أمريكا بريشة نورمان روكويل

أمريكا بريشة نورمان روكويل

في خريف عام 2001 زخرت أروقة متحف سولومون غاغنهايم في نيويورك بأعمال الفنان نورمان روكويل في معرض أشرف عليه المؤرخ الفني روبرت روزنبلوم.
كان هذا المعرض بمنزلة المنظار الذي مكّن لرؤية روكويل من زاوية أخرى غير تلك التي اعتيد رؤيته من خلالها. فحتى ذلك العام، لم يكن النقاد يعدّونه فنانًا بما تحمله الكلمة من معانٍ؛ فمن وجهة نظرهم، لم يتعدّ روكويل كونه رسامًا لأغلفة مجلة ذا ساترداي إيفننغ بوست وبعض الملصقات الأخرى. بيد أن ذلك المعرض قد حدا بنقاد الفن لإيلاء أعماله نظرة فاحصة كشفت عن الكثير من خفايا فنه. 
لعل السبب في تجاهل روكويل طوال تلك السنين هو أنه كان يبحر ضد تيار الحركات الفنية السائدة في عصره؛ إذ كان الاتجاه حينذاك نحو حركات التكعيبية والمينمالزم، وغيرهما من حركات الفن التجريدي، ذلك الاتجاه الذي كان يَعُد أسلوب روكويل في الرسم من مخلفات عصور فنية غابرة يجب طرحها جانبًا والانسلاخ منها.

 

ففي حين كان الاتجاه ينحو إلى تقليل عناصر اللوحة الفنية قدر الإمكان، كان روكويل يتخم أعماله بأطفال وجدّات وعربات وشرطيين إلى غير ذلك من العناصر البشرية وغير البشرية، كما كان ينحو الأسلوب الواقعي في تصاويره، وهو أسلوب كان قد عفا عليه الزمن حينذاك وذوى منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر. 
ولربما كان روكويل يشعر في أعماقه أنه هو ومَن على شاكلته في طريقهم إلى التلاشي والاندثار إزاء طوفان حركات الفن الحداثية. ويبدو ذلك جليًا في عمل له بعنوان «الخبير»، يصور فيه رجلًا في أحد المتاحف، وقد ولّى ظهره للمُشاهد، ووقف يتأمل لوحة للفنان التجريدي جاكسون بولوك. ولا ندري، فلربما كان روكويل يقصد أن يرمز ذلك الرجل إليه هو نفسه، وقد أحاط به ذلك التشكيل الفني وأخذ عليه كل مأخذ.
ولد نورمان روكويل في مدينة نيويورك عام 1894 لأب كان يعمل في تجارة الأقمشة، ولم يكن نورمان قوي البنية مثل أخيه جارفيس، بل كان نحيل البدن يلبس منظارًا طبيًا، وقد وصف نفسه ذات مرة بأنه كالعمود الذي يتسلق عليه نبات الفول، لكنه بلا حبات.
عشق روكويل الرسم منذ نعومة أظفاره؛ فراح يتعلم ويصقل موهبته، وكان ينسخ الصور من على أغلفة المجلات والكتب المصورة. وقد التحق بمدرسة تشيس للفنون، ثم التحق بالأكاديمية الوطنية للتصميم، ثم برابطة طلاب الفن في نيويورك، حيث تتلمذ على يد توماس فوغارتي وجورج بريدجمان، اللذين أثّرا في أسلوبه بالرسم أيّما تأثير. 

محرر فني
حين بلغ الثامنة عشرة عمل محررًا فنيًا في مجلة بويز لايف؛ المجلة الرسمية للكشافة بأمريكا. ومع مجيء عام 1916 جاءت الفرصة التي ظل روكويل يحلم بها طويلًا، وهي رسم أغلفة مجلة «ذا ساترداي إيفيننغ بوست»، وكانت مجلة أسبوعية رائجة يتهافت الناس على شرائها، ويتخطفونها من الباعة. وها هو عدد المجلة الصادر في العشرين من مايو عام 1916 يحمل صورة من إبداع روكويل بعنوان «أم في يوم راحة» يصوّر فيها صبيًا في نحو الثالثة عشرة من عمره مرتديًا زيًا رسميًا وقبّعة، ويدفع بيديه عربة أطفال بها أخته الصغيرة في نزهة، وهي مهمة أوكلتها إليه أمه لتستريح يومًا أو بعض يوم، لكن تبدو على ملامح الصبي أمارات استياء وامتعاض، وكأنما هو مُكره على ذلك العمل، ولا سيما حين يقابل صديقين له في طريقهما للعب مباراة بيسبول.
ويركز الفتى عينيه فيما أمامه كيما يتوارى عن نظرات سخرية يرمقه بها هذان الصديقان. وقد تقاضى روكويل عن ذلك العمل خمسة وسبعين دولارًا. وهكذا ذاع صيت روكويل، وظلّت تصاويره على أغلفة المجلة تلقى استحسانًا كبيرًا من الجمهور الأمريكي. وفي عشرينيات القرن المنصرم سافر روكويل في رحلة جاب فيها العالم؛ فزار شمال إفريقيا وأمريكا الوسطى وأوربا، وصوّر في لوحاته أحلام الشباب وتطلعاتهم، ومثال ذلك لوحة «حلم شاب» التي أنجزها عام 1926 وفيها صوّر شابًا يجلس إلى مكتبه مستغرقًا في قراءة كتاب. ويظهر على المكتب مصباح ينبعث منه دخان كأنه يحمل معه أفكار الفتى وأحلامه بعيدًا من الأرض.

لوحات الحريات الأربع
كانت الحياة الأمريكية، بعامة، هي المنبع الذي يستقي روكويل منه شخصياته وموضوعات أعماله. 
فكان يصور في أعماله مشاهد من الحياة اليومية لعامة الناس. ولم يرسم روكويل شيئًا شائهًا أو قبيحًا في تصاويره، فقد جاء على لسانه ذات مرة «أنا أصور الحياة كما أتمنى أن تكون».
لقد كانت شخوص أعماله ترتبط معًا من خلال انخراطها في عمل مشترك بأكثر مما ترتبط برابطة قرابة أو ما شابه ذلك. وحينما دخلت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء في أواخر عام 1941 أبدع روكويل سلسلة من اللوحات استقت موضوعاتها من الحريات الأربع التي ذكرها الرئيس فرانكلين روزفلت بخطابه في السادس من يناير عام 1941. وتلك الحريات هي التحرر من العوز، وحرية التعبير، وحرية العبادة، والتحرر من الخوف. وقد سمّى أعماله بالأسماء نفسها.
كان روكويل ينوي في بادئ الأمر أن ينجز ذلك العمل في صورة ملصقات عن الحرب لمصلحة مكتب الحكومة الأمريكية لمعلومات الحرب، غير أنه حينما توجه إلى المكتب ليُطلع المسؤولين على الاسكتشات المبدئية، فوجئ بردّ أحدهم بأن الحكومة الأمريكية قررت إسناد العمل لفنانين حقيقيين! وكانت تلك الجملة ضربة قاصمة لروكويل أشعرته بالضّعة والهوان، وأنه لا يرقى إلى أن يكون في مصاف تلك الزمرة، فقرر أن ينشر عمله في مجلة «ذا ساترداي إيفننغ بوست».

نجاح لافت
مضى روكويل يعمل بلا كلل طوال سبعة أشهر متصلة. ونُشرت تلك الأعمال تباعًا في المجلة على مدى أربعة أسابيع متوالية، بدءًا من العشرين من فبراير إلى الثالث عشر من مارس عام 1943. 
ولم تلبث أن لاقت نجاحًا منقطع النظير، ففي لوحة «التحرر من الخوف»، يصور روكويل طفلين نائمين في سلام وقد جاء أبواهما يطمئنان عليهما ويمدّان عليهما الدثار في حنوّ بالغ. ونلحظ الأب ممسكًا بيده صحيفة تتصدر صفحتها الأولى أنباء الحرب الضارية. وفي لوحة حرية التعبير استقى روكويل موضوع اللوحة من موقف شهده في اجتماع محلي بإحدى المدن، حيث انبرى رجل عارضًا وجهة نظر خالفها جلّ الحضور، لكنهم تركوا له الحرية في أن يتكلم وأنصتوا لحديثه دون مقاطعة.
وفي لوحة «حرية العبادة» صوّر روكويل أناسًا يصلّون ويبتهلون إلى خالقهم، وإن لم يكن واضحًا للمُشاهد اختلاف عقائدهم. أما لوحة «التحرر من العوز»، وهي اللوحة الأجمل والأشهر؛ فتأخذ المرء إلى حجرة الطعام في بيت أسرة أمريكية ميسورة الحال في عيد الشكر، وقد تحلّق ضيوف من أجيال مختلفة حول مائدة الطعام التي تزخر بألوان شتى من طعام تشتهيه الأنفس وتلذّ به الأعين، بينما تمسك الطاهية بصينية عليها ديك رومي ضخم لتضعه في وسط المائدة، ويبدو لنا الضيوف بوجوه باشّة طلقة وقد انهمكوا في أحاديث جانبية غير ملتفتين إلى الطعام، مما يوحي بسريان أجواء حميمية ودفء فيما بينهم.

استحسان واستياء
وقد لاقت تلك اللوحة استحسانًا كبيرًا في الولايات المتحدة الأمريكية حينها، إلا أنها أثارت استياء في أوربا التي كانت تعاني مصاعب اقتصادية جمّة حينذاك. وكما يبدو لنا من لوحات الحريات الأربع، لم يعمد روكويل إلى تصوير الحرب وما تلحقه من دمار ولا المعركة بقتلاها وجرحاها، لكنه صوّر حياة الأمريكيين ومبادئهم، تلك التي سيبذلون النفس والنفيس من أجل الحفاظ عليها وحمايتها. لقد شهد عام 1943 نجاح صور الحريات الأربع كما أسلفنا، إلا أن العام نفسه شهد أيضًا حادثة حريق مرسمه الذي نتج حين سقطت جذوة من غليونه على إحدى الحشيّات. وقد تسبب الحريق في تدمير الكثير من لوحاته ومقتنياته.
لقد أبدع الفنان تصاوير استمتع بها الأمريكيون كافة، فلم تكن حبيسة في بيوت مقتني اللوحات، بل كانت تُنشر على صفحات الكتب وفي الإعلانات والتقاويم وبطاقات المعايدة وأغلفة المجلات الرائجة. وقد اتسمت معظم تصاويره بالحسّ الفكاهي؛ فعادة ما كان يعرض لنا من خلال أعماله قصصًا. وعادة ما كان يتخير أكثر اللحظات طرافة في تلك القصص. 
ففي لوحة «ممنوع السباحة» التي أنجزها في عام 1921 لم يصور صبية يستمتعون بالسباحة، بالرغم من وجود اللافتة، وإنما صوّرهم وهم يهرولون إلى الخارج محاولين ارتداء ملابسهم على عجل بعدما اكتُشفت فعلتهم الحمقاء. كان روكويل يُضمّن صورته في كثير من اللوحات التي كان يرسمها كما كان يُضمّن جيرانه بولاية فيرمونت في نيو إنغلند، ومعارفه وأصدقاءه في أعماله؛ فمن اليسير التعرف إلى أشخاص بعينهم في أكثر من لوحة له. 

صورة ذاتية
وفي لوحة «صورة ذاتية ثلاثية» صوّر نفسه في بورتريه وهو جالس قبالة مرآة تعكس صورته وفي فمه غليونه المعتاد من نوع «دنهيل»، وقد ضمّن اللوحة أشياء حميمية، مثل كوب الكوكاكولا وقد وضعه فوق كتاب فني أمامه. 
وتبدو صور ذاتية صغيرة الحجم لفنانين أثيرين لديه، مثل ألبريخت دورير وفان جوخ ورامبرانت وبابلو بيكاسو على جانب اللوحة التي يرسمها. 
كان لروكويل طقوس خاصة في عمله، فعادة ما كان يلتقط صورًا فوتوغرافية لنماذجه في أوضاع مختلفة، ثم يرسم اسكتشات تحضيرية عديدة، وقد يغيّر في ملامح الوجه أو وضع الجسم وما إلى ذلك. ففي عمله المسمى «نميمة» 1948 التقط صورًا فوتوغرافية لنفسه ولزوجته ولبعضٍ من جيرانه لإنجاز ذلك العمل الذي يصور مسرى الأخبار ومدى تبدلها خلال رحلتها من شخص إلى آخر.
ومن اليسير تبيّن أولئك الأفراد في العمل؛ فروكويل يظهر في الصف الأخير مشيرًا نحو السيدة التي نقلت الأخبار منذ بدايتها. ولعل روكويل كان موضوع كل تلك النميمة. كان روكويل قاصًا بأكثر مما كان مصورًا؛ فكل صورة رسمها كانت تمثّل قصة.
فعلى سبيل المثال، نرى في لوحة «فتاة في مرآة» - التي أنجزها عام 1954 لمجلة ذا ساترداي إيفننغ بوست - فتاة صغيرة على أعتاب المراهقة جالسة تتطلع إلى نفسها في المرآة وعلى حجرها مجلة تظهر فيها صورة الممثلة الحسناء جين رسل. ويظهر بجانب الفتاة على الأرض مشط وفرشاة شعر وطلاء شفاه أحمر اللون، بينما نلحظ دميتها وقد أُلقيت بعيدًا في إهمال. ويبدو على محيّا الفتاة تساؤل «ترى هل ولّت مرحلة الطفولة وأصبحت شابة بهية كالتي في الصورة؟». 

15 مليون دولار
من روائع روكويل أيضًا صورة «فصم العرى مع الموطن» التي تصدرت غلاف المجلة ذاتها في 25 سبتمبر 1954. وفيها يظهر أب وابنه ينتظران قطارًا سيسافر الابن على متنه ليلتحق بجامعة الولاية. وكدأبه، فإن الصورة تمثّل أيضًا قصة؛ فالابن يترك موطنه للمرة الأولى، وهو يبدو متأنقًا في زيه القشيب وحذائه اللامع، واضعًا كتبه في حقيبة جديدة وينظر في تطلّع وأمل إلى الأفق الذي يخبئ له فصولًا من حياته القادمة لم تُقرأ بعد.
وعلى النقيض يبدو الأب غارقًا في أفكاره ممسكًا بيده قبعته وقبعة ابنه وعيناه ترنوان إلى وجهة أخرى غير تلك التي ترنو إليها عينا الابن. فالأب يبدو مطرقًا حزينًا لفراق ابنه. وتظهر لنا أرجل الأب وابنه متلاصقة، مما يوحي بعمق الرابطة بينهما ووثاقتها. وقد بيعت تلك اللوحة عام 2006 بمبلغ ضخم هو 15 مليون دولار. وقد رسم روكويل ملصقات لستة من الأفلام السينمائية، منها «آل أمبرسون العظام» عام 1942 وفيلم «حد الموسي» عام 1946. وصوّر الكثير من الزعماء، ومنهم السيناتور جون كينيدي مرشح الحزب الجمهوري حينذاك، وكذلك نائب الرئيس آنذاك ريتشارد نيكسون في أثناء الانتخابات الرئاسية لعام 1960. كان روكويل مفتونًا بوجه كينيدي، ولم يكن كذلك فيما يخص نيكسون، بل كان يرى أن تصوير وجهه يمثّل تحديات لا يستهان بها، وذكر بيتر روكويل عن أبيه أنه قال «إن المشكلة في تصوير نيكسون تكمن في أن أية محاولة لجعله يبدو ألطف مما هو عليه ستغيّر من شكله كليةً، فلن يشبه نيكسون بالمرة».
ظل روكويل يرسم أغلفة مجلة ذا ساترداي إيفيننغ بوست طوال 47 عامًا، أبدع خلالها 322 صورة.

استقالة ضمنية
مرت السنون وتغيّرت الحال في ستينيات القرن العشرين، فبعدما كان الناس يتهافتون على المجلات لرؤية رسومات روكويل المستوحاة من الحياة اليومية الأمريكية وأناسها العاديين، غدا الجمهور متشوقًا لرؤية صور نجوم السينما وحسناواتها. حتى أنه في عام 1963 طلب محرر المجلة إليه أن يرسم صورًا لفنانين ومشاهير لتتصدر أغلفتها. بيد أن روكويل بعث برسالة إليه جاء فيها: «لقد خلصت إلى أن العمل الذي أود القيام به الآن لم يعد يتوافق ورؤية المجلة». فكان ذلك بمنزلة استقالة ضمنية من المجلة. 
يذكر أن روكويل نادرًا ما كان يصور زنوجًا في صوره لأغلفة مجلة ذا ساترداي إيفنينغ بوست، ذلك أن محرريها أخبروه بأن ذلك يتعارض وسياسة التحرير بها؛ إذ إن تصويرهم من شأنه أن يُزعج جمهور القراء، لذا فعليه ألا يُصوّرهم إلا في مواضع الخدم أو ما إلى ذلك، وأسرّها روكويل في نفسه ولم يَحِد عن سياسة المجلة، إلا أنه كان بين الحين والآخر يضمّن صوره إيماءات رمزية تشي باستيائه من ذلك التمييز وتلك النظرة الازدرائية؛ فصورة «عناية تامة» التي أنجزها عام 1940 لغلاف المجلة يبدو فيها سيد أبيض متربعًا على كرسي الحلاقة محاطًا بمن يخدمونه، ومن بينهم شخص زنجي، كما يبدو من لون يده. وقد أولى الزنجي ظهره للمشاهد وانحنى في خضوع ومذلة مغالى فيهما على حذاء الرجل الأبيض لتلميعه، فيما حذاؤه هو ممزق النعل، كما بدا ظهره ممدودا لتلقِّي رماد غليون الرجل.
وبعد أن ترك روكويل العمل بهذه المجلة، شرع يرسم صورًا لمجلة لوك، وبذا بدأ مرحلة جديدة من مراحل فنه اهتم فيها بقضايا بعينها، مثل اكتشاف الفضاء الخارجي ومقاومة الفقر والظلم الاجتماعي.

أطفال جدد في الجوار
تمكّن روكويل من مناصرة حركة الحقوق المدنية التي كانت تنادي بإنهاء سياسة التمييز العنصري ضد الأفارقة الأمريكيين على نحو أكثر صراحة من ذي قبل.
وجاءت أول صورة له في المجلة بعنوان «المشكلة التي نحيا في ظلها» عام 1964، مصورًا فيها طفلة زنجية صغيرة في عامها السادس ترتدي ثوبًا أبيض وهي في طريقها إلى المدرسة، ويرافقها 4 ضباط. وقد صوّر روكويل جدارًا في خلفية اللوحة كُتب عليه كلمة زنجية، كما كُتب عليه أيضًا «KKK» وهي الأحرف الأولى لـ «Ku Klux Klan» - المنظمة العنصرية الشهيرة. وتبدو على الجدار كذلك آثار ثمار طماطم ملقاة من بعض البيض المحتشدين للتعبير عن سخطهم. 
والطفلة الزنجية التي صوّرها روكويل هي روبي بريدجز، التي اختيرت ضمن ستة أطفال زنوج من قِبل الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين للمشاركة في مشروع إدماجهم بالمدارس التي لم تكن تقبل سوى الأطفال البيض.  وقد أرسل القراء خطابات ساخطة إلى المجلة، ولكن مع كرّ الأيام خبا سخطهم هذا، وأضحت تلك الصورة رمزًا لمناصرة حركة الحقوق المدنية في البلاد. وفي السياق ذاته أبدع روكويل لوحة «أطفال جدد في الجوار» عام 1967. 
وفي اللوحة نرى 3 من الأطفال البيض يقفون قبالة طفلين زنجيين، الفريقان مختلفان في لون البشرة، غير أنهما متفقان في كونهما أطفالًا أبرياء، وكل فريق يحنو على حيوان أليف. فالمشاعر الإنسانية لدى الكافة سواءٌ لا يزيدها عرق ولا يُبطلها لون. ورويدًا رويدًا أخذت سياسة التمييز العرقي في التلاشي، وغدا الأفارقة يساكنون البيض في الجوار نفسه، ويطاعمونهم في المطاعم ذاتها، ويجلسون إلى جوارهم في الحافلات.

معرض روكويل
في عام 1968 وبينما كان روكويل في مرسمه، إذ به يتلقى اتصالًا هاتفيًا من وكيل فني يعرض عليه إقامة معرض للوحاته، وقد دهِش في بادئ الأمر، وظن أن المتصل إنما قصد الفنان روكويل كنت لا هو. لكنه كان هو المقصود لا غيره، وبالفعل أقيم أول معرض له في نيويورك، إلا إنه لم يلقَ اهتمامًا من النقاد، بالرغم من استمراره ثلاثة أسابيع متصلة. أما الفنانون فمنهم من التفت إلى أعماله بعدما كانوا لا يولونها أي اهتمام فيما مضى، ومنهم من لم يأبه. ومع توالي السنين، وبعد أن ظلت الحركات التجريدية متسيّدة الساحة الفنية على مدى نصف قرن من الزمان، بدأت الواقعية تتحسس خطاها من جديد لتأخذ وضعها لاحقًا.  وفي عام 1968 أيضًا أُنشئ متحف نورمان روكويل في ستوكبردج بولاية ماساتشوستس بمجهوده هو وزوجته الثالثة موللي.  ويزخر المتحف بمعظم أعمال الفنان ومقتنياته؛ فهو يضم حوالي 998 عملًا ما بين لوحات واسكتشات. كما نُقل إليه مرسمه الذي قضى فيه الـ 25 سنة الأخيرة من حياته، وهو يضم مكتبته ومتعلقاته الشخصية وأثاثه، كما يضم خطاباته وصورًا فوتوغرافية كانت تعينه في عمله كما أسلفنا. وفي عام 1978 توفي روكويل في منزله عن عمر ناهز الرابعة والثمانين.
كان روكويل طوال حياته يأبى أن يُطلق على نفسه لقب فنان، وكان يُصر على وصف نفسه بأنه مصوّر، ولربما كان ذلك من باب التواضع، وربما كان درعًا وقَتْه هجوم النقاد. لكن ما من شك في أنه فنان حتى النخاع؛ فتصاويره ظلت حية نابضة في أذهان الأمريكيين إلى يومنا هذا، بينما اندثرت كثير من أعمال التجريديين ممن كان يُشار إليهم بالبنان حينذاك ■

 

احتكرت مجلة THE SATURDAY EVENING POST العالمية نشر لوحات نورمان روكويل وطبعت منها بالملايين

 

الاستعداد للخروج

 

اصطياد السمك