سُلطة المعرفة في بناء المتخيل السردي في «غرف متهاوية» للروائية فاطمة العلي

النص الروائي الناجح هو الذي يسمح داخله بالتقارب بين العوالم المختلفة، ويمكِّنُ القارئ من النظر إلى العالم السردي، ليس بوصفه مجموعة من الأحداث والوقائع فحسب، بل باعتباره عالمًا متخيلاً خاصًا يموج في حالة من الحركة المستمرة والدوران الدائم، من جهة، وعالمًا معرفيًّا يقدم رؤية الكاتب حول جملة من القضايا التي تؤرقه.
ولعل هذا التضافر بين الحس الجمالي والبعد المعرفي هو الكفيل بتقديم نص إبداعي مفيد وماتع، بعيدٍ عن الغرق في لعبة تجريبية شكلية محضة، لأن النص الجميل مهما بدا تقليديًّا شكلاً، ففيه قدر من التجريب، لكنه ليس القدر الذي يمارس تدميرًا كليًّا للمعنى، وليس إصرارًا على الخواء والغياب واللاجدوى، وإنما هو في عمقه تفكيك للبنى الداخلية للنص، تمهيدًا لانفتاح المعنى وتعدده.
من خلال فهم هذه الرؤية التي ندافع عنها، يمكن أن يدرك القارئ سر اختيارنا لرواية «غرف متهاوية» للروائية فاطمة يوسف العلي متنًا لهذه الدراسة.
فهذه الرواية تحقق قيمتها من خلال قدرة الروائية على إنتاج منظومة من التفاعلات، تمكّنها من إبداع اللاممكن من الممكن، والمتحرك من الثابت. وذلك عبر إقامة التوافق بين النظام واللانظام، والمراوحة بين سلطة المعيار الفني، وشهوة المغايرة والاختلاف الفكري والمعرفي، وهو ما منح نصها الروائي المنسوب الضروري للنجاح.
إن التجريب داخل روايــة «غرف متهـــاوية» ليس ضد النظام الفنـــي في كليته، وإنما هو تجريب جزئي بما تستضيفه الرواية من أجناس صغرى وما توظفه من أحلام وكوابيس واسترجاع.
فالكاتبة حافظت على البنية المتداولة للنص الروائي باحترام خطية السرد التي لم تكسرها إلا نادرًا؛ وإنما تجريبها انصبّ على رفد روايتها بالبعد المعرفي وبالموقف الثقافي إزاء جملة من القضايا التي يعانيها المثقف العربي ويتلبس بها، وبذلك فالتجريب لديها هو نقل النص من نظام معرفي بسيط وعادي إلى نظام أكثر تعقيدًا وتعددًا، يوازي ما يعرفه العالم الحقيقي من تعقيد وتعدد، وما تحسّه الذات داخل هذا العالم من تشظٍّ وخواء وقلق. فكلما انطوى الدال على قدر كبير من التباين والمغايرة، وكلما كان أكثر صخبًا في إنتاج معناه وإظهاره، كان أكثر فاعلية وقوة في إطار مشروع تفكيك وتذويب البنيات القائمة.
إن قارئ هذه الرواية الجميلة والعميقة يحس أنه أمام نص إبداعي لا ينسلخ عن هويته، وفي الآن نفسه يبني حداثته على طريقته؛ يطور ملامحه، ويعدل جمالياته من خلال امتطاء ما تفتحه التطورات المعرفية والاجتماعية من إمكانات وآفاق، وعبر رصد ما يروج في الساحة الثقافية من تصورات، خاصة ما يتعلق بقضية الرجل والمرأة والصور النمطية التي تحملها كل طبقة اجتماعية عن أخرى، خاصة في المجتمع الخليجي الذي ينفتح على اليد العاملة الوافدة من أقطار متباينة.
شعرية العنوان
يستمد العنوان سلطته من مركزيته التي يوليه إياها النقد الحديث، باعتباره علامة أساسية للمصاحب النصي، وبوصفه ذا تمظهرات متعددة وتشكيلات متنوعة، فهو قد يوازي النصوص الإبداعية فيكون مكونًا خارجيًا عنها، وقد يتقاطع معها فيكون جزءًا من النص.
اختارت الروائية العلي عنوانًا شعريًا بامتياز، رغم بساطته الظاهرة واقتصاده الواضح. فالغرف لا تتهاوى ماديًّا بشكل مستقل شأنها شأن البنايات، لذا يمكن النظر إلى هذا التهاوي بصفته تداعيًا قيميًّا وأخلاقيًّا، فالغرف يمكن أن تكون الأسر أو الدول أو المؤسسات بكل أشكالها.
وفي استعمال دال «غرف» نكرة يعمق هذا المعنى. فالحديث ليس عن غرف معروفة ومعلومة، وإنما عن مكان مجهول لا يكفي النعت «متهاوية» في تعريفه وبيانه، مما يسمح بتأويل الغرف بالقيم التي تجمع بين قاطنيها، أي العلاقات الأسرية المتهاوية بين نجمة وأختها، وبين الأخت والأب حول الميراث، وبين نجمة وسالم بعد واقعة الخيانة، أو تأويلها بالمؤسسات السياسية المتهاوية بعد «ربيع» عربي أسقط الأنظمة الهشة، وكشف عن وجود «دويلات» من ورق.
إن هذا التأويل الذي منحناه لهذا العنوان قد يسمح بالقول إن عنوان هذه المجموعة يقرّبها من العناوين الموضوعية التي تحيل على النص ذاته أو على موضوعه، ويبعدها عن أن تكون عناوين ذاتية تحيل على ذات الفاعل، وإن كان ذلك لم يتم بشكل مباشر، ويحتاج منا إلى المزيد من تأويله والاقتراب من دلالاته.
أما إذا انطلقنا من التصنيف الذي يميز بين عناوين موضوعاتية تحيل بطريقة معيّنة على مضمون النص وعناوين خطابية تحيل بطريقة معيّنة على شكل النص أو جنسه الأدبي، فإننا نرى أن العنوان «غرف متهاوية» لا يدل بشكل واضح وصريح على جنس النص، كما أنه لا يحيل على مضمون العمل مباشرة، وهذا ما استدعى الإشارة إلى «ميثاق التجنيس» على غلاف الكتاب بالإشارة إلى أنها رواية، وإن كان العنوان بصيغته الأسلوبية وشحنته الدلالية يمهّد أمامنا الطريق لاكتشاف الاتجاه الأدبي الذي تتأطر ضمنه النصوص، وهو الاتجاه الرومانسي ذو اللغة الشفافة والإيحائية، والذي يشكّل أفق انتظارنا تجاه لغة الرواية، والتي هي لغة جمالية رائقة الألفاظ، أنيقة التركيب، محملة بقدر كبير من الانزياح ومسافات التوتر.
وظيفة تواصلية
كلما زدنا اقترابًا من عنوان هذه الرواية تبيّن لنا أنه يشتغل من خلال وظيفة تواصلية، حيث يعوض السياق بمهمة وضع القارئ في الصورة، وإمداده بالحد الأدنى من المعرفة الضرورية لاستيعاب النص وفهمه أولًا، ثم دفعه نحو التأويل الخلاق الذي يحاول من خلاله تبرير الدهشة الجمالية التي تدهمه ثانيًا. كما أنه يشتغل في الآن ذاته من خلال تحقيق الوظيفة الإيحائية، المحققة للإغراء وإغواء القارئ، لأننا أمام منتج يقدمه الناشر للاستهلاك في نهاية المطاف، وهو ما يتطلب حضور هذه الجرعة من الجذب والإشهار.
لقد نجح العنوان في إنجاز هذه الوظائف بسبب كثافته الشعرية وقوته الدلالية، وبذلك استحق أن يكون هوية للنص ومؤلفته، ومعنى قويًّا يلخّص مضامين النص العامة، وإيحاء جماليًّا عالي القدرة الإبداعية. وهي ملامح متداخلة إلى الحد الذي يصعب معها كشف ملمح دون آخر.
شكّل العنوان «غرف متهاوية»، إذن، هوية على العمل السردي الذي أنجزته الروائية العلي، باعتباره يدخل مع الرواية التي تحمله في علاقة استبدالية، لأنه نص مختصر يحمل معنى في ذاته، سواء كان المعنى تامًا أو جاء ناقصًا يحتاج إلى تأويل يكمله. وهذا التمام أو النقص مقصود لذاته، لكونه يدفع المتلقي نحو سلسلة من المعاني المتداخلة والمترابطة، ثم إنه إيحاء، لأنه عنوان ينزاح عن المألوف دلاليًّا وتركيبيًّا، مهما بدا للقارئ العادي واضحًا وعاديًّا ومستقلاً، ولأنه ينزع بقارئه نحو التأويل وطرح الأسئلة عن معانيه ودلالاته، وسر هذا الربط التركيبي بين مكوناته، ومدى تواشجه والتحامه مع النص الذي يحمله أو تنافره معه، ثم في ارتباطه أو إحالته على مرجع خارجي يتعالق معه، ويساهم في تفسيره وشحنه بالدلالات الرمزية المطلوبة وإمداده بطاقة جمالية إضافية، توسّع ما كان مختزلاً وتكشف ما كان مكثفًا.
فالعنوان معبر القارئ نحو النص، ودونه يدخل القارئ متاهة النص دون دليل أو مرشد. ويكفي أن نتذكر إحساسًا ينتابنا كلما عثرنا على كتاب مبتور، بلا غلاف ودون خطاباته الموازية الأولى، أو على صفحات من كتاب ممزق، فإن ثقتنا بالمكتوب تتزحزح، إنها تعادل هزّة العثور على لقيط.
الوهج الرومانسي في الرؤية والتعبير
ترفل «غرف متهاوية» للروائية العلي، في رومانسية باذخة، مضمونا وشكلًا. فالرواية اختارت بطلة تتمتع بسمات خاصة، فهي مثقفة وكاتبة روائية مشهورة، مرهفة الإحساس. وقد بدأت الرواية بإبراز العلاقة العاطفية التي تربط بين الكاتبة نجمة والقمر، فقد «كانت نجمة تحب القمر، بل ربما لم تكن تحب غيره في دنيا البشر، لها معه ذكريات كثيرة تناجيه ويناجيها، تناديه فيلبي نداءها، كانا يجتمعان في موعد ثابت كل شهر، يوم الرابع عشر، يكون هو بدرًا، وتكون هي أشعة من صفاء، حتى وإن كانت خارج الكويت.
تعودت أن يبتسم لها بمجرد أن تصافح بدره، يرسل إليها حارسًا من أنواره المتلألئة، يصغي إليها وهي تبثه وجعًا أو تأتمنه سرًا ".
ولا يخفى على القارئ أن العلاقة مع القمر تعد من أهم القرائن الدالة على النزوع الرومانسي. وفي انتصار نجمة في آخر الرواية على كل أعداء طيبتها وقلبها المسامح الذين يمثلون الخط الواقعي في أبشع صوره النفعية (صديقتها نوال – أختها الصغرى أرشيدان) انتصار لهذا الخيار الرومانسي داخل الرواية.
تنطلق الحكايات الصغرى التي تشكّل متن هذه الرواية - كما في الأدب الرومانسي عمومًا - من الذات، حيث تلون الكاتبة بها لوحات قصصها، وتزخرف بها مشاعرها وتأملاتها ومواقفها تجاه الآخرين، سواء أكانت مشاهدة حسية أم روحية معنوية، مما يحيل الأجواء إلى شرود أو أوهام واستنزاف للذاكرة لاستعادة عوالم الطفولة البريئة التي صاحبتها طوال حياتها ولونت شخصيتها، واستحضار علاقتها مع القمر بكل مشاهده المغرية واستدراج الطبيعة لتلبس رداء الفرح، حيث «يتحول ماء البركة في ضوء القمر إلى حليب» (ص 9) حين «نظرت نجمة إلى القمر بملء العين، فاستدار ونظر إليها بملء العين، ابتسمت له فابتسم لها، فاجأها بشعاع فضي، أرسله إليها وحدها، وحوّل لون ماء البركة إلى خيوط من ضياء» (ص 9)، مما يمكن النص من أن يفصح عن طباعه الحكائية وأهدافه ومضامينه، حيث تنتصر الرومانسية الحالمة ببراءتها العميقة على النفعية المتوحشة بطمعها وأمراضها النفسية من حقد وحسد ولؤم.
حرب قذرة
تنطلق الرواية من حدث بسيط، وهو مجيء أرشيدان من تركيا لتطالب بحقها في الميراث من أب ثري لا يزال على قيد الحياة والحجر عليه إذا عجزت عن إقناعه، ومعارضة الأخت الكبرى نجمة لذلك، مراعاة للأخلاق ونفسية الأب المريض الذي قد يموت إذا علم بذلك.
سيتحول العجز عن تحقيق ذلك إلى حرب قذرة تخوضها الأخت الصغرى، موظّفة فيها كل ما تملك من دهاء ومكر ووقاحة ضد أبيها وأختها الكبرى، وتصل إلى حد رفع الدعوى القضائية ضد أبيها، وإغواء زوج أختها وتوريطه في الخيانة الزوجية مع نوال، الوجه الآخر لأمراض القلب، وإعلام نجمة بذلك لتدمير علاقتهما الزوجية، وبالتالي تدمير حياتها كليًّا، لتنفّس نوال عن حقدها الدفين ضدها.
ولتصور الكاتبة ما صار عليه الراهن من فساد للقيم وسيولتها تعرض قصصًا صغرى كقصة لوزة وزوجها سميح اللذين استغلا ثقة نجمة ليديرا محلها التجاري لصالحهما، ليجنيا أرباحًا هائلة ويلوذا بالفرار، والخيانة الزوجية التي تعرضت لها علياء من طرف زوجها بعد زواجهما بوقت وجيز، لكن تفاديًا للإغراق في السوداوية وإعلان الإفلاس التام للقيــــم، وتحقيقًا للتوازن، تدعم الكاتبة روايتها بقصص الوفاء والحب كوفاء علياء لصديقتها نجمة ووقوفها معها ضد نوال وأرشيدان حتى آخر نفَس.
وقصة حب الابن حمد لمديرة المنزل ميسون وإصراره على الزواج منها، بدل أن يستغلها جنسيًّا باعتبارها من الخدم، وتحول موقف نجمة من معارضة لهذا الزواج إلى موافقة.
عالم حالم
بذلك تضعنا الرواية في العمق ضمن عالم رومانسي حالم ينتصر فيه الخير على الشر والوداعة على القسوة، ويتزوج المحبون وإن كانوا من طبقات اجتماعية مختلفة، مع اللجوء الدائم إلى الطبيعة (القمر) كملاذ وخلاص، وكأن رواية «غرف متهاوية» استرجاع للعوالم المثالية المفقودة في عالم مادي.
وارتباطًا بالتجليات الرومانسية في «غرف متهاوية» تجلّى الحب قويًّا وجارفًا في بدايات كثيرة، لكن الدمار لحقه بسبب الخيانة المبكرة، كما في قصة علياء، أو في استغلال جنسي عابر حطم جدار العفة حقيقة ومجازًا في قصة أرشيدان، أو خيانة متأخرة بسبب المؤامرة والفراغ العاطفي، كما في قصة نجمة وسالم. وفي مقابل ذلك يحضر الحب الذي لا يعترف بالفوارق الطبقية والاجتماعية كقصة حمد المنتمي للطبقة الراقية باعتباره ابن كاتبة مشهورة ودبلوماسيًّا مرموقًا، وميسون الخادمة التي تقوم على تدبير شؤون البيت. وفي انتصار هذا الحب انتصار للروح الرومانسية داخل الرواية، كما يحضر في رد فعل نجمة أمام خيانة الزوج، حيث تفاجئ القارئ، وعدوتها نوال أيضًا، بأنها لم تطلب الطلاق من زوجها واحتفظت بالزواج القائم، وكذا في حرص علياء على تذكّر الأوقات الجميلة القليلة مع زوجها قبل أن يخونها ويطلقها، مع تركيز تفكيرها على وداعته ورقّته في يوم الدخلة بوصفها اللحظة التي لا تتوقف عن سردها حين كل لقاء مع صديقاتها.
حرصت العلي على إبراز الثنائية بشكل قوي، كثنائية الوفاء والخيانة، العقل والعاطفة، الثقة والغدر، الرجل والمرأة، وكلها ثنائيات أحسنت توظيفها، مما جعلها وسيلة للتعبير عن خلجات النفس الإنسانية ونزوات الرغبة في شرود حالم، حيث الطبيعة والصمت واللغة اللطيفة والوصال اللاواعي والتعبير غير المفهوم عن حبها للقمر الذي تناجيه ويناجيها، هذا الحب الذي يقترب من الحب الصوفي، في اتساع رؤيته وضيق عبارته، وعجزها عن التعبير الدقيق عنه، وأمنيتها أن يسعفها العمر للكتابة عنه، هذا العجز يرجع إلى كونه حبًّا لانهائيًا ولا محدودًا.
مسحة حزن يائسة
لكن، رغم هذا الوصال، فإن الحب الإنساني العميق لكل الناس المتجلي من خلال الثقة والتسامح وحب الخير للجميع الذي تحمله نجمة بين جوانحها أتى مغلفًا بمسحة حزينة يائسة أمام ضربات الواقع المؤلمة من مؤامرة نوال وأرشيدان للإيقاع بزوجها في براثن الخيانة، إلى غدر لوزة وسميح وخيانتهما لثقتها وسرقة أموالها، ومشوبًا بغربة بادية تستنزف الذاكرة للحصول على براءة ما في طفولة ماضية، ولو عبر الكتابة عما هو جميل، أو اللجوء إلى قمرها وأزهار حديقتها التي تتحول أمامها إلى قصيدة نثرية، أو خاطرة مسترسلة في دواليب المجاز والرمز، مستعينة بكل العبارات الكاشفة للاستغراق والتململ الداخلي والاهتزاز العاطفي المحقق لسعادة تقترب أحيانًا من النزوع المازوشي، ذي العذاب اللذيذ.
وقد تشذ الصورة أحيانًا عن المثالي لتعانق الحسي، لكنها لا تسقط في الابتذال كما بالعلاقات الغرامية في التصوير الواقعي، مما يولّد صورًا جمالية انعكست حتمًا على لغة النصوص التي تنضح شعرية ترفعها عن مستوى التقريرية والسرد الجاف، يسند ذلك توظيف مرجعي قوي للنصوص الشعرية والعبارات المجازية.
كما أن الروائية حرصت على رفد روايتها بشتى المعارف والمعلومات الثقافية والفنية.
فإلى جانب حديثها المستفيض عن أنواع النباتات والأزهار، أفردت بعض فقرات روايتها للحديث عن الفن التشكيلي، كما تجلت المتابعة الدقيقة للشأنين الثقافي والسياسي، خاصة الوضع الذي عاشه الخليج في مرحلة مهمة من تاريخه، بدءًا من الحرب العراقية - الإيرانية وصولًا إلى سقوط نظام صدام حسين وما تلته من تبعات سياسية واقتصادية على المنطقة.
لعل ما سبق ذكره يبرهن على أن «غرف متهاوية» رواية تجمع بين متعة الحكي وصرامة بناء السرد من جهة، وهو ما يقدم صورة كاتبة مدركة لأبعاد الجنس الأدبي الذي تجترح نصوصها ضمنه، كما تقدم صورة المثقفة الملمة بثقافة عصرها الفنية والسياسية والاجتماعية، والحاملة لمشروع ترغب في تمريره عبر السرد، كما تمرره عبر الأنشطة الثقافية الموازية كافة.
سلطة الراهن ونقد الوعي المزيف
كان من المثير أن نعثر على تصورات فكرية ومواقف تجاه الراهن الفكري والاقتصادي والسياسي في نص روائي نسائي، مما يمكن أن نعده تقدمًا في موضوعات هذا الجنس الأدبي الملتبس، كما تتيح لنا أن نقاربه، ونكشف عن مواقف الكاتبة الصريحة والضمنية تجاه قضايا العولمة والهيمنة الأمريكية، وما تستتبعه من جوانب فكرية أساسًا، كالحوار الحضاري ومنطق الاختلاف والعلاقة بالآخر، والنظر إلى الذات في مرآته وغيرها من القضايا الشائكة.
لقد منحتنا رواية «غرف متهاوية»، بما تحمله وما تعبّر عنه من مواقف واضحة، مادة صالحة لمثل هذا التتبع وهذه المقاربة، من خلال استثمارها الجيد فضاء «الديوانية» لتمرير المواقف المتضاربة من قضايا الساعة.
وقد اختارت الروائية تأثيث فضاء الديوانية بنخبة النساء، حيث وصفتهن بـ «الأديبات والمثقفات والقيادات النسائية». وجعلت من شخصية «نجمة» قطب الرحى وعماد المجلس، حيث استقبلت «استقبال الفاتحات»، قدمت كل منهن لها التهنئة على الكتاب الجديد الذي أبدت وسائل الإعلام اهتمامًا كبيرًا به، قبل الصدور.
إنهن ينظرن إلى نجمة باعتبارها حاملة لواء الجهاد من أجل نصرة المرأة، وضد هيمنة الرجل وسطوة الفحولة والذكورة على الكتابة وعلى الواقع، كلما أنتجت رواية جديدة، اعتبرنها انتصارًا لبنات حواء على الرجل، روايات نجمة تقاوم استبداد الرجل والتفكير الرجعي للمرأة والنظر إليها على أنها مجرد وعاء أو شيء، وليس من حقها أن تتمرد أو ترفض مهما واصل الرجل إذلالها أو إهانتها».
مقطع مكثف ودال على نمط التفكير النسائي وأهم القضايا التي ينحصر فيها، من خلال النظر إلى الرجل باعتباره عدوًّا، وإلى المرأة باعتبارها ضحية هيمنته وسلطته على كل مناحي الحياة، ومن ضمنها الكتابة.
خيبة أمل
ولا شك في أن الكاتبة كانت تنقل صورة عما يمور في ذهن النسوية العربية، لكنها في الآن ذاته تنقل مجرى الحوار إلى قضايا أخرى، حيث تنتقد رأيهن في أمريكا التي أبدين إعجابهن بما تتميز به من مبادرة، حيث يرين فيها «سيدة المشاريع العملاقة» عكس العرب الذين هم على النقيض منها «يتقنون فن رد الفعل» فقط. لينجر الحديث بعد ذلك إلى القضايا السياسية، حيث أظهرت نوال الإعجاب بـ «الوجه المشرق للولايات المتحدة الأمريكية في قيادة العالم، خاصة العالم الثالث»، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.
وأكدت د. رحاب رأيها فـ «أشادت بالدور الأمريكي البارز في توجيه العالم إلى العمل بالممارسة الديمقراطية، والإيمان بمبادئ حقوق الإنسان، واستخدام القوة لتأكيد سيادة قيم التحرر والسلام ونبذ العنف والحرب».
بعد استعراض هذه الآراء، حرصت الكاتبة على تمرير موقفها من خلال شخصية نجمة التي عبرت عن موقفها السلبي مما تسمع، حيث أحست بالامتعاض وخيبة الأمل في النسوة اللواتي تدافع عنهن، «نساء يلدن أجنة مشوهة»، وعبّرت بصوت مسموع عن ذلك قائلة: «أنتن تصبنني بخيبة الأمل، أأنتن النسوة اللاتي أدافع عنهن؟! وا أسفاه».
لقد كشفت الكاتبة عن الازدواجية والانفصام اللذين يعيش فيهما العقل العربي، وترزح تحت سلطتهما النخبة المثقفة، عقل يطمح إلى حرية جزئية داخل المجتمع ويرغب في عبودية كبيرة، فيصرخ على لسان د. رحاب “نحن في حاجة إلى أمريكا، لتحكمنا وتقودنا، وتعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، وعلى الكاتبات أن يروّجن لذلك، أمريكا هي الأفضل».
صورة مصغرة
يلخص المشهد صورة مصغرة عما يدور في اجتماعات النخب الثقافية العربية، بين مؤيد للغرب وسياسته وإعجابه بما يقدّم، وقابليته لأن يكون مستعمرة له، وبين من يقاوم هذه الإمبريالية وهذه العولمة، خاصة في شقها الثقافي، مما يوصل بعض العقول إلى حالة من الانفصام تبدو معها تلك الشخصيات - كما وصفتها الكاتبة - «غريبة الأطوار، متناقضة تعيش نوعًا من الازدواجية، تكتسب من الضغط النفسي سلوكًا خبلًا، تتأرجح بين السكينة والمشاغبة، وبين الاستغراق في التأمل والهذيان».
وتصل الغرابة حد الوعي بالمفارقة ومحاولة تبرير التناقض، كما يبدو في موقف رحاب التي حسمت رأيها بقولها: «لا أحب التشدق بالحديث عن ازدواجية المعايير، نحن العرب من يكيلون بمكيالين، ونحن من يعشقون الخطوط المتعرجة».
ومع كل ما بدا من صراع فكري داخل الديوانية، إلا أن نجمة تصر على قيمة هذا المجلس فتحدد قيمته التاريخية باعتباره إرثًا ثقافيًّا تضرب تقاليده بجذورها في تاريخ البلد، فترى أنه يقدم صورة عن طبيعة مجتمعها وما يتسم به أهلها من قيم التسامح وقبول للرأي الآخر.
إن الديوانية، في نظرها، هي النواة الصلبة لمجتمعها الديمقراطي، فهو مجلس يومي أو أسبوعي يلتقي فيه الأصدقاء والمعارف لتبادل الرأي والنقاش. ولعل التمسك به لا يرجع فقط إلى الحرص على التمسك بتقاليد الأجداد، أو أنه مجرد فرصة لتلاقي الأصدقاء، وإنما تستمد الديوانية قيمتها من كونها «مؤسسة ثقافة واجتماعية لها رسالتها المجتمعية وسنتها المتفق عليها بين الجميع».
احترام الاختلاف
تستند العلي في روايتها هذه إلى رؤية حضارية عميقة تؤسس الاختلاف وتبئّر النقط المضيئة لدى الآخر، بل إن أي ذات داخل الرواية إلا وتجد لها موقعًا محترمًا، وتحصل على ما تبحث عنه في دواخلها من كل ما هو إيجابي، ولو بدا ضئيلًا لدى الآخر لتبني عليه الاحترام والمحبة، وتطمس، ما أمكنها ذلك، العناصر المسببة للصدام والقطيعة والصراع، إلى درجة أن بيت نجمة، باعتبارها الصوت الأقرب إلى صوت الكاتبة، صار جامعة عربية بمواصفات مثالية، في نقد سياسي مضمر للجامعة العربية الحقيقية، وهو ما تفخر به نجمة وتعتز به، وتؤكده الساردة قائلة: «كانت نجمة تفخر بأنها حوّلت بيتها إلى جامعة مصغرة للدول العربية والدول الصديقة، وتؤكد دائمًا أن جامعة الدول العربية والصديقة في بيتها تتميز عن الجامعة العربية الأم، بيت العرب، الأعضاء عندها لا يختلفون، وإن اختلفوا لا يتشاجرون، وإن تشاجروا لا تشتبك أيديهم أو يسبّ بعضهم بعضًا، أو تعلو الأحذية، وتصفهم في كبرياء بأنهم يتعاملون بأسلوب حضاري، أصواتهم لا ترتفع، في الاتفاق والاختلاف، في النقاش والجدل، كل منهم يحترم رأي الآخر، يلتمسون الحجّة والدليل فيما يذهبون إليه من أحكام، كما أن رواتبهم ومستحقاتهم لا تتأخر، يحصلون عليها في موعد محدد كل شهر، لأن كل فرد من القائمين على شؤون المنزل، نجمة وزوجها سالم، ملتزم بدفع حصته دون مماطلة أو تسويف"
ثقافة الانتفاع وقيم الفردانية
في «غرف متهاوية» انتقاد لاذع لصورة الذات الفردانية في تجلياتها الانتهازية والاستغلالية والأنانية، بل وفي ثورتها على قيمة العائلة، بما تمثّله الأبوة والأخوة ورفضها لأي وازع يذكّرها بوجوب احترام هذه الرابطة الإنسانية حين تغيب المصلحة. فالمصلحة، أي الحصول على الإرث من أب لا يزال حيًّا، هدف تموت في سبيله كل القيم. وهذا الموقف الذي تمثّله شخصية أرشيدان. كما أن الحقد على صديقة ناجحة قد يكون هدفًا تقتل في سبيله قيم النبل والوفاء.
ولأن الأشياء تتميز بضدها، فقد سعت الكاتبة إلى تقديم نماذج لتمثيل الوفاء والنبل، مثل العم بكر والصديقة علياء، مما يساهم في تقديم النموذج الإنساني في صورة إيجابية ومشرقة، ملؤها الإنسانية والمساعدة والتسامح.
ارتأت الكاتبة إبراز الصراع القوي الذي صار واضحًا بين القيم الفردانية والتمسك بالقيم الرومانسية الحالمة، ولبيان ذلك جليًّا اختارت تقديم شخصيات تنتمي إلى أحد هذين القطبين الفكريين، وسنمثّل لذلك بالتركيز على صورة الشخصيتين الرئيستين، كما قدمتهما الكاتبة وتحليل الجوانب الدالة على قدرتهما التمثيلية لأحد النموذجين الفكريين:
- شخصية نجمة/ النموذج الرومانسي
اختارت الكاتبة أن تقدم نجمة باعتبارها كاتبة روائية مشهورة تتهافت عليها دور النشر لطبع أعمالها، وتحظى كتبها بالمتابعة الصحفية حتى قبل طبعها ، تحمل دائمًا في حقيبتها «أوراقًا وأقلامًا وكتابًا اختارته من مكتبتها لتقرأه في الوقت المناسب» ، كثيرة القراءة والكتابة إلى درجة تعب العينين. كما أنها شخصية حالمة مثالية «كأنها تزرع شجرة توت لتواري بها سوءات العالم» ، تتحدث مع القمر وتناجيه، و«تمنت لو تبقى لها العمر أن تكتب عن حبها له كتابًا تصفه فيه».
تشيع جوًّا رومانسيًّا حتى في تربية أبنائها، مما شكل طبيعة نظرتهم، فابنها حمد «بادرها بما تعودت عليه من كلماته المعسولة، وكأنه يتحدث إلى الجيوكاندا، أو يستدعي أنطونيو فيفالدي، ليعزف لها موسيقى الفصول الأربعة في الريف الإيطالي»
شخصية طيبة تحب الخير للجميع وتضع ثقة عمياء فيمن حولها، لكنها في قرارة نفسها تتمنى لو كانت عملية مثل أختها أرشيدان ، غير أنها شخصية فيها بعض التناقض، ومن مظاهر ذلك أنها تدافع عن المرأة باعتبارها فكرًا وليست جسدًا فقط، وفي المقابل تملك متجرًا «لبيع الملابس النسائية والعطور ومستحضرات التجميل والجوارب ومستلزمات النساء لإبراز جمالهن من الأجهزة الكهربائية، كماكينة تصفيف الشعر وتقليم الأظافر وتدليك الجسم وغيرها.
كما أنها مناضلة نسوية تدافع عن حقوق المرأة، وأسست جريدة سمتها «جريدة المرأة» لتحقيق ذلك ، لكنها في المقابل حريصة على العادات والتقاليد وتحترم الأعراف الاجتماعية ، في موازاة رفض الأخت لذلك تمامًا. وتحضر مجلس «الديوانية» بهيلمانها المثالي الذي يمكن إلحاقه بعوالمها الخاصة.
- شخصية أرشيدان/ النموذج الفرداني
على امتداد الرواية تعمدت الكاتبة وصف هذه الشخصية بما يجعلها نموذجًا للإنسان المادي الخالي من كل القيم، فهي شخصية تتسم بالثقة والكبرياء، لها قدرة على إخفاء خيباتها العاطفية جراء فقدانها دليل عفتها في مجتمع لا يقبل بذلك، وفي المقابل تضحك ضحكات مجلجلة من خيبات الآخرين ومصائبهم، ولا تراها مثيرة للشفقة بقدر ما هي مثيرة للدهشة.
تصف الكاتبة هذه الشخصية بأن لديها خبرة في تقييم الآخرين بحكم دراستها في علم النفس ، وهذا ما يعضد سلطة المعرفة داخل الرواية، حيث إن العلم والمعرفة وسيلتان لمعرفة التعامل مع الآخرين والحكم عليهم بصورة صائبة، لكن في المقابل نجدها تسقط في تعميم الأحكام حين تفكر في الرجال كأنهم شياطين يتحركون في الأرض، وليس لها من سبيل في التعامل معهم إلا بالحيطة والحذر.
كما أنها تراهُن جميعًا خائنين، إما فعليًّا وإما مع وقف التنفيذ، فضلًا عن أنها شخصية تفتقد لأي إحساس عاطفي تجاه الأسرة، والأب على وجه الخصوص الذي جاءت من أجل إقامة دعوى حجر عليه للحصول على نصيبها من ماله، ولا تضيّع وقتها لتحقيق هدفها، وتستغل كل الوسائل الممكنة من ذلك وإن كانت غير مشروعة. إنها شخصية عملية، الكلمات التي تخرج من فمها رصاص، تظهر براءتها مصطنعة وتحسن توظيف الآخرين لمصلحتها.
ولتحقيق التوازن داخل الرواية وإدارة الصراع الدرامي، حشدت الكاتبة كل صفات النبل والرقة والوداعة للمثقف الحالم الرومانسي المثالي الذي يرى الحياة كلها ملونة بالوردي لا تشوبها شائبة، وكافة صفات الخسة والقبح والنذالة واللؤم للشخصية النفعية التي لا ترى في الحياة إلا الأمور المادية.
ولعل ما أسبغته الكاتبة على شخصيتي نجمة وأرشيدان كان كفيلًا بأن تكونا نموذجين لهاتين الفئتين من الناس. وحرصت الكاتبة على بيان أن الفئة الأولى هي التي تنتصر بفضل قوة القدر الذي يحميها ويلحق الأذى بأعدائها الأشرار، كما تكشف لنا نهاية الرواية، حيث تقتل نوال وأرشيدان في حادثة سير غامضة.
وإمعانًا في الرومانسية تصر الكاتبة على كشف مشاعر نجمة التي «بكت صداقة عمرها من عمر النضوج والاكتمال، بكت أخوة شاردة لم يلم شملها ود أو صلة رحم، بكت زمنًا من الوجع، آلامه ليست مرشحة للنسيان، لم تكن نجمة تريد هذه النهاية، رغم ما عانته من ظلمة في انتظار قدوم الفجر»
على سبيل الختم
بلغة راقية وجميلة ووصف دقيق وفاتن، وبرؤية فنية وفكرية واضحة، تكشف الكاتبة د. فاطمة العلي عن امتلاكها طاقة عالية في الكتابة الروائية، فهي تمتلك عينًا راصدة لتفاصيل الحياة اليومية، ومعرفة عالية بما توظفه من عوالم، ولغة جميلة تترفع عن الابتذال وتمنح المتعة المنشودة من القارئ، وقدرة هائلة على الوصف تؤهلها للرصد والتتبع، وإحساسًا عاليًا يعمّق الوعي بالأشياء، وقدرة على نقل الإحساس ذاته بقوة على الورق.
إن هذه المقومات، وغيرها، جعلت الأبواب والنوافذ مشرعة أمام القارئ ليتأمل ذاته، ويرى العالم من حوله، وليكتشف ما كان مخبّأ داخل غرفه المتهاوية .