أضواء جديدة على مقتل المُتَنبّي وهجائه لضَبّة

أضواء جديدة على مقتل المُتَنبّي  وهجائه لضَبّة

تصدّى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬لموضوع‭ ‬مقتل‭ ‬المُتَنبّي،‭ ‬واطمأنوا‭ ‬إلى‭ ‬روايات‭ ‬مقتله،‭ ‬وإلى‭ ‬أن‭ ‬القاتل‭ ‬هو‭ ‬فاتك‭ ‬الأسديّ،‭ ‬وإلى‭ ‬أن‭ ‬سبب‭ ‬قتله‭ ‬هو‭ ‬هجاؤه‭ ‬لضَبّة‭ ‬العينيّ‭ ‬ابن‭ ‬أخت‭ ‬فاتك،‭ ‬وإنْ‭ ‬حلّل‭ ‬بعضهم‭ ‬تلك‭ ‬الروايات‭ ‬وحاول‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬القتل‭ ‬سياسيًا،‭ ‬وراءه‭ ‬بعض‭ ‬حكام‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬الهجريّ‭. ‬لكنهم‭ ‬لم‭ ‬يبحثوا‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬ضَبّة‭ ‬الحقيقية،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬نعلم،‭ ‬وقلّما‭ ‬شكّوا‭ ‬في‭ ‬نسبة‭ ‬قصيدة‭ ‬الهجاء‭ ‬البائيّة‭ ‬إلى‭ ‬المُتَنبّي‭. ‬حتى‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الذي‭ ‬مضى‭ ‬يشكّ‭ ‬في‭ ‬الشعر‭  ‬الجاهليّ‭ ‬لأدنى‭ ‬شبهة‭ ‬اطمأنّ‭ ‬إلى‭ ‬رواية‭ ‬المدعو‭ ‬أبا‭ ‬نصر‭ ‬الجَبُّلي،‭ ‬وهي‭ ‬أطول‭ ‬الروايات‭ ‬وأشهرها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد،‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬مشوبة‭ ‬بشبهات‭ ‬كثيرة،‭ ‬ومثله‭ ‬فؤاد‭ ‬أفرام‭ ‬البستاني‭ ‬وعبد‭ ‬الوهاب‭ ‬عزام‭ ‬وغيرهما‭. ‬وسوف‭ ‬نعالج‭ ‬الموضوع‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تلك‭ ‬الروايات،‭ ‬وحقيقة‭ ‬ضَبّة‭ ‬وفاتك،‭ ‬وصحة‭ ‬القصيدة‭ ‬الهجائيّة‭ ‬المنسوبة‭ ‬إلى‭ ‬المُتَنبّي‭. ‬

 

أولًا‭: ‬في‭ ‬روايات‭ ‬مقتل‭ ‬المُتَنبّي

1‭ - ‬الرواية‭ ‬الأشهر

لقد‭ ‬وردت‭ ‬تلك‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬ترجمة‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬المنسوبة‭ ‬إلى‭ ‬عيسى‭ ‬بن‭ ‬عليّ‭ ‬الرَبَعيّ‭ (‬328‭-‬420‭ ‬هـ‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬تكتسب‭ ‬أهمية‭ ‬خاصة،‭ ‬في‭ ‬رأي‭ ‬بعضهم،‭ ‬من‭ ‬كون‭ ‬عيسى‭ ‬هذا‭ ‬قد‭ ‬التقى‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬في‭ ‬شيراز‭ ‬سنة‭ ‬354‭ ‬هـ،‭ ‬قبل‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬شهرين‭ ‬من‭ ‬مقتله،‭ ‬كما‭ ‬يقال،‭ ‬وخلاصتها‭ ‬أن‭ ‬فاتكًا‭ ‬تتبّع‭ ‬أخبار‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬لينتقم‭ ‬منه‭ ‬بعد‭ ‬هجائه‭ ‬لضَبّة،‭ ‬وأن‭ ‬أبا‭ ‬نصر‭ ‬نصحه‭ ‬بالعدول‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬النية‭ ‬فلم‭ ‬يقتنع‭ ‬بالنصيحة،‭ ‬حتى‭ ‬علم‭ ‬أن‭ ‬غريمه‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬فارس‭ ‬نحو‭ ‬العراق،‭ ‬وأنه‭ ‬سيمر‭ ‬ببلدة‭ ‬جَبُّل‭ ‬فدير‭ ‬العاقول‭ ‬ثم‭ ‬ببغداد‭ ‬فالكوفة؛‭ ‬وفعلًا‭ ‬مر‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬بجَبُّل،‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بثلاثة‭ ‬أيام،‭ ‬ونزل‭ ‬بأبي‭ ‬نصر‭ ‬صديقه‭ ‬وصديق‭ ‬فاتك‭ ‬أيضًا،‭ ‬وعلم‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬فاتكًا‭ ‬يتربص‭ ‬به‭ ‬ليقتله،‭ ‬فاستهزأ‭ ‬بالأمر‭ ‬وأبى‭ ‬العمل‭ ‬بنصيحته‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يخفره‭ ‬أو‭ ‬يصحبه‭ ‬في‭ ‬سفره‭ ‬بعض‭ ‬أهل‭ ‬تلك‭ ‬المدينة،‭ ‬وغادرَ‭ ‬المنزل‭ ‬ليلًا،‭ ‬ولم‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬بلغ‭ ‬أبا‭ ‬نصر‭ ‬خبرُ‭ ‬مقتله‭ ‬وابنه‭ ‬وغلامًا‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬بلدة‭ ‬اسمها‭ ‬بَيْزَع،‭ ‬فأرسل‭ ‬من‭ ‬يدفنهم‭.‬

وهذه‭ ‬الرواية‭ ‬تثير‭ ‬أسئلة‭ ‬متعددة‭. ‬فبين‭ ‬جَبُّل‭ ‬وبَيْزَع‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سبعين‭ ‬كيلومترًا،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يحوج‭ ‬الراكب‭ ‬إلى‭ ‬رحلة‭ ‬مقدارها‭ ‬يوم‭ ‬ونصف‭ ‬اليوم‭ ‬تقريبًا،‭ ‬فكيف‭ ‬بلغ‭ ‬أبا‭ ‬نصر‭ ‬نبأ‭ ‬مقتل‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المسافة؟‭ ‬وكيف‭ ‬تكلف‭ ‬توجيه‭ ‬مَن‭ ‬دفَنَه‭ ‬هو‭ ‬ومن‭ ‬معه؟‭ ‬وهل‭ ‬بقي‭ ‬القتلى‭ ‬مطروحين‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬المعركة‭ ‬تلك‭ ‬المدة‭ ‬الطويلة‭ ‬التي‭ ‬يقتضيها‭ ‬وصول‭ ‬بعض‭ ‬القوافل‭ ‬من‭ ‬بيزع‭ ‬إلى‭ ‬جَبُّل‭ ‬واتصالهم‭ ‬بأبي‭ ‬نصر،‭ ‬ثم‭ ‬إرسال‭ ‬أبي‭ ‬نصر‭ ‬بعض‭ ‬رجاله‭ ‬إلى‭ ‬بيزع‭ ‬لدفن‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬وجماعته‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬تأكلهم‭ ‬الطير؟‭ ‬ولماذا‭ ‬لم‭ ‬يذكر‭ ‬أبو‭ ‬نصر‭ ‬شيئًا‭ ‬عن‭ ‬مصير‭ ‬أموال‭ ‬المُتَنبّي؟‭ ‬وسؤال‭ ‬أهم‭: ‬كيف‭ ‬عرف‭ ‬فاتك‭ ‬أن‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬انصرف‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬فارس‭ ‬وهي‭ ‬بعيدة‭ ‬جدًا‭ ‬من‭ ‬جَبُّل؟‭ ‬والطريف‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬تذكر‭ ‬أن‭ ‬فاتكًا‭ ‬قال‭ ‬للمُتَنبّي‭ ‬حين‭ ‬قتله‭: ‬‮«‬قبحًا‭ ‬لهذه‭ ‬اللحية‭ ‬يا‭ ‬سبّاب‮»‬،‭ ‬فمن‭ ‬ترى‭ ‬سمع‭ ‬هذا‭ ‬القول‭ ‬وأخبر‭ ‬أبا‭ ‬نصر‭ ‬به؟‭ ‬وهناك‭ ‬تفصيل‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬نفسها‭ ‬يذكره‭ ‬المقريزيّ‭ ( ‬ت‭ ‬845‭ ‬هـ‭) ‬في‭ ‬كتاب‭: ‬المقفّى‭ ‬الكبير،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬حوزته‭ ‬سبعون‭ ‬ألف‭ ‬دينار‭ ‬حين‭ ‬قُتل،‭ ‬فمن‭ ‬أحصى‭ ‬هذا‭ ‬المال؟‭ ‬

إن‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬لو‭ ‬قرأها‭ ‬قاض‭ ‬فإنه‭ ‬يرتاب‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬يرتاب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الراوي‭ ‬المزعوم،‭ ‬ويذهب‭ ‬به‭ ‬الظن‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬وراء‭ ‬مقتل‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬أو‭ ‬مشارك‭ ‬فيه؛‭ ‬فهو‭ ‬صديق‭ ‬لفاتك،‭ ‬وهو‭ ‬عارف‭ ‬بدقة‭ ‬حركة‭ ‬سير‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬في‭ ‬فارس‭ ‬والعراق،‭ ‬وهو‭ ‬مبهور‭ ‬بما‭ ‬ملك‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬مال‭ ‬ومتاع‭ ‬وكُتُب،‭ ‬وهو‭ ‬سوف‭ ‬يعرف‭ ‬تفاصيل‭ ‬المعركة‭ ‬بين‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬وفاتك‭ ‬بدقة،‭ ‬حتى‭ ‬كلام‭ ‬فاتك‭ ‬ومقدار‭ ‬ثروة‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬آنذاك‭ ‬يعرفهما‭.  ‬وإن‭ ‬ما‭ ‬يتبادر‭ ‬إلى‭ ‬الظن‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬ثروة‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬أغرت‭ ‬أبا‭ ‬نصر،‭ ‬فحرض‭ ‬جماعة‭ ‬من‭ ‬الأشرار‭ ‬على‭ ‬قتله،‭ ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬أحدهم،‭ ‬ثم‭ ‬جمع‭ ‬ما‭ ‬تركه‭ ‬ودفنه،‭ ‬إن‭ ‬صح‭ ‬أنه‭ ‬دفنه،‭ ‬ثم‭ ‬اخترع‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬زاعمًا‭ ‬لنفسه‭ ‬التقوى‭ ‬وحسن‭ ‬النصيحة‭ ‬والاندفاع‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تقتضيه‭ ‬الصداقة‭ ‬من‭ ‬واجب‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يبرئ‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬الجريمة‭. ‬وثمة‭ ‬رواية‭ ‬أخرى‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬الشريف‭ ‬ناصرًا‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬عنه‭ ‬شيئًا‭ ‬قد‭ ‬مرّ‭ ‬فوق‭ ‬جثة‭ ‬المُتَنبّي؛‭ ‬أتراه،‭ ‬إن‭ ‬صحت‭ ‬الروايتان،‭ ‬هو‭ ‬أبو‭ ‬نصر‭ ‬نفسه‭ ‬وقد‭ ‬التبس‭ ‬اسمه‭ ‬على‭ ‬ذاكرة‭ ‬الرواة؟‭ ‬

واللافت‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬رسالة‭ ‬قيل‭ ‬إن‭ ‬أبا‭ ‬نصر‭ ‬بعث‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬الخالديّين،‭ ‬الشاعرين‭ ‬المعاصرين‭ ‬للمُتَنبّي،‭ ‬مفصّلًا‭ ‬فيها‭ ‬الأحداث‭ ‬بالتاريخ‭ ‬الدقيق،‭ ‬ذاكرًا‭ ‬الأيام‭ ‬والشهور،‭ ‬وكاد‭ ‬يذكر‭ ‬الساعات‭ ‬والدقائق،‭ ‬كما‭ ‬قيل‭ ‬إن‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬هاشم‭ ‬الخالدي‭ ‬كتبها‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬نسخة‭ ‬بخطه‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ ‬المُتَنبّي،‭ ‬وهي‭ ‬نسخة‭ ‬يوحي‭ ‬ياقوت‭ ‬الحموي‭ ‬أنها‭ ‬شرح‭ ‬للديوان‭. ‬لكن‭ ‬أحدًا‭ ‬من‭ ‬المؤلفين‭ ‬في‭ ‬التراجم‭ ‬لم‭ ‬يشر‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬النسخة‭ ‬ولا‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الشرح‭. ‬والترجمة‭ ‬التي‭ ‬ضمت‭ ‬هذه‭ ‬الرسالة‭ ‬ونسبت‭ ‬إلى‭ ‬الربَعيّ‭ ‬وجدها‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬عزام‭ ‬مدرجة‭ ‬بعد‭ ‬آخر‭ ‬شرح‭ ‬الواحدي‭ (‬ت‭ ‬468‭ ‬هـ‭) ‬لديوان‭ ‬المُتَنبّي،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬تاريخ‭ ‬كتابتها،‭ ‬ولا‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬أدرجها،‭ ‬وهو‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬متأخرًا‭ ‬جدًا،‭ ‬وأقرب‭ ‬التواريخ‭ ‬المحتملة‭ ‬لذلك‭ ‬الإدراج‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬مئة‭ ‬سنة‭ ‬بعد‭ ‬مقتل‭ ‬المُتَنبّي،‭ ‬ونصف‭ ‬قرن‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬الربعي؛‭ ‬فهي‭ ‬بعيدة،‭ ‬إذن،‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬قتل‭ ‬المتنبّي‭.‬

وشيء‭ ‬أخير‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الخالديّين‭ ‬معروفان‭ ‬لكن‭ ‬أبا‭ ‬نصر‭ ‬الجَبُّليّ‭ ‬راوٍ‭ ‬مجهول،‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬عنه‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬اسمه‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬المبارك،‭ ‬ولم‭ ‬نظفر‭ ‬بذكره‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الخبر،‭ ‬ولم‭ ‬يعرض‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬لذكره‭ ‬في‭ ‬ديوانه‭ ‬قط‭ - ‬ومن‭ ‬عادته‭ ‬أن‭ ‬يذكر‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الذين‭ ‬ينزل‭ ‬عندهم‭ - ‬وهو‭ ‬غير‭ ‬منسوب‭ ‬إلاّ‭ ‬إلى‭ ‬بلده‭ ‬جَبُّل،‭ ‬مع‭ ‬الزعم‭ ‬أنه‭ ‬ذو‭ ‬منزلة‭ ‬عالية‭ ‬في‭ ‬الناحية‭ ‬التي‭ ‬يعيش‭ ‬فيها؛‭ ‬وذِكْره‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬قولنا‭: ‬حدثنا‭ ‬رجل‭ ‬يقال‭ ‬له‭ ‬فلان‭. ‬والعادة‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬ينسب‭ ‬إلى‭ ‬قبيلته‭. ‬والطريف‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬التمهيد‭ ‬لرسالته‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬ويقال‭ ‬إن‭ ‬فاتكًا‭ ‬خالُ‭ ‬ضبة،‭ ‬وأن‭ ‬الحمية‭ ‬داخلته‭ ‬لما‭ ‬سمع‭ ‬ذكرها‭ (‬يعني‭ ‬أم‭ ‬ضبة‭) ‬بالقبيح‮»‬‭ ‬وهذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬في‭ ‬التمريض،‭ ‬وفق‭ ‬مصطلح‭ ‬أهل‭ ‬الحديث،‭ ‬لا‭ ‬يلجأ‭ ‬إليه‭ ‬إلا‭ ‬راوٍ‭ ‬غريب،‭ ‬وليس‭ ‬رجل‭ ‬تربطه‭ ‬بفاتك‭ ‬علاقة‭ ‬متينة،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬فاتك‭ ‬ينزل‭ ‬عنده‭ ‬ويبوح‭ ‬له‭ ‬بنياته،‭ ‬ويسمع‭ ‬نصيحته‭ ‬فلا‭ ‬يستجيب‭ ‬لها‭. ‬

فهذه‭ ‬القصة‭ ‬ملتبسة،‭ ‬ولا‭ ‬سند‭ ‬في‭ ‬المصادر‭ ‬لها،‭ ‬بل‭ ‬فيها‭ ‬تناقض‭ ‬واضح‭ ‬ومجافاة‭ ‬للمنطق‭. ‬ولا‭ ‬يعتد‭ ‬هنا‭ ‬بزعم‭ ‬غير‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬المتأخرين‭ ‬أنه‭ ‬قرأ‭ ‬نصها‭ ‬في‭ ‬نسخة‭ ‬الخالدي‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ ‬المُتَنبّي،‭ ‬وذلك‭ ‬لأن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬القدماء‭ ‬ينقلون‭ ‬النص‭ ‬بحرفه‭ ‬أو‭ ‬شبه‭ ‬حرفه‭ ‬وفيه‭ ‬قول‭ ‬صاحبه‭ ‬أنه‭ ‬نقله‭ ‬من‭ ‬مصدر‭ ‬ما‭ ‬أو‭ ‬أخذه‭ ‬عن‭ ‬راو‭ ‬آخر‭ ‬فيوحون‭ ‬أنهم‭ ‬هم‭ ‬الناقلون‭ ‬أو‭ ‬الرواة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬ابن‭ ‬الأثير،‭ ‬مثلًا،‭ ‬في‭ ‬‮«‬الكامل‭ ‬في‭ ‬التاريخ‮»‬،‭ ‬حين‭ ‬أخذ‭ ‬عن‭ ‬الطبريّ‭ ‬ما‭ ‬يتصل‭ ‬بالمدة‭ ‬التي‭ ‬تناولها‭ ‬هذا‭ ‬المؤرخ‭ ‬المؤسس‭.‬

 

‭ ‬2‭ - ‬روايات‭ ‬أخرى

ويروي‭ ‬المقريزي‭ ‬والبديعيّ‭ (‬ت‭ ‬1073‭ ‬هـ‭)  ‬صاحب‭: ‬‮«‬الصبح‭ ‬المنبي‭ ‬عن‭ ‬حيثية‭ ‬المُتَنبّي‮»‬‭ ‬رواية‭ ‬أخرى،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬الخفراء‭ ‬طلبوا‭ ‬من‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬بعد‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬المنزل‭ ‬الذي‭ ‬رحل‭ ‬منه‭ ‬مبلغًا‭ ‬من‭ ‬المال‭ ‬ليسيروا‭ ‬معه‭ ‬فرفض‭ ‬أن‭ ‬يدفعه‭ ‬لهم‭ ‬شحًّا‭ ‬وكِبرًا‭ ‬فانذروا‭ ‬به‭ ‬ــ‭ ‬وهذه‭ ‬عبارة‭ ‬غير‭ ‬مفهومة‭ ‬ــ‭ ‬‮«‬فكان‭ ‬من‭ ‬أمره‭ ‬ما‭ ‬كان‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الذي‭ ‬عرض‭ ‬عليه‭ ‬الخفارة‭ ‬ليس‭ ‬أبو‭ ‬نصر،‭ ‬ولم‭ ‬يحدث‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬بيته،‭ ‬بل‭ ‬بعد‭ ‬الخروج‭ ‬منه،‭ ‬خلافًا‭ ‬للرواية‭ ‬السابقة‭. ‬وليس‭ ‬صحيحًا‭ ‬زعم‭ ‬بعضهم‭ ‬أن‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬معتد‭ ‬بنفسه‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬يرفض‭ ‬فيها‭ ‬الخفارة‭ ‬أو‭ ‬الحماية‭ ‬دومًا،‭ ‬ففي‭ ‬ترجمة‭ ‬الرَبَعيّ‭ ‬نفسها‭ ‬أن‭ ‬أبا‭ ‬الطيب‭ ‬حين‭ ‬خرج‭ ‬نحو‭ ‬فارس،‭ ‬أرسل‭ ‬يطلب‭ ‬من‭ ‬معز‭ ‬الدولة‭ ‬أن‭ ‬يضمن‭ ‬له‭ ‬الطريق‭ ‬من‭ ‬بغداد‭ ‬إلى‭ ‬واسط‭ ‬فأبى‭ ‬معز‭ ‬الدولة‭ ‬ذلك؛‭ ‬وفي‭ ‬القصيدة‭ ‬الكافيّة‭ ‬التي‭ ‬مدح‭ ‬بها‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬عضد‭ ‬الدولة‭ ‬البويهي،‭ ‬فنّاخسرو‭ ‬بن‭ ‬الحسن‭ (‬ت‭ ‬372‭ ‬هـ‭)‬،‭ ‬عند‭ ‬مغادرته‭ ‬شيراز،‭ ‬ما‭ ‬يوحي‭ ‬طلب‭ ‬الحماية،‭ ‬وذلك‭ ‬حين‭ ‬يقول‭: ‬

يُشَـــرِّدُ‭ ‬يُمـْــنُ‭ ‬فَنّاخُسْـــرَ‭ ‬عَــنّي

قَنا‭ ‬الأعداءِ‭ ‬والطَّعْنَ‭ ‬الدِّراكا

وأَلْبَسُ‭ ‬مِنْ‭ ‬رِضاهُ‭ ‬في‭ ‬طريقي

سِلاحًا‭ ‬يَذعَرُ‭ ‬الأَبطالَ‭ ‬شاكا

وهناك‭ ‬رواية‭ ‬ثالثة‭ ‬يعرضها‭ ‬البديعيّ‭ ‬أيضًا،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬الذين‭ ‬قتلوا‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬هم‭ ‬بنو‭ ‬ضَبّة‭ ‬بإيعاز‭ ‬من‭ ‬عضد‭ ‬الدولة‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬ساءه‭ ‬تفضيل‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬لسيف‭ ‬الدولة‭ ‬عليه‭. ‬وعضد‭ ‬الدولة‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬المتغلّبين‭ ‬في‭ ‬الخلافة‭ ‬العباسية،‭ ‬وقد‭ ‬تولى‭ ‬مُلك‭ ‬فارس‭ ‬ثم‭ ‬مُلك‭ ‬الموصل‭ ‬والجزيرة،‭ ‬ووُصف‭ ‬بأنه‭ ‬جبّار‭ ‬عسوف‭. ‬وهنا‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬الهجاء‭ ‬سببًا‭ ‬للقتل،‭ ‬ولا‭ ‬يعود‭ ‬ضَبّة‭ ‬هو‭ ‬ذاك‭ ‬الرجل‭ ‬العبد‭ ‬الذي‭ ‬يستركبه‭ ‬المسافرون،‭ ‬بل‭ ‬يصبح‭ ‬السبب‭ ‬هو‭ ‬استياء‭ ‬أحد‭ ‬الأمراء‭ ‬الظلمة‭ ‬من‭ ‬شاعر،‭ ‬ويصبح‭ ‬ضَبّة‭ ‬اسمًا‭ ‬لقبيلة‭ ‬معروفة‭. ‬ولئن‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬السبب‭ ‬محل‭ ‬شك‭ ‬من‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الباحثين،‭ ‬فإن‭ ‬احتمال‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بنو‭ ‬ضبو‭ ‬هم‭ ‬قاتلي‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬غير‭ ‬مستبعد‭.‬

فإذا‭ ‬تركنا‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬ونظرنا‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬رابعة‭ ‬هي‭ ‬رواية‭ ‬أبي‭ ‬القاسم‭ ‬الأصفهانيّ‭ (‬ت‭ ‬بعد‭ ‬410‭ ‬هـ‭) ‬صاحب‭ ‬كتاب‭: ‬‮«‬الواضح‭ ‬في‭ ‬مشكلات‭ ‬شعر‭ ‬المُتَنبّي‮»‬،‭ ‬والمعاصر‭ ‬لتلميذ‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬أبي‭ ‬عثمان‭ ‬بن‭ ‬جِنّي‭ (‬ت‭ ‬392‭ ‬هـ‭) ‬لا‭ ‬للمُتَنبّي‭ ‬نفسه،‭ ‬وجدنا‭ ‬أن‭ ‬فاتكًا‭ ‬الأسدي‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬عرض‭ ‬على‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬بكل‭ ‬احترام‭ ‬وتقدير،‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬ضيفًا‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬عمال‭ ‬الوزير‭ ‬المهلبيّ‭ ‬في‭ ‬الأهواز،‭ ‬أن‭ ‬يسير‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬قومه‭ ‬إلى‭ ‬دير‭ ‬قُنّة‭ ‬ليحميه‭ ‬من‭ ‬الصعاليك‭ ‬وغيرهم،‭ ‬وذلك‭ ‬لقاء‭ ‬ثوب‭ ‬لكل‭ ‬رجل‭ ‬يصحبه،‭ ‬فأبى‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬ذلك‭ ‬معتدًا‭ ‬بسيفه‭ ‬وفرسه،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬فاتك‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬جمع‭ ‬جمعًا‭ ‬من‭ ‬قطاع‭ ‬الطرق،‭ ‬وهاجم‭ ‬أبا‭ ‬الطيب‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬الطريق‭ ‬فقتله‭ ‬ومن‭ ‬معه‭ ‬واقتسم‭ ‬مع‭ ‬رفاقه‭ ‬أمواله‭. ‬ودير‭ ‬
قُنّة‭ ‬–‭ ‬وهو‭ ‬بلفظ‭ ‬دير‭ ‬قُنّى‭ ‬في‭ ‬معجم‭ ‬البلدان‭ ‬–‭ ‬يبعد‭ ‬من‭ ‬بغداد‭ ‬نحو‭ ‬تسعين‭ ‬كيلومترًا‭. ‬وبين‭ ‬بغداد‭ ‬والأهواز‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمس‭ ‬مئة‭ ‬وخمسين‭ ‬كيلومترًا؛‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬فاتكًا‭ ‬إما‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬قتل‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬فارس،‭ ‬ولم‭ ‬يقل‭ ‬أحد‭ ‬بذلك،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬قتله‭ ‬بعد‭ ‬خروجه‭ ‬منها،‭ ‬أي‭ ‬لاحقه‭ ‬هو‭ ‬وعصابته‭ ‬حتى‭ ‬دخل‭ ‬العراق،‭ ‬متتبعًا‭ ‬خطاه‭ ‬مسافة‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬مئة‭ ‬كيلومتر،‭ ‬وهذا‭ ‬مستبعد‭ ‬جدًا،‭ ‬فكيف‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬المقتلة‭ ‬قرب‭ ‬دير‭ ‬قُنّة‭ ‬أو‭ ‬دير‭ ‬العاقول،‭ ‬فيكون‭ ‬فاتك‭ ‬قد‭ ‬سعى‭ ‬وراء‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربع‭ ‬مئة‭ ‬وخمسين‭ ‬كيلومترًا؟‭ ‬وهذا‭ ‬شبه‭ ‬مستحيل،‭ ‬زد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬حدوث‭ ‬المقتلة‭ ‬أيام‭ ‬الوزير‭ ‬المهلبي‭ ‬مستحيل‭ ‬قطعًا،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬لحظه‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬عزام،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬الوزير‭ ‬قد‭ ‬توفي‭ ‬قبل‭ ‬مقتل‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬بنحو‭ ‬سنتين،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المؤرخون‭ ‬قد‭ ‬أخطأوا‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬وفاته‭.‬

 

3‭ - ‬التباس‭ ‬أمر‭ ‬القتلة

وابن‭ ‬جِنّي‭ ‬من‭ ‬أقرب‭ ‬المقرّبين‭ ‬إلى‭ ‬المُتَنبّي،‭ ‬ويقال‭ ‬إنه‭ ‬التقاه‭ ‬في‭ ‬شيراز‭ ‬قبل‭ ‬مقتله،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬سبق‭. ‬هذا‭ ‬المقرّب‭ ‬من‭ ‬شاعرنا‭ ‬يروي‭ ‬القصيدة‭ ‬البائية‭ ‬الهجائية‭ ‬في‭ ‬شرحه‭ ‬المسمى‭ ‬الفَسْر،‭ ‬فيعلل‭ ‬أسلوب‭ ‬الصراحة‭ ‬فيها‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬سبب‭ ‬قتل‭ ‬صاحبها‭ ‬بيد‭ ‬فاتك‭. ‬وهو‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬يوحي‭ ‬بحدوث‭ ‬القتل،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يذكر‭ ‬القاتل‭ ‬ولا‭ ‬يروي‭ ‬أي‭ ‬قصة‭ ‬تتصل‭ ‬به،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬شرحه‭ ‬للكافيّة‭ ‬التي‭ ‬مدح‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬بها‭ ‬عضد‭ ‬الدولة،‭ ‬وهي‭ ‬آخر‭ ‬قصائده‭ ‬كما‭ ‬يؤكدون‭. ‬فهو‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬وفي‭ ‬أضعاف‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬كلام‭ ‬جرى‭ ‬على‭ ‬لسانه‭ ‬كأنه‭ ‬ينعى‭ ‬فيه‭ ‬نفسه،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يقصد‭ ‬ذلك»؛‭ ‬ثم‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬تعقيبه‭ ‬على‭ ‬البيت‭ ‬الثامن‭ ‬والثلاثين‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القصيدة‭: ‬‮«‬جعل‭ ‬القافية‭ ‬الهلاك‭ ‬فهلك‮»‬‭. ‬يعني‭ ‬قوله‭:‬

وأَنّى‭ ‬شِئتِ‭ ‬يا‭ ‬طُرُقي‭ ‬فَكوني

أَذاةً‭ ‬أوْ‭ ‬نــــــــــــــجـــــــــاةً‭ ‬أو‭ ‬هَــــــــــــلاكــــــــــــا

وبعد‭ ‬شرح‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬يعلن‭ ‬ابن‭ ‬جِنّي‭ ‬انتهاء‭ ‬قصائد‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬الكافيّة؛‭ ‬لكن‭ ‬نسخة‭ ‬من‭ ‬نسخ‭ ‬الفَسْر‭ ‬الخمس‭ ‬تفرّدت‭ ‬بوصفٍ‭ ‬مقتضب‭ ‬ملتبس‭ ‬لمقتل‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬وهو‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬من‭ ‬الشعر،‭ ‬وقُتل‭ ‬يوم‭ ‬الأربعاء‭ (...) ‬وقت‭ ‬منصرفه‭ ‬من‭ ‬شيراز‭ ‬بفرع‭ ‬بين‭ ‬الحل‭ ‬والرصافة،‭ ‬وابنُه‭ ‬وغلام‭ ‬له‭ ‬اسمه‭ ‬مُفلح،‭ ‬قتلهم‭ ‬فاتك‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬جهل‭ ‬الأسدي‭ ‬وفراس‭ ‬بن‭ ‬بداد،‭ ‬وقيل‭ ‬إنه‭ ‬قال‭: ‬يا‭ ‬قاذف‭ ‬المحصنات،‭ ‬يا‭ ‬سبّاب،‭ ‬قبحًا‭ ‬لهذه‭ ‬اللحية‮»‬‭. ‬ونحن‭ ‬لا‭ ‬نكاد‭ ‬نشك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬مقحم‭ ‬على‭ ‬الفَسْر‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬النساخ‭ ‬أو‭ ‬القراء،‭ ‬لأن‭ ‬أسماء‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬فيه‭ ‬لا‭ ‬توافق‭ ‬حادثة‭ ‬مقتل‭ ‬المُتَنبّي‭.‬

يبقى‭ ‬أن‭ ‬أشهر‭ ‬من‭ ‬نُسب‭ ‬إليه‭ ‬جرم‭ ‬القتل‭ ‬هو‭ ‬فاتك‭ ‬هذا،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬واضح،‭ ‬وهو‭ ‬شخص‭ ‬مجهول‭ ‬ومشكوك‭ ‬في‭ ‬وجوده؛‭ ‬وهناك‭ ‬قتلة‭ ‬آخرون‭ ‬شبه‭ ‬مجهولين‭ ‬كتلك‭ ‬السرية‭ ‬من‭ ‬الأعراب‭ ‬التي‭ ‬تكلم‭ ‬عليها‭ ‬أبومنصور‭ ‬الثعالبيّ‭ (‬ت‭ ‬429‭ ‬هـ‭)‬،‭ ‬وأشار‭ ‬إلى‭ ‬قتلها‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬واستيلائها‭ ‬على‭ ‬أمواله؛‭ ‬وكبني‭ ‬ضَبّة‭ ‬الذين‭ ‬سبق‭ ‬ذكرهم؛‭ ‬أو‭ ‬كفرسان‭ ‬أسد‭ ‬وشيبان‭ ‬الذين‭ ‬ذكر‭ ‬أبو‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬أنهم‭ ‬خرجوا‭ ‬على‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬وصحبه‭ ‬وقتلوهم،‭ ‬أو‭ ‬كقطّاع‭ ‬الطرق‭.‬

 

4‭ - ‬التباس‭ ‬الأمكنة‭ ‬والأزمنة‭ ‬والشهود

كما‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬مكانًا‭ ‬واحدًا‭ ‬للمقتلة،‭ ‬فهم‭ ‬يذكرون‭ ‬لها‭ ‬ثلاثة‭ ‬مواضع‭ ‬معروفة،‭ ‬هي‭ ‬الصافية‭ ‬وبَيْزَع‭ ‬وبَنُورا،‭ ‬وموضعين‭ ‬ملتبسين‭ ‬هما‭ ‬الفرع‭ ‬وبَيُوزى‭ (‬على‭ ‬وزن‭ ‬فَعُولى‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أكده‭ ‬المقريزي،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنها‭ ‬تصحيف‭ ‬لبَنُورا،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬العكس‭ ‬صحيحًا‭)‬،‭ ‬ومواضع‭ ‬نسبية‭ ‬لا‭ ‬تسمى‭ ‬بل‭ ‬يشار‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يجاورها‭ ‬أو‭ ‬يحيط‭ ‬بها‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬تجاور‭ ‬دير‭ ‬العاقول‭ ‬أو‭ ‬الصافية‭ ‬أو‭ ‬غيرهما‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬القريبة‭ ‬منهما‭.  ‬ولا‭ ‬نعرف‭ ‬عدد‭ ‬أصحاب‭ ‬المُتَنبّي،‭ ‬ولا‭ ‬عدد‭ ‬الرجال‭ ‬الذين‭ ‬هاجموه،‭ ‬فالروايات‭ ‬تختلف‭ ‬اختلافًا‭ ‬واضحًا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭.‬

ولا‭ ‬نعرف‭ ‬زمنًا‭ ‬واحدًا‭ ‬لتلك‭ ‬المعركة،‭ ‬فقد‭ ‬راوح‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن‭ ‬بين‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬رمضان،‭ ‬وبين‭ ‬شوال‭ ‬بغير‭ ‬تعيين‭ ‬لليوم‭.‬

ولم‭ ‬ير‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬معروف‭ ‬جثث‭ ‬القتلى؛‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬المراثي‭ ‬التي‭ ‬قيلت‭ ‬في‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬ما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬قاتله‭ ‬أو‭ ‬مكان‭ ‬قتله،‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬تلميح‭ ‬في‭ ‬إحداها‭ ‬إلى‭ ‬القتل‭ ‬وإلى‭ ‬أن‭ ‬القتلة‭ ‬هم‭ ‬بنو‭ ‬أسد،‭ ‬وسائر‭ ‬المراثي‭ ‬خلو‭ ‬من‭ ‬الإشارة‭ ‬الصريحة‭ ‬أو‭ ‬الضمنية‭ ‬إلى‭ ‬القتل،‭ ‬وهذا‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬الارتياب‭ ‬في‭ ‬نسبة‭ ‬القتل‭ ‬إلى‭ ‬فاتك،‭ ‬ويسمح‭ ‬لمن‭ ‬يريد‭ ‬التوسع‭ ‬في‭ ‬الاحتمالات‭ ‬أن‭ ‬يفترض‭ ‬عدم‭ ‬حصول‭ ‬القتل‭ ‬أصلًا،‭ ‬فربما‭ ‬مات‭ ‬الرجل‭ ‬حتف‭ ‬أنفه‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬السجون،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬اجتاحته‭ ‬وصحبه‭ ‬عاصفة‭ ‬رملية‭ ‬أو‭ ‬ثلجية‭ ‬فقضت‭ ‬عليهم‭ (‬لأن‭ ‬الأحداث‭ ‬جرت‭ ‬بين‭ ‬سبتمبر‭ ‬وأكتوبر‭). ‬وحين‭ ‬يختفي‭ ‬شاعر‭ ‬كبير‭ ‬كالمُتَنبّي،‭ ‬سواء‭ ‬بالقتل‭ ‬أو‭ ‬بالسجن‭ ‬أو‭ ‬بغيره،‭ ‬فإن‭ ‬القصص‭ ‬الخيالية‭ ‬تحاك‭ ‬حوله‭. ‬وفي‭ ‬أيامنا‭ ‬التي‭ ‬تتوافر‭ ‬فيها‭ ‬أدوات‭ ‬التحقق‭ ‬الكثيرة،‭ ‬نسمع‭ ‬بموت‭ ‬أحدهم‭ ‬ثم‭ ‬نكتشف‭ ‬بعد‭ ‬مدة‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬حيًا،‭ ‬ونسمع‭ ‬بجريمة‭ ‬فتصلنا‭ ‬أخبار‭ ‬مختلفة‭ ‬ومتباينة‭ ‬عنها،‭ ‬ثم‭ ‬نكتشف‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬قيل‭ ‬فيها‭ ‬أو‭ ‬أكثره‭ ‬محض‭ ‬خيال،‭ ‬وربما‭ ‬تضليل،‭ ‬وأن‭ ‬الحقيقة‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نتوقعه؛‭ ‬حتى‭ ‬بعض‭ ‬محاكم‭ ‬الجزاء‭ ‬تنزل‭ ‬حكم‭ ‬الإعدام‭ ‬بأحدهم‭ ‬ثم‭ ‬تكتشف‭ ‬بعد‭ ‬فوات‭ ‬الأوان‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬بريئًا،‭ ‬فكيف‭ ‬يمكن‭ ‬للأمر‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬القديمة،‭ ‬ولاسيما‭ ‬حين‭ ‬يسجل‭ ‬الخبر‭ ‬كتّاب‭ ‬متأخرون،‭ ‬ليس‭ ‬عملهم‭ ‬التأريخ‭ ‬ولا‭ ‬التحقيق‭ ‬القضائي؟‭ ‬

 

ثانيًا‭: ‬في‭ ‬ضَبّة‭ ‬وخاله

1‭ - ‬لضبة‭ ‬صورتان‭ ‬أدبية‭ ‬وتاريخية

الصورة‭ ‬التي‭ ‬تظهرها‭ ‬أخبار‭ ‬قصيدة‭ ‬الهجاء‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬ضَبّة‭ ‬هي‭ ‬أنه‭ ‬عبد‭ ‬مُكارٍ‭ ‬أو‭ ‬دليل‭ ‬للمسافرين،‭ ‬وأنه‭ ‬نزق‭ ‬جبان‭ ‬شتّام،‭ ‬يفر‭ ‬إلى‭ ‬إحدى‭ ‬القلاع‭ ‬ويرسل‭ ‬السباب‭ ‬من‭ ‬فوقها،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ندري‭ ‬لماذا‭ ‬يترك‭ ‬الركْب‭ ‬الذي‭ ‬استأجره،‭ ‬ولماذا‭ ‬يفر‭ ‬منه‭ ‬ويكيل‭ ‬الشتائم‭ ‬له‭. ‬وهو‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬نسخ‭ ‬الديوان‭ ‬وفي‭ ‬الأخبار‭ ‬الأدبية‭ ‬ضَبّة‭ ‬بن‭ ‬يزيد‭ ‬العيني،‭ ‬وبعضهم‭ ‬قرأها‭ ‬العتبي،‭ ‬ولعله‭ ‬تحريف،‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬نسخة‭ ‬واحدة‭ ‬حيث‭ ‬يوصف‭ ‬بأنه‭ ‬ضَبّة‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬العيني،‭ ‬لا‭ ‬ابن‭ ‬يزيد‭. ‬

لكن‭ ‬إذا‭ ‬انتقلنا‭ ‬إلى‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬وجدنا‭ ‬العكس،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬دائمًا‭ ‬ضَبّة‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬العيني،‭ ‬مهجوّ‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬نفسه،‭ ‬بغير‭ ‬التباس،‭ ‬ووجدنا‭ ‬أن‭ ‬صورته‭ ‬تتبدل‭ ‬من‭ ‬الضعف‭ ‬والنزق،‭ ‬إلى‭ ‬القوة‭ ‬والبطش؛‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬أخبار‭ ‬سنة‭ ‬364‭ ‬هـ،‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬مقتل‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬بنحو‭ ‬عشر‭ ‬سنوات،‭ ‬رجل‭ ‬ذو‭ ‬سطوة‭ ‬تخضع‭ ‬له‭ ‬عشائر‭ ‬كثيرة،‭ ‬وقد‭ ‬أمره‭ ‬بختيار‭ ‬بن‭ ‬معز‭ ‬الدولة‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬بويه‭ ‬بالإغارة‭ ‬على‭ ‬أطراف‭ ‬بغداد،‭ ‬وبقطع‭ ‬الميرة‭ ‬عنها،‭ ‬ففعل‭. ‬وفي‭ ‬أخبار‭ ‬سنة‭ ‬369‭ ‬هـ‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬مستوليًا‭ ‬على‭ ‬عين‭ ‬التمر،‭ ‬سالكًا‭ ‬‮«‬سبيل‭ ‬اللصوص‭ ‬وقطّاع‭ ‬الطرق‮»‬،‭ ‬وفق‭ ‬عبارة‭ ‬ابن‭ ‬الأثير‭ ‬في‭ ‬‮«‬الكامل‭ ‬في‭ ‬التاريخ‮»‬،‭ ‬وأن‭ ‬عضد‭ ‬الدولة‭ ‬أرسل‭ ‬نحوه‭ ‬سرية،‭ ‬فهرب‭ ‬وترك‭ ‬أهله‭ ‬في‭ ‬البلدة‭ ‬‮«‬وكان‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬نهب‭ ‬مشهد‭ ‬الحسين‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬بناه‭ ‬عضد‭ ‬الدولة‭ ‬نفسه،‭ ‬وعوقب‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ - ‬ولا‭ ‬يعيّنون‭ ‬تاريخ‭ ‬تلك‭ ‬الحادثة‭ -. ‬إن‭ ‬إرسال‭ ‬أحد‭ ‬أمراء‭ ‬العصر‭ ‬سرية‭ ‬لمواجهة‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬ذا‭ ‬قوة‭ ‬وعزوة‭ ‬كبيرة‭ ‬لا‭ ‬مجرد‭ ‬عبد‭ ‬مأجور‭.‬

الفرق‭ ‬واضح‭ ‬جدًا‭ ‬بين‭ ‬الصورتين‭: ‬صورة‭ ‬ضَبّة‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬وكتب‭ ‬الأدب،‭ ‬وصورته‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الاسم‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الشخصية‭. ‬صحيح‭ ‬أنه‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬فتى‭ ‬حين‭ ‬شاتمَ‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬وجماعته،‭ ‬إذا‭ ‬ثبت‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬حدث،‭ ‬وأنه‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬نحو‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أصبح‭ ‬شابًا‭ ‬ذا‭ ‬سطوة،‭ ‬لكن‭ ‬المنطق‭ ‬يقتضي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬له‭ ‬شخصية‭ ‬قيادية‭ ‬منذ‭ ‬الصغر‭ ‬أو‭ ‬الفتوة‭ ‬حتى‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬قيادة‭ ‬العشائر‭. ‬ومن‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬طباعه‭ ‬وقدراته‭ ‬لا‭ ‬يفر‭ ‬من‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬وجماعته،‭ ‬بل‭ ‬يتصدى‭ ‬لهم‭ ‬بعنف،‭ ‬أو‭ ‬يذهب‭ ‬ليأتي‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬قومه‭ ‬فيقاتلهم‭. ‬فقصة‭ ‬فراره‭ ‬ودخوله‭ ‬الحصن‭ ‬وإرسال‭ ‬الشتائم‭ ‬لا‭ ‬تستقيم،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬سببًا‭ ‬لها‭. ‬

وشيء‭ ‬آخر‭. ‬كان‭ ‬ينبغي‭ ‬لضَبّة‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬يشارك‭ ‬خاله‭ ‬في‭ ‬الانتقام‭ ‬من‭ ‬المُتَنبّي،‭ ‬فالذي‭ ‬يشارك‭ ‬الخارجيّ‭ ‬الذي‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬بني‭ ‬كلاب‭ ‬سنة‭ ‬353‭ ‬هـ‭ ‬في‭ ‬الإغارة‭ ‬على‭ ‬الكوفة،‭ ‬يكون‭ ‬أكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬حمل‭ ‬السلاح‭ ‬والقتال‭ ‬مع‭ ‬خاله‭ ‬سنة‭ ‬354‭ ‬هـ،‭ ‬لكننا‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬له‭ ‬أثرًا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المقتلة،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الإعداد‭ ‬لها،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬المشاركة‭ ‬
فيها‭ ‬ــ‭ ‬وقد‭ ‬رأينا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬حيًا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬وعاش‭ ‬بعده‭ ‬زمنًا‭ ‬ــ‭. ‬

 

2‭ - ‬فاتك‭ ‬شخصية‭ ‬مجهولة‭ ‬ملتبسة

ونحن‭ ‬لا‭ ‬نكاد‭ ‬نعرف‭ ‬اسم‭ ‬هذا‭ ‬الخال،‭ ‬لأن‭ ‬أهم‭ ‬روايات‭ ‬قتل‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬تزعم‭ ‬أنه‭ ‬سمي‭ ‬فاتكًا‭ ‬لسفكه‭ ‬الدماء‭ ‬وإقدامه‭ ‬على‭ ‬الأهوال،‭ ‬فهو‭ ‬لقب‭ ‬اكتسبه‭ ‬بسبب‭ ‬سلوكه‭ ‬وأعماله‭ ‬حين‭ ‬بلغ‭ ‬أشده‭. ‬وحتى‭ ‬إننا‭ ‬لا‭ ‬نكاد‭ ‬نعرف‭ ‬أباه،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬الأب‭ ‬يدعى‭ ‬مرة‭ ‬أبا‭ ‬جهل،‭ ‬وهذه‭ ‬كنية‭ ‬لا‭ ‬اسم،‭ ‬فأبو‭ ‬جهل‭ ‬الصحابي،‭ ‬مثلًا،‭ ‬كان‭ ‬يدعى‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬هشام‭ ‬المخزومي،‭ ‬وكنّاه‭ ‬النبيّ‭ ‬بأبي‭ ‬جهل‭ ‬ذمًا‭ ‬له،‭ ‬وكان‭ ‬له‭ ‬كنية‭ ‬أخرى‭ ‬هي‭ ‬أبو‭ ‬الحَكَم،‭ ‬ومن‭ ‬المستبعد‭ ‬أن‭ ‬يسمّي‭ ‬مسلم‭ ‬ابنه‭ ‬بأبي‭ ‬جهل‭. ‬واسم‭ ‬أبي‭ ‬فاتك‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬فراس،‭ ‬لكننا‭ ‬نكتشف‭ ‬أن‭ ‬فراسًا‭ ‬هو‭ ‬فراس‭ ‬بن‭ ‬بداد،‭ ‬أحد‭ ‬أقارب‭ ‬فاتك،‭ ‬وأن‭ ‬ثمة‭ ‬تحريفًا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬النصوص‭ ‬التي‭ ‬ورد‭ ‬ذكره‭ ‬فيها‭. ‬وفاتك‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الروايات‭ ‬خال‭ ‬ضَبّة،‭ ‬وفي‭ ‬بعضها‭ ‬ابن‭ ‬عمه،‭ ‬وفي‭ ‬بعضها‭ ‬ابن‭ ‬خاله،‭ ‬وفي‭ ‬بعضها‭ ‬ابن‭ ‬خالته،‭ ‬وفي‭ ‬بعضها‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬قرباه‭. ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يظهر‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬مقتل‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬ثم‭ ‬يختفي،‭ ‬ليظهر‭ ‬ابن‭ ‬أخته‭ ‬ضَبّة‭ ‬صاحب‭ ‬الشأس‭ ‬والبأس؛‭ ‬فهل‭ ‬كان‭ ‬فاتك‭ ‬نكرة‭ ‬ولم‭ ‬يُعرف‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬هجاء‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬لضَبّة،‭ ‬أم‭ ‬هو‭ ‬شخصية‭ ‬وهمية‭ ‬اخترعت‭ ‬لإكمال‭ ‬العناصر‭ ‬الفنية‭ ‬لتلك‭ ‬القصة؟‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬نرجحه‭.‬

 

ثالثًا‭: ‬القصيدة‭ ‬البائيّة

لندع‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬وننظر‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬الهجاء‭ ‬البائية‭ ‬نفسها‭. ‬إن‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬استعلى‭ ‬على‭ ‬شعراء‭ ‬معروفين‭ ‬في‭ ‬زمنه‭ ‬ولم‭ ‬يرد‭ ‬على‭ ‬هجائهم‭ ‬له،‭ ‬واستعلى‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الزعماء‭ ‬فأبى‭ ‬مدحهم،‭ ‬أتراه‭ ‬يهجو‭ ‬من‭ ‬زُعم‭ ‬أنه‭ ‬عبد‭ ‬أرعن؟‭ ‬ولنفترض‭ ‬أنه‭ ‬جهل‭ ‬وهجاه،‭ ‬فإنه‭ ‬يهجوه‭ ‬بأبيات‭ ‬قليلة‭ ‬تناسب‭ ‬قدره،‭ ‬أما‭ ‬أن‭ ‬يهجوه‭ ‬بمطولة‭ ‬خالصة‭ ‬للهجاء‭ ‬تبلغ‭ ‬تسعة‭ ‬وثلاثين‭ ‬بيتًا‭ ‬فأمر‭ ‬بعيد‭ ‬من‭ ‬التصور،‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬الخير‭ ‬للشاعر‭ ‬أن‭ ‬يبذل‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬اقتضاه‭ ‬تأليف‭ ‬تلك‭ ‬المطولة‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬قصيدة‭ ‬مديح‭ ‬لبعض‭ ‬ذوي‭ ‬الشأن‭ ‬والرفعة‭. ‬نعم‭ ‬أطال‭ ‬في‭ ‬هجاء‭ ‬كافور،‭ ‬لكن‭ ‬كافورًا‭ ‬حاكم‭ ‬وليس‭ ‬مكاريًا‭ ‬أو‭ ‬دليلًا‭! ‬ولم‭ ‬يعرف‭ ‬عن‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬الفحش‭ ‬الصريح‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬إلا‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬حين‭ ‬هجا‭ ‬ابن‭ ‬كيغلغ،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فحشًا‭ ‬متماديًا،‭ ‬بل‭ ‬اكتفى‭ ‬فيه‭ ‬ببيتين‭ ‬ليس‭ ‬إلاّ‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬طولها‭ ‬ستة‭ ‬وثلاثون‭ ‬بيتًا‭ ‬ذات‭ ‬معان‭ ‬راقية‭ ‬ورائعة،‭ ‬ثم‭ ‬ندم‭ ‬على‭ ‬عباراته‭ ‬الفاحشة‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬لو‭ ‬فارقته‭ ‬قبل‭ ‬قولها‭ ‬لم‭ ‬أقلها،‭ ‬أنفة‭ ‬من‭ ‬اللفظ‭ ‬الذي‭ ‬فيها»؛‭ ‬أما‭ ‬ما‭ ‬نسب‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬هجاء‭ ‬ضَبّة‭ ‬فكله‭ ‬فحش‭ ‬صريح‭ ‬وليس‭ ‬فيه‭ ‬أي‭ ‬معنى‭ ‬راق‭ ‬ولا‭ ‬صورة‭ ‬رائعة،‭ ‬بل‭ ‬منه‭ ‬ما‭ ‬ينحط‭ ‬كثيرًا‭ ‬عن‭ ‬أسلوب‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬وذائقته‭ ‬الموسيقية‭. ‬وحسبنا‭ ‬أن‭ ‬نلاحظ‭ ‬أن‭ ‬مطلع‭ ‬القصيدة‭ ‬وبعضًا‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬أبياتها‭ ‬يُشعر‭ ‬وكأنه‭ ‬مكسور‭ ‬الوزن‭ ‬لأنه‭ ‬من‭ ‬البحر‭ ‬المجتثّ‭ ‬المشعّث‭ ‬الذي‭ ‬انتقلت‭ ‬فيه‭ ‬فاعلاتن‭ ‬إلى‭ ‬مفعولن،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬صوره‭ ‬من‭ ‬السخف‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يوافق‭ ‬شعر‭ ‬أبي‭ ‬الطيب،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬اتفق‭ ‬عليه‭ ‬الجميع‭. ‬

لذلك‭ ‬لا‭ ‬نستغرب‭ ‬قول‭ ‬ابن‭ ‬جِنّي‭ ‬في‭ ‬شرحه‭ ‬لديوان‭ ‬المُتَنبّي‭: ‬‮«‬ورأيته‭ ‬وقد‭ ‬قرئت‭ ‬عليه‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬وهو‭ ‬يتكرّه‭ ‬إنشادها‮»‬‭ ‬أي‭ ‬يشمئز‭ ‬منه،‭ ‬وفي‭ ‬رواية‭ ‬أخرى‭: ‬‮«‬وهو‭ ‬ينكر‭ ‬إنشادها‮»‬‭. ‬وينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬حدث‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬شيراز‭ ‬في‭ ‬صفر‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬354‭ ‬هـ‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬الرجلان‭ ‬هناك‭. ‬وقد‭ ‬علل‭ ‬ابن‭ ‬جِنّي‭ ‬سخف‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬بأن‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬صرح‭ ‬بالشتم‭ ‬لأن‭ ‬ضَبّة‭ ‬‮«‬لا‭ ‬يفهم،‭ ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬التعريض‮»‬‭ ‬واستشهد‭ ‬بقول‭ ‬بشار‭ ‬بن‭ ‬بُرْد‭ ‬حين‭ ‬انتقد‭ ‬بعضهم‭ ‬شعره‭ ‬في‭ ‬جاريته‭ ‬ربابة‭: ‬‮«‬إنما‭ ‬أكلّم‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬معرفته‮»‬‭ ‬فعلية‭ ‬القوم،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يوحيه‭ ‬بشار‭ ‬من‭ ‬بعد،‭ ‬تستحسن‭ ‬النمط‭ ‬البليغ،‭ ‬والجواري‭ ‬لا‭ ‬يفهمنه‭ ‬ولا‭ ‬ينتفعن‭ ‬به،‭ ‬بل‭ ‬حسبهن‭ ‬النمط‭ ‬البسيط‭ - ‬ويمكن‭ ‬لهذا‭ ‬الحكم‭ ‬أن‭ ‬يشمل‭ ‬العبيد‭ -. ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬غير‭ ‬مقنع؛‭ ‬لأن‭ ‬هناك‭ ‬فرقًا‭ ‬بين‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬التصريح‭ ‬ذمًا‭ ‬فاحشًا‭ ‬أو‭ ‬ذمًا‭ ‬مهذبًا،‭ ‬فليست‭ ‬القضية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬قضية‭ ‬تصريح‭ ‬أو‭ ‬إيماء‭, ‬بل‭ ‬هي‭ ‬قضية‭ ‬الفحش‭ ‬السوقي‭ ‬الذي‭ ‬فيها‭. ‬ونحن‭ ‬لا‭ ‬نتخيل‭ ‬أن‭ ‬يمتنع‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬عن‭ ‬فاحش‭ ‬القول‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شعره،‭ ‬وأن‭ ‬يلمّ‭ ‬به‭ ‬إلمامًا‭ ‬سريعًا‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬واحدة‭ ‬شعر‭ ‬بالخجل‭ ‬بعد‭ ‬قولها،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الثالثة‭ ‬والثلاثين‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬ودون‭ ‬ذلك،‭ ‬ثم‭ ‬يهجم‭ ‬على‭ ‬قول‭ ‬الفحش‭ ‬هجوم‭ ‬أرعنٍ‭ ‬جاهل‭ ‬حين‭ ‬يجاوز‭ ‬الخمسين؛‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬معظم‭ ‬شعره‭ ‬أنيق‭ ‬العبارة‭ ‬بديع‭ ‬الصورة‭ ‬مدهشها،‭ ‬ثم‭ ‬يسفّ‭ ‬كل‭ ‬الإسفاف‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬قالها‭ ‬في‭ ‬كهولته‭. ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬تعليل‭ ‬ابن‭ ‬جِنّي‭ ‬ومن‭ ‬وافقه‭ ‬صحيحًا‭ ‬لمَا‭ ‬قال‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬في‭ ‬صباه‭ ‬قصيدة‭ ‬يتهكم‭ ‬فيها‭ ‬برجلين‭ ‬قتلا‭ ‬جرَذًا‭ ‬وأبرزاه‭ ‬للناس‭ ‬ليروا‭ ‬كبره،‭ ‬وآخرها‭:‬

وأيُّكُما‭ ‬كان‭ ‬مِن‭ ‬خَلْفِهِ‭ ‬

فإن‭ ‬به‭ ‬عَضةً‭ ‬في‭ ‬الذَنَبْ؟

نعم،‭ ‬هي‭ ‬البساطة‭ ‬التي‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬السهل‭ ‬الممتنع،‭ ‬وليست‭ ‬البساطة‭ ‬التي‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬السوقية‭. ‬حتى‭ ‬مداعبة‭ ‬بشار‭ ‬لجاريته‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬سوقية،‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬أشبه‭ ‬بالكلام‭ ‬العامي‭. ‬لهذا‭ ‬كله‭ ‬نرجح‭ ‬إنكار‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬للقصيدة‭ ‬البائية‭ ‬تلك،‭ ‬ونرجح‭ ‬صدقه‭ ‬في‭ ‬إنكارها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬بدليل‭ ‬غرابتها‭ ‬عن‭ ‬أسلوبه،‭ ‬وغرابة‭ ‬معانيها‭ ‬عن‭ ‬سلوكه‭ ‬وعاداته،‭ ‬ويغلب‭ ‬على‭ ‬الظن‭ ‬أنها‭ ‬منحولة‭ ‬عليه‭. ‬وقد‭ ‬نحل‭ ‬الشعراء‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬أشعارهم‭ ‬في‭ ‬القديم‭ ‬والحديث،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬تانك‭ ‬القصيدتان‭ ‬اللتان‭ ‬ذكر‭ ‬الرَبَعيّ‭ ‬أنهما‭ ‬نحلتا‭ ‬أبا‭ ‬الطيب‭ ‬في‭ ‬عصره،‭ ‬وهما‭ ‬رائية‭ ‬ودالية‭ ‬ــ‭ ‬دع‭ ‬ما‭ ‬نقرأه‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬الإنترنت‭ ‬ــ‭. ‬ومتى‭ ‬أنكرنا‭ ‬القصيدة‭ ‬أنكرنا‭ ‬الحادثة‭ ‬التي‭ ‬ارتبطت‭ ‬بها‭.‬

 

النتاج

وفي‭ ‬النتيجة‭ ‬فإن‭ ‬قصة‭ ‬المعركة‭ ‬التي‭ ‬دارت‭ ‬بين‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬وفاتك‭ ‬لا‭ ‬تقنع،‭ ‬ورواياتها‭ ‬متعددة‭ ‬متناقضة،‭ ‬أو‭ ‬مختلفة‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬وصورة‭ ‬ضَبّة‭ ‬فيها‭ ‬مجافية‭ ‬لما‭ ‬عرف‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬وشخصية‭ ‬فاتك‭ ‬تبدو‭ ‬وهمية،‭ ‬والقصيدة‭ ‬البائية‭ ‬تبدو‭ ‬منحولة،‭ ‬وليس‭ ‬أمامنا‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬القتل‭ ‬إلا‭ ‬مجرد‭ ‬الظن‭. ‬والراجح‭ ‬شبه‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬المُتَنبّي‭ ‬قد‭ ‬قتل‭ ‬لكننا‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬تعيين‭ ‬قاتله‭ ‬ولا‭ ‬طريقة‭ ‬قتله،‭ ‬وإنْ‭ ‬راودتنا‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬جماعة‭ ‬من‭ ‬قطاع‭ ‬الطرق‭ ‬وربما‭ ‬المرتزقة‭ ‬قد‭ ‬قتلته‭ ‬طمعًا‭ ‬في‭ ‬ماله،‭ ‬أو‭ ‬بتدبير‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬الساسة‭ ‬الحاقدين،‭ ‬مع‭ ‬احتمال‭ ‬ضئيل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مات‭ ‬بطريقة‭ ‬أخرى،‭ ‬أو‭ ‬اختفى‭ ‬في‭ ‬سجن‭ ‬أو‭ ‬غيره‭ .‬