جامع الشيخ زايد الكبير بين شاعرية الفكرة والخيال الهندسي البديع

جامع الشيخ زايد الكبير بين شاعرية الفكرة والخيال الهندسي البديع

لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينشأ‭ ‬أي‭ ‬عمل‭ ‬بديع‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يرتكز‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬خلاقة‭ ‬مستوحاة‭ ‬من‭ ‬نبع‭ ‬ما‭ ‬ممتلئ‭ ‬بالعذوبة‭ ‬والصفاء،‭ ‬وتبقى‭ ‬شاعرية‭ ‬الفكرة‭ ‬هي‭ ‬النواة‭ ‬المؤطرة‭ ‬لتأسيس‭ ‬العمل‭ ‬الإبداعي‭ ‬الراكز‭ ‬والراسخ‭ ‬ذي‭ ‬الأبعاد‭ ‬الفنية‭ ‬والجمالية‭ ‬الغنية‭ ‬بالفرادة‭ ‬والإبهار،‭ ‬ومتى‭ ‬ما‭ ‬استقرت‭ ‬والتحمت‭ ‬مع‭ ‬الخيال،‭ ‬وتكاملت‭ ‬بانسجام‭ ‬مع‭ ‬آليات‭ ‬التنفيذ،‭ ‬عندئذٍ‭ ‬يكون‭ ‬المنجز‭ ‬غير‭ ‬عادي،‭ ‬وبحدّ‭ ‬ربما‭ ‬يفوق‭ ‬الخيال،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يخطر‭ ‬على‭ ‬أفق‭ ‬بشر‭.‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬هبطت‭ ‬الطائرة‭ ‬ليلًا‭ ‬على‭ ‬مدرج‭ ‬مطار‭ ‬دبي‭ ‬الدولي،‭ ‬وخرجنا‭ ‬من‭ ‬صالة‭ ‬القدوم،‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ ‬استقبالي‭ ‬3‭ ‬من‭ ‬أصدقائي‭ ‬السودانيين‭ ‬المقيمين‭ ‬بدولة‭ ‬الإمارات‭ ‬العربية‭ ‬المتحدة،‭ ‬كل‭ ‬في‭ ‬إمارة‭.‬

ولعل‭ ‬من‭ ‬حُسن‭ ‬الحظ‭ ‬أن‭ ‬ثلاثتهم‭ ‬في‭ ‬إجازات‭ ‬قصيرة،‭ ‬ولما‭ ‬كنت‭ ‬أقصد‭ ‬إمارة‭ ‬أبوظبي‭ ‬تحديدًا‭ ‬في‭ ‬زيارة‭ ‬خاصة،‭ ‬فقد‭ ‬توجه‭ ‬أربعتنا‭ ‬نحوها،‭ ‬مرورًا‭ ‬بشوارع‭ ‬دبي‭ ‬الرئيسة‭ ‬العريضة‭ ‬المضاءة‭ ‬بالفوانيس‭ ‬والأنوار‭ ‬الملونة‭ ‬الباهرة،‭ ‬حيث‭ ‬الأبراج‭ ‬العملاقة‭ ‬الشاهقة‭ ‬التي‭ ‬تناطح‭ ‬السحاب،‭ ‬والبنايات‭ ‬العالية،‭ ‬والصروح‭ ‬المعمارية‭ ‬الضخمة‭ ‬الجاذبة،‭ ‬ذات‭ ‬الواجهات‭ ‬الزجاجية‭ ‬المزدانة‭ ‬بالأضواء‭ ‬الكثيفة‭ ‬التي‭ ‬تبهر‭ ‬العيون،‭ ‬وتمنع‭ ‬الظلام‭ ‬من‭ ‬اختلاس‭ ‬سانحة‭ ‬لملامسة‭ ‬فضاءاتها‭ ‬وأديمها،‭ ‬وكلها‭ ‬تعكس‭ ‬الإشراق‭ ‬والوجه‭ ‬الجمالي‭ ‬والسياحي‭ ‬والتجاري‭ ‬والثراء‭ ‬الفاحش‭ ‬لمدينة‭ ‬دبي‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬أبوظبي‭. ‬

بينما‭ ‬كنا‭ ‬نحكي‭ ‬بشواهد‭ ‬وأرقام‭ ‬عن‭ ‬الطفرة‭ ‬والثقافة‭ ‬العمرانية‭ ‬والمعمارية،‭ ‬وأثر‭ ‬الغرب‭ ‬الذي‭ ‬تبدّى‭ ‬بشدة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البلاد،‭ ‬ورغد‭ ‬العيش‭ ‬والجمال‭ ‬المترف‭ ‬الذي‭ ‬طال‭ ‬مدن‭ ‬الإمارات‭ ‬وإنسانها،‭ ‬بفضل‭ ‬الإرادة‭ ‬وحُسن‭ ‬التدبير،‭ ‬والاستغلال‭ ‬الأمثل‭ ‬لنعمة‭ ‬النفط‭ ‬المتدفقة،‭ ‬قفز‭ ‬الثلاثة‭ ‬يتحدثون‭ ‬بامتنان‭ ‬وإعجاب‭ ‬بالغ‭ ‬عن‭ ‬جامع‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬إمارة‭ ‬أبوظبي،‭ ‬وصار‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬يحكي‭ ‬على‭ ‬طريقته‭ ‬وبإحساسه‭ ‬وإلهامه‭ ‬عما‭ ‬طالعته‭ ‬عيناه‭ ‬من‭ ‬فنون‭ ‬العمارة‭ ‬وبدائع‭ ‬التنميق‭ ‬وسحر‭ ‬الألوان‭ ‬والزخارف‭ ‬المنقوشة‭ ‬على‭ ‬جدرانه،‭ ‬ودقة‭ ‬التنظيم‭ ‬التي‭ ‬تلفّ‭ ‬ساحاته،‭ ‬ومدى‭ ‬امتزاجه‭ ‬بروح‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬منذ‭ ‬بزوغها‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربعة‭ ‬عشر‭ ‬قرنًا‭ ‬هجريًّا،‭ ‬كمن‭ ‬يحكي‭ ‬عن‭ ‬أسطورة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬انعدمت‭ ‬فيه‭ ‬الأساطير،‭ ‬أو‭ ‬عجيبة‭ ‬من‭ ‬عجائب‭ ‬الدنيا‭ ‬تفجّرت‭ ‬حديثًا،‭ ‬وأضحت‭ ‬ثامنة‭ ‬تضاف‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬العجائب‭ ‬السبع‭ ‬المعروفة‭. ‬ولم‭ ‬ينقطع‭ ‬الحديث‭ ‬والشرح‭ ‬طوال‭ ‬المسافة‭ ‬بين‭ ‬الإمارتين،‭ ‬التي‭ ‬تزيد‭ ‬قليلًا‭ ‬على‭ ‬120‭ ‬ميلًا،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬جاوز‭ ‬الساعتين،‭ ‬بل‭ ‬استمر‭ ‬حديثهم‭ ‬بإسهاب‭ ‬جاذب‭ ‬ومشوق،‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬وصولنا‭ ‬إلى‭ ‬مقر‭ ‬إقامتهم‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬منتصف‭ ‬الليل،‭ ‬وظلوا‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الوتيرة‭ ‬الشائقة‭ ‬حتى‭ ‬أبدى‭ ‬الصبح‭ ‬نواجذه‭ ‬مع‭ ‬علوّ‭ ‬أذان‭ ‬الفجر‭.‬

 

الصباح‭ ‬في‭ ‬أبوظبي‭ ‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬فارقت‭ ‬الشمس‭ ‬مخدعها،‭ ‬أجمع‭ ‬أربعتنا‭ ‬بعد‭ ‬سِنة‭ ‬من‭ ‬النوم‭ ‬على‭ ‬مبارحة‭ ‬المقر‭ ‬والتوجه‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬كنا‭ ‬نتحدث‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬المسافة‭ ‬بين‭ ‬مدينتي‭ ‬الشوامخ‭ ‬وأبوظبي،‭ ‬حيث‭ ‬يقبع‭ ‬جامع‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ ‬الكبير،‭ ‬بالبعيدة‭ ‬بحساب‭ ‬المسافة‭ ‬والزمن،‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تتعدى‭ ‬60‭ ‬كيلومترًا،‭ ‬ولا‭ ‬تستغرق‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬ساعة،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬ذاك‭ ‬الصباح‭ ‬استغرقت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬3‭ ‬ساعات‭.‬

الصباح‭ ‬في‭ ‬أبوظبي‭ ‬ليس‭ ‬كالصباحات‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬تطل‭ ‬على‭ ‬السواحل،‭ ‬فرغم‭ ‬ارتفاع‭ ‬درجات‭ ‬الحرارة،‭ ‬وسموم‭ ‬صيف‭ ‬يوليو‭ ‬اللافحة،‭ ‬فإن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬مرتب‭ ‬ومنظم،‭ ‬ويتم‭ ‬بأعصاب‭ ‬هادئة،‭ ‬وبهدوء‭ ‬محيّر،‭ ‬وأشد‭ ‬ما‭ ‬يلفت‭ ‬الانتباه‭ ‬قلة‭ ‬المارة‭ ‬في‭ ‬الشوارع،‭ ‬والأعداد‭ ‬الهائلة‭ ‬من‭ ‬السيارات‭ ‬والعربات‭ ‬الفارهة‭ ‬التي‭ ‬تنهب‭ ‬الطرق‭ ‬نهبًا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مزاحمة،‭ ‬وبلا‭ ‬ضوضاء،‭ ‬ولا‭ ‬أزيز،‭ ‬وغالبيتها‭ ‬العظمى‭ ‬من‭ ‬موديلات‭ ‬حديثة‭ ‬مختلفة،‭ ‬مما‭ ‬ينم‭ ‬عن‭ ‬تقدّم‭ ‬مستوى‭ ‬دخل‭ ‬الفرد‭.‬

وكان‭ ‬مما‭ ‬يثير‭ ‬الإعجاب‭ ‬عدم‭ ‬استخدام‭ ‬آلة‭ ‬التنبيه‭ (‬البوري‭) ‬في‭ ‬الطرق‭ ‬الفرعية‭ ‬والسريعة‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬حتى‭ ‬خُيّل‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬السيارات‭ ‬ليست‭ ‬مزودة‭ ‬بآلات‭ ‬تنبيه،‭ ‬وكذلك‭ ‬عدم‭ ‬تجاوز‭ ‬القانون‭ ‬والضوابط‭ ‬المرورية،‭ ‬وبالمناسبة‭ ‬خلال‭ ‬تجوالي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬أسبوعين‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬القانون‭ ‬والانضباط‭ ‬صارا‭ ‬سلوكًا‭ ‬يوميًّا‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬المناحي‭ ‬الحياتية،‭ ‬حتى‭ ‬شمِل‭ ‬الامتناع‭ ‬عن‭ ‬التدخين‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬العامة،‭ ‬وصار‭ ‬رمي‭ ‬قطع‭ ‬الأوراق‭ ‬وأعقاب‭ ‬السجائر‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬أو‭ ‬عند‭ ‬منحنيات‭ ‬الطرق‭ ‬سلوكًا‭ ‬مستهجنًا‭ ‬ومعيبًا‭ ‬من‭ ‬المدخنين‭ ‬أنفسهم،‭ ‬فطنت‭ ‬لهذا‭ ‬عندما‭ ‬جاءتني‭ ‬التنبيهات‭ ‬من‭ ‬مرافقيّ‭ ‬الذين‭ ‬يدمنون‭ ‬مثلي‭ ‬ممارسة‭ ‬هذه‭ ‬العادة‭.‬

 

بين‭ ‬الخضرة‭ ‬والجمال

تعاملت‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭ ‬بتصالح‭ ‬وفتنة،‭ ‬وقلت‭ ‬لصديقي‭ ‬صلاح‭ ‬بابكر،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرافقني‭ ‬طوال‭ ‬مدة‭ ‬الإقامة،‭ ‬ولولاه‭ ‬ما‭ ‬أدركت‭ ‬الكثير‭ ‬‮«‬لا‭ ‬أستغرب‭ ‬والناس‭ ‬بهذا‭ ‬السلوك‭ ‬الراقي‭ ‬يعملون‭ ‬لمكافحة‭ ‬التدخين،‭ ‬أن‭ ‬يبلغ‭ ‬الاهتمام‭ ‬غايته،‭ ‬وأقرأ‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬قلائل‭ ‬في‭ ‬تذاكر‭ ‬الطيران‭ ‬تنويه‭ ‬‮«‬من‭ ‬أجل‭ ‬صحتك‭ ‬وسلامة‭ ‬البيئة،‭ ‬يفضل‭ ‬عدم‭ ‬التدخين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬المضيف‮»‬‭. ‬

وفي‭ ‬أثناء‭ ‬تجوالنا‭ ‬بشوارع‭ ‬أبوظبي،‭ ‬قبل‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬جامع‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ ‬الكبير،‭ ‬أشد‭ ‬ما‭ ‬راعني‭ ‬صباح‭ ‬ذاك‭ ‬وطوال‭ ‬الأيام‭ ‬التي‭ ‬قضيتها‭ ‬فيها،‭ ‬أن‭ ‬الخضرة‭ ‬وأشجار‭ ‬النخيل‭ ‬هي‭ ‬السمّة‭ ‬المميزة‭ ‬التي‭ ‬يكاد‭ ‬المرء‭ ‬يلحظها‭ ‬ممتدة‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬الطرق‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أرجاء‭ ‬الإمارة،‭ ‬وتحت‭ ‬الأبراج‭ ‬الشواهق‭ ‬والبنايات‭ ‬الضخمة‭ ‬المتلاصقة‭ ‬مع‭ ‬بعضها،‭ ‬وهي‭ ‬بكل‭ ‬جبروتها‭ ‬وفتنتها‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أن‭ ‬تحوّل‭ ‬الأبصار‭ ‬عن‭ ‬التمتع‭ ‬بالمناظر‭ ‬الطبيعية،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬المرء‭ ‬متنازع‭ ‬النظر‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أعلى،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬أسفل،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬البنايات‭ ‬تم‭ ‬تشييدها‭ ‬بتصاميم‭ ‬هندسية‭ ‬بديعة‭ ‬للغاية،‭ ‬راعت‭ ‬الذوق‭ ‬والأساليب‭ ‬الفنية‭ ‬للمعمار‭ ‬الحديث،‭ ‬وهي‭ ‬تشعرك‭ ‬بأن‭ ‬كل‭ ‬صاحب‭ ‬بناية‭ ‬يمتلك‭ ‬ذوقًا‭ ‬رفيعًا‭ ‬وحسًّا‭ ‬إبداعيًا‭ ‬أكثر‭ ‬رهافة‭ ‬من‭ ‬الآخر،‭ ‬وأن‭ ‬واجهاتها‭ ‬الزجاجية‭ ‬العريضة‭ ‬تلمع‭ ‬كالمرايا‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬النظافة‭ ‬الدائمة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تخلق‭ ‬انعكاساتها‭ ‬على‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬تداخلًا‭ ‬فريدًا‭ ‬من‭ ‬نوعه‭ ‬على‭ ‬المرايات‭. ‬

 

المدينة‭ ‬الهامسة

تغلب‭ ‬على‭ ‬إمارة‭ ‬أبوظبي‭ ‬الحياة‭ ‬الوادعة،‭ ‬فكل‭ ‬مدنها‭ ‬وأحيائها‭ ‬أنيقة‭ ‬وراقية،‭ ‬وأكثر‭ ‬ما‭ ‬يلفت‭ ‬الانتباه‭ ‬القصور‭ ‬والفلل‭ ‬والعمارات‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬البساطة‭ ‬والأناقة،‭ ‬ملونة‭ ‬بالأبيض‭ ‬والأصفر،‭ ‬وخلافه‭ ‬من‭ ‬الألوان‭ ‬الهادئة،‭ ‬وهي‭ ‬تطل‭ ‬من‭ ‬خلف‭ ‬أحواض‭ ‬النجيل‭ ‬الأخضر‭ ‬وأشجار‭ ‬النخيل‭ ‬المتناثرة‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬وأن‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬منطقة‭ ‬سكنية‭ ‬مركزًا‭ ‬تجاريًّا‭ ‬ضخمًا‭ (‬مول‭) ‬يحتوي‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬متطلبات‭ ‬الفرد‭ ‬والأسرة‭ ‬من‭ ‬مأكل‭ ‬ومشرب‭ ‬وملبس‭ ‬وصحف‭ ‬ومجلات‭ ‬ووسائل‭ ‬اتصال‭ ‬وخلافه،‭ ‬أسواق‭ ‬داخل‭ ‬سوق،‭ ‬طابعها‭ ‬الهدوء‭ ‬ودقة‭ ‬التنظيم،‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬فوضى‭ ‬الأسواق،‭ ‬ولا‭ ‬تلمح‭ ‬فيها‭ ‬أثرًا‭ ‬للباعة‭ ‬المتجولين،‭ ‬ولا‭ ‬البضائع‭ ‬المفروشة‭ ‬على‭ ‬قارعات‭ ‬الطرق‭ ‬والأرصفة،‭ ‬والسَّرّيحة‭ ‬الذين‭ ‬ينادون‭ ‬عند‭ ‬كل‭ ‬منحنى‭ ‬أو‭ ‬إشارة‭ ‬المرور‭ ‬بعناوين‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات‭ ‬التي‭ ‬يحملونها‭ ‬لجذب‭ ‬انتباه‭ ‬القراء،‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬العواصم‭ ‬والمدن‭ ‬الكبيرة‭.‬

أما‭ ‬المتنزهات‭ ‬والأسواق‭ ‬والمراكز‭ ‬التجارية‭ ‬الكبيرة‭ ‬والشوارع‭ ‬العامة‭ ‬فكنّا‭ ‬نرتادها‭ ‬ولا‭ ‬نسمع‭ ‬فيها‭ ‬ضجيجًا‭ ‬أو‭ ‬جلبة،‭ ‬كل‭ ‬الناس‭ ‬يتحدثون‭ ‬بهمس،‭ ‬ويقضون‭ ‬أغراضهم‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬الرقة‭ ‬والوداعة،‭ ‬وفي‭ ‬ظني‭ ‬ليس‭ ‬ثمة‭ ‬ما‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬ارتفاع‭ ‬الأصوات،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬لأن‭ ‬قاطني‭ ‬الإمارة‭ ‬غالبيتهم‭ ‬من‭ ‬جنسيات‭ ‬ومشارب‭ ‬شتى‭ ‬تنقصهم‭ ‬وحدة‭ ‬اللغة،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬معظمهم‭ ‬يلجأون‭ ‬إلى‭ ‬أساليب‭ ‬وطرق‭ ‬تساعدهم‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬طلباتهم‭ ‬ورغباتهم‭ ‬بصوت‭ ‬خفيض،‭ ‬كما‭ ‬لاحظت‭ ‬أن‭ ‬الذين‭ ‬يقومون‭ ‬بعمليات‭ ‬البيع‭ ‬معظمهم‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭.‬

وغير‭ ‬هذا‭ ‬فإن‭ ‬الزمن‭ ‬يمثّل‭ ‬عنصرًا‭ ‬مهمًّا‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الناس،‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬لتبديده‭ ‬فيما‭ ‬لا‭ ‬يجدي،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعلني،‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة،‭ ‬أسعى‭ ‬بمفردي‭ ‬للاستكشاف‭ ‬والتعرف‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬معالمها،‭ ‬خاصة‭ ‬أنها‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬الأزقة‭ ‬والمتاهات‭ ‬والشوارع‭ ‬الضيقة،‭ ‬وليس‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يبعث‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬التوهان‭ ‬أو‭ ‬الضياع‭ ‬في‭ ‬أحشائها،‭ ‬فهي‭ ‬غنية‭ ‬بالمعالم‭ ‬الواضحة‭ ‬والبارزة،‭ ‬المتمثلة‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬العبادة‭ ‬المنتشرة‭ ‬في‭ ‬سائر‭ ‬أرجائها،‭ ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬المساجد‭ ‬التي‭ ‬وطئتها‭ ‬أقدامي‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬متفرقة‭ ‬لأداء‭ ‬الفريضة،‭ ‬وجدتها‭ ‬مبنية‭ ‬بطرز‭ ‬معمارية‭ ‬إسلامية‭ ‬مختلفة،‭ ‬تزيّنها‭ ‬الفخامة‭ ‬والسكينة‭ ‬والوقار‭ ‬والمحبة‭ ‬التي‭ ‬تُشعِر‭ ‬بمتعة‭ ‬العبادة،‭ ‬ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬الوجود‭ ‬الطاغي‭ ‬لأفخم‭ ‬الفنادق‭ ‬وأروعها‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬كما‭ ‬توجد‭ ‬فيها‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأندية‭ ‬والمجمعات‭ ‬الرياضية‭ ‬المختلفة‭ ‬وأندية‭ ‬الجاليات‭ ‬بجانب‭ ‬السفارات‭ ‬والدوائر‭ ‬الحكومية‭ ‬الواقعة‭ ‬على‭ ‬الطرق‭ ‬الرئيسة‭.‬

 

أبوظبي‭... ‬الرائعة

أبوظبي‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬عامة‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬تسوقك‭ ‬سوقًا‭ ‬للتأمل‭ ‬في‭ ‬جمالياتها،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬تفرّدها‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬ظاهرها‭ ‬عن‭ ‬باطنها‭ ‬من‭ ‬ائتلاق،‭ ‬ولا‭ ‬ليلها‭ ‬عن‭ ‬نهارها‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬شيء،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬لليل‭ ‬طابعًا‭ ‬خاصًّا،‭ ‬ومذاقًا‭ ‬حلوًا،‭ ‬فحالما‭ ‬نظرت‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬بُعد‭ ‬عدة‭ ‬كيلومترات‭ ‬تتراءى‭ ‬لك‭ ‬كالسفينة‭ ‬المرصعة‭ ‬بالمصابيح‭ ‬والثريّات‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جانب‭ ‬متراقصة‭ ‬في‭ ‬مياه‭ ‬الخليج،‭ ‬وهي‭ ‬بأضوائها‭ ‬الباهرة‭ ‬المتلألئة‭ ‬التي‭ ‬تختلط‭ ‬بشعاع‭ ‬القمر‭ ‬وأضواء‭ ‬النجوم،‭ ‬كلما‭ ‬اقتربت‭ ‬منها‭ ‬تبدت‭ ‬في‭ ‬ثوب‭ ‬أكثر‭ ‬أناقة‭ ‬وجمالًا،‭ ‬خاصة‭ ‬وسط‭ ‬المدينة‭ ‬الذي‭ ‬يسوده‭ ‬النظام‭ ‬والنظافة‭ ‬والهدوء‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الميادين‭ ‬العامة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬المعارض‭ ‬والمراكز‭ (‬المولات‭) ‬والمحال‭ ‬التجارية‭ ‬الفخمة‭ ‬التي‭ ‬تعرض‭ ‬أفخر‭ ‬الأصناف‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬والمجوهرات،‭ ‬أو‭ ‬الأقمشة‭ ‬والملبوسات‭ ‬الجاهزة،‭ ‬أو‭ ‬أجهزة‭ ‬الاتصالات،‭ ‬والأجهزة‭ ‬الكهربائية‭ ‬والإلكترونية،‭ ‬أو‭ ‬الأحذية‭ ‬الفاخرة‭ ‬بأنواعها‭ ‬المختلفة،‭ ‬وهي‭ ‬بضائع‭ ‬بمواصفات‭ ‬عالية‭ ‬الجودة‭ ‬والإتقان‭ ‬وأسعار‭ ‬منافسة‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬مفتوحة‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬تبتغيه‭ ‬من‭ ‬صنوف‭ ‬ومستلزمات‭ ‬الحياة‭ ‬العصرية،‭ ‬ولكل‭ ‬صنف‭ ‬محل‭ ‬مخصص‭ ‬وطرق‭ ‬عرض‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬جمال‭ ‬المنظر‭ ‬ورفعة‭ ‬الذوق‭.‬

وكنا‭ ‬كلما‭ ‬ذهبنا‭ ‬إلى‭ ‬محل‭ ‬وجدناه‭ ‬أكثر‭ ‬بريقًا‭ ‬وتوهجًا‭ ‬من‭ ‬سابقه‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬النزعة‭ ‬التجديدية‭ ‬التي‭ ‬غمرت‭ ‬الإمارة،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬ارتياد‭ ‬هذه‭ ‬المحال‭ ‬نزهة‭ ‬ترفيهية‭ ‬واستمتاعًا‭ ‬بالفرجة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬مهمة‭ ‬شرائية‭. ‬وكذلك‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬المطاعم‭ ‬الفخمة‭ ‬التي‭ ‬تقدم‭ ‬أشهى‭ ‬الوجبات،‭ ‬وخاصة‭ ‬السمك‭ ‬بأنواعه‭ ‬المختلفة،‭ ‬وطرق‭ ‬إعداده‭ ‬المتنوعة،‭ ‬وأماكن‭ ‬بيع‭ ‬العصائر‭ ‬الطبيعية،‭ ‬وأحلاها‭ ‬عصير‭ ‬الأناناس‭ ‬المثلج،‭ ‬والآيس‭ ‬كريم‭ ‬اللذان‭ ‬تناولناهما‭ ‬كثيرًا‭ ‬بقرب‭ ‬الكورنيش‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يهدأ‭ ‬من‭ ‬حشد‭ ‬المتنزهين،‭ ‬وهم‭ ‬يتأملون‭ ‬أضواء‭ ‬العمارات‭ ‬الشواهق‭ ‬تداعب‭ ‬الأمواج،‭ ‬مفتونين‭ ‬بالسِّحر‭ ‬والجمال‭ ‬اللذين‭ ‬يحاصران‭ ‬الإمارة‭ ‬وكونها‭ ‬سياحية‭ ‬عصرية‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬فريد‭ ‬جمعت‭ ‬بين‭ ‬جماليات‭ ‬الدنيا‭ ‬والدين،‭ ‬وتخطو‭ ‬بخطوات‭ ‬سريعة‭ ‬مدروسة‭ ‬نحو‭ ‬التقدم‭ ‬والرقي‭ ‬بإنسانها‭.‬

وكنا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ ‬ننظر‭ ‬إليها‭ ‬ونتأملها‭ ‬ككائن‭ ‬حي‭ ‬بهي‭ ‬حفي،‭ ‬طلق‭ ‬المحيّا،‭ ‬يفيض‭ ‬شاعرية‭ ‬وتأنقًا‭ ‬ورحابة،‭ ‬يهمس‭ ‬همسًا‭ ‬ولا‭ ‬يمل،‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬تشبع‭ ‬العين‭ ‬من‭ ‬التملّي‭ ‬فيه،‭ ‬ومن‭ ‬روعته‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنفصم‭ ‬من‭ ‬روعة‭ ‬الكون‭.‬

 

إلى‭ ‬جامع‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد

ونحن‭ ‬نتجول‭ ‬في‭ ‬صباح‭ ‬يوميَ‭ ‬الأول‭ ‬داخل‭ ‬أبوظبي،‭ ‬اكتشفنا‭ ‬فجأة‭ ‬أننا‭ ‬أمضينا‭ ‬ثلاث‭ ‬ساعات‭ ‬أو‭ ‬يزيد‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نشعر‭ ‬بالملل،‭ ‬والزمن‭ ‬الذي‭ ‬سرقنا،‭ ‬وكنت‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬الدهشة‭ ‬والانبهار‭ ‬بلغا‭ ‬مداهما‭ ‬بما‭ ‬شاهدته‭ ‬وملأني‭ ‬نشوة‭ ‬خلال‭ ‬طوافنا‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬الخضراء‭ ‬بجسورها‭ ‬المعلّقة‭ ‬الطالعة‭ ‬والنازلة،‭ ‬والعالية‭ ‬والمنخفضة،‭ ‬والمستقيمة‭ ‬والدائرية‭ ‬والمتشابكة،‭ ‬وأبراجها‭ ‬المتراصة‭ ‬بأناقة‭ ‬فائقة،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬أدري‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬انتظاري‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أجمل‭ ‬وأكثر‭ ‬إبهارًا‭ ‬وما‭ ‬يفوق‭ ‬الوصف،‭ ‬بدأت‭ ‬ملامحه‭ ‬تتجلى‭ ‬حينما‭ ‬شاهدنا‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬جسر‭ ‬‮«‬المقطع‮»‬‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬عدة‭ ‬كيلومترات‭ ‬القباب‭ ‬العديدة‭ ‬والمآذن‭ ‬الأربع‭ ‬مشرئبّة‭ ‬نحو‭ ‬السماء،‭ ‬وهي‭ ‬أشد‭ ‬ألقًا‭ ‬وسطوعًا،‭ ‬وما‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬للإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬الجامع‭ ‬الذي‭ ‬نقصد‭ ‬زيارته،‭ ‬لأن‭ ‬‮«‬الجواب‭ ‬يكفي‭ ‬عنوانه‮»‬‭ - ‬كما‭ ‬يقولون‭ - ‬لكن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬نطق‭ ‬أحد‭ ‬الثلاثة‭ ‬‮«‬ذاك‭ ‬هو‭ ‬جامع‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ ‬الكبير‭... ‬تخيل‭ ‬العلو‭ ‬الذي‭ ‬نراه‭ ‬باديًا‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬ليس‭ ‬لانخفاض‭ ‬الجسر،‭ ‬بل‭ ‬لارتفاع‭ ‬الجامع‭ ‬بعشرة‭ ‬أمتار‭ ‬عن‭ ‬مستوى‭ ‬الأرض‮»‬‭.‬

ثم‭ ‬أضاف‭ ‬آخر‭: ‬‮«‬كانت‭ ‬فكرة‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ - ‬يرحمه‭ ‬الله‭ - ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الجامع‭ ‬بهذا‭ ‬العلو‭ ‬عن‭ ‬الأرض،‭ ‬حتى‭ ‬يمكن‭ ‬مشاهدته‭ ‬من‭ ‬أبعد‭ ‬مسافة،‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الاتجاهات‮»‬‭.‬

والجامع‭ ‬الذي‭ ‬اختير‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموقع‭ ‬بهذا‭ ‬الشموخ،‭ ‬وبُدئ‭ ‬في‭ ‬تشييده‭ ‬عام‭ ‬1996،‭ ‬يمكن‭ ‬الوصول‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬جسور‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ ‬والمقطع‭ ‬والمصفح،‭ ‬وبعدة‭ ‬شوارع،‭ ‬أهمها‭ ‬شارع‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد،‭ ‬والخليج‭ ‬العربي،‭ ‬وشارع‭ ‬الشيخ‭ ‬راشد‭ ‬بن‭ ‬سعيد‭ ‬آل‭ ‬مكتوم،‭ ‬وهو‭ ‬يقع‭ ‬بين‭ ‬معالم‭ ‬وعوالم‭ ‬بارزة،‭ ‬أشهرها‭ ‬مدينة‭ ‬زايد‭ ‬الرياضية،‭ ‬وبرج‭ ‬الكابيتال‭ ‬جيت‭ ‬المائل،‭ ‬لكن‭ ‬يظل‭ ‬أبدًا‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المعالم‭ ‬البارزة‭ ‬والشهيرة‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬التاريخ‭ ‬الإنساني،‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الإمارات،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬العالمي،‭ ‬خاصة‭ ‬وهو‭ ‬يمثّل‭ ‬أحد‭ ‬أكبر‭ ‬خمسة‭ ‬جوامع‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المساحة‭ ‬البالغة‭ ‬555‭ ‬ألف‭ ‬متر‭ ‬مربع،‭ ‬دون‭ ‬البحيرات‭ ‬المائية‭ ‬التي‭ ‬تحيطه،‭ ‬والحجم‭ ‬الذي‭ ‬يتسع‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬50‭ ‬ألف‭ ‬مصلٍ،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬المشمولات‭ ‬الداخلية‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬بمواصفات‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

 

نظام‭ ‬دقيق

بعد‭ ‬أن‭ ‬عبرت‭ ‬سيارتنا‭ ‬بوابة‭ ‬الدخول‭ ‬الكبرى‭ ‬للجامع،‭ ‬متوجهين‭ ‬شطر‭ ‬البوابة‭ ‬الداخلية‭ ‬الخاصة‭ ‬بالأفراد‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬واسع‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬مئات‭ ‬الأمتار،‭ ‬أخذت‭ ‬عيناي‭ ‬تتلفت‭ ‬نحو‭ ‬الأشجار‭ ‬الممتدة‭ ‬على‭ ‬جانبيه،‭ ‬وتتأمل‭ ‬في‭ ‬المروج‭ ‬الخضراء‭ ‬المنسّقة‭ ‬بصورة‭ ‬رائعة،‭ ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬جذب‭ ‬انتباهي‭ ‬بعد‭ ‬نزولنا‭ ‬من‭ ‬السيارة‭ ‬المواقف‭ ‬الخاصة‭ ‬بانتظار‭ ‬السيارات‭ ‬والأتوبيسات‭ ‬السياحية‭ ‬الكبيرة،‭ ‬والدقة‭ ‬في‭ ‬تنظيمها،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬مساحتها‭ ‬الشاسعة‭ ‬تستقبل‭ ‬الآلاف‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد،‭ ‬وكذلك‭ ‬بوابات‭ ‬الدخول‭ ‬التي‭ ‬يعبر‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬الزوار‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬الجامع،‭ ‬والاهتمام‭ ‬الواضح‭ ‬من‭ ‬قِبل‭ ‬الواقفين‭ ‬عليها‭ ‬بالكثرة‭ ‬الكاثرة‭ ‬من‭ ‬الزائرين‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الأعمار‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬ألوانهم‭ ‬وجنسياتهم‭ ‬وعناصرهم‭ ‬وألسنتهم‭ ‬ودياناتهم،‭ ‬ومعتقداتهم،‭ ‬والترحاب‭ ‬والتسابق‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬خدمتهم‭ ‬وراحتهم،‭ ‬وعلى‭ ‬نحو‭ ‬خاص‭ ‬بالمسنين‭ ‬والمعاقين‭ ‬بتوفير‭ ‬الكراسي‭ ‬المتحركة،‭ ‬ومساعدتهم‭ ‬في‭ ‬الدخول‭ ‬لإرواء‭ ‬شغفهم‭ ‬الروحي‭ ‬والمعرفي‭ ‬والجمالي،‭ ‬ولو‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أعدد‭ ‬النماذج‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬شاهدتها‭ ‬خلال‭ ‬زياراتي‭ ‬المتعددة‭ ‬لما‭ ‬انتهيت‭ ‬إلى‭ ‬عدد‭.‬

وكان‭ ‬ملحوظًا‭ ‬عدم‭ ‬دخول‭ ‬المأكولات‭ ‬والمشروبات،‭ ‬مع‭ ‬حظر‭ ‬دخول‭ ‬التبغ‭ ‬ومشاعله،‭ ‬بحفظ‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬صناديق‭ ‬مخصصة‭ ‬وتسلّمه‭ ‬عند‭ ‬المغادرة،‭ ‬أما‭ ‬النساء‭ ‬والفتيات‭ ‬غير‭ ‬المحجبات،‭ ‬فعلى‭ ‬كثرة‭ ‬أعدادهن،‭ ‬فقد‭ ‬حرص‭ ‬المشرفون‭ ‬على‭ ‬توفير‭ ‬عباءات‭ ‬وطُرح‭ (‬مفردها‭ ‬طرحة،‭ ‬وهي‭ ‬غطاء‭ ‬يُطرح‭ ‬على‭ ‬الرأس‭ ‬والكتفين‭) ‬مؤقتة،‭ ‬خاصة‭ ‬بهن‭ ‬تليق‭ ‬بحرمة‭ ‬المكان‭ ‬وقدسيته‭. ‬

وبعد‭ ‬اجتياز‭ ‬بوابة‭ ‬الدخول‭ ‬والصعود‭ ‬عبر‭ ‬درج‭ ‬الموزايكو‭ ‬إلى‭ ‬فناء‭ ‬الجامع‭ ‬الداخلي،‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬الزائر‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬يدهشه‭ ‬ويسرّه‭ ‬حيثما‭ ‬ولّى‭ ‬وجهه،‭ ‬فكل‭ ‬شيءٍ‭ ‬قُدّر‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬بشاعرية‭ ‬مرهفة،‭ ‬وذوق‭ ‬سليم،‭ ‬وروح‭ ‬صادقة‭ ‬طموحة‭ ‬لبلوغ‭ ‬أسمى‭ ‬الغايات‭ ‬بإحداث‭ ‬نقلة‭ ‬حديثة‭ ‬فريدة‭ ‬لفن‭ ‬العمارة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬تصل‭ ‬الجديد‭ ‬بالقديم‭ ‬أو‭ ‬المعاصر‭ ‬بالتراث،‭ ‬باستصحاب‭ ‬طرز‭ ‬معمارية‭ ‬مختلفة‭ ‬لعصور‭ ‬سالفة،‭ ‬لإثارة‭ ‬حب‭ ‬الجمال‭ ‬والاندهاش‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬بما‭ ‬يحفظ‭ ‬للدين‭ ‬قيمه‭ ‬الروحية‭ ‬والجمالية‭. ‬

 

رحلة‭ ‬جديدة

ما‭ ‬إن‭ ‬لامست‭ ‬أقدامنا‭ ‬أرض‭ ‬الصرح‭ ‬العظيم‭ ‬حتى‭ ‬انقطعت‭ ‬صلتنا‭ ‬بما‭ ‬خارج‭ ‬الأسوار،‭ ‬وبدأت‭ ‬رحلة‭ ‬جديدة‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬من‭ ‬عوالم‭ ‬الإبداع‭ ‬غير‭ ‬العادي،‭ ‬وتبدّت‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬سلاسل‭ ‬الأناقة‭ ‬اللافتة‭ ‬بأبهى‭ ‬صورها‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يتفجّر‭ ‬حيوية‭ ‬وزينة،‭ ‬ويحيطه‭ ‬دفق‭ ‬عرفاني‭ ‬عالٍ،‭ ‬وهالة‭ ‬نورانية‭ ‬عميقة،‭ ‬فانتقلنا‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نشعر‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬الهمس‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬الصمت،‭ ‬وحينئذٍ‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬لي‭ ‬أصدقائي‭ ‬أقل‭ ‬أو‭ ‬دون‭ ‬الذي‭ ‬أشاهده‭ ‬ويملأ‭ ‬عيناي،‭ ‬وإن‭ ‬صدقوا،‭ ‬وربما‭ ‬الذين‭ ‬يأتون‭ ‬بعدي‭ ‬سيدركون‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬كتبتُه‭ ‬لا‭ ‬يفي‭ ‬وإن‭ ‬أطلت،‭ ‬لأن‭ ‬الواقع‭ ‬خرافيّ‭ ‬وأروع‭ ‬بكثير‭ ‬مما‭ ‬يوصف،‭ ‬وترويه‭ ‬الحكايات‭ ‬أو‭ ‬تحمله‭ ‬السطور،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬ساورني‭ ‬شعور‭ ‬بأن‭ ‬زيارة‭ ‬واحدة،‭ ‬أو‭ ‬اثنتين،‭ ‬أو‭ ‬ثلاثًا‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تكفي‭... ‬وتذكرت‭ ‬متمنيًّا‭ ‬لو‭ ‬شهد‭ ‬الحسين‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬المنبجي‭ ‬المعروف‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬دوقلة‭ ‬المنبجي‮»‬،‭ ‬المتوفى‭ ‬سنة‭ ‬201‭ ‬هـ،‭ ‬ما‭ ‬شهدناه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البقعة،‭ ‬لأدرك‭ ‬أنه‭ ‬الحُسن‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يُستشف‭ ‬بالضد‭ ‬في‭ ‬قوله‭:‬

 

ضِدَّانِ‭ ‬لمّا‭ ‬استَجْمَعا‭ ‬حَسُنا

والضِّدُّ‭ ‬يُظْهِرُ‭ ‬حُسْنَهُ‭ ‬الضِّدُّ

 

ولتيقّن‭ ‬الشاعر‭ ‬أبوالطيّب‭ ‬المتنبي‭ (‬915م‭ - ‬965م‭) ‬القائل‭ ‬قبل‭ ‬ألف‭ ‬سنة‭ ‬ونيف‭ ‬في‭ ‬عجز‭ ‬بيت‭ ‬إحدى‭ ‬قصائده‭ (‬وَبضِدِّها‭ ‬تتميَّزُ‭ ‬الأشياء‭) ‬بأنه‭ ‬الجمال‭ ‬والرقيّ‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يُستكشف‭ ‬بالمقارنة‭ ‬أو‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬نقيض‭ ‬ليكون‭ ‬مائزًا‭.‬

‭ ‬حقيقة،‭ ‬لقد‭ ‬أصابتني‭ ‬قشعريرة،‭ ‬ونحن‭ ‬نتطلع‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬المبنى‭ ‬الأبيض‭ ‬الشامخ،‭ ‬كأنه‭ ‬كومة‭ ‬من‭ ‬الرخام‭ ‬والمرمر‭ ‬فوق‭ ‬رابية‭ ‬خضراء‭ ‬عالية‭ ‬تحيطها‭ ‬البحيرات،‭ ‬وقد‭ ‬عملت‭ ‬فيها‭ ‬أيادي‭ ‬وأزاميل‭ ‬النحاتين‭ ‬المبدعين‭ ‬القدامى‭ ‬والمحدثين‭ ‬ردحًا‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬حتى‭ ‬انتهوا‭ ‬لما‭ ‬أرادت‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬وتنتهي‭. ‬

‭ ‬

شاعرية‭ ‬الفكرة

طغيان‭ ‬الجمال‭ ‬والسحر‭ ‬الذي‭ ‬لمسته‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬مشهد‭ ‬إنساني‭ ‬أنني‭ ‬في‭ ‬دنيا‭ ‬البشر،‭ ‬وشاعرية‭ ‬اللحظة‭ ‬والوجود‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬المبيض‭ ‬المخضوضر‭ ‬المتسق‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬دفعتني‭ ‬دفعًا‭ ‬للكتابة،‭ ‬سيما‭ ‬أنني‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أنوي‭ ‬هذا،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬صميم‭ ‬زيارتي،‭ ‬لكن‭ ‬كما‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬تلحّ‭ ‬على‭ ‬الشاعر‭ ‬ساعة‭ ‬المخاض،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬ذاته‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يدع‭ ‬لي‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أرافق‭ ‬أصدقائي‭ ‬ببصري‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬طوافنا‭ ‬داخل‭ ‬الأسوار،‭ ‬فالبحيرات‭ ‬المائية‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الناحيتين‭ ‬الشرقية‭ ‬والجنوبية،‭ ‬والتي‭ ‬تبلغ‭ ‬جملة‭ ‬مساحاتها‭ ‬7874‭ ‬مترًا‭ ‬مربعًا،‭ ‬والمساحات‭ ‬الواسعة‭ ‬المزروعة‭ ‬بالنجيل‭ ‬كالبساط‭ ‬الأخضر،‭ ‬والأشجار‭ ‬المتنوعة‭ ‬المنسقة‭ ‬المتراصة‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬لا‭ ‬تُعَد،‭ ‬والنافورات‭ ‬الواسعة‭ ‬التي‭ ‬تتطاير‭ ‬منها‭ ‬المياه‭ ‬ملتمعة‭ ‬ببريق‭ ‬الشمس‭ ‬الناصع‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬رائع‭ ‬وخاطف‭ ‬للأبصار،‭ ‬كلها‭ ‬لوحات‭ ‬ومناظر‭ ‬تُشعر‭ ‬المرء‭ ‬بالهيبة‭ ‬والراحة‭ ‬والاطمئنان‭.‬

وكلما‭ ‬تفرست‭ ‬في‭ ‬لوحة‭ ‬دعتني‭ ‬إلى‭ ‬المزيد‭. ‬وساقتني‭ ‬لحظات‭ ‬التأمل‭ ‬الدقيق‭ ‬للغوص‭ ‬في‭ ‬شاعرية‭ ‬الفكرة‭ ‬وماهية‭ ‬الينابيع‭ ‬التي‭ ‬انبجست‭ ‬وتدفقت‭ ‬منها،‭ ‬ولم‭ ‬أستغرب‭ ‬أو‭ ‬أفاجأ‭ ‬حينما‭ ‬علمت‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬لدن‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ ‬بن‭ ‬سلطان‭ ‬آل‭ ‬نهيان‭ (‬1918‭ - ‬2004م‭) - ‬يرحمه‭ ‬الله‭ - ‬مؤسس‭ ‬دولة‭ ‬الإمارات‭ ‬العربية‭ ‬المتحدة،‭ ‬وهو‭ ‬رجل‭ ‬عُرِف‭ ‬بالحكمة،‭ ‬ونفاذ‭ ‬البصيرة،‭ ‬والشجاعة‭ ‬والفروسية،‭ ‬وحب‭ ‬الشعر‭ ‬وقرضه،‭- ‬كما‭ ‬قرأنا‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الراهن‭ -‬،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬عمل‭ ‬برجاحة‭ ‬عقله،‭ ‬وحكمته،‭ ‬وإرادته،‭ ‬وأريحيته‭ ‬على‭ ‬وحدة‭ ‬إمارات‭ ‬الخليج‭ ‬السبع‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬واحدة‭ ‬عام‭ ‬1971،‭ ‬ورجل‭ ‬بهذه‭ ‬القدرات‭ ‬المدهشة‭ ‬حريّ‭ ‬به‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مبدعًا‭ ‬خلاقًا‭ ‬ذا‭ ‬ذوق‭ ‬رفيع‭ ‬وخيال‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬الإبداع،‭ ‬تجلت‭ ‬عبقريته‭ ‬في‭ ‬سعة‭ ‬إدراكه‭ ‬لقول‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬‮«‬وَأَمَّا‭ ‬بِنِعْمَةِ‭ ‬رَبِّكَ‭ ‬فَحَدِّثْ‮»‬‭ (‬سورة‭ ‬الضحى‭ - ‬الآية‭ ‬11‭) ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬الحديث‭ ‬غاية‭ ‬من‭ ‬غايات‭ ‬تبجيل‭ ‬العقيدة،‭ ‬ووفقًا‭ ‬لقول‭ ‬المصطفى‭ ‬عليه‭ ‬أفضل‭ ‬الصلاة‭ ‬وأتم‭ ‬التسليم‭ ‬فيما‭ ‬ورد‭ ‬من‭ ‬أحاديث‭ ‬‮«‬إن‭ ‬الله‭ ‬طيّب‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬إلا‭ ‬طيبًا‮»‬،‭ ‬و«إن‭ ‬الله‭ ‬جميل‭ ‬يحب‭ ‬الجمال‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬عشق‭ ‬صوفي‭ ‬رهيب‭.‬

 

قيمة‭ ‬حضارية‭ ‬وثقافية‭ ‬

والجامع‭ ‬الذي‭ ‬نحن‭ ‬نتأمل‭ ‬محاسنه‭ ‬يكشف‭ ‬مدى‭ ‬خصوبة‭ ‬مخيلته،‭ ‬كما‭ ‬يشهد‭ ‬على‭ ‬مقدراته‭ ‬وإرادته‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬إتمام‭ ‬القول‭ ‬بالعمل‭ ‬في‭ ‬كونه‭ ‬جعل‭ ‬منه‭ ‬نعمة‭ ‬وقيمة‭ ‬تعبّدية‭ ‬وحضارية‭ ‬وثقافية‭ ‬أدبية‭ ‬وجمالية‭ ‬عالية،‭ ‬وقديمًا‭ ‬قالت‭ ‬العرب‭: ‬‮«‬كل‭ ‬إناء‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬ينضح‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬لاحظناه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الحوارات‭ ‬والصراعات‭ (‬بلغة‭ ‬التشكيليين‭) ‬البديعة‭ ‬التي‭ ‬تلفّ‭ ‬باحة‭ ‬الجامع‭ ‬الفسيحة،‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬الحوار‭ ‬بين‭ ‬الثقافات‭ ‬والحضارات‭ ‬عبر‭ ‬الأزمنة،‭ ‬وحوارات‭ ‬المسافات‭ ‬والأبعاد،‭ ‬وصراع‭ ‬الألوان‭ ‬مع‭ ‬بعضها‭ ‬البعض،‭ ‬وحوار‭ ‬الطبيعة،‭ ‬واتساق‭ ‬الخيال‭ ‬الهندسي‭ ‬مع‭ ‬فن‭ ‬العمارة‭ ‬الدينية،‭ ‬وامتزاج‭ ‬الحداثة‭ ‬بالأصالة‭. ‬

وكانت‭ ‬فكرة‭ ‬بناء‭ ‬هذا‭ ‬المسجد‭ ‬قد‭ ‬راودت‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ - ‬يرحمه‭ ‬الله‭ - ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬عامًا‭ ‬من‭ ‬بدء‭ ‬تنفيذه،‭ ‬كما‭ ‬تشير‭ ‬المصادر،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عاليًا،‭ ‬ومبيضًا،‭ ‬لأجل‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬صرحًا‭ ‬إسلاميًّا‭ ‬للعبادة،‭ ‬ومركزًا‭ ‬إشعاعيًّا‭ ‬لعلوم‭ ‬الدين‭ ‬والفكر‭ ‬والثقافة‭ ‬الإسلامية‭. ‬إذ‭ ‬وجّه‭ ‬صاحب‭ ‬الفضل‭ - ‬طيّب‭ ‬الله‭ ‬ثراه‭ - ‬في‭ ‬عام‭ ‬1986‭ ‬دائرة‭ ‬الأشغال‭ ‬في‭ ‬أبوظبي‭ ‬بإنفاذ‭ ‬أعمال‭ ‬البناء،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬طُرح‭ ‬المشروع‭ ‬على‭ ‬مرتين‭ ‬في‭ ‬مسابقة‭ ‬دولية‭ ‬للتنافس،‭ ‬شاركت‭ ‬فيها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬30‭ ‬دولة‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬أفضل‭ ‬التصاميم‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عليها‭ ‬المبنى‭ ‬ليحمل‭ ‬فكرته‭ ‬الأولى،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬اختير‭ ‬الخيار‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬خيار‭ ‬سواه،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬لامس‭ ‬ذوقه‭ ‬وخياله،‭ ‬ثم‭ ‬عمد‭ ‬المهندسون‭ ‬المصممون‭ ‬إلى‭ ‬تغذية‭ ‬الفكرة‭ ‬الأولى‭ ‬بإعمال‭ ‬الفكر‭ ‬الهندسي‭ ‬والخيال‭ ‬الخلّاق‭ ‬لعكس‭ ‬رؤاهم‭ ‬واتجاهاتهم‭ ‬الإبداعية‭ ‬المختلفة‭. ‬

ولم‭ ‬تقف‭ ‬الشاعرية‭ ‬والذوق‭ ‬عند‭ ‬حد‭ ‬اختيار‭ ‬الموقع‭ ‬والتصميم‭ ‬وحسب،‭ ‬بل‭ ‬شمل‭ ‬كل‭ ‬مراحل‭ ‬التنفيذ‭ ‬وآلياته،‭ ‬باختيار‭ ‬شركات‭ ‬وبيوتات‭ ‬وأيادٍ‭ ‬مشهود‭ ‬لها‭ ‬بالخبرة‭ ‬والكفاءة‭ ‬ورهافة‭ ‬الحس‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬عدة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم؛‭ ‬كل‭ ‬في‭ ‬مجاله‭. ‬وقد‭ ‬برعوا‭ ‬جميعًا‭ ‬في‭ ‬كونهم‭ ‬جعلوا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الصرح‭ ‬مكانًا‭ ‬للعبادة،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬لوحة‭ ‬فنية‭ ‬نادرة،‭ ‬توافرت‭ ‬لها‭ ‬كل‭ ‬الشروط‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬منها‭ ‬أيقونة‭ ‬عالمية‭ ‬غبر‭ ‬مسبوقة‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬مظاهرها‭ ‬وجاذبة‭ ‬للأنظار‭ ‬والمشاعر‭ ‬على‭ ‬السواء‭.‬

 

82‭ ‬قبّة‭ ‬

مما‭ ‬يسترعي‭ ‬الانتباه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المحفل‭ ‬الجامع‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬غير‭ ‬عادي،‭ ‬لاحظته‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬الذين‭ ‬يتقاطرون‭ ‬أفواجًا‭ ‬وفرادى‭ ‬بأعداد‭ ‬هائلة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬وهم‭ ‬مأخوذون‭ ‬بالمناظر‭ ‬الطبيعية‭ ‬الرائعة‭ ‬التي‭ ‬تلفّ‭ ‬ساحات‭ ‬الجامع‭ ‬المنمط‭ ‬بأنماط‭ ‬معمارية‭ ‬مختلفة،‭ ‬متجانسة،‭ ‬أبرزها‭ ‬ثلاثة؛‭ ‬مغولية،‭ ‬مغربية،‭ ‬أندلسية،‭ ‬كما‭ ‬لمسته‭ ‬في‭ ‬تعابير‭ ‬وجوه‭ ‬الذين‭ ‬يتحلقون‭ ‬حول‭ ‬الأعمدة‭ ‬الخارجية‭ ‬التي‭ ‬يقوم‭ ‬عليها‭ ‬المبنى،‭ ‬والبالغة‭ ‬1096‭ ‬عمودًا‭ ‬مكسوّة‭ ‬بالرخام،‭ ‬وهي‭ ‬ببياضها‭ ‬المرمري‭ ‬اللامع،‭ ‬مزيّنة‭ ‬بأوراق‭ ‬وأغصان‭ ‬النباتات‭ ‬والزهور‭ ‬البارزة‭ ‬المنقوشة‭ ‬بالأحجار‭ ‬الكريمة‭ ‬وشبه‭ ‬الكريمة‭ ‬من‭ ‬العقيق‭ ‬الأحمر‭ ‬واللازورد،‭ ‬والجشمت‭ ‬الأرجواني،‭ ‬تعلو‭ ‬هاماتِها‭ ‬رؤوسٌ‭ ‬من‭ ‬الألمنيوم‭ ‬المذهّب‭ ‬مزروعة‭ ‬في‭ ‬الأروقة‭ ‬كغابة‭ ‬من‭ ‬سيقان‭ ‬النخيل،‭ ‬متوجة‭ ‬بالأقواس‭ ‬في‭ ‬أعلاها‭ ‬نزوعًا‭ ‬إلى‭ ‬الاتساق،‭ ‬ووفقًا‭ ‬لأروع‭ ‬ما‭ ‬توصل‭ ‬إليه‭ ‬فن‭ ‬العمارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬الحديث‭. ‬

لا‭ ‬أخفي‭ ‬وأنا‭ ‬أشاهد‭ ‬الكثيرين‭ ‬يتنافسون‭ ‬على‭ ‬التصوير‭ ‬بالكاميرات‭ ‬والهواتف‭ ‬الذكية‭ ‬وكاميرات‭ ‬الفيديو‭ ‬والتقاط‭ ‬صور‭ ‬السيلفي،‭ ‬والآخرون‭ ‬يبحلقون‭ ‬وهم‭ ‬مشدوهون‭ ‬وصامتون‭ ‬فاغرو‭ ‬الأفواه‭ ‬غير‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬كبح‭ ‬جماح‭ ‬دهشتهم‭ ‬بها،‭ ‬لا‭ ‬أخفي‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬كان‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬أيضًا‭ ‬مثار‭ ‬اهتمام‭ ‬ومدعاة‭ ‬للتأمل‭ ‬والإعجاب،‭ ‬وحتى‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬ينعمون‭ ‬بفضيلة‭ ‬الصمت،‭ ‬أو‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يجيدون‭ ‬الصبر‭ ‬على‭ ‬السكوت‭ ‬طويلًا،‭ ‬فكنت‭ ‬أراهم‭ ‬يتهامسون‭ ‬بلغات‭ ‬أو‭ ‬لهجات‭ ‬مختلفة،‭ ‬لا‭ ‬هي‭ ‬بالإنجليزية‭ ‬ولا‭ ‬هي‭ ‬بالفرنسية،‭ ‬مذهولون‭ ‬ببريق‭ ‬الزخرف‭ ‬والمنمنمات‭ ‬التي‭ ‬طالت‭ ‬الأرض‭ ‬وسقوفات‭ ‬الأروقة،‭ ‬والقباب‭ ‬التي‭ ‬تعلوها‭ ‬وهي‭ ‬تحيط‭ ‬بصحن‭ ‬الجامع،‭ ‬والتي‭ ‬يصل‭ ‬عددها‭ ‬إلى‭ ‬82‭ ‬قبّة‭ ‬تغطي‭ ‬الأروقة‭ ‬الخارجية‭ ‬والمداخل‭ ‬الرئيسة‭ ‬والجانبية‭ ‬بأحجامها‭ ‬المختلفة‭ ‬مكسوة‭ ‬بالرخام‭ ‬الأبيض،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬أكبر‭ ‬القباب‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬بقطر‭ ‬يبلغ‭ ‬32.8‭ ‬مترًا،‭ ‬وبارتفاع‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬ثمانين‭ ‬مترًا،‭ ‬ووزن‭ ‬بلغ‭ ‬1000‭ ‬طن،‭ ‬وهي‭ ‬تغطي‭ ‬منتصف‭ ‬القاعة‭ ‬الرئيسة‭ ‬للجامع،‭ ‬ولهذه‭ ‬القباب‭ ‬رمزيتها،‭ ‬ودلالاتها‭ ‬التاريخية،‭ ‬وهي‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬تحولات‭ ‬فريدة‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬العمارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬بالنحو‭ ‬الذي‭ ‬يخلب‭ ‬الألباب‭.‬

 

صحن‭ ‬الجامع

أما‭ ‬صحن‭ ‬الجامع‭ ‬فمحروس‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ركن‭ ‬من‭ ‬أركانه‭ ‬الأربعة‭ ‬بمئذنة‭ ‬أو‭ ‬منارة‭ ‬بارتفاع‭ ‬106‭ ‬أمتار،‭ ‬مكسوة‭ ‬بالرخام،‭ ‬ومكونة‭ ‬من‭ ‬طوابق‭ ‬عدة،‭ ‬كل‭ ‬طابق‭ ‬فيها‭ ‬بتصميم‭ ‬يمثّل‭ ‬حقبة‭ ‬من‭ ‬حقب‭ ‬التاريخ‭ ‬الإسلامي‭.‬

والصحن‭ ‬الذي‭ ‬يتسع‭ ‬لـ‭ ‬31‭ ‬ألف‭ ‬مصلٍ‭ ‬بمساحة‭ ‬17400‭ ‬متر‭ ‬مربع‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬نتاج‭ ‬لشاعرية‭ ‬الفكرة،‭ ‬وثمرة‭ ‬من‭ ‬ثمرات‭ ‬الخيال‭ ‬والذوق‭ ‬الراقي‭ ‬الذي‭ ‬سما‭ ‬بمبتدعه‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بهذه‭ ‬الروعة‭ ‬الزخرفية‭ ‬من‭ ‬النباتات‭ ‬والزهور‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تقع‭ ‬عيناي‭ ‬على‭ ‬مثلها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وربما‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬ولا‭ ‬أبالغ‭ ‬إن‭ ‬قلت‭ ‬إنني‭ ‬لم‭ ‬أرَ‭ ‬أبدًا‭ ‬أعين‭ ‬الناس‭ ‬وهي‭ ‬تتفرس‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬مثلما‭ ‬رأيتها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬ذاهلة‭ ‬بالرسومات‭ ‬المطبوعة‭ ‬على‭ ‬أرضية‭ ‬الصحن‭ ‬الرخامية‭ ‬الغنية‭ ‬بالفسيفساء‭ ‬فيما‭ ‬يعرف‭ ‬بالجدارية‭ ‬الأرضية‭ (‬رغم‭ ‬الجدل‭ ‬الذي‭ ‬احتدم‭ ‬حول‭ ‬التسمية‭ ‬فهو‭ ‬فن‭ ‬زخرفي‭ ‬انتشر‭ ‬في‭ ‬العصرين‭ ‬الروماني‭ ‬والبيزنطي‭). ‬

ومهما‭ ‬يكن،‭ ‬فقد‭ ‬استخدم‭ ‬الرسام‭ ‬البريطاني‭ ‬البارع‭ ‬كفين‭ ‬دين‭ - ‬في‭ ‬سمو‭ ‬روحي‭ ‬رهيب‭ - ‬الزهور‭ ‬التي‭ ‬تنمو‭ ‬في‭ ‬النصفين‭ ‬الشمالي‭ ‬والجنوبي‭ ‬من‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضية،‭ ‬يتخللها‭ ‬نبات‭ ‬اللبلاب‭ ‬الذي‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ ‬العربي‭ (‬كمنطقة‭ ‬في‭ ‬الوسط‭)‬،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬زهرتي‭ ‬الزنبق‭ ‬والسوسن‭ ‬الخزامي،‭ ‬كأنما‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬ذياك‭ ‬البلاط‭ ‬الأبيض‭ ‬الأنيق‭. ‬

وكنت‭ ‬أتأملها‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬باقات‭ ‬من‭ ‬الزهور‭ ‬المتنوعة‭ ‬النادرة‭ ‬معطونة‭ ‬في‭ ‬مستودع‭ ‬من‭ ‬الألبان،‭ ‬موحية‭ ‬بأن‭ ‬العالم‭ ‬بإمكانه‭ ‬أن‭ ‬يتوحد‭ ‬ويكون‭ ‬مزهرًا‭ ‬وبهيًّا‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬توافق‭ ‬وتعايش‭ ‬بانسجام‭ ‬وصفاء‭.‬

‭ ‬

قاعة‭ ‬الجامع‭ ‬الرئيسة

ظللنا‭ ‬نطوف‭ ‬بين‭ ‬الأروقة‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬جميل‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬أكثر‭ ‬جمالًا‭ ‬وأجلّ‭ ‬إدهاشًا‭ ‬ورهبة،‭ ‬وما‭ ‬بين‭ ‬مشاهداتي‭ ‬وتأملاتي‭ ‬فيما‭ ‬هو‭ ‬كائن،‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬الجمال‭ ‬ما‭ ‬يجبُّ‭ ‬بعضه‭ ‬بعضًا،‭ ‬وهو‭ ‬الجمال‭ ‬المسكون‭ ‬بالرهبة،‭ ‬والخشوع،‭ ‬والوقار،‭ ‬ويستثير‭ ‬المشاعر‭ ‬ويفضي‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭ ‬والتفكر‭ ‬ويحقق‭ ‬السمو،‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬النظر‭ ‬إليه‭ ‬إلا‭ ‬بصمت‭. ‬ألم‭ ‬يقل‭ ‬الشاعر‭ ‬العربي‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭:‬

 

فإذا‭ ‬وقفت‭ ‬أمام‭ ‬حسنك‭ ‬صامتًا

فالصمت‭ ‬في‭ ‬حرَم‭ ‬الجمال‭ ‬جمالُ

 

هذه‭ ‬المشاعر‭ ‬والرهبة‭ ‬كانتا‭ ‬تجتاحاني،‭ ‬ونحن‭ ‬نحاول‭ ‬الوصول‭ ‬عبر‭ ‬الأبهاء‭ ‬إلى‭ ‬القاعة‭ ‬الرئيسة‭ ‬في‭ ‬الجامع،‭ ‬لكن‭ ‬قبل‭ ‬الدخول‭ ‬إليها‭ ‬توقفنا‭ ‬كثيرًا‭ ‬نشاهد‭ ‬الصالة‭ ‬المتصلة‭ ‬بها‭ ‬مع‭ ‬الحشود‭ ‬الحاشدة،‭ ‬وهم‭ ‬حريصون‭ ‬على‭ ‬أخذ‭ ‬الصور‭ ‬التذكارية‭ ‬أمام‭ ‬جدرانها‭ ‬المزيّنة‭ ‬بالزخارف‭ ‬النباتية‭ ‬البارزة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬جوانبها،‭ ‬وينظرون‭ ‬بعيون‭ ‬لا‭ ‬تهدأ‭ ‬من‭ ‬التحديق‭ ‬والتمعّن‭ ‬في‭ ‬السحر‭ ‬الذي‭ ‬سطع‭ ‬في‭ ‬أتمّ‭ ‬سناه،‭ ‬وفي‭ ‬الثريا‭ ‬الزرقاء‭ ‬المتدلية‭ ‬بارتفاع‭ ‬ستة‭ ‬أمتار‭ ‬في‭ ‬الوسط‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬القباب،‭ ‬وبقطر‭ ‬يبلغ‭ ‬4‭.‬5‭ ‬أمتار،‭ ‬ووزن‭ ‬طنيّن،‭ ‬مرصعة‭ ‬بالكريستال،‭ ‬وزجاج‭ ‬المورانو‭ ‬الإيطالي،‭ ‬ومنقوش‭ ‬على‭ ‬حوافها‭ ‬الدائرية‭ ‬آيات‭ ‬مذهّبة‭ ‬من‭ ‬سورة‭ ‬الرحمن،‭ ‬وهي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أربع‭ ‬مماثلات‭ ‬وموزعات‭ ‬على‭ ‬الصالات‭ ‬الأربع،‭ ‬وحتى‭ ‬البوابة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬التي‭ ‬يصل‭ ‬ارتفاعها‭ ‬إلى‭ ‬12‭ ‬مترًا،‭ ‬وتؤدي‭ ‬إلى‭ ‬قاعة‭ ‬الصلاة‭ ‬الرئيسة،‭ ‬فهي‭ ‬أيضًا‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬جاذبية‭ ‬وروعة،‭ ‬لا‭ ‬تهدأ‭ ‬ولا‭ ‬تفتر‭ ‬أمام‭ ‬حركة‭ ‬الناس‭.‬

وحال‭ ‬دخول‭ ‬القاعة‭ ‬الرئيسة،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تنغرس‭ ‬الأقدام‭ ‬في‭ ‬البساط‭ ‬السميك،‭ ‬والشعور‭ ‬بالأبهة‭ ‬يحبس‭ ‬الأنفاس،‭ ‬ويفرض‭ ‬التأمل‭ ‬بأناة،‭ ‬ولعل‭ ‬ما‭ ‬يجلب‭ ‬الحيرة‭ ‬والمرء‭ ‬يتنقل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القاعة،‭ ‬لا‭ ‬يدري‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬يبدأ‭ ‬المشاهدة‭!‬

أفي‭ ‬السجادة‭ ‬التي‭ ‬تعد‭ ‬أكبر‭ ‬سجادة‭ ‬في‭ ‬العالم؟‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬السقوف‭ ‬التي‭ ‬عليها‭ ‬القباب،‭ ‬وأضواء‭ ‬الشمس‭ ‬الملونة‭ ‬النازلة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نوافذها؟‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬الأعمدة‭ ‬المنتصبة‭ ‬المنضّدة‭ ‬التي‭ ‬تحملها؟‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬الثريات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬لها؟‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬المنبر؟‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬المحراب؟‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬الجدران‭ ‬الأربعة؟‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬البرودة‭ ‬الناعمة‭ ‬التي‭ ‬تداعب‭ ‬الأطراف‭ ‬في‭ ‬نهارات‭ ‬الصيف‭ ‬الحارّ؟‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬الإصغاء‭ ‬لشرح‭ ‬المرشدين‭ ‬الهامس،‭ ‬وهم‭ ‬يشرحون‭ ‬بأدب‭ ‬جمّ‭ ‬ويجيبون‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬السائلين؟‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬ينقضي‭ ‬بأسرع‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يرتوي‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الفيض‭ ‬الإبداعي‭ ‬العذب؟

 

مبنى‭ ‬أسطوري

في‭ ‬قمة‭ ‬هذا‭ ‬التنازع‭ ‬الجمالي‭ ‬والزمن‭ ‬الذي‭ ‬يمر‭ ‬بسرعة‭ ‬عالية،‭ ‬طلب‭ ‬مني‭ ‬أحد‭ ‬الزوار،‭ ‬وهو‭ ‬هنديّ‭ ‬كما‭ ‬ذكر‭ ‬لي،‭ ‬صورة‭ ‬تذكارية‭ ‬بجانبي،‭ ‬فكان‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬أراد،‭ ‬وعندما‭ ‬قلت‭ ‬له‭: ‬لديكم‭ ‬في‭ ‬الهند‭ ‬‮«‬تاج‭ ‬محل‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬أيضًا‭ ‬عمارة‭ ‬إسلامية‭ ‬قديمة،‭ ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬عجائب‭ ‬الدنيا‭ ‬السبع‭! ‬فردّ‭ ‬عليّ‭ ‬بلغة‭ ‬عربية‭ ‬تعوزها‭ ‬الطلاقة،‭ ‬‮«‬نعم‭ ‬وقد‭ ‬شاهدته‭ ‬مرات‭ ‬عدة،‭ ‬وتاج‭ ‬محل‭ ‬بُني‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثمئة‭ ‬وخمسين‭ ‬عامًا،‭ ‬وهو‭ ‬يمثّل‭ ‬روح‭ ‬عصره،‭ ‬أما‭ ‬هذا‭ ‬فهو‭ ‬جذاب‭ ‬ومواكب‭ ‬للعصر‭ ‬الذي‭ ‬نعيش‭ ‬فيه،‭ ‬وفي‭ ‬رأيي‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬أجمل‭ ‬وأروع‭ ‬في‭ ‬نواحٍ‭ ‬كثيرة،‭ ‬فالقباب‭ ‬الكثيرة‭ ‬تشهد‭ ‬على‭ ‬تفرّده،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬مزود‭ ‬بتقنية‭ ‬حديثة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬كاميرات‭ ‬مراقبة،‭ ‬وأنظمة‭ ‬إضاءة‭ ‬وصوت‭ ‬وخلافه،‭ ‬وهذا‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬مبنى‭ ‬أسطوري‮»‬‭.‬

ثم‭ ‬فاجأني‭ ‬بسؤال‭ ‬عن‭ ‬رأيي،‭ ‬ولم‭ ‬أشأ‭ ‬الرد‭ ‬عليه‭ ‬إلا‭ ‬بالقول‭ ‬مهما‭ ‬عظُم‭ ‬شأن‭ ‬كل‭ ‬منهما،‭ ‬ففي‭ ‬هذا‭ ‬قيمة‭ ‬روحية‭ ‬أسمى‭ ‬وأجلّ‭ ‬وأبهى‭ ‬في‭ ‬كونه‭ ‬شُيّد‭ ‬خالصًا‭ ‬لوجه‭ ‬الله‭ ‬الكريم،‭ ‬أما‭ ‬تاج‭ ‬محل‭ ‬فقد‭ ‬تم‭ ‬بناؤه‭ ‬لتخليد‭ ‬ذكرى‭ ‬ممتازة‭.‬

ثم‭ ‬قال‭ ‬الرجل‭ ‬الهندي‭: ‬حاليًا‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬أتجه،‭ ‬ومن‭ ‬أين‭ ‬أبدأ؟‭ ‬انظر‭ ‬لهذه‭ ‬السجادة‭ ‬المفروشة‭ ‬على‭ ‬الأرضية‭! ‬وبعدما‭ ‬تبدد‭ ‬شرود‭ ‬الفكر‭ ‬أيقنت‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬من‭ ‬صيحات‭ ‬الموضة‭ ‬التي‭ ‬تظهر‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬تنتهي،‭ ‬وإنما‭ ‬نتاج‭ ‬خيال‭ ‬وجهد‭ ‬فكري‭ ‬وبدني‭ ‬مضنٍ،‭ ‬تعكس‭ ‬روح‭ ‬النهضة‭ ‬المعاصرة،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬مساحتها‭ ‬التي‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬5600‭ ‬متر‭ ‬مربع‭ ‬تعد‭ ‬أكبر‭ ‬سجادة‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬نسجت‭ ‬يدويًّا،‭ ‬من‭ ‬أجود‭ ‬أنواع‭ ‬الصوف‭ ‬والقطن‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬بنسبة‭ ‬70‭/ ‬30‭ ‬في‭ ‬المئة،‭ ‬وقد‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬نسجها‭ ‬1200‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬والحرفيين‭ ‬المبدعين‭ ‬الذين‭ ‬تميزوا‭ ‬بالخبرة‭ ‬والمهارة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬واستغرق‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬نسجها‭ ‬عامين‭ ‬كاملين‭.‬

 

الفخامة‭ ‬في‭ ‬أسمى‭ ‬معانيها

تمتاز‭ ‬هذه‭ ‬السجادة‭ ‬بأنها‭ ‬قطعة‭ ‬واحدة‭ ‬تم‭ ‬تقطيعها‭ ‬إلى‭ ‬بضعة‭ ‬قطع‭ ‬حتى‭ ‬استقرت‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬الجامع،‭ ‬وأعيد‭ ‬تجميعها‭ ‬مرة‭ ‬ثانية‭ ‬بالنحو‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬أولًا،‭ ‬وهي‭ ‬تبرز‭ ‬خطوط‭ ‬الصلاة‭ ‬المنسوجة‭ ‬ضمن‭ ‬خيوطها،‭ ‬مما‭ ‬ييسّر‭ ‬تنظيم‭ ‬صفوف‭ ‬المصلين،‭ ‬وخاصة‭ ‬المكفوفين،‭ ‬وقد‭ ‬جاوزت‭ ‬حد‭ ‬الإدهاش‭ ‬والوصف‭ ‬بنقوشها‭ ‬وألوانها‭ ‬التي‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬لونًا‭ ‬يسيطر‭ ‬عليها‭ ‬اللون‭ ‬الأخضر‭.‬

أما‭ ‬إذا‭ ‬نظر‭ ‬المرء‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬قدميه‭ ‬فلن‭ ‬يرى‭ ‬غير‭ ‬الفخامة‭ ‬في‭ ‬أجلّ‭ ‬معانيها،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الأضواء‭ ‬الملونة‭ ‬التي‭ ‬تتساقط‭ ‬متخللة‭ ‬النوافذ‭ ‬الزجاجية‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬قواعد‭ ‬القباب‭ ‬على‭ ‬السقوف،‭ ‬والآيات‭ ‬القرآنية‭ ‬الذهبية‭ ‬اللون،‭ ‬والثريّات‭ ‬الضخمة‭ ‬التي‭ ‬تتدلى‭ ‬من‭ ‬أعلاها،‭ ‬أضخمها‭ ‬الثريا‭ ‬التي‭ ‬تتدلى‭ ‬من‭ ‬القبة‭ ‬الرئيسة،‭ ‬وهي‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬إذ‭ ‬يبلغ‭ ‬قطرها‭ ‬10‭ ‬أمتار،‭ ‬ويقدر‭ ‬وزنها‭ ‬باثني‭ ‬عشر‭ ‬طنًا،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يبلغ‭ ‬ارتفاعها‭ ‬15‭ ‬مترًا،‭ ‬وبجانبها‭ ‬توجد‭ ‬ثريتان‭ ‬أخريان‭ ‬متدليتان‭ ‬من‭ ‬القبتين‭ ‬الموجودتين‭ ‬في‭ ‬القاعة،‭ ‬قطر‭ ‬كل‭ ‬واحدة‭ ‬7‭ ‬أمتار،‭ ‬بينما‭ ‬يبلغ‭ ‬ارتفاعها‭ ‬12.5‭ ‬مترًا،‭ ‬بزنة‭ ‬8‭ ‬أطنان‭ ‬من‭ ‬قطع‭ ‬الكريستال‭ ‬السواروفسكي،‭ ‬والنحاس‭ ‬الأصفر،‭ ‬والفولاذ‭ ‬المقاوم‭ ‬للصدأ،‭ ‬والمسقي‭ ‬بنحو‭ ‬40‭ ‬كيلوجرامًا‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬عيار‭ ‬24‭ ‬قيراطًا‭.‬

وما‭ ‬بين‭ ‬الأرضية‭ ‬والسقوف‭ ‬تنتصب‭ ‬الأعمدة‭ ‬المشيدة؛‭ ‬96‭ ‬عمودًا‭ ‬داخل‭ ‬القاعة‭ ‬كقواعد‭ ‬للقباب،‭ ‬وقد‭ ‬روعي‭ ‬في‭ ‬تصميمها‭ ‬جماليات‭ ‬العمارة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التنضيد،‭ ‬والأقواس‭ ‬والتزويق‭ ‬والمنمنمات،‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬معه‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يتجاوزها‭ ‬دون‭ ‬التمعن‭ ‬فيها‭. ‬وكذلك‭ ‬الجدران‭ ‬الأربعة،‭ ‬فعلى‭ ‬فرط‭ ‬ضخامتها‭ ‬فهي‭ ‬أيضًا‭ ‬موشّاة‭ ‬بالنقوش‭ ‬والزخارف‭ ‬المُبرِقة‭ ‬كالجداريات،‭ ‬وخاصة‭ ‬جدار‭ ‬القبلة‭ ‬المنقوش‭ ‬عليه‭ ‬بالخط‭ ‬الكوفي‭ ‬أسماء‭ ‬الله‭ ‬الحسنى‭ ‬بطريقة‭ ‬ضوئية‭ ‬براقة‭ ‬ومثيرة‭ ‬للإعجاب‭.‬

 

جاذبية‭ ‬فريدة

أما‭ ‬المحراب‭ ‬الذي‭ ‬يمثّل‭ ‬آية‭ ‬من‭ ‬آيات‭ ‬الجمال‭ ‬التي‭ ‬يحتويها‭ ‬جامع‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ ‬الكبير،‭ ‬فينم‭ ‬تصميمه‭ ‬بشكل‭ ‬ربما‭ ‬يماثل‭ ‬وصف‭ ‬أنهار‭ ‬العسل‭ ‬واللبن‭ ‬التي‭ ‬تجري‭ ‬في‭ ‬الجنة،‭ ‬وتعلوه‭ ‬خليّة‭ ‬من‭ ‬النحل،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أنها‭ ‬منبع‭ ‬لهذا‭ ‬النهر‭ ‬الجاري‭.‬

وقد‭ ‬جرى‭ ‬تزيينه‭ ‬بالرقائق‭ ‬الذهبية،‭ ‬وكذلك‭ ‬المنبر‭ ‬الذي‭ ‬يقف‭ ‬عليه‭ ‬الإمام‭ ‬عند‭ ‬الصلوات‭ ‬الجامعة‭ ‬فهو‭ ‬مصنوع‭ ‬من‭ ‬الخشب‭ ‬المطعّم‭ ‬بالأصداف،‭ ‬وعليه‭ ‬نقوش‭ ‬وردية‭ ‬وفسيفساء‭ ‬الزجاج‭ ‬والذهب‭ ‬الأبيض‭.‬

وقد‭ ‬أتاحت‭ ‬لي‭ ‬زياراتي‭ ‬المتعددة‭ ‬للجامع‭ ‬أداء‭ ‬بعض‭ ‬الصلوات‭ ‬المفروضة‭ ‬جماعة‭ ‬في‭ ‬مواقيت‭ ‬مختلفة‭ ‬بالصالة‭ ‬الخارجية،‭ ‬وهي‭ ‬تسعُ‭ ‬لحوالي‭ ‬ألفي‭ ‬مصلٍ،‭ ‬ولروعتها،‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬المرء‭ ‬من‭ ‬الكلمات‭ ‬لوصفها،‭ ‬وكان‭ ‬يختلف‭ ‬لأداء‭ ‬هذه‭ ‬الصلوات‭ ‬اثنان‭ ‬من‭ ‬الأئمة،‭ ‬هما‭ ‬القارئان‭ ‬إدريس‭ ‬أبكر،‭ ‬ويحيى‭ ‬عيشان،‭ ‬وفي‭ ‬قراءتيهما‭ ‬من‭ ‬المتعة‭ ‬والجاذبية‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬له،‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬ينسجم‭ ‬كل‭ ‬الانسجام‭ ‬مع‭ ‬بدائع‭ ‬العمارة،‭ ‬ومما‭ ‬جعلني‭ ‬أستعذب‭ ‬الصلاة‭ ‬الجهرية،‭ ‬أن‭ ‬صلاح‭ ‬حدثني‭ ‬قائلًا‭ ‬‮«‬منذ‭ ‬افتتاح‭ ‬الجامع‭ ‬في‭ ‬مارس‭ ‬2007‭ ‬كلما‭ ‬اعترتني‭ ‬وحشة،‭ ‬أو‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الضجر‭ ‬هرعت‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المكان،‭ ‬أتلمّس‭ ‬جماله‭ ‬العبقري‭ ‬عبر‭ ‬الخضرة،‭ ‬وتدفّق‭ ‬المياه،‭ ‬والرسومات‭ ‬والزخارف،‭ ‬وعبر‭ ‬أصوات‭ ‬الإمامين‭ ‬القارئين،‭ ‬فأشعر‭ ‬حينئذ‭ ‬بمتعة‭ ‬حقيقية‭ ‬وتجدد‭ ‬الحياة‮»‬‭. ‬ثم‭ ‬يضيف‭: ‬‮«‬أما‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬فأحرص‭ ‬حرصًا‭ ‬شديدًا‭ ‬على‭ ‬أداء‭ ‬صلاة‭ ‬التراويح‭ ‬خلف‭ ‬إمامَي‭ ‬الجامع‭ ‬مع‭ ‬آلاف‭ ‬المصلين‭ ‬الذين‭ ‬تمتلئ‭ ‬بهم‭ ‬قاعات‭ ‬الصلاة‭ ‬وتفيض‭ ‬عنهم‭ ‬ساحاته‮»‬‭.‬

ويكون‭ ‬الزائر‭ ‬أوفر‭ ‬حظًا‭ ‬إذا‭ ‬تسنّى‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يشهد‭ ‬غروب‭ ‬الشمس‭ ‬وحلول‭ ‬المساء‭ ‬بباحة‭ ‬الجامع‭ ‬الكبير‭ ‬ومهرجانات‭ ‬الأضواء‭ ‬الباهرة‭ ‬التي‭ ‬تغطي‭ ‬كل‭ ‬أرجائه‭ ‬بانعكاسات‭ ‬خاصة،‭ ‬مما‭ ‬يضفي‭ ‬على‭ ‬المبنى‭ ‬سحرًا‭ ‬وجاذبية‭ ‬فريدة،‭ ‬خاصة‭ ‬أنها‭ ‬تتحرك‭ ‬خفوتًا‭ ‬وشعشعة‭ ‬متزامنة‭ ‬مع‭ ‬منازل‭ ‬القمر،‭ ‬فمن‭ ‬زرقاء‭ ‬خافتة‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬القمر‭ ‬هلالًا،‭ ‬إلى‭ ‬بيضاء‭ ‬ساطعة‭ ‬لما‭ ‬يصير‭ ‬القمر‭ ‬بدرًا‭ ‬كاملاً،‭ ‬مما‭ ‬يشي‭ ‬عن‭ ‬خيال‭ ‬مدهش‭ ‬ومثير‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الفن‭ ‬والواقع‭ ‬باحترافية‭ ‬عالية‭ ‬غير‭ ‬مطروقة‭. ‬

 

الميضأة

لقد‭ ‬فاتني‭ ‬مشهد‭ ‬من‭ ‬مشاهد‭ ‬الصور‭ ‬البديعة،‭ ‬وما‭ ‬كنت‭ ‬أحسب‭ ‬لذلك‭ ‬أهمية،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نبهني‭ ‬أصدقائي‭ ‬للذهاب‭ ‬ومشاهدة‭ ‬الميضأة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالرجال،‭ ‬نزلنا‭ ‬تحت‭ ‬الأرض‭ ‬ناحية‭ ‬المئذنة‭ ‬الجنوبية‭ ‬الشرقية‭ ‬بالسلّم‭ ‬الكهربائي‭ ‬المتحرك‭ ‬مع‭ ‬صنوف‭ ‬عديدة‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬بلغنا‭ ‬آخر‭ ‬الدرجات،‭ ‬حتى‭ ‬تبدت‭ ‬لنا‭ ‬مشاهد‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬جماليات‭ ‬العمارة‭ ‬الحديثة،‭ ‬والدرجة‭ ‬القصوى‭ ‬من‭ ‬النظافة‭ ‬برغم‭ ‬كثرة‭ ‬المترددين،‭ ‬والعمال‭ ‬الذين‭ ‬يعملون‭ ‬على‭ ‬قدم‭ ‬وساق‭ ‬على‭ ‬تلميع‭ ‬الموزايكو‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬نقطة‭ ‬ماء‭ ‬شاردة،‭ ‬كما‭ ‬أظهرت‭ ‬لنا‭ ‬المشاهد‭ ‬الرائعة‭ ‬مدى‭ ‬تنافس‭ ‬الشركات‭ ‬والمبدعين‭ ‬على‭ ‬إبداء‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬لديهم‭ ‬من‭ ‬أخيلة‭ ‬فنية‭ ‬لإضفاء‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الذوق‭ ‬والروحانية‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬الوضوء‭ ‬والطهارة‭ ‬المتصلة‭ ‬بأماكن‭ ‬الراحة،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬النافورات‭ ‬المعلّقة‭ ‬في‭ ‬الأحواض‭ ‬الرخامية‭ ‬العالية‭ ‬الخضراء‭ ‬التي‭ ‬تنهمر‭ ‬منها‭ ‬المياه‭ ‬في‭ ‬عذوبة،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الزخارف‭ ‬والفسيفساء‭ ‬المشغولة‭ ‬بالأيدي‭ ‬على‭ ‬الجدران،‭ ‬والأضواء‭ ‬القرمزية‭ ‬اللامعة‭ ‬النازلة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬القباب‭ ‬الزجاجية‭ ‬القابعة‭ ‬خارج‭ ‬المبنى‭ ‬حول‭ ‬المئذنة،‭ ‬وغير‭ ‬هذه‭ ‬المرافق‭ ‬المفعمة‭ ‬بكل‭ ‬مباعث‭ ‬الدهشة‭ ‬والذهول،‭ ‬توجد‭ ‬ميضأة‭ ‬أخرى‭ ‬خاصة‭ ‬بالنساء‭ ‬تحت‭ ‬المئذنة‭ ‬الشمالية،‭ ‬كما‭ ‬توجد‭ ‬مشربيات‭ ‬عدة‭ ‬للوضوء‭ ‬بين‭ ‬الأروقة،‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬الطلق‭ ‬تم‭ ‬تصميمها‭ ‬لتضفي‭ ‬على‭ ‬الجامع‭ ‬من‭ ‬الألق‭ ‬والبهاء‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬لإبـــراز‭ ‬جمال‭ ‬المنظر‭.‬

 

المكتبة

تسنى‭ ‬لي‭ ‬زيارة‭ ‬مكتبة‭ ‬الجامع‭ ‬مرات‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬المئذنة‭ ‬الشمالية،‭ ‬وقد‭ ‬راقني‭ ‬جميع‭ ‬ما‭ ‬فيها،‭ ‬فهي‭ ‬الأخرى‭ ‬أيقونة‭ ‬من‭ ‬الأيقونات‭ ‬التي‭ ‬جمعت‭ ‬بين‭ ‬البساطة‭ ‬والرقيّ‭ ‬في‭ ‬تكوينها،‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬استقبال‭ ‬أكبر‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الزوار‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬ساعات‭ ‬الزيارة،‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬التاسعة‭ ‬صباحًا‭ ‬خلال‭ ‬أيام‭ ‬الأسبوع‭ ‬عدا‭ ‬الجمعة‭ ‬والسبت،‭ ‬وإمكان‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الكتاب‭ ‬أو‭ ‬المؤلف‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬وجيز،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الفهارس‭ ‬المحوسبة،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬وهي‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يفوق‭ ‬الثمانية‭ ‬آلاف‭ ‬كتاب‭ ‬ومجلّد‭.‬

وقد‭ ‬لمست‭ ‬مدى‭ ‬الاهتمام‭ ‬الذي‭ ‬يوليه‭ ‬القائمون‭ ‬على‭ ‬مركز‭ ‬الجامع‭ ‬بهذه‭ ‬الكنوز‭ ‬الغنية‭ ‬بالمعرفة‭ ‬وعلوم‭ ‬الحضارة‭ ‬والتاريخ‭ ‬الإسلامـي،‭ ‬وبالمـــخـــطــوطات‭ ‬والــــوثائق‭ ‬والدوريات‭ ‬النفيسة‭ ‬النادرة،‭ ‬المكتوبة‭ ‬بأربعة‭ ‬عشرة‭ ‬لغة‭ ‬حيّة،‭ ‬ويولي‭ ‬القائمون‭ ‬على‭ ‬مركز‭ ‬الجامع‭ ‬اهتمامًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬بها،‭ ‬بجانب‭ ‬الجهد‭ ‬المبذول‭ ‬من‭ ‬الطاقم‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬بين‭ ‬جدرانها‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحتاج‭ ‬إليه‭ ‬الزائر‭ ‬في‭ ‬أقل‭ ‬زمن‭ ‬ممكن‭.‬

ونحن‭ ‬نتنقل‭ ‬بين‭ ‬مواكب‭ ‬الجمال‭ ‬من‭ ‬موكب‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬أسرى‭ ‬المناظر‭ ‬الخلابة،‭ ‬والشاعرية‭ ‬المترفة‭ ‬والخيال‭ ‬الباذخ،‭ ‬حتى‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬قبر‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ - ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ - ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الشمالي‭ ‬باتجاه‭ ‬الغرب‭ ‬من‭ ‬الجامع،‭ ‬ورغم‭ ‬أنه‭ ‬يتسم‭ ‬بالبساطة،‭ ‬فإن‭ ‬الهيبة‭ ‬والوقار‭ ‬كانا‭ ‬يحرسانه،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬وأنت‭ ‬تسمع‭ ‬طوال‭ ‬ساعات‭ ‬اليوم‭ ‬تلاوة‭ ‬المصحف‭ ‬الشريف‭ ‬بأصوات‭ ‬قوية‭ ‬ممتلئة‭ ‬خشية‭ ‬وعذوبة‭. ‬فيما‭ ‬وجدنا‭ ‬رهطًا‭ ‬من‭ ‬الزوار‭ ‬يترحمون‭ ‬على‭ ‬روحه‭ ‬كقائد‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يهدِي‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬والتاريخ‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُهدَى‭.‬

ثم‭ ‬انتقلنا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬الكافيتريا‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الشمالي‭ ‬الشرقي‭ ‬وهي‭ ‬تقدم‭ ‬خدماتها‭ ‬من‭ ‬أطايب‭ ‬الأطعمة‭ ‬والمشروبات،‭ ‬بما‭ ‬يعكس‭ ‬الشعور‭ ‬بالراحة،‭ ‬ويليق‭ ‬بأذواق‭ ‬الحاضرين‭ ‬على‭ ‬كثرتهم‭.‬

 

3‭ ‬ملايين‭ ‬زائر

والجامع‭ ‬بهذا‭ ‬الإتقان‭ ‬والروعة‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬فيه‭ ‬يجلّ‭ ‬عن‭ ‬الوصف،‭ ‬ومن‭ ‬أعظم‭ ‬تجلياته‭ ‬أنه‭ ‬جعل‭ ‬للجمال‭ ‬جواذب‭ ‬دينية،‭ ‬مثلما‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬فن‭ ‬العمارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬جاذبًا‭ ‬سياحيًّا،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬عدد‭ ‬الذين‭ ‬يقصدون‭ ‬زيارته‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬3‭ ‬ملايين‭ ‬زائر،‭ ‬بمعدل‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬9‭ ‬آلاف‭ ‬في‭ ‬اليوم‭.‬

وقد‭ ‬لاحظت‭ ‬أمارات‭ ‬الاهتمام‭ ‬بمكوناته‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬النظافة‭ ‬والنظام،‭ ‬وتنظيم‭ ‬سير‭ ‬العمل‭ ‬فيه،‭ ‬بما‭ ‬يجعل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬محفزًا‭ ‬على‭ ‬التأمل‭ ‬ومثيرًا‭ ‬للإعجاب،‭ ‬لاسيما‭ ‬أنه‭ ‬يضم‭ ‬مركزًا‭ ‬له‭ ‬دور‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬ترسيخ‭ ‬أبعاد‭ ‬الحضارة‭ ‬والمعرفة‭ ‬والثقافة‭ ‬الإسلامية‭ ‬تحت‭ ‬إدارة‭ ‬شؤون‭ ‬الجامع‭ ‬والإشراف‭ ‬على‭ ‬مرافقه،‭ ‬وأنشطته‭ ‬وبرامجه‭ ‬المتنوعة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الهيكل‭ ‬التنظيمي‭ ‬الذي‭ ‬يضم‭ ‬مجلس‭ ‬الأمناء،‭ ‬ومدير‭ ‬المركز‭ ‬وبقية‭ ‬الوحدات‭ ‬والأقسام‭ ‬المتخصصة‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأنشطة‭. ‬

وكل‭ ‬هذه‭ ‬الفئات‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬متناسقة‭ ‬لإنجاح‭ ‬البرامج‭ ‬والخطط‭ ‬والأهداف‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬أنشئ‭ ‬الجامع،‭ ‬حتى‭ ‬أضحى‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬وأشهر‭ ‬معالم‭ ‬السياحة‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

إن‭ ‬ما‭ ‬شاهدته‭ ‬بأم‭ ‬عيني‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الظباء،‭ ‬وهو‭ ‬الاسم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يُطلق‭ ‬على‭ ‬أبوظبي‭ ‬قديمًا،‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬تعد‭ ‬موطنًا‭ ‬للظباء،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬تعرف‭ ‬بــ‭ ‬‮«‬أم‭ ‬النار‮»‬‭ ‬ما‭ ‬شاهدته‭ ‬بعض‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أتمنى،‭ ‬وإن‭ ‬غمرني‭ ‬سعادة،‭ ‬في‭ ‬كونها‭ ‬أيقونة‭ ‬باهرة‭ ‬جمعت‭ ‬بين‭ ‬الفكر‭ ‬والخيال‭ ‬الهندسي‭ ‬البديع،‭ ‬كما‭ ‬ازداد‭ ‬يقيني‭ ‬بأن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬حكام‭ ‬العالم‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬التاريخ‭ ‬الإنساني‭ ‬لو‭ ‬كانوا‭ ‬بقدر‭ ‬من‭ ‬الشاعرية‭ ‬العبقرية‭ ‬والخيال‭ ‬الواسع‭ ‬لما‭ ‬أوردوا‭ ‬شعوبهم‭ ‬موارد‭ ‬الهلاك‭ ‬والدمار،‭ ‬ولتحوّلت‭ ‬بلدانهم‭ ‬إلى‭ ‬أيقونات‭ ‬ساحرة‭ .

 

قاعة‭ ‬الجامع‭ ‬الرئيسية