أثر الإسلام في«الكوميديا الإلهية» لدانتي

أثر الإسلام في«الكوميديا الإلهية» لدانتي

تحتفل إيطاليا هذا العام، ومعها دوائر الثقافة في العالم، بالذكرى السبعمئة لوفاة الشاعر الإيطالي دانتي أليغيري (1265 / 1321م) صاحب ملحمة «الكوميديا الإلهية» ذات المكانة الخاصة في تاريخ الثقافة الغربية، والوثيقة الصلة، كما سنرى، بأصول إسلامية كوّنت أسسها، ومن بينها «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري و«الفتوحات المكية» لابن عربي.
يهتم الإيطاليون، على الخصوص، بترجمة رائدة لهذه الملحمة إلى اللغة العربية اضطلع بها المترجم المصري حسن عثمان في خمسينيات القرن الماضي، فيعملون الآن على ترميمها وإعادة إنتاجها بإشراف ورشة من المختصين في اللغتين العربية والإيطالية، لكي تصدر من جديد خلال عام 2023 في ذكرى مرور 50 عامًا على وفاة عثمان، الذي ختم ترجمته لها بقوله: «وبعد، فإني أؤمل أن يأتي من بعدي من يدرس، ويرتحل، ويصبر، ويستوعب، ويتأمل، ويستلهم، ويمسك باليراع لكي يعبّر عن دانتي في صورة أوفى وأجمل».

 

  لا شك في أنه يحق للعرب وللمسلمين أن يهتموا بذكرى دانتي هذه اهتمامًا خاصًا يتجاوز الاحتفال العابر ومجرد انتظار الطبعة الجديدة من ترجمة المترجم الراحل حسن عثمان لـ «الكوميديا الإلهية»، على جلال أهميتها. فهناك نظرية في الغرب نفسه ترى أن دانتي أسّس عمارته في ملحمته بمواد إسلامية، بعد أن كان الكثيرون من النقاد والمؤرخين يرون أنه من أتباع أرسطو وتوما الأكويني. 
يعود الفضل في إرساء هذه النظرية للمستعرب الإسباني الكبير ميجيل أسين بلاثيوس الذي أصدر في عام 1920 كتابًا عنوانه «أثر الإسلام في الكوميديا الإلهية» لإثبات نظريته في تأثر دانتي تأثرًا شديدًا بالثقافة الإسلامية التي كانت زمن دانتي معروفة أوسع معرفة في السوق الثقافية الإيطالية واللاتينية، والتي نقلت إلى هذه السوق عبر مدارس الترجمة في طليطلة وسائر حواضر الأندلس، وكذلك عبر جزيرة صقلية التي احتلها العرب أيام عزّهم حوالي ثلاثمئة عام.
في البداية، وقبل أن يُصدر كتابه هذا، كتب بلاثيوس مقالًا نبّه فيه الأذهان إلى التشابه الكبير الذي تبيّنه بين الخطوط العامة لعروج دانتي وبياتريتشي، في الملحمة، إلى سماوات الجنة، وقصة رمزية أخرى لعروج فيلسوف صوفي إلى السماء جاءت في كتاب «الفتوحات المكية» للصوفي الأندلسي ابن عربي. فلما أثار بلاثيوس الموضوع بهذه الطريقة توضحت أمامه أهميته. ذلك أنه إذا كانت الفلسفة الأفلاطونية المحدثة لابن عربي والأسلوب الرمزي الذي صاغ فيه عروجه إلى السماء، قد أثّرا باعتبارهما نماذج لأسمى وأمتع جزء من «الكوميديا الإلهية»، وهو تصوّر دانتي للفردوس، فإنه يحق لإسبانيا بنظر بلاثيوس، أن تطالب لمفكريها المسلمين بنصيب ليس صغيرًا في الشهرة العالمية التي يتمتع بها عمل دانتي أليغيري. وكان بلاثيوس قد رأس مدرسة في الاستعراب الإسباني مملوءة زهوًا وفخرًا بالحقبة العربية الأندلسية ورموزها الخالدة.

نقطة البدء
تلك كانت نقطة البدء التي انطلق منها بلاثيوس. غير أن الأفق ما لبث أن انفتح أمامه على مصراعيه وبطريقة لم يكن يتوقعها. ذلك أنه لما تعمّق بدراسة قصة ابن عربي الرمزية الشبيهة بكوميديا دانتي، وجد أنها هي ذاتها لم تكن غير تكييف صوفي لقصة عروج أخرى إلى السماء كانت شائعة في الأدب الديني الإسلامي، هي قصة المعراج للرسول ([). 
ولما كانت قصة المعراج مسبوقة بإسراء من مكة إلى بيت المقدس، زار خلاله الرسول الكريم بعض أمكنة الآخرة، فقد خطر لبلاثيوس فورًا أن المأثورات الإسلامية في هذا الموضوع هي النموذج الذي استقى منه دانتي تصوّراته للعالم الآخر. ثم إن مقارنة منهجية للخطوط العامة للقصة الإسلامية بالخطوط العامة لقصيدة دانتي أكّدت ما انطبع في ذهنه من تشابه بينهما: لقد امتدّ التشابه بين القصتين إلى التفاصيل الوضعية وتفاصيل الأحداث ومختلف الصور الحية المثيرة النابضة بالحركة، وإلى ما يسمّى «بهندسة الممالك الأخروية»، أي التصور الطوبوغرافي لدركات النار ودرجات الجنة، والتي لاح لبلاثيوس أن المهندس الذي صمّم العملين واحد، هو المهندس الإسلامي.
عندما بلغ بلاثيوس هذه المرحلة من البحث، ثار شكّ جديد عنده: ألا يمكن أن تكون هذه المشابهات بين الكوميديا الإلهية والنماذج الإسلامية المفترضة راجعة إلى حقيقة واقعة هي أن كليهما مستمدّ من مصدر مشترك ما؟ أو بعبارة أخرى، ألا يمكن تتبّع تصورات دانتي التي يلوّح بأنها مستقاة من المصادر الإسلامية، في قصص القرون الوسطى المسيحية التي سبقت عمل دانتي العظيم؟ عندئذ أصبح لزامًا عليه أن يتناول هذه القصص أولًا، ليتأكد من أنه لم ينسب أصلًا إسلاميًا إلى أي من تصوّرات دانتي قد يمكن تعليله تعليلًا كافيًا بهذه القصص المسيحية.

ملامح مبتكرة
حملت طريقة البحث والمقارنة هذه في طيّاتها استنتاجًا لم يكن بلاثيوس يتوقعه. فهي لم تؤكد فقط أن الأصول الإسلامية كانت نماذج لملامح في الكوميديا الإلهية اعتُبرت يومها مبتكرة ابتدعها الشاعر، لأنه لم يُكشف شبيه لها في القصص المسيحية السابقة عليها، وإنما كشفت أيضًا عن الأصل الإسلامي لقصص القرون الوسطى المسيحية ذاتها. ومن ثم ألقت ضوءًا قويًا على الموضوع برمّته. «وعندئذ ظهر العنصر الإسلامي مفتاحًا لكثير من الأفكار التي كان لها تعليل معروف، وإلى ما كان لا يزال غامضًا في الكوميديا الإلهية. وعندئذ تطابقت النتيجة مع ما نسبه «الدانتيون» حتى الآن لتأثير السوابق المسيحية، فضلًا عن أنه فسّر ما لم يستطيعوا تفسيره وكانوا قد نسبوه فقط إلى عبقرية الخلق والابتكار التي تمتّع بها دانتي». كان لكتاب المستعرب الإسباني الكبير فعل العاصفة في الدراسات الأوربية في زمنه على الخصوص، وفيما تلاه من أزمنة. فقد هاج الدانتيون الإيطاليون بوجهه واعتبروا أن إنزال دانتي، فخر آدابهم، عن عرشه، لهُو أمر لم يرد سابقًا في بالهم. وقد نسبوا حماسة بلاثيوس إلى إسبانيته وربما إلى أندلسية أو عروبة ما في ذاته. فالكوميديا الإلهية ليست أثرًا أدبيًا أو شعريًا كأي أثر أدبي أو شعري آخر. إنها لا تقل نفاسة عن إلياذة هوميروس إن لم تكن أكثر نفاسة منها.
ولكن هياج الدانتيين هذا الذي تمثّل بردود وكتب غاضبة منهم، سرعان ما أوى إلى الهدوء والإذعان عندما تأكد لهم عمق «الصلات» الثقافية التي تربط الكوميديا الإلهية لا بأثر إسلامي واحد كرسالة الغفران للمعري، أو الفتوحات المكية لابن عربي، بل بالثقافة الإسلامية بوجه عام، وهي الثقافة التي كانت شائعة في الأوساط الثقافية الأوربية في القرون الوسطى شيوع الثقافة الأوربية والغربية في بلدان العالم الثالث اليوم.
وكانت الثقافة الإسلامية شديدة التأثير في المثقفين الأوربيين يومها تمامًا كتأثير الثقافة الأوربية والغربية اليوم في مثقفي البلدان الأخرى. كأن يُنظر إلى اللغة العربية في الجامعات الأوربية الوليدة، على أنها اللغة العالمية تمامًا كاللغة الإنجليزية اليوم، وعلى أن ثقافتها هي الثقافة العلمية الحديثة والمتطورة.

افتتان بالثقافة العربية
 كان الإمبراطور فريدريك الثاني ملك صقلية وإمبراطور ألمانيا يحيط نفسه بالمسلمين، فقد كان المسلمون أساتذته وزملاءه في العلم، ورجال حاشيته، وضباطه ووزراءه. فلا عجب إن كان على الثوب الذي دفن فيه نقوش عربية. صحيح أن البابوات وملوك العالم المسيحي الآخرون صاحوا علنًا ضد فضيحة بلاط هذا الإمبراطور الذي كان يمثّل أعلى سلطة مسيحية في أوربا، إلا أنهم لم يكن باستطاعتهم عمل شيء ضد هذا الإمبراطور الذي لم يكن، كما يقول بلاثيوس، مسيحيًا إلا بالاسم.
ومن عجب أن بعض الباحثين العرب الذين عرضوا لأثر الثقافة الإسلامية في دانتي يرون أن تأكيد هذا الأثر في الكوميديا الإلهية ينتظر «الشاهد التاريخي» الذي يثبت نقل الأعمال الأدبية والفكرية والدينية العربية التي يُزعم أن دانتي نهل منها، إلى اللغات الأوربية يومها كي تصبح عملية تأثر دانتي ثابتة وأكيدة، وهو اشتراط في غير محله، لأن الترجمة من العربية إلى هذه اللغات الأوربية يومها لم تكن دقيقة ومنظمة دقة وتنظيم الترجمة المعاصرة في زماننا.
 لقد نقل المترجمون يومها ما لا يُحصى من الكتب والمصادر التي كانت بين أيديهم وأحيانًا دون الإشارة إلى أسماء مؤلفيها وأصحابها. ولم يكن المثقف الأوربي معنيّا بمعرفة المؤلف أحيانًا، بل بمضمون كتابه.
 ومع الوقت اجتاحت الثقافة الإسلامية السوق الثقافية والأكاديمية الأوربية، وشكلت الزاد المعرفي الأول لمثقفي قارة بأكملها كانت تتلمس طريقها نحو التقدم. فمن التعسف بمكان الإلحاح على «شاهد تاريخي» عربي عاد إليه دانتي وقرأه ونقل عنه وتأثر به. فدانتي لم يكن ينقل من كتاب عربي، وإنما اطلع على ما لا يحصى من تراث العرب الروحي وغير الروحي كما يقول بلاثيوس في كتابه.
 بل إن بلاثيوس يتحدث عن أن افتتان دانتي بالثقافة العربية «أمر يؤكد الافتراض القائل بالمحاكاة». المهم أن الثقافة الإسلامية التي كانت سائدة في أوربا في القرن الثالث عشر كانت معروفة لدانتي وأنه تأثر بها. 
يقول بلاثيوس: «إننا لا نتصور أن دانتي الذي عاش حياة عقلية نشطة، قد أهمل الاتصال بالثقافة الإسلامية التي كانت منتشرة في جميع الأرجاء في عصره، أو أنه لم يشعر بانجذاب إلى علم كان يجذب رجال العلم في جميع أنحاء أوربا المسيحية إلى بلاط طليطلة، وإلى أدب كان تأثيره ذا سلطة عليا في أوربا المسيحية»!

إعجاب عالمي
لم يكن عجيبًا أن يميل دانتي إلى الثقافة الإسلامية وينهل منها، نظرًا للإعجاب العالمي الذي تميزت به هذه الثقافة في عصره. ومن الطبيعي ألا يكون معنيًا بصاحب هذه الفكرة الإسلامية أو تلك بحدّ ذاتها، بل بأثرها في نفسه، فهو شاعر لا باحث. وكانت أمام ناظريه مكتبة عربية مترجمة غنية غرف منها دون أن تعنيه الإشارة إلى الكتب التي انتفع بها أو إلى أصحاب نظرياتها.
  كتب بلا حصر نقلت الفكر الفلسفي والصوفي العربي إلى الغرب، وكأن دانتي مطّلعًا، كما يجزم بلاثيوس والمؤرخون الأوربيون، على هذا الفكر أوسع اطلاع، كما كان معجبًا أيّما إعجاب به. فمن التعسف إذن اشتراط العثور على «شاهد تاريخي» يؤكد الصلة بين الكوميديا الإلهية والثقافة الإسلامية هذه، طالما أنه ثبت اطلاع دانتي على هذه الثقافة ووجود ما لا يُحصى من الأدلة في ملحمته على تأثره الأكيد بها، ومنها استقاؤه من المنبع الأساسي لهذه الصيغ، وهو تراث الإسراء والمعراج، بما لا يدع مجالًا للشك في عروبة مصادره.
يثبت أسين بلاثيوس في كتابه أن قصة ابن عربي التي أشرنا إليها، وقصيدة دانتي تتشابهان في مادة الصياغة، والأحداث، والمرمى الرمزي، وفي شخصياتها الرئيسية والثانوية، وفي تصميم سماوات النظام الفلكي، وفي الاتجاه التعليمي للأفكار التي قدّمها كل منهما، وفي استخدام الأساليب الأدبية لإخراج موسوعة معارف قومية. لذلك لا يبالغ الباحث إذا اعتبر أن قصة ابن عربي هذه هي أقرب المؤلفات العربية إلى فردوس دانتي بخاصة، وإلى الكوميديا الإلهية بعامة.
وهنالك ما لا يُحصى من الشبه بين الكوميديا الإلهية لدانتي ورسالة الغفران للمعري. لقد عمل دانتي بالمنهج نفسه الذي اتخذه أبو العلاء، لكنّه تخطى مجرد الهدف الأدبي الذي رمى إليه أبو العلاء وتصوّر قصته في إطار أكثر ثراء من حيث التفاصيل، وتخيلها رحلة إلى ممالك الحياة الأخرى تقع فوق الوجود المادي.
 لقد رمى كما رمى أبو العلاء في المقام الأول إلى عرض معارفه الأدبية، وإصدار الأحكام على كبار رجال الأدب. وفي كتابه يهتم بلاثيوس بعرض تفاصيل الشبه بين ما ورد في «الكوميديا الإلهية» و«الغفران»، مبينًا قوة أثر أفكار المعري في تصورات دانتي بقصيدته.

تقليده نماذج
  يؤكد محمد عبدالواحد العسري في كتابه «الإسلام في تصورات الاستشراق الإسباني» أن بلاثيوس، ضمن عنايته الخاصة بالبحث عن الأصول وولعه بتتبّع التأثيرات والمؤثرات، يعتبر أن الكوميديا الإلهية لدانتي لا ترجع إلى محاكاته أو تعامله مع أفكار أو معتقدات أو أساطير ثقافته الأصلية، ولا إلى مجرد قدحه لزناد خياله الخلاق، بل إلى تقليده لنماذج إسلامية صرفة للمعراج وللمعاد وأخذه منها. 
وبما أنه كان يدرك بأن أطروحته هذه ستثير غضب المهتمين بدانتي، بحيث سيعدّها بعضهم «كفرًا فنيًا» لا مثيل له، في حين سترتسم على شفاه بعضهم الآخر ابتسامات السخرية الممزوجة بالشفقة، ولكي يردّ على هؤلاء وأولئك وعلى جميع منتقديه، فإنه لم يقصّر في البحث عن مختلف الطرق التي انتقلت منها فضاءات المعراج ومشاهد المعاد الإسلاميين إلى الكوميديا المعنية، وكذا عن الأسباب التي دفعت دانتي إلى أخذه تلك الفضاءات والمشاهد لإعادة رسمها في ملهاته.
 لقد انتقلت كل هذه وتلك إلى دانتي عبر ترجمة أجزاء مهمة من الثقافة الإسلامية المتعددة إلى أوربا النصرانية، ولا عجب في ذلك، إذ لا يمكن لأيّ أحد أن يجادل في أن المرحلة التي عاش خلالها دانتي «تُعدّ قرن هيمنة العلوم والفنون الإسلامية» على قسم واسع من الثقافة النصرانية الأوربية.  ومن الذين يسّروا لدانتي الاطلاع على النصوص الإسلامية، كما يقول العسري في كتابه، برونتو لاتيني. ومن المعروف أن دانتي قد اشتهر بدراسته لكل شيء، وبانفتاحه على جميع الأفكار والحساسيات العلمية والفنية لقرنه، فمن غير الطبيعي ألا يكون قد أخذ من روح عصره.

علاج فلسفي
عربيًا، كان لنظرية المستعرب الإسباني بلاثيوس حول أثر الثقافة العربية في الكوميديا الإلهية أصداء كثيرة عند الباحثين العرب. فقد أورد د. إبراهيم عبدالرحمن فصلًا حول الموضوع في كتابه «دراسات مقارنة»، عنوانه «الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية». 
وفي كتابه «رحلة الروح بين ابن سينا وسنائي ودانتي» تناول د. رجاء جبر علاقة الكوميديا الإلهية بالمصادر الشرقية التي عالجت الرحلة إلى العالم الغيبي علاجًا فلسفيًا صوفيًا، خاصة منظومة «سير العباد إلى المعاد» للشاعر الفارسي سنائي الغزنوي المتأثرة بدورها برسالة لابن سينا. 
وخصص د. صلاح فضل كتابًا عنوانه: «تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي» هو من أوفى ما كتب بالعربية حول تأثّر دانتي بالثقافة الإسلامية.
وفي مقدمة ترجمته لكتاب «التصوف الإسلامي وتاريخه» لنيكلسون يأخذ أستاذ الفلسفة والتصوف بجامعة الإسكندرية في الأربعينيات من القرن الماضي، د. أبو العلا عفيفي، على بلاثيوس ونظريته، ما يلي: «وربما كانت أظهر صفة فيه ولوعه بفكرة التأثير والتأثر، وهذه الفكرة كما نعلم أساس كل بحث علمي دقيق، لكنها من أخطر المزالق في يد الباحث الذي يتصدى لدراسة التيارات الفكرية والنظريات الدينية، فإن الفكر الإنساني في محاولته الوصول إلى الحقيقة وتصوره للوجود، لا يخضع لقانون العلة والمعلول خضوع المادة الجامدة له.
 فلا يكفي ظهور فكرة من الأفكار في فلسفة ما، ثم ظهور نفس هذه الفكرة أو ما يماثلها في فلسفة أخرى، للحكم بأن الفلسفة الثانية متأثرة بالأولى، إلا إذا وجدت دلائل واضحة مستمدة من الصلة التاريخية بين الفلسفتين. ولكن بلاثيوس في كل حالة يبدو له فيها وجه شبه بين مذهب ومذهب، أو فكرة وفكرة، يجزئ بأن هناك تأثيرًا وتأثرًا».

اختلاف بَيّن
تختلف د. عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) عن هؤلاء الباحثين اختلافًا بينًا في الفصل الذي كتبته عن «الغفران» و«الكوميديا الإلهية» في كتابها «الغفران / دراسة نقدية» الذي صدر لها عن دار المعارف (طبعة 1999).  فقد شككت في قيمة كتاب بلاثيوس وحملت عليه حملة ضارية، معتبرة أن هدفه هو المطالبة لوطنه إسبانيا بحصة في هذا الفخر الذي يبديه الإيطاليون تجاه «الكوميديا الإلهية»، وكذلك تجاه الآداب المسيحية الأخرى في القرون الوسطى المتأثرة بتراث الإسلام. «ومن هنا نفهم لماذا بدأ بلاثيوس بحثه من نقطة معيّنة هي فتوحات ابن عربي الذي يحرص بلاثيوس على ذكره بنسبه المرسي، أو صوفي مرسية الكبير، كما يذكر سلفه ابن مسرّة بالقرطبي». 
ولم يلبث أن جهر بالدافع الكامن وراء اهتمامه بإضافة مجد الكوميديا إلى الإسلام، فقال في صراحة مؤثرة: «وإذن فلإسبانيا أن تُعطي الحق في المطالبة لمفكريها المسلمين بنصيب غير قليل من الشهرة العالمية الواسعة، التي تمتّع بها العمل الخالد لدانتي أليغيري»، وكأن في هذا الدافع عارًا أو سلوكًا شائنًا من شأنه توجيه توبيخ لهذا العالم الإسباني الذي تطفل على الرموز الثقافية الأندلسية وسعى لإنصافها والتذكير بفضلها في صناعة الكوميديا. 
 وهذا المطلب الصريح يجيب - في نظر بنت الشاطئ - عن سؤال الذين يعجبون «لجهاد بلاثيوس لإثبات هذا المجد الأدبي للإسلام (مجد أثر الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي)، مع أنه ليس من رجال الدين المسيحي فحسب، وإنما هو من الإسبان الذي كُتب جزء من تاريخهم بدماء ضحايا محاكم التفتيش»، وهي عبارات مستغربة من الباحثة، وكان يفترض حذفها من كتابها، خصوصًا أنها موجهة إلى عالم إسباني أمضى حياته مدافعًا عن الحقبة الأندلسية ورموزها الخالدة، ولا يمكن اعتباره مسؤولًا عن مظالم التاريخ الإسباني.

مرجع وحيد
كتب الباحث والمترجم جلال مظهر في مقدمته لكتاب بلاثيوس الذي نقله إلى العربية تعليقًا على تخيلات بنت الشاطئ أن ميجيل أسين بلاثيوس أراد فقط أن يفخر ببعض المسلمين الإسبان، وينسب لإسبانيا هذا الفخر، أو يطالب لوطنه إسبانيا بنصيب من هذا المجد الذي حققه الإيطالي دانتي بقصيدته هذه: «وهل يمكن أن يقضي عالم مفكر 25 عامًا باحثًا منقبًا في أعوص الموضوعات لمثل هذا فقط؟ وهل إسبانيا في حاجة إلى مزيد من الفخر بعلمائها المسلمين؟».
ويضيف جلال مظهر في مقدمته: «والحق أن ميجيل أسين لم يكن عديم الحرية ولا مندفعًا مع الهوى ولا غير فاهم لرسالة الغفران، كما تدعي الدكتورة، كما لم يقل أبدًا إن «الغفران» هي أساس الكوميديا. لكنه نظر في «الغفران» كما نظر في سواها من الأعمال الإسلامية، ووجد في كل منها بعض ملامح هذه الكوميديا لم يقع على مثلها في الآداب الأوربية السابقة لدانتي، والتي يمكن أن يكون دانتي قد استقى منها. ولم يقل ميجيل أسين أبدًا إن «الغفران» هي المرجع الوحيد الذي رجع إليه دانتي لرسم صورته للفردوس أو للجحيم، بل إن صورة دانتي للفردوس فيها حديث طويل عن روحانية الجنة في بعض قصص المعراج وفي بعض الأحاديث النبوية وعند الصوفيين المسلمين على وجه الخصوص. وهي أمور لم تدرسها د. عائشة ولم تُشر إليها. ولا ينبغي أن يفهم أحد أن الأستاذ الكبير ميجيل أسين قد أنكر أن عمل دانتي عمل عظيم فيه من عبقرية الشاعر الكثير. أما ما أنكره أسين فهو ادعاء الدانتيين بأن «الكوميديا الإلهية» على وجه الإطلاق نسيج وحدها في الأدب، حيث يمكن القول بغير تحفظ إن عملًا مثلها لم تنتجه القرائح في أي عصر من عصور التاريخ، كما تقرر الموسوعة البريطانية في طبعة 1929، أو إنها بعبارة أخرى من ابتكار وإبداع الشاعر الفلورنسي وحده»!
إنها عبارات تضع المسألة في محلها اللائق بها: فالكوميديا الإلهية عمل أدبي عظيم ساهمت ثقافات وحضارات مختلفة في صناعته، منها على الخصوص الثقافة والحضارة العربية الإسلامية، وهو جوهر ما كتبه بلاثيوس في كتابه ■