الشاعر العماني سيف الرحبي: الصحراء شكّلت في شعري بؤرة الرمز والواقع ووقود المخيلة

الشاعر العماني سيف الرحبي: الصحراء شكّلت في شعري  بؤرة الرمز والواقع ووقود المخيلة

منذ‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ ‬انورسة‭ ‬الجنونب‭ ‬مطلع‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬والشاعر‭ ‬العماني‭ ‬سيــف‭ ‬الرحـــــــبي‭ ‬منهمك‭ ‬في‭ ‬محاورة‭ ‬الجبال‭ ‬الشاهقة‭ ‬والصحارى‭ ‬الجرداء‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬ينادي‭ ‬هوامها،‭ ‬وسحرتها،‭ ‬ويتربص‭ ‬خيالات‭ ‬المغيبين‭ ‬وسط‭ ‬أسرارها‭ ‬وأساطيرها،‭ ‬ليكتب‭ ‬ملاحم‭ ‬إنسانية‭ ‬تحتفي‭ ‬بالألم‭ ‬وتتأمل‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭ ‬عبر‭ ‬منظومة‭ ‬أسئلة‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭.‬

‮«‬أيتها‭ ‬الجبال‭ ‬بيني‭ ‬وبينك‭ ‬ميثاق‭ ‬ولادة‭ ‬وموت‮»‬‭ ‬يخلص‭ ‬سيف‭ ‬الرحبي‭ ‬لذلك‭ ‬الميثاق‭ ‬كما‭ ‬يخلص‭ ‬لكل‭ ‬أمكنة‭ ‬الطفولة‭ ‬وخيالاتها‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬العماني‭ ‬الذي‭ ‬يراه‭ ‬أسطورياً‭ ‬ومأهولًا‭ ‬بالحكايات‭ ‬التي‭ ‬تلهم‭ ‬الشعراء‭ ‬والساردين‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬مسكون‭ ‬بالحس‭ ‬الفجائعي‭ ‬فإنه‭ ‬يبقى‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬بصيص‭ ‬ضوء‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬آخر‭ ‬النفق‭ ‬ويكرر‭ ‬‮«‬ما‭ ‬أضيق‭ ‬العيش‭ ‬لولا‭ ‬فسحة‭ ‬الأمل‮»‬‭... ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬يطرح‭ ‬سيف‭ ‬الرحبي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الرؤى‭ ‬التي‭ ‬راكمتها‭ ‬الخبرة‭ ‬والتأمل‭ ‬ويتحدث‭ ‬عن‭ ‬تجربته‭ ‬الشعرية‭. ‬

‭-‬يحضر‭ ‬المكان‭ ‬العماني‭ ‬في‭ ‬نصوصك‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬جدًا،‭ ‬إنه‭ ‬البطل‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تحدثنا‭ ‬بلغة‭ ‬الرواية،‭ ‬لماذا‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الإغراق‭ ‬والالتصاق‭ ‬بالمكان‭ ‬وحيواته؟

‭- ‬المكان‭ ‬بحيواته‭ ‬وطفولاته،‭ ‬بتجلياته‭ ‬المختلفة،‭ ‬بوحشيته‭ ‬الكاسرة‭ ‬ورقته‭ ‬كمرجع‭ ‬لذاكرة‭ ‬تتشظى،‭ ‬ويوغل‭ ‬هذا‭ ‬التشظي‭ ‬مع‭ ‬تقادم‭ ‬الزمان‭ ‬ومرور‭ ‬سنوات‭ ‬العمر‭... ‬المكان‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬يفتح‭ ‬الكائن‭ ‬نظرته‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬تخومه‭ ‬وأعماقه،‭ ‬بمنحاه‭ ‬الواقعي‭ ‬الحسي‭ ‬والماورائي‭ ‬المتلاشي‭ ‬خلف‭ ‬الحجب‭ ‬والغبار‭. ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المكون‭ ‬الرئيسي‭ ‬لبنية‭ ‬النص‭ ‬والكتابة‭ ‬ويختلف‭ ‬حضوره‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬الكتابة‭ ‬واللغة‭ ‬من‭ ‬كاتب‭/ ‬شاعر‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬بفرادة‭ ‬المكان‭ ‬العُماني‭ ‬الذي‭ ‬يفرض‭ ‬حضوره‭ ‬الآسر،‭ ‬والوحشي‭ ‬بقِدمه،‭ ‬وبتضاريسه‭ ‬الجيولوجيّة‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬أبعادًا‭ ‬روحيّة‭ ‬وأسئلة‭ ‬حادة‭ ‬بالمعنى‭ ‬الوجودي،‭ ‬وبمعنى‭ ‬إقامة‭ ‬الكائن‭ ‬البشري‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬يشوبها‭ ‬الغموض‭ ‬والنأي‭. ‬بهذا‭ ‬المنحى‭ ‬المكان‭ ‬العُماني‭ ‬بتضاريس‭ ‬طبيعته‭ ‬المتنوعة‭ ‬والمختلفة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ملهم‭ ‬‮«‬واقعيّة‭ ‬سحريّة‮»‬‭ ‬بشكل‭ ‬سلس‭ ‬وطبيعي‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬الجهد‭ ‬في‭ ‬اختراع‭ ‬عوالم‭ ‬المخيّلة‭ ‬واستحضارها‭... ‬يكفي‭ ‬توافر‭ ‬الموهبة‭ ‬والقدرة‭ ‬التعبيريّة‭ ‬ليأخذ‭ ‬السرد‭ ‬سياقه‭ ‬الشعري‭ ‬والقصصي‭ ‬وكذلك‭ ‬السينمائي،‭ ‬فمثل‭ ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬السحري‭ ‬محفزّ‭ ‬إبداع‭ ‬وخيال‭ ‬لا‭ ‬تحده‭ ‬الحدود‭ ‬والضفاف‭.‬

يمكن‭ ‬لمثل‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬أو‭ ‬الأمكنة‭ ‬أن‭ ‬يلعب‭ ‬دور‭ ‬البطولة‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬ومقترحاتها‭ ‬التعبيريّة‭.‬

بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬أيضًا‭ ‬تشكل‭ ‬الوعي‭ ‬البدئي‭ ‬لديّ‭ ‬في‭ ‬تخوم‭ ‬المكان‭ ‬والبيئة‭ ‬العُمانية‭. ‬فوسمت‭ ‬بميسمه‭ ‬العميق‭ ‬الذي‭ ‬أشرت‭.‬

‭-‬لكنك‭ ‬تنقّلت‭ ‬كثيرًا‭ ‬بين‭ ‬مدن‭ ‬وعواصم‭ ‬عربيــة‭ ‬وأوربــــية‭ ‬بـــدءًا‭ ‬مـــن‭ ‬الـــقـــاهرة‭ ‬ومرورًا‭ ‬إلى‭ ‬دمـــشـــق‭ ‬والجزائر‭ ‬ثم‭ ‬بـــاريـــس‭ ‬وهــــولندا‭ ‬ولـــــم‭ ‬يحــضر‭ ‬مكــــانــها‭ ‬فــــي‭ ‬قصيـــدتك‭ ‬بالقدر‭ ‬نفسه؟

‭ - ‬نعم،‭ ‬رغم‭ ‬معيشي‭ ‬اللاحق‭ ‬في‭ ‬بيئات‭ ‬مختلفة‭ ‬أخذتُ‭ ‬منها‭ ‬ومارستْ‭ ‬تأثيرها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬من‭ ‬الأنحاء‭. ‬الإنسان‭ ‬الملتاث‭ ‬بلوعة‭ ‬الكتابة‭ ‬والاختلاف‭ ‬يُولد‭ ‬بعد‭ ‬ولادته‭ ‬الرحميّة‭ ‬والمكانيّة‭ ‬الأولى،‭ ‬ولادات‭ ‬متعددة‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬أحشائها‭ ‬بذور‭ ‬ميتات‭ ‬وغيابات‭ ‬كثيرة‭ ‬باتجاه‭ ‬الغياب‭ ‬الحتمي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬عودة‭ ‬بعده‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬أبو‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭:‬

تحطمنا‭ ‬الأيام‭ ‬حتى‭ ‬كأننا

زجاج‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬يُعاد‭ ‬له‭ ‬سبْكُ

ولذلك‭ ‬يبقى‭ ‬مكان‭ ‬مرابع‭ ‬الطفولة‭ ‬هو‭ ‬المكان‭ ‬الآسر‭ ‬لدي‭ ‬مهما‭ ‬تعددت‭ ‬الأمكنة‭ ‬الأخرى‭.‬

‭-‬لكن‭ ‬المكان‭ ‬في‭ ‬نصوصك‭ ‬تجاوز‭ ‬حيز‭ ‬الاحتفاء‭ ‬ليكون‭ ‬مكونا‭ ‬أساسيًا‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تحدثنا‭ ‬عن‭ ‬الصحراء‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬وكذلك‭ ‬فضاء‭ ‬المقاهي‭ ‬في‭ ‬الكتابات‭ ‬الحديثة؟

‭- ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬المكان‭ ‬هو‭ ‬المسرح‭ ‬الذي‭ ‬تعوم‭ ‬على‭ ‬سطحه‭ ‬وتخترقه‭ ‬الحيوات‭ ‬البشرية‭ ‬والحيوانيّة‭ ‬الأخرى‭. ‬وعبر‭ ‬هذا‭ ‬المسرح‭ ‬المتموج‭ ‬والمتعدد‭ ‬الدلالة‭ ‬ألاحظ‭ ‬الفاعليات‭ ‬التدميرية‭ ‬للزمن‭ ‬على‭ ‬الوجوه‭ ‬والمنازل‭ ‬والممالك،‭ ‬إذ‭ ‬يشكل‭ ‬قلب‭ ‬الصيرورة‭ ‬ومسارها‭. ‬وبما‭ ‬أننا‭ ‬أبناء‭ ‬ما‭ ‬عُرف‭ ‬بالجزيرة‭ ‬العربيّة‭ ‬عُمان‭ ‬والأقاليم‭ ‬الأخرى،‭ ‬تشكل‭ ‬الصحراء‭ ‬رمز‭ ‬اللاوعي‭ ‬الجمعي‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا،‭ ‬مثلما‭ ‬يشكل‭ ‬البحر‭ ‬ذلك‭ ‬الرمز‭ ‬بالنسبة‭ ‬للإنجليز‭ ‬مثلًا،‭ ‬ورمز‭ ‬الصحراء‭ ‬ينسحب‭ ‬ربما‭ ‬على‭ ‬الأقوام‭ ‬العربيّة‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬للصحراء‭ ‬حضور‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬بقية‭ ‬العناصر‭ ‬المكانيّة‭. ‬لا‭ ‬أقصد‭ ‬الحديث‭ ‬أو‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬الصحراء‭ ‬بالمعنى‭ ‬المباشر،‭ ‬وإنما‭ ‬حضورها‭ ‬الرمزي‭ ‬المتعدد‭ ‬الوجوه‭ ‬والثيمات‭. ‬شكلت‭ ‬الصحراء‭ ‬بالنسبة‭ ‬ليّ‭ ‬ولصنيعي‭ ‬الأدبي‭ - ‬والبحر‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬صحراء‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬المياه‭ ‬والهوام‭ - ‬بؤرة‭ ‬الرمز‭ ‬والواقع‭ ‬ووقود‭ ‬المخيّلة،‭ ‬إذ‭ ‬امتدت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تلفّ‭ ‬العالم‭ ‬والوجود‭ ‬بظلامها‭ ‬الكثيف‭ ‬ووحشيتها،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬أيضًا‭ ‬مكانًا‭ ‬للحريّة‭ ‬الشاقة‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬غرقت‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬من‭ ‬السراب‭.‬

هكذا‭ ‬تطوي‭ ‬الصحراء‭ ‬المدينة‭ ‬‮«‬الحديثة‮»‬‭ ‬تحت‭ ‬جناحها‭ ‬كمفردات‭ ‬ومناخ‭ ‬وأوهام‭ ‬ترافق‭ ‬الكائن‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬عبوره‭ ‬إلى‭ ‬العوالم‭ ‬الأخرى‭ ‬حين‭ ‬يجيء‭ ‬قدر‭ ‬انتقاله‭ ‬ورحيله‭ ‬الأخير‭... ‬وضعت‭ ‬‮«‬الحديثة‮»‬‭ ‬بين‭ ‬مزدوجات‭ ‬تحفظًا‭ ‬عن‭ ‬المدينة‭ ‬العربيّة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تستكمل‭ ‬عناصر‭ ‬حداثتها‭ ‬التي‭ ‬تجد‭ ‬مثالها‭ ‬في‭ ‬حضارة‭ ‬الغرب‭ ‬المتعدد‭ ‬واليابان‭.‬

فالمدينة‭ ‬العربيّة‭ ‬التي‭ ‬تريفت‭ ‬بالمعنى‭ ‬السلبي‭ ‬للكلمة،‭ ‬دمر‭ ‬مسارها‭ ‬الطموح‭ ‬النهضوي،‭ ‬الفساد‭ ‬والاستبداد‭ ‬والحروب‭ ‬حتى‭ ‬أضحت‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬عليه‭.‬

أما‭ ‬المقهى‭ ‬فيشكّل‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي،‭ ‬ردحًا‭ ‬مديدًا‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬وفي‭ ‬أماكن‭ ‬مختلفة،‭ ‬بيتا‭ ‬آخر‭ ‬ألوذ‭ ‬به‭ ‬سحابة‭ ‬النهار‭ ‬للقراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬ولقاء‭ ‬الأصدقاء،‭ ‬إنه‭ ‬مسرح‭ ‬حياة‭ ‬أكثر‭ ‬أهميّة‭ ‬من‭ ‬المنزل‭ ‬الذي‭ ‬يقتصر‭ ‬دوره‭ ‬على‭ ‬الأرجح‭ ‬لراحة‭ ‬النوم،‭ ‬ليستيقظ‭ ‬النائم‭ ‬في‭ ‬صباحات‭ ‬المُدن‭ ‬مخترقا‭ ‬الأزقة‭ ‬والشوارع‭ ‬الكبيرة‭ ‬الأنهار‭ - ‬إن‭ ‬وجدت‭ - ‬ليستقر‭ ‬في‭ ‬المقهى‭ ‬الذي‭ ‬يرتاد‭ ‬ويُحب‭.‬

وثمة‭ ‬قصص‭ ‬وحكايات‭ ‬مركزها‭ ‬المقهى‭ ‬تصل‭ ‬حد‭ ‬الغرابة‭ ‬مع‭ ‬الأصدقاء‭ ‬والمعارف،‭ ‬كتبت‭ ‬بعضها،‭ ‬والآخر‭ ‬الزاخر‭ ‬أكثر،‭ ‬ينتظر‭ ‬الكتابة‭ ‬والتعبير‭.‬

‭-‬قصيدتك‭ ‬تغرق‭ ‬أحيانًا‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬وأسئلتها‭ ‬العميقة‭: ‬أسئلة‭ ‬الموت‭ ‬والحياة‭ ‬ومصائر‭ ‬الإنسان‭... ‬هل‭ ‬تحتمل‭ ‬القصيدة‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬الفكري‭ ‬والفلسفة‭ ‬الوجودية؟

‭- ‬أسئلة‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬تتناسل‭ ‬الى‭ ‬أسئلة‭ ‬موت‭ ‬ومصير،‭ ‬بدئيًا‭ ‬هجست‭ ‬بها‭ ‬هجسًا‭ ‬عفويًا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الطفولة‭ ‬الغاربة‭ ‬بين‭ ‬ربوع‭ ‬الجبال‭ ‬العُمانية‭ ‬وصحرائها‭ ‬المحفزة‭ ‬لمثل‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭. ‬بداهة‭ ‬رافقتني‭ ‬لاحقًا‭ ‬بأشكال‭ ‬مختلفة،‭ ‬عبر‭ ‬توّسل‭ ‬القراءة‭ ‬والوعي‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬المتاه‭ ‬الحياتي‭ ‬والوجودي‭. ‬وظل‭ ‬سؤال‭ ‬المعرفة‭ ‬في‭ ‬أبعادها‭ ‬الشعريّة‭ ‬الروحيّة‭ ‬والجماليّة‭ ‬هو‭ ‬سؤال‭ ‬لم‭ ‬ينقسم‭ ‬إلى‭ ‬ثنائيات،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬توحّده‭ ‬هواجس‭ ‬ونزوعات‭ ‬مشتركة‭. ‬فالشعر‭ ‬الممعن‭ ‬في‭ ‬صحراء‭ ‬وجوده،‭ ‬ذو‭ ‬بعد‭ ‬فلسفي‭ ‬بالضرورة‭ ‬وكذلك‭ ‬الفلسفة‭. ‬والسؤال‭ ‬الفلسفي‭ ‬وهاجسه‭ ‬هو‭ ‬سؤال‭ ‬الوجود‭ ‬والأدب‭ ‬والشعر‭ ‬والسينما‭ ‬في‭ ‬إنجازاتها‭ ‬الكبيرة‭. ‬وهذا‭ ‬البعد‭ ‬الفلسفي‭ ‬والتأملي‭ ‬يحدد‭ ‬حضارة‭ ‬الشعر‭ ‬وينتشله‭ ‬من‭ ‬التكرار‭ ‬والتوليدات‭ ‬اللفظية‭ ‬التي‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الفراغ‭ ‬بمعنى‭ ‬الفقر‭ ‬الروحي‭ ‬وليس‭ ‬الامتلاء‭ ‬على‭ ‬نسق‭ ‬الفلسفات‭ ‬الآسيويّة‭.‬

لكن‭ ‬هناك‭ ‬مسألة‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬زعمي،‭ ‬ألا‭ ‬تكون‭ ‬المعرفة،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬ذات‭ ‬بعد‭ ‬فلسفي‭ ‬أو‭ ‬غيره،‭ ‬مُقحمة‭ ‬على‭ ‬النص‭ ‬والكتابة،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬مُذابة‭ ‬في‭ ‬النسيج‭ ‬الكلي‭ ‬للكتابة‭.‬

الموت‭ ‬ليس‭ ‬مكملًا‭ ‬للحياة‭ ‬كما‭ ‬عبر‭ ‬البعض،‭ ‬إنه‭ ‬بعدها‭ ‬الحيوي‭ ‬الخلاق‭ ‬وأسّها‭ ‬العدمي‭. ‬تلك‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬نبتت‭ ‬كجملة‭ ‬اعتراضيّة‭ ‬أو‭ ‬عرضيّة‭ ‬بين‭ ‬فراغين‭ ‬كبيرين‭ ‬أو‭ ‬عدمين‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الولادة‭ ‬والموت،‭ ‬‮«‬تلك‭ ‬الملحمة‭ ‬من‭ ‬العبث‭ ‬والصخب‭ ‬والعنف‮»‬‭.‬

‭-‬تتميز‭ ‬قصيدة‭ ‬سيف‭ ‬الرحبي‭ ‬ببراعة‭ ‬بناء‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية‭... ‬كيف‭ ‬تستطيع‭ ‬توليد‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬الساحرة‭ ‬في‭ ‬نصك‭ ‬المختزل‭ ‬أو‭ ‬ذلك‭ ‬النص‭ ‬الملحمي؟

‭- ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬المكان‭ ‬مكونًا‭ ‬لبناء‭ ‬عالم‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعيّة‭ ‬وثيمة‭ ‬أساس،‭ ‬فالصورة‭ ‬هي‭ ‬رافعة‭ ‬اللغة‭ ‬وعناصرها‭ ‬إلى‭ ‬مستويات‭ ‬التحقق‭ ‬الإبداعي‭ ‬والجمالي‭ ‬في‭ ‬استواء‭ ‬النص‭ ‬اللاحق‭. ‬ضعف‭ ‬الصورة‭ ‬بالضرورة‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬ضعف‭ ‬وانهيار‭ ‬كامل‭ ‬النص،‭ ‬إذ‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬ثرثرة‭ ‬وكلام‭ ‬مُعاد‭ ‬ومكرر‭. ‬خصب‭ ‬الصورة‭ ‬ومفارقتها‭ ‬للغة‭ ‬الاستعمالية‭ ‬وللسائد‭ ‬بانبلاجها‭ ‬من‭ ‬سماء‭ ‬المخيّلة‭ ‬التي‭ ‬خامتها‭ ‬الأولى‭ ‬الوقائع‭ ‬والأحداث‭ ‬البشرية‭ ‬الصغيرة،‭ ‬اليومية‭ ‬كما‭ ‬المفصليّة‭ ‬والكبيرة‭. ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬قوامه‭ ‬الصورة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬والفن‭.‬

وكي‭ ‬لا‭ ‬يمضي‭ ‬الكلام‭ ‬على‭ ‬عواهنه،‭ ‬فالصورة‭ ‬الثرية‭ ‬لا‭ ‬تكتسب‭ ‬ثراءها‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬انتظامها‭ ‬في‭ ‬مجمل‭ ‬النص‭ ‬واستوائها‭ ‬لبنية‭ ‬المناخ‭ ‬العام‭ ‬للكتابة‭ ‬وإلا‭ ‬تحولت‭ ‬الكتابة‭ ‬إلى‭ ‬ركام‭ ‬صور‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬تلك‭ ‬العلائق‭ ‬الدقيقة‭ ‬التي‭ ‬ينتظم‭ ‬فيها‭ ‬النسيج‭ ‬الفني‭ ‬والجمالي‭ ‬العام‭.‬

‭-‬بدَوت‭ ‬مؤخرًا‭ ‬مسكونًا‭ ‬بالنثر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الشعر،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬نثرك‭ ‬بقي‭ ‬محتفظًا‭ ‬بروح‭ ‬الشعر‭ ‬ومأهولاً‭ ‬به؟

‭- ‬منذ‭ ‬بداياتي‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬الكتابة‭ ‬والحياة،‭ ‬أي‭ ‬عبر‭ ‬أربعين‭ ‬عامًا،‭ ‬لم‭ ‬ينفصل‭ ‬هاجس‭ ‬ما‭ ‬دُعي‭ ‬بالنثر‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭. ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬أهجس‭ ‬أو‭ ‬أرى‭ ‬تلك‭ ‬الثنائية‭ ‬التصنيفية‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬طُرح‭ ‬لدى‭ ‬البعض‭. ‬والكتب‭ ‬التي‭ ‬أصدرتها‭ ‬منذ‭ ‬مطلع‭ ‬الثمانينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬تشي‭ ‬وتفصح‭ ‬بذلك‭... ‬لكن‭ ‬سؤالك‭ ‬يكتسب‭ ‬خصوصيته‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬مالت‭ ‬إلى‭ ‬فضاء‭ ‬النثر‭ ‬أكثر‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬مأهولة‭ ‬بأخيلة‭ ‬الشعر،‭ ‬صوره‭ ‬ومبانيه،‭ ‬منذ‭ ‬مطلع‭ ‬التسعينيات‭ ‬ومحاولة‭ ‬استقراري‭ ‬في‭ ‬وطني‭ ‬عُمان،‭ ‬اتخذت‭ ‬الكتابة‭ ‬عندي‭ ‬منحى‭ ‬آخر‭ ‬لا‭ ‬يتقاطع‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬سبقها،‭ ‬لكنه‭ ‬يوسع‭ ‬رقعة‭ ‬التعبير‭ ‬ويدفع‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬تخوم‭ ‬وضفاف‭ ‬أكثر‭ ‬شساعة‭ ‬وانفتاحًا،‭ ‬أو‭ ‬مثلما‭ ‬وصف‭ ‬سعدي‭ ‬يوسف‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬جبال‮»‬‭ ‬بأنه‭ ‬انعطافة‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬الكتابة‭ ‬عندي‭... ‬ربما‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬أقارب‭ ‬المكان‭ ‬العُماني‭ ‬وهو‭ ‬مكان‭ ‬ملحمي‭ ‬بغموضه‭ ‬واتساعه‭ ‬اللانهائي،‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬مقاربة‭ (‬نوسالجية‭) ‬مفعمة‭ ‬بالفقد‭ ‬والحنين‭ ‬أكثر‭ ‬مع‭ ‬معايشتي‭ ‬لهذا‭ ‬المكان‭ ‬بتضاريسه‭ ‬المختلفة،‭ ‬وذلك‭ ‬الحوار‭ ‬اليومي‭ ‬مع‭ ‬الأوابد‭ ‬بحضورها‭ ‬الساحق‭. ‬‮«‬أيتها‭ ‬الجبال‭ ‬بيني‭ ‬وبينك‭ ‬ميثاق‭ ‬ولادة‭ ‬وموت‮»‬‭ ‬كان‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أتوسّل‭ ‬المخيلة‭ ‬والكتابة‭. ‬وكي‭ ‬لا‭ ‬يسحقنا‭ ‬المكان‭ ‬الأزلي‭ ‬بحضوره‭ ‬الرهيب‭ ‬وتقلبات‭ ‬أزمانه،‭ ‬علينا‭ ‬محاولة‭ ‬استئناسه‭ ‬وترويضه‭ ‬عبر‭ ‬التعبير‭ ‬والكتابة‭ ‬كمن‭ ‬يقدم‭ ‬أضاحيه‭ ‬لآلهة‭ ‬أسطوريّة‭ ‬كي‭ ‬يتجنب‭ ‬بطشها‭ ‬وانتقامها‭.‬

‭-‬أيضًا‭ ‬بت‭ ‬تكتب‭ ‬أدب‭ ‬الرحلة‭ ‬واليوميات‭ ‬بشكل‭ ‬كبير،‭ ‬رغم‭ ‬أنك‭ ‬تحولها‭ ‬إلى‭ ‬نصوص‭ ‬تأملية‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬وبشرهٍ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬فكرة‭ ‬وصف‭ ‬المكان‭ ‬وصفًا‭ ‬عينيًا؟

‭- ‬نعم،‭ ‬حتى‭ ‬ما‭ ‬وُسم‭ ‬بأدب‭ ‬اليوميات‭ ‬والرحلة،‭ ‬لا‭ ‬أكتبه‭ ‬وفق‭ ‬المتداول‭ ‬والمعروف،‭ ‬إنه‭ ‬يلبي‭ ‬حاجة‭ ‬روحية‭ ‬وفكرية‭ ‬ملحّة،‭ ‬كي‭ ‬أقول‭ ‬رأيًا‭ ‬تجاه‭ ‬العالم‭ ‬الراهن‭ ‬العاصف‭ ‬بأحداثه‭ ‬ومجازره‭ ‬عربيًا‭ ‬على‭ ‬الخصوص،‭ ‬وتجاه‭ ‬التاريخ‭ ‬والأفكار‭. ‬بطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬أثر‭ ‬الأمكنة‭ ‬والمناخات‭ ‬والثقافات‭ ‬يتردد‭ ‬صداها‭ ‬في‭ ‬جنبات‭ ‬الكتابة‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬التي‭ ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أقارب‭ ‬بها‭ ‬كارثة‭ ‬عصرنا‭ ‬الحديث،‭ ‬والانحطاط‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الصعُد،‭ ‬هو‭ ‬جرح‭ ‬الكتابة‭ ‬والضمير‭. ‬بمعنى‭ ‬آخر،‭ ‬لا‭ ‬أرى‭ ‬جدوى‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬الرحليّة‭ ‬على‭ ‬الطريقة‭ ‬‮«‬المسالكية‮»‬‭ ‬قبل‭ ‬هذا‭ ‬الانفجار‭ ‬التكنولوجي‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬المرء‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬بلد‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬يفتح‭ ‬زرًا،‭ ‬وتنهال‭ ‬عليه‭ ‬الأماكن‭ ‬والمعلومات‭.‬

يوميات‭ ‬الرحلة،‭ ‬ذريعة‭ ‬لقول‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭. ‬ربما‭ ‬كتابي‭ ‬الأخير‭ ‬‮«‬صالة‭ ‬استقبال‭ ‬الضواري‮»‬‭ ‬يفصح‭ ‬أكثر‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭.‬

‭-‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرك،‭ ‬هل‭ ‬تراجع‭ ‬الشعر‭ ‬أمام‭ ‬الحضور‭ ‬الكبير‭ ‬للرواية؟

‭- ‬لم‭ ‬يشغلني‭ ‬كثيرًا‭ ‬ذلك‭ ‬الصراع‭ ‬المفتعل،‭ ‬بين‭ ‬الرواية‭ ‬والشعر،‭ ‬وأتذكر‭ ‬حين‭ ‬صدر‭ ‬كتاب‭ ‬الدكتور‭ ‬جابر‭ ‬عصفور،‭ ‬كتبتُ‭ ‬مقالًا‭ ‬سجاليًا،‭ ‬لا‭ ‬يتبنى‭ ‬الصراع‭ ‬والإقصاء‭... ‬أصبحت‭ ‬الفنون‭ ‬أكثر‭ ‬رحابة‭ ‬وتعقيدًا‭ ‬في‭ ‬تداخلها‭ ‬وهجانتها‭.‬

هذا‭ ‬لا‭ ‬ينفي‭ ‬أن‭ ‬الفن‭ ‬النثري‭ ‬المسمى‭ ‬رواية‭ ‬أكثر‭ ‬حضورًا‭ ‬لعوامل‭ ‬كثيرة‭. ‬لكن‭ ‬الجيد‭ ‬والحقيقي‭ ‬فيه‭ ‬قليل‭ ‬مثل‭ ‬أي‭ ‬فن‭ ‬آخر‭ ‬وأكثر،‭ ‬لأن‭ ‬المشهد‭ ‬الروائي‭ ‬في‭ ‬معظمه‭ ‬دخل‭ ‬دائرة‭ ‬الاستعراض‭ ‬والاستهلاك‭ ‬في‭ ‬طحنها‭ ‬لروح‭ ‬الخلق‭ ‬والجمال‭.‬

‭-‬البعض‭ ‬يقول‭ ‬بتراجع‭ ‬الشعر‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬صار‭ ‬نصًا‭ ‬نخبويًا‭ ‬جدًا؟

‭- ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬مثل‭ ‬أي‭ ‬أديب‭ ‬وفنان‭ ‬لا‭ ‬يكتب‭ ‬بشروط‭ ‬الجمهور‭ ‬ولا‭ ‬بمواصفات‭ ‬النخبويّة‭. ‬الشعر‭ ‬على‭ ‬الخصوص‭ ‬له‭ ‬ذلك‭ ‬المنحى‭ ‬النخبوي‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬سحيق،‭ ‬ربما‭ ‬منذ‭ ‬سوق‭ ‬عكاظ‭ ‬فيما‭ ‬دُعي‭ ‬بالعصر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬وهو‭ ‬عصر‭ ‬مضيء‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الشعر‭ ‬والقيم‭ ‬والإبداع‭.‬

فتلك‭ ‬المعلقات‭ ‬وما‭ ‬يشبهها،‭ ‬المضيئة‭ ‬بالصور‭ ‬العظيمة‭ ‬والرؤى‭ ‬الزاخرة‭ ‬بغموض‭ ‬الوجود‭ ‬ولغز‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭ ‬والغياب،‭ ‬لا‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬الجميع‭ ‬كان‭ ‬يفهمها‭ ‬رغم‭ ‬سليقة‭ ‬اللغة‭ ‬وصفائها،‭ ‬فما‭ ‬بالك‭ ‬بالأزمنة‭ ‬اللاحقة‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬عصرنا‭ ‬الراهن‭ ‬والحديث،‭ ‬الذي‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬أولئك‭ ‬الأوائل‭ ‬الذين‭ ‬خاضوا‭ ‬مغامرة‭ ‬الوجود‭ ‬الشاقة‭ ‬والشعر؟

‭-‬من‭ ‬زاوية‭ ‬كونك‭ ‬شاعرا،‭ ‬مفرطا‭ ‬في‭ ‬حساسيته،‭ ‬كيف‭ ‬ترى‭ ‬مشهد‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬اليوم؟

‭- ‬أظن‭ ‬أنه‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬أعتى‭ ‬الكوابيس‭ ‬التي‭ ‬تفترس‭ ‬الكائن‭ ‬ليلًا‭ ‬نهارًا،‭ ‬ولدى‭ ‬ألد‭ ‬أعداء‭ ‬هذه‭ ‬الأمة،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يصل‭ ‬بهم‭ ‬التمني‭ ‬وشطح‭ ‬العداوة‭ ‬والحقد،‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الدرْك‭ ‬المظلم‭ ‬منذ‭ ‬الانهيار‭ ‬الشامل‭ ‬والانحطاط‭. ‬لكن‭ ‬ثمة‭ ‬نجمة‭ ‬تضيء‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ ‬البعيد‭. ‬ضوء‭ ‬بالغ‭ ‬البعد‭ ‬والنأي،‭ ‬لكنه‭ ‬سيصل‭ ‬ولو‭ ‬بعد‭ ‬أجيال‭ ‬وسنين‭.‬

‭-‬تحتفل‭ ‬مجلة‭ ‬نزوى‭ ‬الفصلية،‭ ‬التي‭ ‬ترأس‭ ‬تحريرها،‭ ‬قريبًا‭ ‬بإصدار‭ ‬العدد‭ ‬رقم‭ ‬100‭ ‬كيف‭ ‬ينظر‭ ‬سيف‭ ‬الرحبي‭ ‬لهذا‭ ‬المشروع‭ ‬الثقافي‭ ‬بعد‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬إصدار‭ ‬العدد‭ ‬الأول؟

‭- ‬مضى‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬على‭ ‬بداية‭ ‬صدور‭ ‬المجلة‭ ‬وتأسيسها،‭ ‬كانت‭ ‬البدايات‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬مخاضها‭ ‬صعب‭ ‬وليس‭ ‬سهلاً‭ ‬أبدًا،‭ ‬لأسباب‭ ‬كثيرة‭ ‬ثقافية‭ ‬وموضوعية‭ ‬وتتعلق‭ ‬أيضًا‭ ‬بالقيم‭ ‬الثقافية‭ ‬والفكرية‭ ‬السائدة‭ ‬والتي‭ ‬تقدس‭ ‬السلف‭ ‬الثقافي‭ ‬التقليدي‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬هي‭ ‬تُشرع‭ ‬أبوابها‭ ‬للعصر،‭ ‬للحداثة،‭ ‬للانفتاح،‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬كانت‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬صعبة‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬تأسيس‭ ‬مجلة‭ ‬تطمح‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬منفتحة‭ ‬على‭ ‬التيارات‭ ‬وعلى‭ ‬وجهات‭ ‬متعددة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬والفكر‭ ‬الإنساني‭ ‬عربيًا‭ ‬وعالميًا،‭ ‬لكن‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬ليس‭ ‬عبر‭ ‬جهد‭ ‬فردي،‭ ‬ولكن‭ ‬عبر‭ ‬جهد‭ ‬مشترك‭ ‬وربما‭ ‬أيضًا‭ ‬لعبت‭ ‬المصادفة‭ ‬دورا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬بأن‭ ‬المجلة‭ ‬استمرت‭ ‬فترة‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬الآن،‭ ‬مجلات‭ ‬كثيرة‭ ‬أغلقت‭ ‬وهي‭ ‬مازالت‭ ‬موجودة‭ ‬وأتمنى‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬سواء‭ ‬أنا‭ ‬موجود‭ ‬في‭ ‬إطارها‭ ‬أو‭ ‬خارجها،‭ ‬يتولاها‭ ‬إخوة‭ ‬آخرون‭ ‬لمواصلة‭ ‬هذه‭ ‬المسيرة‭ ‬التي‭ ‬ليست‭ ‬سهلة‭ ‬ولكن‭ ‬أيضاً‭ ‬ليست‭ ‬صعبة،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬الخيار‭ ‬الثقافي‭ ‬والجمالي‭ ‬المختلف‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬عبئه‭ ‬مجموعة‭ ‬معينة‭ ‬أو‭ ‬أفراد‭ ‬معينون‭ ‬خدمة‭ ‬للثقافة‭ ‬العمانية‭ ‬والثقافة‭ ‬العربية‭ ‬والإنسانية‭ ‬بصورة‭ ‬عامة‭. ‬فأنا‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬سعيد‭ ‬باستمرار‭ ‬المجلة‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المفصل‭ ‬الزمني،‭ ‬ربع‭ ‬قرن،‭ ‬وأتمنى‭ ‬طبعًا‭ - ‬وهي‭ ‬شهادات‭ ‬يقولها‭ ‬الآخرون‭ - ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬حققت‭ ‬نسبيًا‭ ‬وفي‭ ‬حدود‭ ‬معينة‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تطمح‭ ‬وتصبو‭ ‬إليه‭. ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬هاجس‭ ‬المجلة‭ ‬أن‭ ‬تندرج‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬ثقافة‭ ‬عربية‭ ‬طليعية‭ ‬ومختلفة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تحمل‭ ‬همَّ‭ ‬الثقافة‭ ‬العمانية‭ ‬والمشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬العماني‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬منذ‭ ‬ربع‭ ‬قرن،‭ ‬أيضًا،‭ ‬وأكثر‭ ‬يتطور‭ ‬ويسمع‭ ‬الآخرون‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬والبلدان‭ ‬العربية‭ ‬المختلفة‭ ‬الصوت‭ ‬الثقافي‭ ‬العماني‭ ‬الحديث،‭ ‬وكما‭ ‬نرى‭ ‬الآن‭ ‬ونقرأ‭ ‬تعدد‭ ‬المنابر‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬عمان‭ ‬وتعدد‭ ‬الأصوات‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬والنقد‭ ‬الأكاديمي،‭ ‬وفي‭ ‬الشعر،‭ ‬وفي‭ ‬مناحي‭ ‬وتجليات‭ ‬إبداعية‭ ‬مختلفة‭ ‬وهذا‭ ‬المشهد‭ ‬أيضًا‭ ‬شق‭ ‬طريقه‭ ‬كما‭ ‬المجلة‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬ليست‭ ‬سهلة‭. ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬تفعل‭ ‬الأطر‭ ‬والمنابر‭ ‬الثقافية‭ ‬الموجودة‭ ‬وهي‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬عُمان‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭ ‬أكثر،‭ ‬وأن‭ ‬نترك‭ ‬جانبا‭ ‬النظرة‭ ‬‮«‬العلموية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬الثقافة‭ ‬الأدبية‭ ‬والفكرية‭ ‬والفنية‭ ‬والجمالية‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬لها،‭ ‬والقيمة،‭ ‬فقط،‭ ‬للعلم،‭ ‬فبهذه‭ ‬الثنائيات‭ ‬نحن‭ ‬لا‭ ‬نحصل‭ ‬على‭ ‬العلم‭ ‬الحقيقي‭ ‬ولا‭ ‬نحصل‭ ‬على‭ ‬الأدب‭. ‬دائمًا‭ ‬الطموحات‭ ‬الحضارية‭ ‬والنهضوية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الشعوب‭ ‬والأمم‭ ‬التي‭ ‬بلغت‭ ‬هذا‭ ‬المرتقى‭ ‬الحضاري‭ ‬مركبة‭ ‬علمًا‭ ‬وفكرًا‭ ‬وأدبًا‭ ‬وقيمًا‭ ‬ودستورًا‭ ‬ومناحي‭ ‬معرفية‭ ‬وقانونية‭ ‬مختلفة‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬يتطلع‭ ‬دائمًا‭ ‬إلى‭ ‬مستقبل‭ ‬أفضل‭.‬

‭-‬هل‭ ‬استطاعت‭ ‬المجلة‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬مشروع‭ ‬مؤسسي‭ ‬لا‭ ‬مشروع‭ ‬فرد‭ ‬أو‭ ‬أفراد؟

‭- ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬كنا‭ ‬نتمناه‭ ‬ويتمناه‭ ‬أصدقاء‭ ‬كثر،‭ ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الطموح‭ ‬تحقيقه‭ ‬صعب‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة؛‭ ‬لأنه‭ ‬يتطلب‭ ‬بجانب‭ ‬العمل‭ ‬الثقافي‭ ‬الدؤوب‭ ‬الدعم‭ ‬المادي،‭ ‬والدعم‭ ‬المادي‭ ‬إلى‭ ‬الآن‭ ‬لا‭ ‬قناعة‭ ‬حوله‭ ‬أو‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬وضوح‭ ‬تام‭ ‬حوله‭.‬

‭-‬كمشتغل‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬الثقافية‭ ‬لقرابة‭ ‬أربعة‭ ‬عقود‭ ‬هل‭ ‬تعتقد‭ ‬أن‭ ‬عمر‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬طويلاً‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬التغيرات‭ ‬التي‭ ‬يشهدها‭ ‬الإعلام‭ ‬قد‭ ‬تطيح‭ ‬بها‭ ‬الواحدة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬بالملاحق‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الصحف‭ ‬العربية؟

‭- ‬كما‭ ‬هو‭ ‬واضح‭ ‬أن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬المجلات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مهمة‭ ‬وأساسية‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬أغلقت،‭ ‬وهناك‭ ‬مجلات‭ ‬متفرقة‭ ‬الآن،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬أو‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬الأخرى‭ ‬موجودة،‭ ‬لكن‭ ‬أيضا‭ ‬وجودها‭ ‬قلق،‭ ‬ربما‭ ‬هذا‭ ‬الانفجار‭ ‬التكنولوجي‭ ‬ووسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الجماهيري‭ ‬وهذا‭ ‬الانقلاب‭ ‬في‭ ‬الذائقة‭ ‬والفكر‭ ‬وفي‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬العمل‭ ‬الثقافي‭ ‬ربما‭ ‬يطيح‭ ‬بالكثير‭ ‬منها‭ ‬ويبقي‭ ‬البعض‭... ‬بعضها‭ ‬باق‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬طويل‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬عربية‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬الثقافية‭ ‬العربية،‭ ‬لكن‭ ‬وجودها‭ ‬تُحس‭ ‬أنه‭ ‬وجود‭ ‬فلكلوري،‭ ‬صدرت‭ ‬أم‭ ‬لم‭ ‬تصدر‭ ‬لا‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬شيء‭. ‬لكن‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬المجلات‭ ‬منذ‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬تقريبًا،‭ ‬وربما‭ ‬قبل‭ ‬ذلك،‭ ‬لا‭ ‬تطمح‭ ‬أن‭ ‬تشكل‭ ‬تيارًا‭ ‬أو‭ ‬مجرى‭ ‬ثقافيًا‭ ‬أو‭ ‬مذهبًا‭ ‬ثقافيًا‭ ‬وفنيًا‭ ‬تكون‭ ‬هي‭ ‬المعبّر‭ ‬عنه،‭ ‬ربما‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭ ‬كانت‭ ‬قبلا‭ ‬مثلتها‭ ‬مجلة‭ ‬شعر‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬ومثلتها‭ ‬الآداب،‭ ‬ومثلتها‭ ‬مجلات‭ ‬قبل‭ ‬وبعد‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وفي‭ ‬المغرب،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬منذ‭ ‬ربع‭ ‬قرن،‭ ‬تقريبًا،‭ ‬صارت‭ ‬المجلات‭ ‬أقل‭ ‬طموحًا‭ ‬وصارت‭ ‬تحاول‭ ‬تنفتح‭ ‬على‭ ‬المادة‭ ‬الإبداعية‭ ‬والجمالية‭ ‬والفنية‭ ‬في‭ ‬أطوارها‭ ‬المختلفة،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬طموح‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬منبر‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬تيار‭ ‬له‭ ‬قيم‭ ‬وأفكار‭ ‬واتجاهات‭ ‬فنية‭ ‬وجمالية‭ ‬محددة‭ ‬وإنما‭ ‬تجمع‭ ‬شمل‭ ‬هذه‭ ‬التعددية‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬والفن‭ ‬والذوق‭.‬

‭-‬هل‭ ‬هذا‭ ‬عائد‭ ‬إلى‭ ‬تقهقر‭ ‬دور‭ ‬المثقف؟‭ ‬البعض‭ ‬كما‭ ‬تعلم‭ ‬نعى‭ ‬دور‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬مشاركته‭ ‬لإيجاد‭ ‬رؤية‭ ‬جديدة‭ ‬نحو‭ ‬مستقبل‭ ‬مجتمعي‭ ‬أفضل‭ ‬واختار‭ ‬العزلة‭ ‬في‭ ‬أفضل‭ ‬الأحوال؟‭.‬

‭- ‬ربما‭ ‬هذا‭ ‬لعوامل‭ ‬متعددة،‭ ‬هناك‭ ‬تغيرات‭ ‬صارت‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬حركة‭ ‬الزمن‭ ‬منذ‭ ‬خمسين‭ ‬سنة‭ ‬إلى‭ ‬الآن،‭ ‬وتغيرات‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬بنيات‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬وفي‭ ‬بنيات‭ ‬الوعي‭ ‬العربي،‭ ‬طبعا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬تيار‭ ‬فكري‭ ‬ثقافي‭ ‬محدد‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬حزب‭ ‬أيديولوجي،‭ ‬ربما‭ ‬التيار‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أقصده‭ ‬نقيض‭ ‬هذه‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬الحزبية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬جوهرها،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الحزب‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم‭ ‬معادية‭ ‬للثقافة‭ ‬ومنحازة‭ ‬للثقافة‭ ‬الدعائية‭ ‬المحددة‭ ‬القيم‭ ‬والمواصفات،‭ ‬بالمعنى‭ ‬الفكري‭ ‬والسياسي‭ ‬تابعة‭ ‬لهذا‭ ‬الحزب‭ ‬أو‭ ‬لهذه‭ ‬الجبهة‭ ‬أو‭ ‬لذلك‭ ‬النظام‭ ‬أو‭ ‬النظام‭ ‬الآخر‭... ‬أقصد‭ ‬بالعكس‭ ‬كأن‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬التيارات‮»‬،‭ ‬ولنضع‭ ‬تيارًا‭ ‬بين‭ ‬مزدوجات،‭ ‬هذه‭ ‬التوجهات‭ ‬إن‭ ‬أردت،‭ ‬كانت‭ ‬تطمح‭ ‬إلى‭ ‬نقض‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬باتجاه‭ ‬انفتاح‭ ‬فكري‭ ‬وجمالي‭ ‬أكثر‭. ‬عزلة‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭ ‬وعدم‭ ‬فاعليته‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬تعصف‭ ‬بهذا‭ ‬التاريخ‭ ‬وتهوي‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬مهاو‭ ‬سحيقة‭ ‬من‭ ‬الظلام‭ ‬والتخلف‭ ‬والتطرف‭ ‬والطائفية‭ ‬البغيضة‭ ‬ساهمت‭ ‬فيه‭ ‬عوامل‭ ‬كثيرة،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬عزله‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬تهميشه‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المؤسسات‭ ‬المهيمنة‭ ‬والمسيطرة‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تعطي‭ ‬الثقافة‭ ‬دورًا‭ ‬جديًا‭ ‬مهمًا،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬أقل‭ ‬تحتقرها‭. ‬لكن‭ ‬هناك‭ ‬أيضًا‭ ‬مسؤولية‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬المثقفين‭ ‬نفسه،‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬الكثير‭ ‬منهم‭ ‬لم‭ ‬يقاربوا‭ ‬الأحداث‭ ‬والمآسي‭ ‬التي‭ ‬تعصف‭ ‬بهذا‭ ‬العالم‭ ‬مقاربة‭ ‬فكرية‭ ‬وأخلاقية‭ ‬وضميرية‭ ‬ترقى‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬الحديث،‭ ‬البعض‭ ‬كان‭ ‬انتهازيًا،‭ ‬تحركه‭ ‬مصالحه‭ ‬الذاتية‭ ‬ولا‭ ‬يهمه‭ ‬العام‭ ‬والتاريخ‭ ‬والراهن‭ ‬بشيء‭. ‬وهذه‭ ‬الانتهازية‭ ‬ساعدت‭ ‬في‭ ‬تهميش‭ ‬دور‭ ‬هذا‭ ‬المثقف‭ ‬وفي‭ ‬التنمر‭ ‬عليه‭ ‬وتحقيره‭. ‬

‭-‬البعض‭ ‬يتهم‭ ‬المثقف‭ ‬بأنه‭ ‬متواطئ‭ ‬مع‭ ‬الأنظمة‭ ‬القمعية‭ ‬فنجده‭ ‬يدافع‭ ‬عنها‭ ‬فيما‭ ‬هي‭ ‬منخرطة‭ ‬في‭ ‬تجريف‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬بقائها؟

‭- ‬طبعًا‭ ‬لا‭ ‬نعمم،‭ ‬ولكن‭ ‬هناك‭ ‬نوعا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬تواطأوا‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد،‭ ‬مع‭ ‬مؤسسات‭ ‬الهدم،‭ ‬والعالم‭ ‬العربي‭ ‬يعيش‭ ‬لحظة‭ ‬هدم‭ ‬فظيعة‭ ‬جدًا‭ ‬ومرعبة،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬بعض‭ ‬الفلاسفة‭ ‬قال‭ ‬‮«‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬هدم‭ ‬هي‭ ‬لحظة‭ ‬بناء‭ ‬حقيقي‮»‬‭ ‬ففي‭ ‬عموم‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬هي‭ ‬لحظة‭ ‬هدم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬حقيقي‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬استعرنا‭ ‬مقولة‭ ‬التفاؤل‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬منها‭ ‬لاستمرار‭ ‬الحياة،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬القديم‭ ‬‮«‬ما‭ ‬أضيق‭ ‬العيش‭ ‬لولا‭ ‬فسحة‭ ‬الأمل‮»‬‭ .‬