صورة الرئيس في السينما الأمريكية

صورة الرئيس  في السينما الأمريكية

ربما لم يمرّ بالتاريخ السياسي الأمريكي رئيس بمثل شخصية الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، منذ تأسيس الولايات المتحدة في أواسط القرن الثامن عشر.  لكن هناك عددًا من الرؤساء أثاروا الجدل بسلوكياتهم ومواقفهم السياسية والاجتماعية. وبطبيعة الحال أن مثل هذه الشخصيات تعتبر من الشخصيات المتوقعة في بلد بحجم الولايات المتحدة، يضم فئات عرقية متنوعة ومهاجرة، كما أن عدد الرؤساء بعد نهاية عهد ترامب بلغ 45 رئيسًا، بما يحتم وجود شخصيات مثيرة للجدل بينهم.

 تطرقت السينما الأمريكية لمختلف القضايا في الحياة الأمريكية، على مدار التاريـــخ الأمريكي الذي تجاوز الآن ما يقارب 370 عامًا أو أكثر قليلًا... وتعاملت السينما مع موضوع شخصيــة الرئيس من خلال أفلام درامية أو حركية أو كوميدية... وقد تعرّفت على أفلام تتناول رؤساء يمثلون شخصيات حقيقية، مثل إبراهام لنكولن وريتشارد نيكسون وشخصيات تم تخيّلها.  تطرح هذه الأفلام الأوضاع التي مرّ بها هؤلاء الرؤساء؛ سواء كانت واقعية أو تم تخيّلها... حبكت روايات تلك الأفلام بشكل جذاب ومثير للاهتمام من قبل المشاهدين. كذلك كان لدور الممثلين أهمية في إضفاء التشويق والإثارة، ولا ننسى القدرات الإخراجية وعناصر الديكور والإكسسوارات والإبداع في التصوير التي تجعل المشاهد يتمتع بسينما متمكنة.

لنكولن 
  كان من أهم تلك الأفلام فيلم لنكولن (Lincolin)، الذي يحكي حياة الرئيس إبراهام لنكولن، الرئيس السادس عشر في التاريخ الأمريكي. يعد هذا الرئيس الذي انتمى للحزب الجمهوري من أهم الرؤساء، فقد شهد عهده الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، حيث عزم على إنهاء عصر العبودية التي عاناها المواطنون السود الذين جلبوا من إفريقيا. ولعب الممثل دانيال دي لويس دور لنكولن بطريقة متقنة ومقنعة.
 وكما هو معلوم أن الحرب الأهلية الأمريكية في عهد لنكولن بدأت في 12 أبريل 1861 وانتهت في 13 مايو 1865، أي أنها تجاوزت أربع سنوات بقليل بين الولايات الشمالية الموالية للاتحاد وإنهاء العبودية والولايات الجنوبية التي حاولت الانفصال والإبقاء على ذلك النظام المجحف.
لكن تلك الحرب كانت مأساوية وقتل خلالها مئات الآلاف من الجنود وغيرهم من مواطنين، وتسببت في إثارة النزاعات الصعبة.  كما أن العنصريين عزموا على قتل الرئيس، وقد قتله جون ويلكس بووث، وهو ممثل ومتعاطف مع الكونفدراليين، مساء يوم 14 أبريل 1865 في مسرح فورد بواشنطن العاصمة. وحدث الاغتيال بعد خمسة أيام فقط من استسلام الكونفدراليين بقيادة الجنرال روبرت. آي. لي، وقد أنتج الفيلم عام 2012، وأخرجه المخرج المشهور ستيفن سبيلبيرج.

منظمو الحملات
أنتج فيلم The Ides of March الذي أخرجه جورج كلوني عام 2011، وهو يدور حول شخصية ريان غولسنغ الذي يعمل مديرًا للحملات الانتخابية، ويتعامل مع المتنافسين على الرئاسة.  ويبرز الفيلم القوى المختلفة التي تستطيع أن تربط الخيوط خلف الستار، وتسعى للتحكم بالعملية الانتخابية. ويمكن اعتبار هذا الفيلم مفيدًا في التعرف على أسرار الحملات الانتخابية ومنعطفاتها وكيفية التعامل مع المصاعب التي تواجه المرشحين في انتخابات الرئاسة.

رجال الرئيس
لكن من أهم الأفلام التي أنتجت في موضوع الرئاسة الأمريكية كان فيلم كل رجال الرئيس، هذا الفيلم كان معتمدًا على كتّاب وصحفيين في جريدة واشنطن بوست، مثل بوب ودورد وكارل برنسيكن، بالعنوان نفسه، والذي سطر قضية ووترغيت، وهي كانت تتعلق بتجسس فريق الرئيس ريتشارد نيكسون على حملة المرشح الديمقراطي، وقد أدت تلك الفضيحة إلى استقالة نيكسون بعد التحقيقات في عام 1974... وقد مثل دستن هوفمان وربورت ريدفورد دور الصحفيين المذكورين في الفيلم.

كيندي
مثلما انتهت حياة الرئيس لنكولن بالاغتيال، فإن الرئيس جون كيندي انتهت حياته بالاغتيال في تكساس في عام 1963 بعد انتخابه بثلاث سنوات تقريبًا... لا شك في أن كيندي الذي انتخب في عام 1960 كان رئيسًا متميزًا بطرحه السياسي وشخصيته الشابة وانتمائه للديانة الكاثوليكية، فهو أول رئيس أمريكي من الطائفة الكاثوليكية وينتمي، أيضًا، للقادمين من أيرلندا. وقد أثار اغتياله الهواجس المتنوعة، ودفع البعض للبحث عن سر ذلك الاغتيال وما إذا كانت هناك مؤامرة ما من أطراف في الولايات المتحدة مثل المافيا والعصابات الإجرامية التي تضررت من رئاسة كيندي ووجود أخيه روبرت كيندي، النائب العام آنذاك.
افترض البعض أن تلك العصابات ربما خططت لاغتيال كيندي وجنّدت لي هارفي أوزوالد لاغتياله، ثم عملت على التخلص من أوزوالد بقتله من قبل جاك روبي، والذي توفي في السجن بمرض السرطان، كما أعلن. عمل المخرج الشهير أولفر ستون عـلى إخراج الفيلم JFK عام 1991. لعب كيفن كوستنر دور المدعي العام في ولاية نيو أورليانز، والذي قاد التحقيق في اغتيال الرئيس كيندي. كان الفيلم مثيرًا للجدل واتهم ستون بأنه يطرح قضية جدلية دون حقائق واضحة. لكن الفيلم طرح مسائل مهمة ومقلقة في المجتمع الأمريكي وبين الدور الذي يمكن أن تلعبه فئات إجرامية تخرق القانون وتنازل السلطات القضائية وتحاول مقاومة كل من يريد أن يحد من أعمالها الإجرامية.

نائبة الرئيس
بطبيعة الحال استمر إنتاج أفلام مستوحاة من الخيال، وكان فيلم «المنافس» الذي أنتج عام 2000 من إخراج رود لوري، الذي يحكي قصة الرئيس الأمريكي، وقام بالدور جيف بريجز، الذي يسعى لتعيين نائب الرئيس.
 وبخطوة غير مسبوقة، يقرر اختيار السيناتورة لين هانسون، وقامت بالدور الممثلة جوان ألين، حيث تكون أول امرأة تشغل منصب نائب الرئيس الأمريكي.
 خلال الفيلم يبرز عضو مجلس النواب شيلي رنيون الذي يرى أن الاختيار غير موفق ويعمل بكل الوسائل من أجل إسقاطها. وتقرر نائبة الرئيس أن تحارب من أجل موقعها... لا شك في أن هذا الفيلم يمثّل تعبيرًا عن المحاولات التي مرّت بها الولايات المتحدة خلال تاريخها السياسي من أجل تمكين المرأة في المواقع السياسية الرئيسية.
 صحيح أن هناك عدة محاولات لانتخاب امرأة للرئاسة أو لمنصب نائب الرئيس، لكن تلك المحاولات لم تفلح إلا في الانتخابات الأخيرة بعد انتخاب الرئيس جو بايدن ونائبة الرئيس كامالا هاريس. هذا بالرغم من وجود سيدات في مجلسي النواب والشيوخ منذ سنوات طويلة.

عملية إنقاذ
يمكن اعتبار فيلم Wag the Dog من الأفلام المتميزة لسينما هوليوود، وقد أنتج في عام 1997 وأخرجه باري ليفنسون، وبنيت رواية الفيلم على حكاية رئيس بصدد تجديد رئاسته لدورة ثانية، لكنه يواجه فضيحة جنسية، وتتدهور فرص إعادة انتخابه، وبالتالي أصبح عليه اتخاذ قرارات تمكن من رفع شعبيته، فيقرر القيام بحرب على ألبانيا من أجل كسب الحرب ورفع شعبيته، ويعتمد الفيلم على سيناريو الكوميديا السوداء.
 مثّل في الفيلم ممثلون كبار مشهورون، مثل داستن هوفمان وربورت دي نيرو وآن هيتش، وتم تصوير الفيلم خلال فترة قصيرة لم تتعدّ 29 يومًا، كما أن تكاليفه لم تكن باهظة، حيث لم تتجاوز 15 مليون دولار. يطرح الفيلم، بسخرية، التحديات التي تواجه الرؤساء وكيفية قيامهم بمحاولات قد تكون كارثية على البلاد من أجل فوزهم بالانتخابات لولاية ثانية. ولا شك في أن الفيلم يؤكد أهمية تطوير النظام الديمقراطي في الولايات المتحدة وتحريره من محاولات كسب الشعبية على حساب المصالح الوطنية.

قضايا مؤثرة
السينما الأمريكية تطرقت لقضايا عديدة تتعلق بالرئيس والرئاسة في الولايات المتحدة.
 لا شك في أن هناك ثروة من المعلومات والثقافة السياسية التي تمكن المبدعين من وضع سيناريوهات لأفلام عن الأحداث التي يمكن أن تقع، وكذلك يمكن رسم صور مختلفة لشخصيات الرؤساء على ضوء ما مرت به البلاد خلال تاريخها السياسي الممتد لأكثر من ثلاثمئة عام.
 وكما هو معلوم أن الولايات المتحدة منذ استقلالها وانتخاب جورج واشنطن أول رئيس، وبعد وضع الدستور، وبعد ذلك إجراء تعديلات مهمة على مواد ذلك الدستور، واجهت تحديات مهمة مثل الحرب الأهلية في ستينيات القرن التاسع عشر، ثم دخول الحرب العالمية الأولى خلال الفترة 1914 إلى 1918.  كذلك فإن فترة الكساد الكبير التي مرّت بها البلاد بعد انهيار سوق الأوراق المالية في عام 1929 شكلت محنة مهمة ومصاعب اقتصادية ومعيشية ودفعت الرئيس فرانكلين روزفلت لتبني سياسات اقتصادية جديدة New Deal للانعتاق من تلك الأزمة.
ويجب ألا نغفل تأثيرات الحرب العالمية الثانية، بعد أن شاركت القوات الأمريكية فيها من أجل دحر القوات الألمانية في أوربا والقوات اليابانية في شرق آسيا. تلك كانت تحديات مهمة شكلت العقل السياسي الذي يتحكم في الولايات المتحدة وعلاقاتها مع الآخرين بعد منتصف الأربعينيات من القرن الماضي.

رسائل حميمية
الرؤساء بطبيعتهم بشر لديهم المشاعر والآلام ذاتها التي يمر بها الآخرون، ولذلك فإن الحب والرومانسية لا بد أن تكون ذات أهمية لهؤلاء الرؤساء، أو على الأقل البعض منهم. يحكي فيلـم «الرئيس الأمريكي»، الذي أنتج عام 1995، قصة رئيس أرمل مضى على فترة رئاسته الأولى سنتان ونصف السنة... كانت درجة الرضا عن أداء هذا الرئيس ما يقارب 63 في المئة. كان هذا الرئيس، الذي ينتمي للحزب الديمقراطي، يشعر بأن الجمهوريين لن يتمكنوا من التغلب عليه.
 توفيت زوجته بعد معاناة مع مرض السرطان، وأصبح مسؤولًا عن تربية ابنته التي مازالت دون العاشرة من عمرها، لكن الأحداث تتسارع بعد أن يتعرّف على سيدني الآن ويد في اجتماع في البيت الأبيض. هذه السيدة التي تعمل لمصلحة مجموعة تهتم بالبيئة تجذب اهتمام الرئيس. توفر العلاقة بين الاثنين مادة لزعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ بوب رومسون، وهو الذي كان يبحث عن قضية ذات طابع خاص وشخصي لمحاربة الرئيس بما يمكنه من الترشح والفوز بالرئاسة... يتخلل الفيلم أحاديث في فراش الحب بين الرئيس والسيدة سيدني حول مواضيع الانتخابات القادمة، وكيفية العمل من أجل إنجاز تشريعات لحماية البيئة.
قام بتمثيل دور الرئيس مايكل دوغلاس، ومثّلت دور العشيقة أمنيت بيننغ، وأخرجه روب رينير.  

روزفلت 
يمكن اعتبار فيلم هايد بارك على الهدسون من الأفلام الجميلة، وقد أنتج عام 2012. يحكي الفيلم العلاقة الوثيقة بين مارغريت ديزي سكلي، وقامت بالدور الممثلة لورا ليني وقريبها فرانكلين روزفلت، الرئيس الأمريكي، وقد مثّل دوره بل موري.
 وأدى موري الدور ببراعة، فقد صوّر الرئيس بالقائد الساحر والمقنع، وفي الوقت ذاته لا يخلو من الكآبة والسوداوية. يحاول الفيلم أن يروي الأوضاع الأمريكية في حقبة سياسية مهمة، وفي الوقت ذاته يضفي مسحة الرومانسية والحب من خلال العلاقة بين الرئيس وقريبته. كذلك يشرح الفيلم الصلات بين الرئيس روزفلت وملك بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية جورج السادس، والتفاوت في التقاليد بين الأمريكيين والبريطانيين.
أخـرج الفيلم روجر ميشل، ولا شك في أن روزفلت كان رئيسًا نموذجيًا، وقد جاء في فترة عصيبة من التاريخ الأمريكي، حيث عاصر فترة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين، وعمل من أجل انتشال البلاد من تلك الأزمة الاقتصادية المعقدة، كما أنه واجه تحديات الحرب العالمية الثانية، خصوصًا بعد هجوم اليابانيين على مرفأ بريل هاربور في هاواي، بما عزز عزمه على الدخول في الحرب من أجل هزيمة الألمان واليابانيين، متحالفًا مع البريطانيين وغيرهم من الأوربيين الذين عانوا ويلات الحرب.

أولفر ستون
عاد أولفر ستون، المخرج المثير للجدل، عام 2008 ليخرج فيلم W، الذي يدور حول شخصية الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش الابن. 
ويتمحور الفيلم حول شخصية الرئيس وكيف أن نائب الرئيس ديك تشيني، يتحكم بالرئيس. كما يوحي الفيلم أن الرئيس ارتكب أخطاء مهمة واستراتيجية، دون أن يعي مخاطر تلك الأخطاء. 
بطبيعة الحال، يتطرق الفيلم لحياة الرئيس قبل توليه الرئاسة، أي منذ أن كان مراهقًا يتمتع بعطاء والديه في تكساس، وينغمس بحياة اللهو وإدمان الخمور. خلال حياته يتصادم مع والديه حول قضايا عديدة، شخصية وعامة، وقام بتمثيل دور جورج دبليو الممثل جوش برولن، ومثّل دور بوش الأب جيمس كروميل، في حين مثّل دور تشيني ريتشارد دريفوس. ويأتي هذا الفيلم تعبيرًا عن طروحات أولفر ستون حول الحياة السياسية الأمريكية وموقفه من القوى المحافظة واليمينية في المجتمع السياسي الأمريكي. 

وسيلة ناجعة
غنيّ عن البيان أن الدور الذي لعبه ستون، وما زال يلعبه، يثير اهتمام العناصر الأكثر تقدمية في المجتمع، ويعزز توجهاتهم الإصلاحية وحماية الديمقراطية، والتأكيد على مفاهيم متسامحة مع الخلافات في المجتمع وضرورة التواصل مع البلدان الأخرى، وحلّ النزاعات الدولية من خلال التفاوض والتوافق على مواقف واقعية تأخذ بنظر الاعتبار أهمية التعرف إلى مصالح البلدان الأخرى.
وقد لعبت السينما الأمريكية دورًا مهمًا لتوعية الناس بالتحولات العميقة في المجتمع الأمريكي والمعضلات الكامنة في الحياة السياسية.
كان للأفلام التي أنتجت وتمحورت حول حياة الرؤساء على مدى التاريخ الأمريكي وسيلة ناجعة للتعريف بشخصيات الرؤساء، ومكّنت من تخيّل رؤساء آخرين يمكن أن يصلوا إلى السلطة، لكن هناك قضايا مهمة أثيرت من خلال الأفلام المتعلقة بالرؤساء ربما مازالت تقلق الباحثين الاجتماعيين، ومنها التطورات المعاصرة مثل الشعبوية والعداء للمهاجرين والتقنيات الحديثة وآثارها على سوق العمل وقضايا العولمة الاقتصادية. يضاف إلى ذلك مسألة التفاوت في المستويات المعيشية وزيادة ثروة الأغنياء الذين يمثّلون أقل من 1 بالمئة في المجتمع الأمريكي، نتيجة لاستثماراتهم في الأسواق المالية، وخصوصًا الشركات المتخصصة بالتقنيات الحديثة. 
كيف يتعامل الرؤساء وحكوماتهم في السنوات القادمة مع هذه القضايا وتجنب انجراف البلاد نحو الاستقطاب بما يدعم انتخاب رؤساء شعبويين؟ يظل دور السينما الأمريكية مهمًا في طرح مختلف القضايا الحياتية، ويمنح قدرات أفضل للمشاهدين للتأمل! ■

لقطات أفلام تتناول رؤساء يمثلون شخصيات حقيقية، مثل إبراهام لنكولن وريتشارد نيكسون وشخصيات تم تخيّلها. تطرح هذه الأفلام الأوضاع التي مرّ بها هؤلاء الرؤساء سواء كانت واقعية أو تم تخيلها