إلى نظرية يطلق
عليها "نظرية التنظيم"، وهي تجمع بين طياتها نظرية المعلومات وتطرق الإنسان
والسيبرنطيقا وهو علم يهتم بدراسة تبديات الظواهر في احتمالاتها الممكنة في
المستقبل، ويزعم مورين أن هذه النظرية تحاول أن تكتشف مبدأ للتفسير لا يمحو أسرار
الأشياء، بل يحترم الوجود والكينونة ولا يردها إلى مجرد نسق.
اختفاء الفكرة
المركزية
ويلاحظ الفلاسفة
في عصرنا الحديث أنه لم تعد هناك فكرة مركزية يخضع لها التفكير اللاإنساني، فقد
كانت الفكرة المركزية القديمة هي فكرة "النظام"، وهي متولدة عن تصور أن الأرض مركز
الكون كما كان يزعم بطليموس، حيث كان يرى الشمس كوكبا تابعا للأرض، وعلى الرغم من
الثورة الكوبرنيقية التي غيرت النظرة، وجعلت من الأرض مجرد كوكب يدور حول محيط
الشمس، فإن النظرة المركزية للإنسان والمعرفة لم تتغير بنفس القدر، ولهذا فإن في
عصرنا الحالي يجد المفكر نفسه يستخدم ثلاثة مفاهيم متضادة، ومتكاملة في نفس الوقت،
وهي: النظام، عدم النظام، البنية، فمثلا مفهوم "بئية" الكائن الحي قد تتضمن عدم
النظام، رغم اعترافها بوجود النظام أحيانا، في مستويات مختلفة.
وقد عبر
هيراقليطس عن هذا المعنى حين قال إننا نحيا بالموت، ونموت بالحياة. فالإنسان على المستوى البيولوجي، يعيش ويجدد طاقته
الحيوية، من خلال موت الخلايا وظهور خلايا جديدة عن بقايا الخلايا الميتة، ويظهر
هذا واضحا عند الإنسان المريض بالصفراء، الذي تبث فيه الحياة، ويتغير لونه، حين
تموت الخلايا المريضة لتحل محلها الخلايا الوليدة، ولو لم تمت الخلايا، لشاخت
ولظهرت على الإنسان أعراض الشيخوخة، حتى لو كان طفلا وليدا. ولهذا فإن مفاهيم
الحياة والموت والتحلل هي مفاهيم متضادة ومتكاملة ومتنافسة في الوقت
نفسه.
ونتيجة لهذا يدعو
مورين لمنهج فلسفى يطلق عليه منهج "التعقيد" بمعنى أنه منهج يحاول ان يستوعب تعقد
الظاهرة الإنسانية في ارتباطها بالظواهر المختلفة، وينفي التبسيط، وهذا يعني أن
تكون المعرفة نابعة من الاحتياجات والإمكانات الداخلية للبشر، بحيث لا ينبغي
للإنسان أن يخالف طبيعته، وهذا يبين لنا تأثر مورين بالاتجاه البيولوجي ودوره في
السياسة، ويحاول مورين التوفيق بين منهجه وبين الطبيعة الخاصة للأشياء أو الجانب
المجهول فيها، فيعترف بما للأشياء من أسرار دون أن يتعمد تشويه وجودها، ولا يزعم
هذا المنهج العمل على تغيير العالم، بقدر ما يسعى إلى إثارة الحياة في الإنسان،
ويرى مورين أن أحسن نموذج لمنهجه هو العلاج بالإبر الصينية، فهذه الإبر تنصب على
مواضع معينة من الجسم البشري، وتحثها على النشاط وتثير فيها الحياة، لكنها لا تغير
من تركيبها وطبيعتها الخاصة. هذا نموذج من
الفلاسفة المعاصرين الذي يتواصل حواره مع العلماء من مختلف التخصصات، ومع الأدباء
والفنانين، ومع أدوات العصر المتاحة مثل السينما والتلفزيون دون أن يمس هذا جوهر
اختصاصه أو عمقه، وإنما يستفيد من الفلسفة في إثارة الأسئلة التي يثيرها
عصرنا. بينما نلاحظ أن الخطاب العربي
الفلسفي المعاصر، يصر على عزل العقل الجمالي والعقل التواصلي عن العقل الفلسفي أو
العقل المنطقي، ففي المشروعات الفلسفية الكبرى لأبرز الأسماء العربية في الحقل
الفلسفي، يغيب البعد الجمالي وهموم الجماهير العينية كما تتجادل في أجهزة الاتصال
والمعلومات.