سُلطة المعرفة في بناء المتخيل السردي في «غرف متهاوية» للروائية فاطمة العلي

سُلطة المعرفة في بناء المتخيل السردي في «غرف متهاوية» للروائية فاطمة العلي

النص‭ ‬الروائي‭ ‬الناجح‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يسمح‭ ‬داخله‭ ‬بالتقارب‭ ‬بين‭ ‬العوالم‭ ‬المختلفة،‭ ‬ويمكِّنُ‭ ‬القارئ‭ ‬من‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬السردي،‭ ‬ليس‭ ‬بوصفه‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬والوقائع‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬باعتباره‭ ‬عالمًا‭ ‬متخيلاً‭ ‬خاصًا‭ ‬يموج‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الحركة‭ ‬المستمرة‭ ‬والدوران‭ ‬الدائم،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وعالمًا‭ ‬معرفيًّا‭ ‬يقدم‭ ‬رؤية‭ ‬الكاتب‭ ‬حول‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬تؤرقه‭. ‬

ولعل‭ ‬هذا‭ ‬التضافر‭ ‬بين‭ ‬الحس‭ ‬الجمالي‭ ‬والبعد‭ ‬المعرفي‭ ‬هو‭ ‬الكفيل‭ ‬بتقديم‭ ‬نص‭ ‬إبداعي‭ ‬مفيد‭ ‬وماتع،‭ ‬بعيدٍ‭ ‬عن‭ ‬الغرق‭ ‬في‭ ‬لعبة‭ ‬تجريبية‭ ‬شكلية‭ ‬محضة،‭ ‬لأن‭ ‬النص‭ ‬الجميل‭ ‬مهما‭ ‬بدا‭ ‬تقليديًّا‭ ‬شكلاً،‭ ‬ففيه‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬التجريب،‭ ‬لكنه‭ ‬ليس‭ ‬القدر‭ ‬الذي‭ ‬يمارس‭ ‬تدميرًا‭ ‬كليًّا‭ ‬للمعنى،‭ ‬وليس‭ ‬إصرارًا‭ ‬على‭ ‬الخواء‭ ‬والغياب‭ ‬واللاجدوى،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬عمقه‭ ‬تفكيك‭ ‬للبنى‭ ‬الداخلية‭ ‬للنص،‭ ‬تمهيدًا‭ ‬لانفتاح‭ ‬المعنى‭ ‬وتعدده‭. ‬

من‭ ‬خلال‭ ‬فهم‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬التي‭ ‬ندافع‭ ‬عنها،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يدرك‭ ‬القارئ‭ ‬سر‭ ‬اختيارنا‭ ‬لرواية‭ ‬‮«‬غرف‭ ‬متهاوية‮»‬‭ ‬للروائية‭ ‬فاطمة‭ ‬يوسف‭ ‬العلي‭ ‬متنًا‭ ‬لهذه‭ ‬الدراسة‭.‬

فهذه‭ ‬الرواية‭ ‬تحقق‭ ‬قيمتها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قدرة‭ ‬الروائية‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬منظومة‭ ‬من‭ ‬التفاعلات،‭ ‬تمكّنها‭ ‬من‭ ‬إبداع‭ ‬اللاممكن‭ ‬من‭ ‬الممكن،‭ ‬والمتحرك‭ ‬من‭ ‬الثابت‭. ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬إقامة‭ ‬التوافق‭ ‬بين‭ ‬النظام‭ ‬واللانظام،‭ ‬والمراوحة‭ ‬بين‭ ‬سلطة‭ ‬المعيار‭ ‬الفني،‭ ‬وشهوة‭ ‬المغايرة‭ ‬والاختلاف‭ ‬الفكري‭ ‬والمعرفي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬منح‭ ‬نصها‭ ‬الروائي‭ ‬المنسوب‭ ‬الضروري‭ ‬للنجاح‭.‬

إن‭ ‬التجريب‭ ‬داخل‭ ‬روايــة‭ ‬‮«‬غرف‭ ‬متهـــاوية‮»‬‭ ‬ليس‭ ‬ضد‭ ‬النظام‭ ‬الفنـــي‭ ‬في‭ ‬كليته،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬تجريب‭ ‬جزئي‭ ‬بما‭ ‬تستضيفه‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬أجناس‭ ‬صغرى‭ ‬وما‭ ‬توظفه‭ ‬من‭ ‬أحلام‭ ‬وكوابيس‭ ‬واسترجاع‭.‬

فالكاتبة‭ ‬حافظت‭ ‬على‭ ‬البنية‭ ‬المتداولة‭ ‬للنص‭ ‬الروائي‭ ‬باحترام‭ ‬خطية‭ ‬السرد‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكسرها‭ ‬إلا‭ ‬نادرًا؛‭ ‬وإنما‭ ‬تجريبها‭ ‬انصبّ‭ ‬على‭ ‬رفد‭ ‬روايتها‭ ‬بالبعد‭ ‬المعرفي‭ ‬وبالموقف‭ ‬الثقافي‭ ‬إزاء‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬يعانيها‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭ ‬ويتلبس‭ ‬بها،‭ ‬وبذلك‭ ‬فالتجريب‭ ‬لديها‭ ‬هو‭ ‬نقل‭ ‬النص‭ ‬من‭ ‬نظام‭ ‬معرفي‭ ‬بسيط‭ ‬وعادي‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيدًا‭ ‬وتعددًا،‭ ‬يوازي‭ ‬ما‭ ‬يعرفه‭ ‬العالم‭ ‬الحقيقي‭ ‬من‭ ‬تعقيد‭ ‬وتعدد،‭ ‬وما‭ ‬تحسّه‭ ‬الذات‭ ‬داخل‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬تشظٍّ‭ ‬وخواء‭ ‬وقلق‭. ‬فكلما‭ ‬انطوى‭ ‬الدال‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬التباين‭ ‬والمغايرة،‭ ‬وكلما‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬صخبًا‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬معناه‭ ‬وإظهاره،‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬فاعلية‭ ‬وقوة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬مشروع‭ ‬تفكيك‭ ‬وتذويب‭ ‬البنيات‭ ‬القائمة‭.‬

إن‭ ‬قارئ‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬الجميلة‭ ‬والعميقة‭ ‬يحس‭ ‬أنه‭ ‬أمام‭ ‬نص‭ ‬إبداعي‭ ‬لا‭ ‬ينسلخ‭ ‬عن‭ ‬هويته،‭ ‬وفي‭ ‬الآن‭ ‬نفسه‭ ‬يبني‭ ‬حداثته‭ ‬على‭ ‬طريقته؛‭ ‬يطور‭ ‬ملامحه،‭ ‬ويعدل‭ ‬جمالياته‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬امتطاء‭ ‬ما‭ ‬تفتحه‭ ‬التطورات‭ ‬المعرفية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬من‭ ‬إمكانات‭ ‬وآفاق،‭ ‬وعبر‭ ‬رصد‭ ‬ما‭ ‬يروج‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الثقافية‭ ‬من‭ ‬تصورات،‭ ‬خاصة‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بقضية‭ ‬الرجل‭ ‬والمرأة‭ ‬والصور‭ ‬النمطية‭ ‬التي‭ ‬تحملها‭ ‬كل‭ ‬طبقة‭ ‬اجتماعية‭ ‬عن‭ ‬أخرى،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الخليجي‭ ‬الذي‭ ‬ينفتح‭ ‬على‭ ‬اليد‭ ‬العاملة‭ ‬الوافدة‭ ‬من‭ ‬أقطار‭ ‬متباينة‭.‬

 

شعرية‭ ‬العنوان

يستمد‭ ‬العنوان‭ ‬سلطته‭ ‬من‭ ‬مركزيته‭ ‬التي‭ ‬يوليه‭ ‬إياها‭ ‬النقد‭ ‬الحديث،‭ ‬باعتباره‭ ‬علامة‭ ‬أساسية‭ ‬للمصاحب‭ ‬النصي،‭ ‬وبوصفه‭ ‬ذا‭ ‬تمظهرات‭ ‬متعددة‭ ‬وتشكيلات‭ ‬متنوعة،‭ ‬فهو‭ ‬قد‭ ‬يوازي‭ ‬النصوص‭ ‬الإبداعية‭ ‬فيكون‭ ‬مكونًا‭ ‬خارجيًا‭ ‬عنها،‭ ‬وقد‭ ‬يتقاطع‭ ‬معها‭ ‬فيكون‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬النص‭.‬

اختارت‭ ‬الروائية‭ ‬العلي‭ ‬عنوانًا‭ ‬شعريًا‭ ‬بامتياز،‭ ‬رغم‭ ‬بساطته‭ ‬الظاهرة‭ ‬واقتصاده‭ ‬الواضح‭. ‬فالغرف‭ ‬لا‭ ‬تتهاوى‭ ‬ماديًّا‭ ‬بشكل‭ ‬مستقل‭ ‬شأنها‭ ‬شأن‭ ‬البنايات،‭ ‬لذا‭ ‬يمكن‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬التهاوي‭ ‬بصفته‭ ‬تداعيًا‭ ‬قيميًّا‭ ‬وأخلاقيًّا،‭ ‬فالغرف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الأسر‭ ‬أو‭ ‬الدول‭ ‬أو‭ ‬المؤسسات‭ ‬بكل‭ ‬أشكالها‭. ‬

وفي‭ ‬استعمال‭ ‬دال‭ ‬‮«‬غرف‮»‬‭ ‬نكرة‭ ‬يعمق‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭. ‬فالحديث‭ ‬ليس‭ ‬عن‭ ‬غرف‭ ‬معروفة‭ ‬ومعلومة،‭ ‬وإنما‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬مجهول‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬النعت‭ ‬‮«‬متهاوية‮»‬‭ ‬في‭ ‬تعريفه‭ ‬وبيانه،‭ ‬مما‭ ‬يسمح‭ ‬بتأويل‭ ‬الغرف‭ ‬بالقيم‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬قاطنيها،‭ ‬أي‭ ‬العلاقات‭ ‬الأسرية‭ ‬المتهاوية‭ ‬بين‭ ‬نجمة‭ ‬وأختها،‭ ‬وبين‭ ‬الأخت‭ ‬والأب‭ ‬حول‭ ‬الميراث،‭ ‬وبين‭ ‬نجمة‭ ‬وسالم‭ ‬بعد‭ ‬واقعة‭ ‬الخيانة،‭ ‬أو‭ ‬تأويلها‭ ‬بالمؤسسات‭ ‬السياسية‭ ‬المتهاوية‭ ‬بعد‭ ‬‮«‬ربيع‮»‬‭ ‬عربي‭ ‬أسقط‭ ‬الأنظمة‭ ‬الهشة،‭ ‬وكشف‭ ‬عن‭ ‬وجود‭ ‬‮«‬دويلات‮»‬‭ ‬من‭ ‬ورق‭.‬

إن‭ ‬هذا‭ ‬التأويل‭ ‬الذي‭ ‬منحناه‭ ‬لهذا‭ ‬العنوان‭ ‬قد‭ ‬يسمح‭ ‬بالقول‭ ‬إن‭ ‬عنوان‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬يقرّبها‭ ‬من‭ ‬العناوين‭ ‬الموضوعية‭ ‬التي‭ ‬تحيل‭ ‬على‭ ‬النص‭ ‬ذاته‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬موضوعه،‭ ‬ويبعدها‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عناوين‭ ‬ذاتية‭ ‬تحيل‭ ‬على‭ ‬ذات‭ ‬الفاعل،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر،‭ ‬ويحتاج‭ ‬منا‭ ‬إلى‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬تأويله‭ ‬والاقتراب‭ ‬من‭ ‬دلالاته‭.‬

أما‭ ‬إذا‭ ‬انطلقنا‭ ‬من‭ ‬التصنيف‭ ‬الذي‭ ‬يميز‭ ‬بين‭ ‬عناوين‭ ‬موضوعاتية‭ ‬تحيل‭ ‬بطريقة‭ ‬معيّنة‭ ‬على‭ ‬مضمون‭ ‬النص‭ ‬وعناوين‭ ‬خطابية‭ ‬تحيل‭ ‬بطريقة‭ ‬معيّنة‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬النص‭ ‬أو‭ ‬جنسه‭ ‬الأدبي،‭ ‬فإننا‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬العنوان‭ ‬‮«‬غرف‭ ‬متهاوية‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يدل‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬وصريح‭ ‬على‭ ‬جنس‭ ‬النص،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يحيل‭ ‬على‭ ‬مضمون‭ ‬العمل‭ ‬مباشرة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬استدعى‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬ميثاق‭ ‬التجنيس‮»‬‭ ‬على‭ ‬غلاف‭ ‬الكتاب‭ ‬بالإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬رواية،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬العنوان‭ ‬بصيغته‭ ‬الأسلوبية‭ ‬وشحنته‭ ‬الدلالية‭ ‬يمهّد‭ ‬أمامنا‭ ‬الطريق‭ ‬لاكتشاف‭ ‬الاتجاه‭ ‬الأدبي‭ ‬الذي‭ ‬تتأطر‭ ‬ضمنه‭ ‬النصوص،‭ ‬وهو‭ ‬الاتجاه‭ ‬الرومانسي‭ ‬ذو‭ ‬اللغة‭ ‬الشفافة‭ ‬والإيحائية،‭ ‬والذي‭ ‬يشكّل‭ ‬أفق‭ ‬انتظارنا‭ ‬تجاه‭ ‬لغة‭ ‬الرواية،‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬جمالية‭ ‬رائقة‭ ‬الألفاظ،‭ ‬أنيقة‭ ‬التركيب،‭ ‬محملة‭ ‬بقدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الانزياح‭ ‬ومسافات‭ ‬التوتر‭.‬

 

وظيفة‭ ‬تواصلية

كلما‭ ‬زدنا‭ ‬اقترابًا‭ ‬من‭ ‬عنوان‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬تبيّن‭ ‬لنا‭ ‬أنه‭ ‬يشتغل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬وظيفة‭ ‬تواصلية،‭ ‬حيث‭ ‬يعوض‭ ‬السياق‭ ‬بمهمة‭ ‬وضع‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬الصورة،‭ ‬وإمداده‭ ‬بالحد‭ ‬الأدنى‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬الضرورية‭ ‬لاستيعاب‭ ‬النص‭ ‬وفهمه‭ ‬أولًا،‭ ‬ثم‭ ‬دفعه‭ ‬نحو‭ ‬التأويل‭ ‬الخلاق‭ ‬الذي‭ ‬يحاول‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬تبرير‭ ‬الدهشة‭ ‬الجمالية‭ ‬التي‭ ‬تدهمه‭ ‬ثانيًا‭. ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يشتغل‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬ذاته‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تحقيق‭ ‬الوظيفة‭ ‬الإيحائية،‭ ‬المحققة‭ ‬للإغراء‭ ‬وإغواء‭ ‬القارئ،‭ ‬لأننا‭ ‬أمام‭ ‬منتج‭ ‬يقدمه‭ ‬الناشر‭ ‬للاستهلاك‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتطلب‭ ‬حضور‭ ‬هذه‭ ‬الجرعة‭ ‬من‭ ‬الجذب‭ ‬والإشهار‭.‬

لقد‭ ‬نجح‭ ‬العنوان‭ ‬في‭ ‬إنجاز‭ ‬هذه‭ ‬الوظائف‭ ‬بسبب‭ ‬كثافته‭ ‬الشعرية‭ ‬وقوته‭ ‬الدلالية،‭ ‬وبذلك‭ ‬استحق‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هوية‭ ‬للنص‭ ‬ومؤلفته،‭ ‬ومعنى‭ ‬قويًّا‭ ‬يلخّص‭ ‬مضامين‭ ‬النص‭ ‬العامة،‭ ‬وإيحاء‭ ‬جماليًّا‭ ‬عالي‭ ‬القدرة‭ ‬الإبداعية‭. ‬وهي‭ ‬ملامح‭ ‬متداخلة‭ ‬إلى‭ ‬الحد‭ ‬الذي‭ ‬يصعب‭ ‬معها‭ ‬كشف‭ ‬ملمح‭ ‬دون‭ ‬آخر‭.‬

شكّل‭ ‬العنوان‭ ‬‮«‬غرف‭ ‬متهاوية‮»‬،‭ ‬إذن،‭ ‬هوية‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬السردي‭ ‬الذي‭ ‬أنجزته‭ ‬الروائية‭ ‬العلي،‭ ‬باعتباره‭ ‬يدخل‭ ‬مع‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬تحمله‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬استبدالية،‭ ‬لأنه‭ ‬نص‭ ‬مختصر‭ ‬يحمل‭ ‬معنى‭ ‬في‭ ‬ذاته،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬المعنى‭ ‬تامًا‭ ‬أو‭ ‬جاء‭ ‬ناقصًا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تأويل‭ ‬يكمله‭. ‬وهذا‭ ‬التمام‭ ‬أو‭ ‬النقص‭ ‬مقصود‭ ‬لذاته،‭ ‬لكونه‭ ‬يدفع‭ ‬المتلقي‭ ‬نحو‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬المتداخلة‭ ‬والمترابطة،‭ ‬ثم‭ ‬إنه‭ ‬إيحاء،‭ ‬لأنه‭ ‬عنوان‭ ‬ينزاح‭ ‬عن‭ ‬المألوف‭ ‬دلاليًّا‭ ‬وتركيبيًّا،‭ ‬مهما‭ ‬بدا‭ ‬للقارئ‭ ‬العادي‭ ‬واضحًا‭ ‬وعاديًّا‭ ‬ومستقلاً،‭ ‬ولأنه‭ ‬ينزع‭ ‬بقارئه‭ ‬نحو‭ ‬التأويل‭ ‬وطرح‭ ‬الأسئلة‭ ‬عن‭ ‬معانيه‭ ‬ودلالاته،‭ ‬وسر‭ ‬هذا‭ ‬الربط‭ ‬التركيبي‭ ‬بين‭ ‬مكوناته،‭ ‬ومدى‭ ‬تواشجه‭ ‬والتحامه‭ ‬مع‭ ‬النص‭ ‬الذي‭ ‬يحمله‭ ‬أو‭ ‬تنافره‭ ‬معه،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬ارتباطه‭ ‬أو‭ ‬إحالته‭ ‬على‭ ‬مرجع‭ ‬خارجي‭ ‬يتعالق‭ ‬معه،‭ ‬ويساهم‭ ‬في‭ ‬تفسيره‭ ‬وشحنه‭ ‬بالدلالات‭ ‬الرمزية‭ ‬المطلوبة‭ ‬وإمداده‭ ‬بطاقة‭ ‬جمالية‭ ‬إضافية،‭ ‬توسّع‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬مختزلاً‭ ‬وتكشف‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬مكثفًا‭.‬

فالعنوان‭ ‬معبر‭ ‬القارئ‭ ‬نحو‭ ‬النص،‭ ‬ودونه‭ ‬يدخل‭ ‬القارئ‭ ‬متاهة‭ ‬النص‭ ‬دون‭ ‬دليل‭ ‬أو‭ ‬مرشد‭. ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬نتذكر‭ ‬إحساسًا‭ ‬ينتابنا‭ ‬كلما‭ ‬عثرنا‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬مبتور،‭ ‬بلا‭ ‬غلاف‭ ‬ودون‭ ‬خطاباته‭ ‬الموازية‭ ‬الأولى،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬ممزق،‭ ‬فإن‭ ‬ثقتنا‭ ‬بالمكتوب‭ ‬تتزحزح،‭ ‬إنها‭ ‬تعادل‭ ‬هزّة‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬لقيط‭.‬

 

الوهج‭ ‬الرومانسي‭ ‬في‭ ‬الرؤية‭ ‬والتعبير

ترفل‭ ‬‮«‬غرف‭ ‬متهاوية‮»‬‭ ‬للروائية‭ ‬العلي،‭ ‬في‭ ‬رومانسية‭ ‬باذخة،‭ ‬مضمونا‭ ‬وشكلًا‭. ‬فالرواية‭ ‬اختارت‭ ‬بطلة‭ ‬تتمتع‭ ‬بسمات‭ ‬خاصة،‭ ‬فهي‭ ‬مثقفة‭ ‬وكاتبة‭ ‬روائية‭ ‬مشهورة،‭ ‬مرهفة‭ ‬الإحساس‭. ‬وقد‭ ‬بدأت‭ ‬الرواية‭ ‬بإبراز‭ ‬العلاقة‭ ‬العاطفية‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬بين‭ ‬الكاتبة‭ ‬نجمة‭ ‬والقمر،‭ ‬فقد‭ ‬‮«‬كانت‭ ‬نجمة‭ ‬تحب‭ ‬القمر،‭ ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تحب‭ ‬غيره‭ ‬في‭ ‬دنيا‭ ‬البشر،‭ ‬لها‭ ‬معه‭ ‬ذكريات‭ ‬كثيرة‭ ‬تناجيه‭ ‬ويناجيها،‭ ‬تناديه‭ ‬فيلبي‭ ‬نداءها،‭ ‬كانا‭ ‬يجتمعان‭ ‬في‭ ‬موعد‭ ‬ثابت‭ ‬كل‭ ‬شهر،‭ ‬يوم‭ ‬الرابع‭ ‬عشر،‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬بدرًا،‭ ‬وتكون‭ ‬هي‭ ‬أشعة‭ ‬من‭ ‬صفاء،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬خارج‭ ‬الكويت‭.‬

تعودت‭ ‬أن‭ ‬يبتسم‭ ‬لها‭ ‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬تصافح‭ ‬بدره،‭ ‬يرسل‭ ‬إليها‭ ‬حارسًا‭ ‬من‭ ‬أنواره‭ ‬المتلألئة،‭ ‬يصغي‭ ‬إليها‭ ‬وهي‭ ‬تبثه‭ ‬وجعًا‭ ‬أو‭ ‬تأتمنه‭ ‬سرًا ".‬

ولا‭ ‬يخفى‭ ‬على‭ ‬القارئ‭ ‬أن‭ ‬العلاقة‭ ‬مع‭ ‬القمر‭ ‬تعد‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬القرائن‭ ‬الدالة‭ ‬على‭ ‬النزوع‭ ‬الرومانسي‭. ‬وفي‭ ‬انتصار‭ ‬نجمة‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬أعداء‭ ‬طيبتها‭ ‬وقلبها‭ ‬المسامح‭ ‬الذين‭ ‬يمثلون‭ ‬الخط‭ ‬الواقعي‭ ‬في‭ ‬أبشع‭ ‬صوره‭ ‬النفعية‭ (‬صديقتها‭ ‬نوال‭ ‬–‭ ‬أختها‭ ‬الصغرى‭ ‬أرشيدان‭) ‬انتصار‭ ‬لهذا‭ ‬الخيار‭ ‬الرومانسي‭ ‬داخل‭ ‬الرواية‭.‬

تنطلق‭ ‬الحكايات‭ ‬الصغرى‭ ‬التي‭ ‬تشكّل‭ ‬متن‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ - ‬كما‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الرومانسي‭ ‬عمومًا‭ - ‬من‭ ‬الذات،‭ ‬حيث‭ ‬تلون‭ ‬الكاتبة‭ ‬بها‭ ‬لوحات‭ ‬قصصها،‭ ‬وتزخرف‭ ‬بها‭ ‬مشاعرها‭ ‬وتأملاتها‭ ‬ومواقفها‭ ‬تجاه‭ ‬الآخرين،‭ ‬سواء‭ ‬أكانت‭ ‬مشاهدة‭ ‬حسية‭ ‬أم‭ ‬روحية‭ ‬معنوية،‭ ‬مما‭ ‬يحيل‭ ‬الأجواء‭ ‬إلى‭ ‬شرود‭ ‬أو‭ ‬أوهام‭ ‬واستنزاف‭ ‬للذاكرة‭ ‬لاستعادة‭ ‬عوالم‭ ‬الطفولة‭ ‬البريئة‭ ‬التي‭ ‬صاحبتها‭ ‬طوال‭ ‬حياتها‭ ‬ولونت‭ ‬شخصيتها،‭ ‬واستحضار‭ ‬علاقتها‭ ‬مع‭ ‬القمر‭ ‬بكل‭ ‬مشاهده‭ ‬المغرية‭ ‬واستدراج‭ ‬الطبيعة‭ ‬لتلبس‭ ‬رداء‭ ‬الفرح،‭ ‬حيث‭ ‬‮«‬يتحول‭ ‬ماء‭ ‬البركة‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬القمر‭ ‬إلى‭ ‬حليب‮»‬‭ (‬ص‭ ‬9‭) ‬حين‭ ‬‮«‬نظرت‭ ‬نجمة‭ ‬إلى‭ ‬القمر‭ ‬بملء‭ ‬العين،‭ ‬فاستدار‭ ‬ونظر‭ ‬إليها‭ ‬بملء‭ ‬العين،‭ ‬ابتسمت‭ ‬له‭ ‬فابتسم‭ ‬لها،‭ ‬فاجأها‭ ‬بشعاع‭ ‬فضي،‭ ‬أرسله‭ ‬إليها‭ ‬وحدها،‭ ‬وحوّل‭ ‬لون‭ ‬ماء‭ ‬البركة‭ ‬إلى‭ ‬خيوط‭ ‬من‭ ‬ضياء‮»‬‭ (‬ص‭ ‬9‭)‬،‭ ‬مما‭ ‬يمكن‭ ‬النص‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يفصح‭ ‬عن‭ ‬طباعه‭ ‬الحكائية‭ ‬وأهدافه‭ ‬ومضامينه،‭ ‬حيث‭ ‬تنتصر‭ ‬الرومانسية‭ ‬الحالمة‭ ‬ببراءتها‭ ‬العميقة‭ ‬على‭ ‬النفعية‭ ‬المتوحشة‭ ‬بطمعها‭ ‬وأمراضها‭ ‬النفسية‭ ‬من‭ ‬حقد‭ ‬وحسد‭ ‬ولؤم‭.‬

 

حرب‭ ‬قذرة

تنطلق‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬حدث‭ ‬بسيط،‭ ‬وهو‭ ‬مجيء‭ ‬أرشيدان‭ ‬من‭ ‬تركيا‭ ‬لتطالب‭ ‬بحقها‭ ‬في‭ ‬الميراث‭ ‬من‭ ‬أب‭ ‬ثري‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬والحجر‭ ‬عليه‭ ‬إذا‭ ‬عجزت‭ ‬عن‭ ‬إقناعه،‭ ‬ومعارضة‭ ‬الأخت‭ ‬الكبرى‭ ‬نجمة‭ ‬لذلك،‭ ‬مراعاة‭ ‬للأخلاق‭ ‬ونفسية‭ ‬الأب‭ ‬المريض‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يموت‭ ‬إذا‭ ‬علم‭ ‬بذلك‭. ‬

سيتحول‭ ‬العجز‭ ‬عن‭ ‬تحقيق‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬قذرة‭ ‬تخوضها‭ ‬الأخت‭ ‬الصغرى،‭ ‬موظّفة‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تملك‭ ‬من‭ ‬دهاء‭ ‬ومكر‭ ‬ووقاحة‭ ‬ضد‭ ‬أبيها‭ ‬وأختها‭ ‬الكبرى،‭ ‬وتصل‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬رفع‭ ‬الدعوى‭ ‬القضائية‭ ‬ضد‭ ‬أبيها،‭ ‬وإغواء‭ ‬زوج‭ ‬أختها‭ ‬وتوريطه‭ ‬في‭ ‬الخيانة‭ ‬الزوجية‭ ‬مع‭ ‬نوال،‭ ‬الوجه‭ ‬الآخر‭ ‬لأمراض‭ ‬القلب،‭ ‬وإعلام‭ ‬نجمة‭ ‬بذلك‭ ‬لتدمير‭ ‬علاقتهما‭ ‬الزوجية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تدمير‭ ‬حياتها‭ ‬كليًّا،‭ ‬لتنفّس‭ ‬نوال‭ ‬عن‭ ‬حقدها‭ ‬الدفين‭ ‬ضدها‭.‬

ولتصور‭ ‬الكاتبة‭ ‬ما‭ ‬صار‭ ‬عليه‭ ‬الراهن‭ ‬من‭ ‬فساد‭ ‬للقيم‭ ‬وسيولتها‭ ‬تعرض‭ ‬قصصًا‭ ‬صغرى‭ ‬كقصة‭ ‬لوزة‭ ‬وزوجها‭ ‬سميح‭ ‬اللذين‭ ‬استغلا‭ ‬ثقة‭ ‬نجمة‭ ‬ليديرا‭ ‬محلها‭ ‬التجاري‭ ‬لصالحهما،‭ ‬ليجنيا‭ ‬أرباحًا‭ ‬هائلة‭ ‬ويلوذا‭ ‬بالفرار،‭ ‬والخيانة‭ ‬الزوجية‭ ‬التي‭ ‬تعرضت‭ ‬لها‭ ‬علياء‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬زوجها‭ ‬بعد‭ ‬زواجهما‭ ‬بوقت‭ ‬وجيز،‭ ‬لكن‭ ‬تفاديًا‭ ‬للإغراق‭ ‬في‭ ‬السوداوية‭ ‬وإعلان‭ ‬الإفلاس‭ ‬التام‭ ‬للقيــــم،‭ ‬وتحقيقًا‭ ‬للتوازن،‭ ‬تدعم‭ ‬الكاتبة‭ ‬روايتها‭ ‬بقصص‭ ‬الوفاء‭ ‬والحب‭ ‬كوفاء‭ ‬علياء‭ ‬لصديقتها‭ ‬نجمة‭ ‬ووقوفها‭ ‬معها‭ ‬ضد‭ ‬نوال‭ ‬وأرشيدان‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬نفَس‭.‬

وقصة‭ ‬حب‭ ‬الابن‭ ‬حمد‭ ‬لمديرة‭ ‬المنزل‭ ‬ميسون‭ ‬وإصراره‭ ‬على‭ ‬الزواج‭ ‬منها،‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬يستغلها‭ ‬جنسيًّا‭ ‬باعتبارها‭ ‬من‭ ‬الخدم،‭ ‬وتحول‭ ‬موقف‭ ‬نجمة‭ ‬من‭ ‬معارضة‭ ‬لهذا‭ ‬الزواج‭ ‬إلى‭ ‬موافقة‭. ‬

 

عالم‭ ‬حالم

بذلك‭ ‬تضعنا‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬العمق‭ ‬ضمن‭ ‬عالم‭ ‬رومانسي‭ ‬حالم‭ ‬ينتصر‭ ‬فيه‭ ‬الخير‭ ‬على‭ ‬الشر‭ ‬والوداعة‭ ‬على‭ ‬القسوة،‭ ‬ويتزوج‭ ‬المحبون‭ ‬وإن‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬طبقات‭ ‬اجتماعية‭ ‬مختلفة،‭ ‬مع‭ ‬اللجوء‭ ‬الدائم‭ ‬إلى‭ ‬الطبيعة‭ (‬القمر‭) ‬كملاذ‭ ‬وخلاص،‭ ‬وكأن‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬غرف‭ ‬متهاوية‮»‬‭ ‬استرجاع‭ ‬للعوالم‭ ‬المثالية‭ ‬المفقودة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬مادي‭.‬

وارتباطًا‭ ‬بالتجليات‭ ‬الرومانسية‭ ‬في‭ ‬‮«‬غرف‭ ‬متهاوية‮»‬‭ ‬تجلّى‭ ‬الحب‭ ‬قويًّا‭ ‬وجارفًا‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬كثيرة،‭ ‬لكن‭ ‬الدمار‭ ‬لحقه‭ ‬بسبب‭ ‬الخيانة‭ ‬المبكرة،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬علياء،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬استغلال‭ ‬جنسي‭ ‬عابر‭ ‬حطم‭ ‬جدار‭ ‬العفة‭ ‬حقيقة‭ ‬ومجازًا‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬أرشيدان،‭ ‬أو‭ ‬خيانة‭ ‬متأخرة‭ ‬بسبب‭ ‬المؤامرة‭ ‬والفراغ‭ ‬العاطفي،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬نجمة‭ ‬وسالم‭. ‬وفي‭ ‬مقابل‭ ‬ذلك‭ ‬يحضر‭ ‬الحب‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعترف‭ ‬بالفوارق‭ ‬الطبقية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬كقصة‭ ‬حمد‭ ‬المنتمي‭ ‬للطبقة‭ ‬الراقية‭ ‬باعتباره‭ ‬ابن‭ ‬كاتبة‭ ‬مشهورة‭ ‬ودبلوماسيًّا‭ ‬مرموقًا،‭ ‬وميسون‭ ‬الخادمة‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬تدبير‭ ‬شؤون‭ ‬البيت‭. ‬وفي‭ ‬انتصار‭ ‬هذا‭ ‬الحب‭ ‬انتصار‭ ‬للروح‭ ‬الرومانسية‭ ‬داخل‭ ‬الرواية،‭ ‬كما‭ ‬يحضر‭ ‬في‭ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬نجمة‭ ‬أمام‭ ‬خيانة‭ ‬الزوج،‭ ‬حيث‭ ‬تفاجئ‭ ‬القارئ،‭ ‬وعدوتها‭ ‬نوال‭ ‬أيضًا،‭ ‬بأنها‭ ‬لم‭ ‬تطلب‭ ‬الطلاق‭ ‬من‭ ‬زوجها‭ ‬واحتفظت‭ ‬بالزواج‭ ‬القائم،‭ ‬وكذا‭ ‬في‭ ‬حرص‭ ‬علياء‭ ‬على‭ ‬تذكّر‭ ‬الأوقات‭ ‬الجميلة‭ ‬القليلة‭ ‬مع‭ ‬زوجها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يخونها‭ ‬ويطلقها،‭ ‬مع‭ ‬تركيز‭ ‬تفكيرها‭ ‬على‭ ‬وداعته‭ ‬ورقّته‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬الدخلة‭ ‬بوصفها‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬سردها‭ ‬حين‭ ‬كل‭ ‬لقاء‭ ‬مع‭ ‬صديقاتها‭.‬

حرصت‭ ‬العلي‭ ‬على‭ ‬إبراز‭ ‬الثنائية‭ ‬بشكل‭ ‬قوي،‭ ‬كثنائية‭ ‬الوفاء‭ ‬والخيانة،‭ ‬العقل‭ ‬والعاطفة،‭ ‬الثقة‭ ‬والغدر،‭ ‬الرجل‭ ‬والمرأة،‭ ‬وكلها‭ ‬ثنائيات‭ ‬أحسنت‭ ‬توظيفها،‭ ‬مما‭ ‬جعلها‭ ‬وسيلة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬خلجات‭ ‬النفس‭ ‬الإنسانية‭ ‬ونزوات‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬شرود‭ ‬حالم،‭ ‬حيث‭ ‬الطبيعة‭ ‬والصمت‭ ‬واللغة‭ ‬اللطيفة‭ ‬والوصال‭ ‬اللاواعي‭ ‬والتعبير‭ ‬غير‭ ‬المفهوم‭ ‬عن‭ ‬حبها‭ ‬للقمر‭ ‬الذي‭ ‬تناجيه‭ ‬ويناجيها،‭ ‬هذا‭ ‬الحب‭ ‬الذي‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬الحب‭ ‬الصوفي،‭ ‬في‭ ‬اتساع‭ ‬رؤيته‭ ‬وضيق‭ ‬عبارته،‭ ‬وعجزها‭ ‬عن‭ ‬التعبير‭ ‬الدقيق‭ ‬عنه،‭ ‬وأمنيتها‭ ‬أن‭ ‬يسعفها‭ ‬العمر‭ ‬للكتابة‭ ‬عنه،‭ ‬هذا‭ ‬العجز‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬كونه‭ ‬حبًّا‭ ‬لانهائيًا‭ ‬ولا‭ ‬محدودًا‭.‬

 

مسحة‭ ‬حزن‭ ‬يائسة

‭ ‬لكن،‭ ‬رغم‭ ‬هذا‭ ‬الوصال،‭ ‬فإن‭ ‬الحب‭ ‬الإنساني‭ ‬العميق‭ ‬لكل‭ ‬الناس‭ ‬المتجلي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الثقة‭ ‬والتسامح‭ ‬وحب‭ ‬الخير‭ ‬للجميع‭ ‬الذي‭ ‬تحمله‭ ‬نجمة‭ ‬بين‭ ‬جوانحها‭ ‬أتى‭ ‬مغلفًا‭ ‬بمسحة‭ ‬حزينة‭ ‬يائسة‭ ‬أمام‭ ‬ضربات‭ ‬الواقع‭ ‬المؤلمة‭ ‬من‭ ‬مؤامرة‭ ‬نوال‭ ‬وأرشيدان‭ ‬للإيقاع‭ ‬بزوجها‭ ‬في‭ ‬براثن‭ ‬الخيانة،‭ ‬إلى‭ ‬غدر‭ ‬لوزة‭ ‬وسميح‭ ‬وخيانتهما‭ ‬لثقتها‭ ‬وسرقة‭ ‬أموالها،‭ ‬ومشوبًا‭ ‬بغربة‭ ‬بادية‭ ‬تستنزف‭ ‬الذاكرة‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬براءة‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬طفولة‭ ‬ماضية،‭ ‬ولو‭ ‬عبر‭ ‬الكتابة‭ ‬عما‭ ‬هو‭ ‬جميل،‭ ‬أو‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬قمرها‭ ‬وأزهار‭ ‬حديقتها‭ ‬التي‭ ‬تتحول‭ ‬أمامها‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬نثرية،‭ ‬أو‭ ‬خاطرة‭ ‬مسترسلة‭ ‬في‭ ‬دواليب‭ ‬المجاز‭ ‬والرمز،‭ ‬مستعينة‭ ‬بكل‭ ‬العبارات‭ ‬الكاشفة‭ ‬للاستغراق‭ ‬والتململ‭ ‬الداخلي‭ ‬والاهتزاز‭ ‬العاطفي‭ ‬المحقق‭ ‬لسعادة‭ ‬تقترب‭ ‬أحيانًا‭ ‬من‭ ‬النزوع‭ ‬المازوشي،‭ ‬ذي‭ ‬العذاب‭ ‬اللذيذ‭.‬

وقد‭ ‬تشذ‭ ‬الصورة‭ ‬أحيانًا‭ ‬عن‭ ‬المثالي‭ ‬لتعانق‭ ‬الحسي،‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تسقط‭ ‬في‭ ‬الابتذال‭ ‬كما‭ ‬بالعلاقات‭ ‬الغرامية‭ ‬في‭ ‬التصوير‭ ‬الواقعي،‭ ‬مما‭ ‬يولّد‭ ‬صورًا‭ ‬جمالية‭ ‬انعكست‭ ‬حتمًا‭ ‬على‭ ‬لغة‭ ‬النصوص‭ ‬التي‭ ‬تنضح‭ ‬شعرية‭ ‬ترفعها‭ ‬عن‭ ‬مستوى‭ ‬التقريرية‭ ‬والسرد‭ ‬الجاف،‭ ‬يسند‭ ‬ذلك‭ ‬توظيف‭ ‬مرجعي‭ ‬قوي‭ ‬للنصوص‭ ‬الشعرية‭ ‬والعبارات‭ ‬المجازية‭. ‬

كما‭ ‬أن‭ ‬الروائية‭ ‬حرصت‭ ‬على‭ ‬رفد‭ ‬روايتها‭ ‬بشتى‭ ‬المعارف‭ ‬والمعلومات‭ ‬الثقافية‭ ‬والفنية‭. ‬

فإلى‭ ‬جانب‭ ‬حديثها‭ ‬المستفيض‭ ‬عن‭ ‬أنواع‭ ‬النباتات‭ ‬والأزهار،‭ ‬أفردت‭ ‬بعض‭ ‬فقرات‭ ‬روايتها‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي،‭ ‬كما‭ ‬تجلت‭ ‬المتابعة‭ ‬الدقيقة‭ ‬للشأنين‭ ‬الثقافي‭ ‬والسياسي،‭ ‬خاصة‭ ‬الوضع‭ ‬الذي‭ ‬عاشه‭ ‬الخليج‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬تاريخه،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬العراقية‭ - ‬الإيرانية‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬سقوط‭ ‬نظام‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬وما‭ ‬تلته‭ ‬من‭ ‬تبعات‭ ‬سياسية‭ ‬واقتصادية‭ ‬على‭ ‬المنطقة‭.‬

لعل‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬ذكره‭ ‬يبرهن‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬‮«‬غرف‭ ‬متهاوية‮»‬‭ ‬رواية‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬متعة‭ ‬الحكي‭ ‬وصرامة‭ ‬بناء‭ ‬السرد‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يقدم‭ ‬صورة‭ ‬كاتبة‭ ‬مدركة‭ ‬لأبعاد‭ ‬الجنس‭ ‬الأدبي‭ ‬الذي‭ ‬تجترح‭ ‬نصوصها‭ ‬ضمنه،‭ ‬كما‭ ‬تقدم‭ ‬صورة‭ ‬المثقفة‭ ‬الملمة‭ ‬بثقافة‭ ‬عصرها‭ ‬الفنية‭ ‬والسياسية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬والحاملة‭ ‬لمشروع‭ ‬ترغب‭ ‬في‭ ‬تمريره‭ ‬عبر‭ ‬السرد،‭ ‬كما‭ ‬تمرره‭ ‬عبر‭ ‬الأنشطة‭ ‬الثقافية‭ ‬الموازية‭ ‬كافة‭.‬

 

سلطة‭ ‬الراهن‭ ‬ونقد‭ ‬الوعي‭ ‬المزيف

كان‭ ‬من‭ ‬المثير‭ ‬أن‭ ‬نعثر‭ ‬على‭ ‬تصورات‭ ‬فكرية‭ ‬ومواقف‭ ‬تجاه‭ ‬الراهن‭ ‬الفكري‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والسياسي‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬روائي‭ ‬نسائي،‭ ‬مما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نعده‭ ‬تقدمًا‭ ‬في‭ ‬موضوعات‭ ‬هذا‭ ‬الجنس‭ ‬الأدبي‭ ‬الملتبس،‭ ‬كما‭ ‬تتيح‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نقاربه،‭ ‬ونكشف‭ ‬عن‭ ‬مواقف‭ ‬الكاتبة‭ ‬الصريحة‭ ‬والضمنية‭ ‬تجاه‭ ‬قضايا‭ ‬العولمة‭ ‬والهيمنة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وما‭ ‬تستتبعه‭ ‬من‭ ‬جوانب‭ ‬فكرية‭ ‬أساسًا،‭ ‬كالحوار‭ ‬الحضاري‭ ‬ومنطق‭ ‬الاختلاف‭ ‬والعلاقة‭ ‬بالآخر،‭ ‬والنظر‭ ‬إلى‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬مرآته‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬الشائكة‭.‬

لقد‭ ‬منحتنا‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬غرف‭ ‬متهاوية‮»‬،‭ ‬بما‭ ‬تحمله‭ ‬وما‭ ‬تعبّر‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬مواقف‭ ‬واضحة،‭ ‬مادة‭ ‬صالحة‭ ‬لمثل‭ ‬هذا‭ ‬التتبع‭ ‬وهذه‭ ‬المقاربة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬استثمارها‭ ‬الجيد‭ ‬فضاء‭ ‬‮«‬الديوانية‮»‬‭ ‬لتمرير‭ ‬المواقف‭ ‬المتضاربة‭ ‬من‭ ‬قضايا‭ ‬الساعة‭. ‬

وقد‭ ‬اختارت‭ ‬الروائية‭ ‬تأثيث‭ ‬فضاء‭ ‬الديوانية‭ ‬بنخبة‭ ‬النساء،‭ ‬حيث‭ ‬وصفتهن‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الأديبات‭ ‬والمثقفات‭ ‬والقيادات‭ ‬النسائية‮»‬‭. ‬وجعلت‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬نجمة‮»‬‭ ‬قطب‭ ‬الرحى‭ ‬وعماد‭ ‬المجلس،‭ ‬حيث‭ ‬استقبلت‭ ‬‮«‬استقبال‭ ‬الفاتحات‮»‬،‭ ‬قدمت‭ ‬كل‭ ‬منهن‭ ‬لها‭ ‬التهنئة‭ ‬على‭ ‬الكتاب‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬أبدت‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬اهتمامًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬به،‭ ‬قبل‭ ‬الصدور‭.‬

إنهن‭ ‬ينظرن‭ ‬إلى‭ ‬نجمة‭ ‬باعتبارها‭ ‬حاملة‭ ‬لواء‭ ‬الجهاد‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬نصرة‭ ‬المرأة،‭ ‬وضد‭ ‬هيمنة‭ ‬الرجل‭ ‬وسطوة‭ ‬الفحولة‭ ‬والذكورة‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬وعلى‭ ‬الواقع،‭ ‬كلما‭ ‬أنتجت‭ ‬رواية‭ ‬جديدة،‭ ‬اعتبرنها‭ ‬انتصارًا‭ ‬لبنات‭ ‬حواء‭ ‬على‭ ‬الرجل،‭ ‬روايات‭ ‬نجمة‭ ‬تقاوم‭ ‬استبداد‭ ‬الرجل‭ ‬والتفكير‭ ‬الرجعي‭ ‬للمرأة‭ ‬والنظر‭ ‬إليها‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬مجرد‭ ‬وعاء‭ ‬أو‭ ‬شيء،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬حقها‭ ‬أن‭ ‬تتمرد‭ ‬أو‭ ‬ترفض‭ ‬مهما‭ ‬واصل‭ ‬الرجل‭ ‬إذلالها‭ ‬أو‭ ‬إهانتها‮»‬‭.‬

مقطع‭ ‬مكثف‭ ‬ودال‭ ‬على‭ ‬نمط‭ ‬التفكير‭ ‬النسائي‭ ‬وأهم‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬ينحصر‭ ‬فيها،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الرجل‭ ‬باعتباره‭ ‬عدوًّا،‭ ‬وإلى‭ ‬المرأة‭ ‬باعتبارها‭ ‬ضحية‭ ‬هيمنته‭ ‬وسلطته‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مناحي‭ ‬الحياة،‭ ‬ومن‭ ‬ضمنها‭ ‬الكتابة‭. ‬

 

خيبة‭ ‬أمل

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الكاتبة‭ ‬كانت‭ ‬تنقل‭ ‬صورة‭ ‬عما‭ ‬يمور‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬النسوية‭ ‬العربية،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬ذاته‭ ‬تنقل‭ ‬مجرى‭ ‬الحوار‭ ‬إلى‭ ‬قضايا‭ ‬أخرى،‭ ‬حيث‭ ‬تنتقد‭ ‬رأيهن‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬التي‭ ‬أبدين‭ ‬إعجابهن‭ ‬بما‭ ‬تتميز‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬مبادرة،‭ ‬حيث‭ ‬يرين‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬سيدة‭ ‬المشاريع‭ ‬العملاقة‮»‬‭ ‬عكس‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬هم‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬منها‭ ‬‮«‬يتقنون‭ ‬فن‭ ‬رد‭ ‬الفعل‮»‬‭ ‬فقط‭. ‬لينجر‭ ‬الحديث‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬القضايا‭ ‬السياسية،‭ ‬حيث‭ ‬أظهرت‭ ‬نوال‭ ‬الإعجاب‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الوجه‭ ‬المشرق‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬قيادة‭ ‬العالم،‭ ‬خاصة‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‮»‬،‭ ‬بعد‭ ‬تفكك‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭.‬

وأكدت‭ ‬د‭. ‬رحاب‭ ‬رأيها‭ ‬فـ‭ ‬‮«‬أشادت‭ ‬بالدور‭ ‬الأمريكي‭ ‬البارز‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬بالممارسة‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬والإيمان‭ ‬بمبادئ‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬واستخدام‭ ‬القوة‭ ‬لتأكيد‭ ‬سيادة‭ ‬قيم‭ ‬التحرر‭ ‬والسلام‭ ‬ونبذ‭ ‬العنف‭ ‬والحرب‮»‬‭.‬

بعد‭ ‬استعراض‭ ‬هذه‭ ‬الآراء،‭ ‬حرصت‭ ‬الكاتبة‭ ‬على‭ ‬تمرير‭ ‬موقفها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شخصية‭ ‬نجمة‭ ‬التي‭ ‬عبرت‭ ‬عن‭ ‬موقفها‭ ‬السلبي‭ ‬مما‭ ‬تسمع،‭ ‬حيث‭ ‬أحست‭ ‬بالامتعاض‭ ‬وخيبة‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬النسوة‭ ‬اللواتي‭ ‬تدافع‭ ‬عنهن،‭ ‬‮«‬نساء‭ ‬يلدن‭ ‬أجنة‭ ‬مشوهة‮»‬،‭ ‬وعبّرت‭ ‬بصوت‭ ‬مسموع‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬قائلة‭: ‬‮«‬أنتن‭ ‬تصبنني‭ ‬بخيبة‭ ‬الأمل،‭ ‬أأنتن‭ ‬النسوة‭ ‬اللاتي‭ ‬أدافع‭ ‬عنهن؟‭! ‬وا‭ ‬أسفاه‮»‬‭.‬

لقد‭ ‬كشفت‭ ‬الكاتبة‭ ‬عن‭ ‬الازدواجية‭ ‬والانفصام‭ ‬اللذين‭ ‬يعيش‭ ‬فيهما‭ ‬العقل‭ ‬العربي،‭ ‬وترزح‭ ‬تحت‭ ‬سلطتهما‭ ‬النخبة‭ ‬المثقفة،‭ ‬عقل‭ ‬يطمح‭ ‬إلى‭ ‬حرية‭ ‬جزئية‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬ويرغب‭ ‬في‭ ‬عبودية‭ ‬كبيرة،‭ ‬فيصرخ‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬د‭. ‬رحاب‭ ‬“نحن‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا،‭ ‬لتحكمنا‭ ‬وتقودنا،‭ ‬وتعيد‭ ‬الأمور‭ ‬إلى‭ ‬نصابها‭ ‬الصحيح،‭ ‬وعلى‭ ‬الكاتبات‭ ‬أن‭ ‬يروّجن‭ ‬لذلك،‭ ‬أمريكا‭ ‬هي‭ ‬الأفضل‮»‬‭.‬

 

صورة‭ ‬مصغرة

يلخص‭ ‬المشهد‭ ‬صورة‭ ‬مصغرة‭ ‬عما‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬اجتماعات‭ ‬النخب‭ ‬الثقافية‭ ‬العربية،‭ ‬بين‭ ‬مؤيد‭ ‬للغرب‭ ‬وسياسته‭ ‬وإعجابه‭ ‬بما‭ ‬يقدّم،‭ ‬وقابليته‭ ‬لأن‭ ‬يكون‭ ‬مستعمرة‭ ‬له،‭ ‬وبين‭ ‬من‭ ‬يقاوم‭ ‬هذه‭ ‬الإمبريالية‭ ‬وهذه‭ ‬العولمة،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬شقها‭ ‬الثقافي،‭ ‬مما‭ ‬يوصل‭ ‬بعض‭ ‬العقول‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الانفصام‭ ‬تبدو‭ ‬معها‭ ‬تلك‭ ‬الشخصيات‭ - ‬كما‭ ‬وصفتها‭ ‬الكاتبة‭ - ‬‮«‬غريبة‭ ‬الأطوار،‭ ‬متناقضة‭ ‬تعيش‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الازدواجية،‭ ‬تكتسب‭ ‬من‭ ‬الضغط‭ ‬النفسي‭ ‬سلوكًا‭ ‬خبلًا،‭ ‬تتأرجح‭ ‬بين‭ ‬السكينة‭ ‬والمشاغبة،‭ ‬وبين‭ ‬الاستغراق‭ ‬في‭ ‬التأمل‭ ‬والهذيان‮»‬‭.‬

وتصل‭ ‬الغرابة‭ ‬حد‭ ‬الوعي‭ ‬بالمفارقة‭ ‬ومحاولة‭ ‬تبرير‭ ‬التناقض،‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬في‭ ‬موقف‭ ‬رحاب‭ ‬التي‭ ‬حسمت‭ ‬رأيها‭ ‬بقولها‭: ‬‮«‬لا‭ ‬أحب‭ ‬التشدق‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬ازدواجية‭ ‬المعايير،‭ ‬نحن‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬يكيلون‭ ‬بمكيالين،‭ ‬ونحن‭ ‬من‭ ‬يعشقون‭ ‬الخطوط‭ ‬المتعرجة‮»‬‭.‬

ومع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬بدا‭ ‬من‭ ‬صراع‭ ‬فكري‭ ‬داخل‭ ‬الديوانية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نجمة‭ ‬تصر‭ ‬على‭ ‬قيمة‭ ‬هذا‭ ‬المجلس‭ ‬فتحدد‭ ‬قيمته‭ ‬التاريخية‭ ‬باعتباره‭ ‬إرثًا‭ ‬ثقافيًّا‭ ‬تضرب‭ ‬تقاليده‭ ‬بجذورها‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البلد،‭ ‬فترى‭ ‬أنه‭ ‬يقدم‭ ‬صورة‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬مجتمعها‭ ‬وما‭ ‬يتسم‭ ‬به‭ ‬أهلها‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬التسامح‭ ‬وقبول‭ ‬للرأي‭ ‬الآخر‭.‬

إن‭ ‬الديوانية،‭ ‬في‭ ‬نظرها،‭ ‬هي‭ ‬النواة‭ ‬الصلبة‭ ‬لمجتمعها‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬فهو‭ ‬مجلس‭ ‬يومي‭ ‬أو‭ ‬أسبوعي‭ ‬يلتقي‭ ‬فيه‭ ‬الأصدقاء‭ ‬والمعارف‭ ‬لتبادل‭ ‬الرأي‭ ‬والنقاش‭. ‬ولعل‭ ‬التمسك‭ ‬به‭ ‬لا‭ ‬يرجع‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬التمسك‭ ‬بتقاليد‭ ‬الأجداد،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬مجرد‭ ‬فرصة‭ ‬لتلاقي‭ ‬الأصدقاء،‭ ‬وإنما‭ ‬تستمد‭ ‬الديوانية‭ ‬قيمتها‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬‮«‬مؤسسة‭ ‬ثقافة‭ ‬واجتماعية‭ ‬لها‭ ‬رسالتها‭ ‬المجتمعية‭ ‬وسنتها‭ ‬المتفق‭ ‬عليها‭ ‬بين‭ ‬الجميع‮»‬‭.‬

 

احترام‭ ‬الاختلاف

تستند‭ ‬العلي‭ ‬في‭ ‬روايتها‭ ‬هذه‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬حضارية‭ ‬عميقة‭ ‬تؤسس‭ ‬الاختلاف‭ ‬وتبئّر‭ ‬النقط‭ ‬المضيئة‭ ‬لدى‭ ‬الآخر،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬أي‭ ‬ذات‭ ‬داخل‭ ‬الرواية‭ ‬إلا‭ ‬وتجد‭ ‬لها‭ ‬موقعًا‭ ‬محترمًا،‭ ‬وتحصل‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تبحث‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬دواخلها‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إيجابي،‭ ‬ولو‭ ‬بدا‭ ‬ضئيلًا‭ ‬لدى‭ ‬الآخر‭ ‬لتبني‭ ‬عليه‭ ‬الاحترام‭ ‬والمحبة،‭ ‬وتطمس،‭ ‬ما‭ ‬أمكنها‭ ‬ذلك،‭ ‬العناصر‭ ‬المسببة‭ ‬للصدام‭ ‬والقطيعة‭ ‬والصراع،‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أن‭ ‬بيت‭ ‬نجمة،‭ ‬باعتبارها‭ ‬الصوت‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬صوت‭ ‬الكاتبة،‭ ‬صار‭ ‬جامعة‭ ‬عربية‭ ‬بمواصفات‭ ‬مثالية،‭ ‬في‭ ‬نقد‭ ‬سياسي‭ ‬مضمر‭ ‬للجامعة‭ ‬العربية‭ ‬الحقيقية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تفخر‭ ‬به‭ ‬نجمة‭ ‬وتعتز‭ ‬به،‭ ‬وتؤكده‭ ‬الساردة‭ ‬قائلة‭: ‬‮«‬كانت‭ ‬نجمة‭ ‬تفخر‭ ‬بأنها‭ ‬حوّلت‭ ‬بيتها‭ ‬إلى‭ ‬جامعة‭ ‬مصغرة‭ ‬للدول‭ ‬العربية‭ ‬والدول‭ ‬الصديقة،‭ ‬وتؤكد‭ ‬دائمًا‭ ‬أن‭ ‬جامعة‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬والصديقة‭ ‬في‭ ‬بيتها‭ ‬تتميز‭ ‬عن‭ ‬الجامعة‭ ‬العربية‭ ‬الأم،‭ ‬بيت‭ ‬العرب،‭ ‬الأعضاء‭ ‬عندها‭ ‬لا‭ ‬يختلفون،‭ ‬وإن‭ ‬اختلفوا‭ ‬لا‭ ‬يتشاجرون،‭ ‬وإن‭ ‬تشاجروا‭ ‬لا‭ ‬تشتبك‭ ‬أيديهم‭ ‬أو‭ ‬يسبّ‭ ‬بعضهم‭ ‬بعضًا،‭ ‬أو‭ ‬تعلو‭ ‬الأحذية،‭ ‬وتصفهم‭ ‬في‭ ‬كبرياء‭ ‬بأنهم‭ ‬يتعاملون‭ ‬بأسلوب‭ ‬حضاري،‭ ‬أصواتهم‭ ‬لا‭ ‬ترتفع،‭ ‬في‭ ‬الاتفاق‭ ‬والاختلاف،‭ ‬في‭ ‬النقاش‭ ‬والجدل،‭ ‬كل‭ ‬منهم‭ ‬يحترم‭ ‬رأي‭ ‬الآخر،‭ ‬يلتمسون‭ ‬الحجّة‭ ‬والدليل‭ ‬فيما‭ ‬يذهبون‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬أحكام،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬رواتبهم‭ ‬ومستحقاتهم‭ ‬لا‭ ‬تتأخر،‭ ‬يحصلون‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬موعد‭ ‬محدد‭ ‬كل‭ ‬شهر،‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬من‭ ‬القائمين‭ ‬على‭ ‬شؤون‭ ‬المنزل،‭ ‬نجمة‭ ‬وزوجها‭ ‬سالم،‭ ‬ملتزم‭ ‬بدفع‭ ‬حصته‭ ‬دون‭ ‬مماطلة‭ ‬أو‭ ‬تسويف‮"

 

ثقافة‭ ‬الانتفاع‭ ‬وقيم‭ ‬الفردانية

في‭ ‬‮«‬غرف‭ ‬متهاوية‮»‬‭ ‬انتقاد‭ ‬لاذع‭ ‬لصورة‭ ‬الذات‭ ‬الفردانية‭ ‬في‭ ‬تجلياتها‭ ‬الانتهازية‭ ‬والاستغلالية‭ ‬والأنانية،‭ ‬بل‭ ‬وفي‭ ‬ثورتها‭ ‬على‭ ‬قيمة‭ ‬العائلة،‭ ‬بما‭ ‬تمثّله‭ ‬الأبوة‭ ‬والأخوة‭ ‬ورفضها‭ ‬لأي‭ ‬وازع‭ ‬يذكّرها‭ ‬بوجوب‭ ‬احترام‭ ‬هذه‭ ‬الرابطة‭ ‬الإنسانية‭ ‬حين‭ ‬تغيب‭ ‬المصلحة‭. ‬فالمصلحة،‭ ‬أي‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الإرث‭ ‬من‭ ‬أب‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬حيًّا،‭ ‬هدف‭ ‬تموت‭ ‬في‭ ‬سبيله‭ ‬كل‭ ‬القيم‭. ‬وهذا‭ ‬الموقف‭ ‬الذي‭ ‬تمثّله‭ ‬شخصية‭ ‬أرشيدان‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الحقد‭ ‬على‭ ‬صديقة‭ ‬ناجحة‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬هدفًا‭ ‬تقتل‭ ‬في‭ ‬سبيله‭ ‬قيم‭ ‬النبل‭ ‬والوفاء‭.‬

ولأن‭ ‬الأشياء‭ ‬تتميز‭ ‬بضدها،‭ ‬فقد‭ ‬سعت‭ ‬الكاتبة‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬نماذج‭ ‬لتمثيل‭ ‬الوفاء‭ ‬والنبل،‭ ‬مثل‭ ‬العم‭ ‬بكر‭ ‬والصديقة‭ ‬علياء،‭ ‬مما‭ ‬يساهم‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬النموذج‭ ‬الإنساني‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬إيجابية‭ ‬ومشرقة،‭ ‬ملؤها‭ ‬الإنسانية‭ ‬والمساعدة‭ ‬والتسامح‭.‬

ارتأت‭ ‬الكاتبة‭ ‬إبراز‭ ‬الصراع‭ ‬القوي‭ ‬الذي‭ ‬صار‭ ‬واضحًا‭ ‬بين‭ ‬القيم‭ ‬الفردانية‭ ‬والتمسك‭ ‬بالقيم‭ ‬الرومانسية‭ ‬الحالمة،‭ ‬ولبيان‭ ‬ذلك‭ ‬جليًّا‭ ‬اختارت‭ ‬تقديم‭ ‬شخصيات‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬هذين‭ ‬القطبين‭ ‬الفكريين،‭ ‬وسنمثّل‭ ‬لذلك‭ ‬بالتركيز‭ ‬على‭ ‬صورة‭ ‬الشخصيتين‭ ‬الرئيستين،‭ ‬كما‭ ‬قدمتهما‭ ‬الكاتبة‭ ‬وتحليل‭ ‬الجوانب‭ ‬الدالة‭ ‬على‭ ‬قدرتهما‭ ‬التمثيلية‭ ‬لأحد‭ ‬النموذجين‭ ‬الفكريين‭:‬

 

‭- ‬شخصية‭ ‬نجمة‭/ ‬النموذج‭ ‬الرومانسي

اختارت‭ ‬الكاتبة‭ ‬أن‭ ‬تقدم‭ ‬نجمة‭ ‬باعتبارها‭ ‬كاتبة‭ ‬روائية‭ ‬مشهورة‭ ‬تتهافت‭ ‬عليها‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬لطبع‭ ‬أعمالها،‭ ‬وتحظى‭ ‬كتبها‭ ‬بالمتابعة‭ ‬الصحفية‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬طبعها‭‬‬ ،‭ ‬  تحمل‭ ‬دائمًا‭ ‬في‭ ‬حقيبتها‭ ‬‮«‬أوراقًا‭ ‬وأقلامًا‭ ‬وكتابًا‭ ‬اختارته‭ ‬من‭ ‬مكتبتها‭ ‬لتقرأه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬المناسب‮»‬‭ ‬،‭ ‬كثيرة‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬تعب‭ ‬العينين‭. ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬شخصية‭ ‬حالمة‭ ‬مثالية‭ ‬‮«‬كأنها‭ ‬تزرع‭ ‬شجرة‭ ‬توت‭ ‬لتواري‭ ‬بها‭ ‬سوءات‭ ‬العالم‮»‬‭ ‬،‭ ‬تتحدث‭ ‬مع‭ ‬القمر‭ ‬وتناجيه،‭ ‬و«تمنت‭ ‬لو‭ ‬تبقى‭ ‬لها‭ ‬العمر‭ ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬عن‭ ‬حبها‭ ‬له‭ ‬كتابًا‭ ‬تصفه‭ ‬فيه‮»‬‭. ‬

تشيع‭ ‬جوًّا‭ ‬رومانسيًّا‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬تربية‭ ‬أبنائها،‭ ‬مما‭ ‬شكل‭ ‬طبيعة‭ ‬نظرتهم،‭ ‬فابنها‭ ‬حمد‭ ‬‮«‬بادرها‭ ‬بما‭ ‬تعودت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬كلماته‭ ‬المعسولة،‭ ‬وكأنه‭ ‬يتحدث‭ ‬إلى‭ ‬الجيوكاندا،‭ ‬أو‭ ‬يستدعي‭ ‬أنطونيو‭ ‬فيفالدي،‭ ‬ليعزف‭ ‬لها‭ ‬موسيقى‭ ‬الفصول‭ ‬الأربعة‭ ‬في‭ ‬الريف‭ ‬الإيطالي‮»‬‭ ‬

شخصية‭ ‬طيبة‭ ‬تحب‭ ‬الخير‭ ‬للجميع‭ ‬وتضع‭ ‬ثقة‭ ‬عمياء‭ ‬فيمن‭ ‬حولها،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬قرارة‭ ‬نفسها‭ ‬تتمنى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬عملية‭ ‬مثل‭ ‬أختها‭ ‬أرشيدان‭ ‬‬،‭ ‬  غير‭ ‬أنها‭ ‬شخصية‭ ‬فيها‭ ‬بعض‭ ‬التناقض،‭ ‬ومن‭ ‬مظاهر‭ ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬تدافع‭ ‬عن‭ ‬المرأة‭ ‬باعتبارها‭ ‬فكرًا‭ ‬وليست‭ ‬جسدًا‭ ‬فقط،‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬تملك‭ ‬متجرًا‭ ‬‮«‬لبيع‭ ‬الملابس‭ ‬النسائية‭ ‬والعطور‭ ‬ومستحضرات‭ ‬التجميل‭ ‬والجوارب‭ ‬ومستلزمات‭ ‬النساء‭ ‬لإبراز‭ ‬جمالهن‭ ‬من‭ ‬الأجهزة‭ ‬الكهربائية،‭ ‬كماكينة‭ ‬تصفيف‭ ‬الشعر‭ ‬وتقليم‭ ‬الأظافر‭ ‬وتدليك‭ ‬الجسم‭ ‬وغيرها.

كما‭ ‬أنها‭ ‬مناضلة‭ ‬نسوية‭ ‬تدافع‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬المرأة،‭ ‬وأسست‭ ‬جريدة‭ ‬سمتها‭ ‬‮«‬جريدة‭ ‬المرأة‮»‬‭ ‬لتحقيق‭ ‬ذلك‭ ‬ ،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬حريصة‭ ‬على‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬وتحترم‭ ‬الأعراف‭ ‬الاجتماعية‭  ‬‬،‭ ‬في‭ ‬موازاة‭ ‬رفض‭ ‬الأخت‭ ‬لذلك‭ ‬تمامًا‭. ‬وتحضر‭ ‬مجلس‭ ‬‮«‬الديوانية‮»‬‭ ‬بهيلمانها‭ ‬المثالي‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬إلحاقه‭ ‬بعوالمها‭ ‬الخاصة‭.‬

 

‭- ‬شخصية‭ ‬أرشيدان‭/ ‬النموذج‭ ‬الفرداني

على‭ ‬امتداد‭ ‬الرواية‭ ‬تعمدت‭ ‬الكاتبة‭ ‬وصف‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬بما‭ ‬يجعلها‭ ‬نموذجًا‭ ‬للإنسان‭ ‬المادي‭ ‬الخالي‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬القيم،‭ ‬فهي‭ ‬شخصية‭ ‬تتسم‭ ‬بالثقة‭ ‬والكبرياء،‭ ‬لها‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬إخفاء‭ ‬خيباتها‭ ‬العاطفية‭ ‬جراء‭ ‬فقدانها‭ ‬دليل‭ ‬عفتها‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬بذلك،‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬تضحك‭ ‬ضحكات‭ ‬مجلجلة‭ ‬من‭ ‬خيبات‭ ‬الآخرين‭ ‬ومصائبهم،‭ ‬ولا‭ ‬تراها‭ ‬مثيرة‭ ‬للشفقة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬مثيرة‭ ‬للدهشة‭.‬

تصف‭ ‬الكاتبة‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬بأن‭ ‬لديها‭ ‬خبرة‭ ‬في‭ ‬تقييم‭ ‬الآخرين‭ ‬بحكم‭ ‬دراستها‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬النفس ‬،‭ ‬ وهذا‭ ‬ما‭ ‬يعضد‭ ‬سلطة‭ ‬المعرفة‭ ‬داخل‭ ‬الرواية،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة‭ ‬وسيلتان‭ ‬لمعرفة‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬والحكم‭ ‬عليهم‭ ‬بصورة‭ ‬صائبة،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬نجدها‭ ‬تسقط‭ ‬في‭ ‬تعميم‭ ‬الأحكام‭ ‬حين‭ ‬تفكر‭ ‬في‭ ‬الرجال‭ ‬كأنهم‭ ‬شياطين‭ ‬يتحركون‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬وليس‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬سبيل‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬معهم‭ ‬إلا‭ ‬بالحيطة‭ ‬والحذر‭.‬

كما‭ ‬أنها‭ ‬تراهُن‭ ‬جميعًا‭ ‬خائنين،‭ ‬إما‭ ‬فعليًّا‭ ‬وإما‭ ‬مع‭ ‬وقف‭ ‬التنفيذ،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬أنها‭ ‬شخصية‭ ‬تفتقد‭ ‬لأي‭ ‬إحساس‭ ‬عاطفي‭ ‬تجاه‭ ‬الأسرة،‭ ‬والأب‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬الذي‭ ‬جاءت‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إقامة‭ ‬دعوى‭ ‬حجر‭ ‬عليه‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬نصيبها‭ ‬من‭ ‬ماله،‭ ‬ولا‭ ‬تضيّع‭ ‬وقتها‭ ‬لتحقيق‭ ‬هدفها،‭ ‬وتستغل‭ ‬كل‭ ‬الوسائل‭ ‬الممكنة‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬غير‭ ‬مشروعة‭. ‬إنها‭ ‬شخصية‭ ‬عملية،‭ ‬الكلمات‭ ‬التي‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬فمها‭ ‬رصاص،‭ ‬تظهر‭ ‬براءتها‭ ‬مصطنعة‭ ‬وتحسن‭ ‬توظيف‭ ‬الآخرين‭ ‬لمصلحتها‭.‬

ولتحقيق‭ ‬التوازن‭ ‬داخل‭ ‬الرواية‭ ‬وإدارة‭ ‬الصراع‭ ‬الدرامي،‭ ‬حشدت‭ ‬الكاتبة‭ ‬كل‭ ‬صفات‭ ‬النبل‭ ‬والرقة‭ ‬والوداعة‭ ‬للمثقف‭ ‬الحالم‭ ‬الرومانسي‭ ‬المثالي‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬الحياة‭ ‬كلها‭ ‬ملونة‭ ‬بالوردي‭ ‬لا‭ ‬تشوبها‭ ‬شائبة،‭ ‬وكافة‭ ‬صفات‭ ‬الخسة‭ ‬والقبح‭ ‬والنذالة‭ ‬واللؤم‭ ‬للشخصية‭ ‬النفعية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬إلا‭ ‬الأمور‭ ‬المادية‭.‬

ولعل‭ ‬ما‭ ‬أسبغته‭ ‬الكاتبة‭ ‬على‭ ‬شخصيتي‭ ‬نجمة‭ ‬وأرشيدان‭ ‬كان‭ ‬كفيلًا‭ ‬بأن‭ ‬تكونا‭ ‬نموذجين‭ ‬لهاتين‭ ‬الفئتين‭ ‬من‭ ‬الناس‭. ‬وحرصت‭ ‬الكاتبة‭ ‬على‭ ‬بيان‭ ‬أن‭ ‬الفئة‭ ‬الأولى‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تنتصر‭ ‬بفضل‭ ‬قوة‭ ‬القدر‭ ‬الذي‭ ‬يحميها‭ ‬ويلحق‭ ‬الأذى‭ ‬بأعدائها‭ ‬الأشرار،‭ ‬كما‭ ‬تكشف‭ ‬لنا‭ ‬نهاية‭ ‬الرواية،‭ ‬حيث‭ ‬تقتل‭ ‬نوال‭ ‬وأرشيدان‭ ‬في‭ ‬حادثة‭ ‬سير‭ ‬غامضة‭.‬

وإمعانًا‭ ‬في‭ ‬الرومانسية‭ ‬تصر‭ ‬الكاتبة‭ ‬على‭ ‬كشف‭ ‬مشاعر‭ ‬نجمة‭ ‬التي‭ ‬‮«‬بكت‭ ‬صداقة‭ ‬عمرها‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬النضوج‭ ‬والاكتمال،‭ ‬بكت‭ ‬أخوة‭ ‬شاردة‭ ‬لم‭ ‬يلم‭ ‬شملها‭ ‬ود‭ ‬أو‭ ‬صلة‭ ‬رحم،‭ ‬بكت‭ ‬زمنًا‭ ‬من‭ ‬الوجع،‭ ‬آلامه‭ ‬ليست‭ ‬مرشحة‭ ‬للنسيان،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬نجمة‭ ‬تريد‭ ‬هذه‭ ‬النهاية،‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬عانته‭ ‬من‭ ‬ظلمة‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬قدوم‭ ‬الفجر‮»‬‭‬

 

على‭ ‬سبيل‭ ‬الختم

بلغة‭ ‬راقية‭ ‬وجميلة‭ ‬ووصف‭ ‬دقيق‭ ‬وفاتن،‭ ‬وبرؤية‭ ‬فنية‭ ‬وفكرية‭ ‬واضحة،‭ ‬تكشف‭ ‬الكاتبة‭ ‬د‭. ‬فاطمة‭ ‬العلي‭ ‬عن‭ ‬امتلاكها‭ ‬طاقة‭ ‬عالية‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية،‭ ‬فهي‭ ‬تمتلك‭ ‬عينًا‭ ‬راصدة‭ ‬لتفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬ومعرفة‭ ‬عالية‭ ‬بما‭ ‬توظفه‭ ‬من‭ ‬عوالم،‭ ‬ولغة‭ ‬جميلة‭ ‬تترفع‭ ‬عن‭ ‬الابتذال‭ ‬وتمنح‭ ‬المتعة‭ ‬المنشودة‭ ‬من‭ ‬القارئ،‭ ‬وقدرة‭ ‬هائلة‭ ‬على‭ ‬الوصف‭ ‬تؤهلها‭ ‬للرصد‭ ‬والتتبع،‭ ‬وإحساسًا‭ ‬عاليًا‭ ‬يعمّق‭ ‬الوعي‭ ‬بالأشياء،‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬نقل‭ ‬الإحساس‭ ‬ذاته‭ ‬بقوة‭ ‬على‭ ‬الورق‭.‬

إن‭ ‬هذه‭ ‬المقومات،‭ ‬وغيرها،‭ ‬جعلت‭ ‬الأبواب‭ ‬والنوافذ‭ ‬مشرعة‭ ‬أمام‭ ‬القارئ‭ ‬ليتأمل‭ ‬ذاته،‭ ‬ويرى‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬حوله،‭ ‬وليكتشف‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬مخبّأ‭ ‬داخل‭ ‬غرفه‭ ‬المتهاوية‭ .‬