جامع الشيخ زايد الكبير بين شاعرية الفكرة والخيال الهندسي البديع
لا يمكن أن ينشأ أي عمل بديع دون أن يرتكز على فكرة خلاقة مستوحاة من نبع ما ممتلئ بالعذوبة والصفاء، وتبقى شاعرية الفكرة هي النواة المؤطرة لتأسيس العمل الإبداعي الراكز والراسخ ذي الأبعاد الفنية والجمالية الغنية بالفرادة والإبهار، ومتى ما استقرت والتحمت مع الخيال، وتكاملت بانسجام مع آليات التنفيذ، عندئذٍ يكون المنجز غير عادي، وبحدّ ربما يفوق الخيال، أو ما لا يخطر على أفق بشر.
بعد أن هبطت الطائرة ليلًا على مدرج مطار دبي الدولي، وخرجنا من صالة القدوم، وجدت في استقبالي 3 من أصدقائي السودانيين المقيمين بدولة الإمارات العربية المتحدة، كل في إمارة.
ولعل من حُسن الحظ أن ثلاثتهم في إجازات قصيرة، ولما كنت أقصد إمارة أبوظبي تحديدًا في زيارة خاصة، فقد توجه أربعتنا نحوها، مرورًا بشوارع دبي الرئيسة العريضة المضاءة بالفوانيس والأنوار الملونة الباهرة، حيث الأبراج العملاقة الشاهقة التي تناطح السحاب، والبنايات العالية، والصروح المعمارية الضخمة الجاذبة، ذات الواجهات الزجاجية المزدانة بالأضواء الكثيفة التي تبهر العيون، وتمنع الظلام من اختلاس سانحة لملامسة فضاءاتها وأديمها، وكلها تعكس الإشراق والوجه الجمالي والسياحي والتجاري والثراء الفاحش لمدينة دبي في الطريق إلى أبوظبي.
بينما كنا نحكي بشواهد وأرقام عن الطفرة والثقافة العمرانية والمعمارية، وأثر الغرب الذي تبدّى بشدة في هذه البلاد، ورغد العيش والجمال المترف الذي طال مدن الإمارات وإنسانها، بفضل الإرادة وحُسن التدبير، والاستغلال الأمثل لنعمة النفط المتدفقة، قفز الثلاثة يتحدثون بامتنان وإعجاب بالغ عن جامع الشيخ زايد الكبير في إمارة أبوظبي، وصار كل واحد منهم يحكي على طريقته وبإحساسه وإلهامه عما طالعته عيناه من فنون العمارة وبدائع التنميق وسحر الألوان والزخارف المنقوشة على جدرانه، ودقة التنظيم التي تلفّ ساحاته، ومدى امتزاجه بروح الحضارة الإسلامية منذ بزوغها قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا هجريًّا، كمن يحكي عن أسطورة في زمن انعدمت فيه الأساطير، أو عجيبة من عجائب الدنيا تفجّرت حديثًا، وأضحت ثامنة تضاف إلى تلك العجائب السبع المعروفة. ولم ينقطع الحديث والشرح طوال المسافة بين الإمارتين، التي تزيد قليلًا على 120 ميلًا، في زمن جاوز الساعتين، بل استمر حديثهم بإسهاب جاذب ومشوق، حتى بعد وصولنا إلى مقر إقامتهم فيما بعد منتصف الليل، وظلوا على هذه الوتيرة الشائقة حتى أبدى الصبح نواجذه مع علوّ أذان الفجر.
الصباح في أبوظبي
بعد أن فارقت الشمس مخدعها، أجمع أربعتنا بعد سِنة من النوم على مبارحة المقر والتوجه إلى حيث كنا نتحدث. لم تكن المسافة بين مدينتي الشوامخ وأبوظبي، حيث يقبع جامع الشيخ زايد الكبير، بالبعيدة بحساب المسافة والزمن، فهي لا تتعدى 60 كيلومترًا، ولا تستغرق أكثر من نصف ساعة، لكن في ذاك الصباح استغرقت أكثر من 3 ساعات.
الصباح في أبوظبي ليس كالصباحات في المدن التي تطل على السواحل، فرغم ارتفاع درجات الحرارة، وسموم صيف يوليو اللافحة، فإن كل شيء مرتب ومنظم، ويتم بأعصاب هادئة، وبهدوء محيّر، وأشد ما يلفت الانتباه قلة المارة في الشوارع، والأعداد الهائلة من السيارات والعربات الفارهة التي تنهب الطرق نهبًا من دون مزاحمة، وبلا ضوضاء، ولا أزيز، وغالبيتها العظمى من موديلات حديثة مختلفة، مما ينم عن تقدّم مستوى دخل الفرد.
وكان مما يثير الإعجاب عدم استخدام آلة التنبيه (البوري) في الطرق الفرعية والسريعة على السواء، حتى خُيّل لي أن مثل هذه السيارات ليست مزودة بآلات تنبيه، وكذلك عدم تجاوز القانون والضوابط المرورية، وبالمناسبة خلال تجوالي في هذه البلاد على مدى أسبوعين أدركت أن القانون والانضباط صارا سلوكًا يوميًّا في شتى المناحي الحياتية، حتى شمِل الامتناع عن التدخين في الأماكن العامة، وصار رمي قطع الأوراق وأعقاب السجائر في الشوارع أو عند منحنيات الطرق سلوكًا مستهجنًا ومعيبًا من المدخنين أنفسهم، فطنت لهذا عندما جاءتني التنبيهات من مرافقيّ الذين يدمنون مثلي ممارسة هذه العادة.
بين الخضرة والجمال
تعاملت مع الواقع بتصالح وفتنة، وقلت لصديقي صلاح بابكر، الذي كان يرافقني طوال مدة الإقامة، ولولاه ما أدركت الكثير «لا أستغرب والناس بهذا السلوك الراقي يعملون لمكافحة التدخين، أن يبلغ الاهتمام غايته، وأقرأ بعد سنوات قلائل في تذاكر الطيران تنويه «من أجل صحتك وسلامة البيئة، يفضل عدم التدخين في هذا البلد المضيف».
وفي أثناء تجوالنا بشوارع أبوظبي، قبل الذهاب إلى جامع الشيخ زايد الكبير، أشد ما راعني صباح ذاك وطوال الأيام التي قضيتها فيها، أن الخضرة وأشجار النخيل هي السمّة المميزة التي يكاد المرء يلحظها ممتدة على جانبي الطرق في كل أرجاء الإمارة، وتحت الأبراج الشواهق والبنايات الضخمة المتلاصقة مع بعضها، وهي بكل جبروتها وفتنتها لم تستطع أن تحوّل الأبصار عن التمتع بالمناظر الطبيعية، وهذا ما يجعل المرء متنازع النظر بين ما هو أعلى، وما هو أسفل، خاصة أن هذه البنايات تم تشييدها بتصاميم هندسية بديعة للغاية، راعت الذوق والأساليب الفنية للمعمار الحديث، وهي تشعرك بأن كل صاحب بناية يمتلك ذوقًا رفيعًا وحسًّا إبداعيًا أكثر رهافة من الآخر، وأن واجهاتها الزجاجية العريضة تلمع كالمرايا من فرط النظافة الدائمة، في حين تخلق انعكاساتها على بعضها البعض تداخلًا فريدًا من نوعه على المرايات.
المدينة الهامسة
تغلب على إمارة أبوظبي الحياة الوادعة، فكل مدنها وأحيائها أنيقة وراقية، وأكثر ما يلفت الانتباه القصور والفلل والعمارات التي تجمع بين البساطة والأناقة، ملونة بالأبيض والأصفر، وخلافه من الألوان الهادئة، وهي تطل من خلف أحواض النجيل الأخضر وأشجار النخيل المتناثرة هنا وهناك، وأن في كل منطقة سكنية مركزًا تجاريًّا ضخمًا (مول) يحتوي على كل متطلبات الفرد والأسرة من مأكل ومشرب وملبس وصحف ومجلات ووسائل اتصال وخلافه، أسواق داخل سوق، طابعها الهدوء ودقة التنظيم، في مدينة لا تعرف فوضى الأسواق، ولا تلمح فيها أثرًا للباعة المتجولين، ولا البضائع المفروشة على قارعات الطرق والأرصفة، والسَّرّيحة الذين ينادون عند كل منحنى أو إشارة المرور بعناوين الصحف والمجلات التي يحملونها لجذب انتباه القراء، كما يحدث في كثير من العواصم والمدن الكبيرة.
أما المتنزهات والأسواق والمراكز التجارية الكبيرة والشوارع العامة فكنّا نرتادها ولا نسمع فيها ضجيجًا أو جلبة، كل الناس يتحدثون بهمس، ويقضون أغراضهم في منتهى الرقة والوداعة، وفي ظني ليس ثمة ما يدعو إلى ارتفاع الأصوات، أو ربما لأن قاطني الإمارة غالبيتهم من جنسيات ومشارب شتى تنقصهم وحدة اللغة، مما يجعل معظمهم يلجأون إلى أساليب وطرق تساعدهم للحصول على طلباتهم ورغباتهم بصوت خفيض، كما لاحظت أن الذين يقومون بعمليات البيع معظمهم من دول شرق آسيا.
وغير هذا فإن الزمن يمثّل عنصرًا مهمًّا في حياة الناس، لا مجال لتبديده فيما لا يجدي، وهذا ما جعلني، في أحيان كثيرة، أسعى بمفردي للاستكشاف والتعرف على كثير من معالمها، خاصة أنها تخلو من الأزقة والمتاهات والشوارع الضيقة، وليس فيها ما يبعث الخوف من التوهان أو الضياع في أحشائها، فهي غنية بالمعالم الواضحة والبارزة، المتمثلة من ناحية في دور العبادة المنتشرة في سائر أرجائها، وكثير من المساجد التي وطئتها أقدامي في مناطق متفرقة لأداء الفريضة، وجدتها مبنية بطرز معمارية إسلامية مختلفة، تزيّنها الفخامة والسكينة والوقار والمحبة التي تُشعِر بمتعة العبادة، ومن ناحية أخرى الوجود الطاغي لأفخم الفنادق وأروعها في العالم، كما توجد فيها العديد من الأندية والمجمعات الرياضية المختلفة وأندية الجاليات بجانب السفارات والدوائر الحكومية الواقعة على الطرق الرئيسة.
أبوظبي... الرائعة
أبوظبي من ناحية عامة من المدن التي تسوقك سوقًا للتأمل في جمالياتها، وهي في تفرّدها لا يختلف ظاهرها عن باطنها من ائتلاق، ولا ليلها عن نهارها في كثير شيء، إلا أن لليل طابعًا خاصًّا، ومذاقًا حلوًا، فحالما نظرت إليها من بُعد عدة كيلومترات تتراءى لك كالسفينة المرصعة بالمصابيح والثريّات من كل جانب متراقصة في مياه الخليج، وهي بأضوائها الباهرة المتلألئة التي تختلط بشعاع القمر وأضواء النجوم، كلما اقتربت منها تبدت في ثوب أكثر أناقة وجمالًا، خاصة وسط المدينة الذي يسوده النظام والنظافة والهدوء على الدوام، سواء في الميادين العامة أو في المعارض والمراكز (المولات) والمحال التجارية الفخمة التي تعرض أفخر الأصناف من الذهب والمجوهرات، أو الأقمشة والملبوسات الجاهزة، أو أجهزة الاتصالات، والأجهزة الكهربائية والإلكترونية، أو الأحذية الفاخرة بأنواعها المختلفة، وهي بضائع بمواصفات عالية الجودة والإتقان وأسعار منافسة في سوق مفتوحة لكل ما تبتغيه من صنوف ومستلزمات الحياة العصرية، ولكل صنف محل مخصص وطرق عرض تدل على جمال المنظر ورفعة الذوق.
وكنا كلما ذهبنا إلى محل وجدناه أكثر بريقًا وتوهجًا من سابقه في إطار النزعة التجديدية التي غمرت الإمارة، مما يجعل ارتياد هذه المحال نزهة ترفيهية واستمتاعًا بالفرجة أكثر من كونه مهمة شرائية. وكذلك الحال في المطاعم الفخمة التي تقدم أشهى الوجبات، وخاصة السمك بأنواعه المختلفة، وطرق إعداده المتنوعة، وأماكن بيع العصائر الطبيعية، وأحلاها عصير الأناناس المثلج، والآيس كريم اللذان تناولناهما كثيرًا بقرب الكورنيش الذي لا يهدأ من حشد المتنزهين، وهم يتأملون أضواء العمارات الشواهق تداعب الأمواج، مفتونين بالسِّحر والجمال اللذين يحاصران الإمارة وكونها سياحية عصرية من طراز فريد جمعت بين جماليات الدنيا والدين، وتخطو بخطوات سريعة مدروسة نحو التقدم والرقي بإنسانها.
وكنا في كل الأحوال ننظر إليها ونتأملها ككائن حي بهي حفي، طلق المحيّا، يفيض شاعرية وتأنقًا ورحابة، يهمس همسًا ولا يمل، كما لا تشبع العين من التملّي فيه، ومن روعته التي لا تنفصم من روعة الكون.
إلى جامع الشيخ زايد
ونحن نتجول في صباح يوميَ الأول داخل أبوظبي، اكتشفنا فجأة أننا أمضينا ثلاث ساعات أو يزيد دون أن نشعر بالملل، والزمن الذي سرقنا، وكنت أظن أن الدهشة والانبهار بلغا مداهما بما شاهدته وملأني نشوة خلال طوافنا في المدينة الخضراء بجسورها المعلّقة الطالعة والنازلة، والعالية والمنخفضة، والمستقيمة والدائرية والمتشابكة، وأبراجها المتراصة بأناقة فائقة، ولم أكن أدري أن في انتظاري ما هو أجمل وأكثر إبهارًا وما يفوق الوصف، بدأت ملامحه تتجلى حينما شاهدنا من فوق جسر «المقطع» من على بعد عدة كيلومترات القباب العديدة والمآذن الأربع مشرئبّة نحو السماء، وهي أشد ألقًا وسطوعًا، وما كنت في حاجة للإشارة إلى أنه الجامع الذي نقصد زيارته، لأن «الجواب يكفي عنوانه» - كما يقولون - لكن سرعان ما نطق أحد الثلاثة «ذاك هو جامع الشيخ زايد الكبير... تخيل العلو الذي نراه باديًا من هنا ليس لانخفاض الجسر، بل لارتفاع الجامع بعشرة أمتار عن مستوى الأرض».
ثم أضاف آخر: «كانت فكرة الشيخ زايد - يرحمه الله - أن يكون الجامع بهذا العلو عن الأرض، حتى يمكن مشاهدته من أبعد مسافة، من كل الاتجاهات».
والجامع الذي اختير له أن يكون في هذا الموقع بهذا الشموخ، وبُدئ في تشييده عام 1996، يمكن الوصول إليه من خلال جسور الشيخ زايد والمقطع والمصفح، وبعدة شوارع، أهمها شارع الشيخ زايد، والخليج العربي، وشارع الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، وهو يقع بين معالم وعوالم بارزة، أشهرها مدينة زايد الرياضية، وبرج الكابيتال جيت المائل، لكن يظل أبدًا من أهم المعالم البارزة والشهيرة على مدى التاريخ الإنساني، ليس على مستوى الإمارات، بل على الصعيد العالمي، خاصة وهو يمثّل أحد أكبر خمسة جوامع في العالم من حيث المساحة البالغة 555 ألف متر مربع، دون البحيرات المائية التي تحيطه، والحجم الذي يتسع لأكثر من 50 ألف مصلٍ، إلى جانب المشمولات الداخلية التي تمت بمواصفات لا مثيل لها في العالم.
نظام دقيق
بعد أن عبرت سيارتنا بوابة الدخول الكبرى للجامع، متوجهين شطر البوابة الداخلية الخاصة بالأفراد في طريق واسع يمتد إلى مئات الأمتار، أخذت عيناي تتلفت نحو الأشجار الممتدة على جانبيه، وتتأمل في المروج الخضراء المنسّقة بصورة رائعة، وكان أول ما جذب انتباهي بعد نزولنا من السيارة المواقف الخاصة بانتظار السيارات والأتوبيسات السياحية الكبيرة، والدقة في تنظيمها، مما يجعل مساحتها الشاسعة تستقبل الآلاف في وقت واحد، وكذلك بوابات الدخول التي يعبر من خلالها الزوار إلى ساحة الجامع، والاهتمام الواضح من قِبل الواقفين عليها بالكثرة الكاثرة من الزائرين من مختلف الأعمار على اختلاف ألوانهم وجنسياتهم وعناصرهم وألسنتهم ودياناتهم، ومعتقداتهم، والترحاب والتسابق من أجل خدمتهم وراحتهم، وعلى نحو خاص بالمسنين والمعاقين بتوفير الكراسي المتحركة، ومساعدتهم في الدخول لإرواء شغفهم الروحي والمعرفي والجمالي، ولو حاولت أن أعدد النماذج البشرية التي شاهدتها خلال زياراتي المتعددة لما انتهيت إلى عدد.
وكان ملحوظًا عدم دخول المأكولات والمشروبات، مع حظر دخول التبغ ومشاعله، بحفظ ذلك في صناديق مخصصة وتسلّمه عند المغادرة، أما النساء والفتيات غير المحجبات، فعلى كثرة أعدادهن، فقد حرص المشرفون على توفير عباءات وطُرح (مفردها طرحة، وهي غطاء يُطرح على الرأس والكتفين) مؤقتة، خاصة بهن تليق بحرمة المكان وقدسيته.
وبعد اجتياز بوابة الدخول والصعود عبر درج الموزايكو إلى فناء الجامع الداخلي، لا يجد الزائر إلا ما يدهشه ويسرّه حيثما ولّى وجهه، فكل شيءٍ قُدّر له أن يتم بشاعرية مرهفة، وذوق سليم، وروح صادقة طموحة لبلوغ أسمى الغايات بإحداث نقلة حديثة فريدة لفن العمارة الإسلامية، تصل الجديد بالقديم أو المعاصر بالتراث، باستصحاب طرز معمارية مختلفة لعصور سالفة، لإثارة حب الجمال والاندهاش في النفوس بما يحفظ للدين قيمه الروحية والجمالية.
رحلة جديدة
ما إن لامست أقدامنا أرض الصرح العظيم حتى انقطعت صلتنا بما خارج الأسوار، وبدأت رحلة جديدة إلى عالم من عوالم الإبداع غير العادي، وتبدّت سلسلة من سلاسل الأناقة اللافتة بأبهى صورها في المكان الذي يتفجّر حيوية وزينة، ويحيطه دفق عرفاني عالٍ، وهالة نورانية عميقة، فانتقلنا دون أن نشعر من حالة الهمس إلى حالة الصمت، وحينئذٍ أدركت أن ما ذكره لي أصدقائي أقل أو دون الذي أشاهده ويملأ عيناي، وإن صدقوا، وربما الذين يأتون بعدي سيدركون أن ما كتبتُه لا يفي وإن أطلت، لأن الواقع خرافيّ وأروع بكثير مما يوصف، وترويه الحكايات أو تحمله السطور، ومن ثمّ ساورني شعور بأن زيارة واحدة، أو اثنتين، أو ثلاثًا حتى لا تكفي... وتذكرت متمنيًّا لو شهد الحسين بن محمد المنبجي المعروف بـ «دوقلة المنبجي»، المتوفى سنة 201 هـ، ما شهدناه في هذه البقعة، لأدرك أنه الحُسن الذي لا يُستشف بالضد في قوله:
ضِدَّانِ لمّا استَجْمَعا حَسُنا
والضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ
ولتيقّن الشاعر أبوالطيّب المتنبي (915م - 965م) القائل قبل ألف سنة ونيف في عجز بيت إحدى قصائده (وَبضِدِّها تتميَّزُ الأشياء) بأنه الجمال والرقيّ الذي لا يُستكشف بالمقارنة أو يحتاج إلى نقيض ليكون مائزًا.
حقيقة، لقد أصابتني قشعريرة، ونحن نتطلع إلى ذلك المبنى الأبيض الشامخ، كأنه كومة من الرخام والمرمر فوق رابية خضراء عالية تحيطها البحيرات، وقد عملت فيها أيادي وأزاميل النحاتين المبدعين القدامى والمحدثين ردحًا من الزمن حتى انتهوا لما أرادت هي أن تكون وتنتهي.
شاعرية الفكرة
طغيان الجمال والسحر الذي لمسته من أول مشهد إنساني أنني في دنيا البشر، وشاعرية اللحظة والوجود في هذا العالم المبيض المخضوضر المتسق هي التي دفعتني دفعًا للكتابة، سيما أنني ما كنت أنوي هذا، ولم يكن ذلك من صميم زيارتي، لكن كما القصيدة التي تلحّ على الشاعر ساعة المخاض، وهو الأمر ذاته الذي لم يدع لي إلا أن أرافق أصدقائي ببصري فقط في أثناء طوافنا داخل الأسوار، فالبحيرات المائية التي تحيط به من الناحيتين الشرقية والجنوبية، والتي تبلغ جملة مساحاتها 7874 مترًا مربعًا، والمساحات الواسعة المزروعة بالنجيل كالبساط الأخضر، والأشجار المتنوعة المنسقة المتراصة في صفوف لا تُعَد، والنافورات الواسعة التي تتطاير منها المياه ملتمعة ببريق الشمس الناصع على نحو رائع وخاطف للأبصار، كلها لوحات ومناظر تُشعر المرء بالهيبة والراحة والاطمئنان.
وكلما تفرست في لوحة دعتني إلى المزيد. وساقتني لحظات التأمل الدقيق للغوص في شاعرية الفكرة وماهية الينابيع التي انبجست وتدفقت منها، ولم أستغرب أو أفاجأ حينما علمت أنها من لدن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (1918 - 2004م) - يرحمه الله - مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو رجل عُرِف بالحكمة، ونفاذ البصيرة، والشجاعة والفروسية، وحب الشعر وقرضه،- كما قرأنا في التاريخ الراهن -، وهو الذي عمل برجاحة عقله، وحكمته، وإرادته، وأريحيته على وحدة إمارات الخليج السبع في دولة واحدة عام 1971، ورجل بهذه القدرات المدهشة حريّ به أن يكون مبدعًا خلاقًا ذا ذوق رفيع وخيال قادر على الإبداع، تجلت عبقريته في سعة إدراكه لقول الله تعالى «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» (سورة الضحى - الآية 11) بأن يكون الحديث غاية من غايات تبجيل العقيدة، ووفقًا لقول المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم فيما ورد من أحاديث «إن الله طيّب لا يقبل إلا طيبًا»، و«إن الله جميل يحب الجمال»، وفي هذا عشق صوفي رهيب.
قيمة حضارية وثقافية
والجامع الذي نحن نتأمل محاسنه يكشف مدى خصوبة مخيلته، كما يشهد على مقدراته وإرادته الإبداعية في إتمام القول بالعمل في كونه جعل منه نعمة وقيمة تعبّدية وحضارية وثقافية أدبية وجمالية عالية، وقديمًا قالت العرب: «كل إناء بما فيه ينضح»، وهذا ما لاحظناه من خلال الحوارات والصراعات (بلغة التشكيليين) البديعة التي تلفّ باحة الجامع الفسيحة، ممثلة في الحوار بين الثقافات والحضارات عبر الأزمنة، وحوارات المسافات والأبعاد، وصراع الألوان مع بعضها البعض، وحوار الطبيعة، واتساق الخيال الهندسي مع فن العمارة الدينية، وامتزاج الحداثة بالأصالة.
وكانت فكرة بناء هذا المسجد قد راودت الشيخ زايد - يرحمه الله - قبل أكثر من ثلاثين عامًا من بدء تنفيذه، كما تشير المصادر، على أن يكون عاليًا، ومبيضًا، لأجل أن يبقى صرحًا إسلاميًّا للعبادة، ومركزًا إشعاعيًّا لعلوم الدين والفكر والثقافة الإسلامية. إذ وجّه صاحب الفضل - طيّب الله ثراه - في عام 1986 دائرة الأشغال في أبوظبي بإنفاذ أعمال البناء، ومن ثمّ طُرح المشروع على مرتين في مسابقة دولية للتنافس، شاركت فيها أكثر من 30 دولة على تقديم أفضل التصاميم التي يجب أن يكون عليها المبنى ليحمل فكرته الأولى، إلا أنه اختير الخيار الذي لا خيار سواه، بعد أن لامس ذوقه وخياله، ثم عمد المهندسون المصممون إلى تغذية الفكرة الأولى بإعمال الفكر الهندسي والخيال الخلّاق لعكس رؤاهم واتجاهاتهم الإبداعية المختلفة.
ولم تقف الشاعرية والذوق عند حد اختيار الموقع والتصميم وحسب، بل شمل كل مراحل التنفيذ وآلياته، باختيار شركات وبيوتات وأيادٍ مشهود لها بالخبرة والكفاءة ورهافة الحس في هذا المجال من دول عدة على مستوى العالم؛ كل في مجاله. وقد برعوا جميعًا في كونهم جعلوا من هذا الصرح مكانًا للعبادة، وفي الوقت ذاته لوحة فنية نادرة، توافرت لها كل الشروط التي تجعل منها أيقونة عالمية غبر مسبوقة في كثير من مظاهرها وجاذبة للأنظار والمشاعر على السواء.
82 قبّة
مما يسترعي الانتباه في هذا المحفل الجامع أن كل شيء غير عادي، لاحظته في عيون الذين يتقاطرون أفواجًا وفرادى بأعداد هائلة في كل لحظة من كل يوم، وهم مأخوذون بالمناظر الطبيعية الرائعة التي تلفّ ساحات الجامع المنمط بأنماط معمارية مختلفة، متجانسة، أبرزها ثلاثة؛ مغولية، مغربية، أندلسية، كما لمسته في تعابير وجوه الذين يتحلقون حول الأعمدة الخارجية التي يقوم عليها المبنى، والبالغة 1096 عمودًا مكسوّة بالرخام، وهي ببياضها المرمري اللامع، مزيّنة بأوراق وأغصان النباتات والزهور البارزة المنقوشة بالأحجار الكريمة وشبه الكريمة من العقيق الأحمر واللازورد، والجشمت الأرجواني، تعلو هاماتِها رؤوسٌ من الألمنيوم المذهّب مزروعة في الأروقة كغابة من سيقان النخيل، متوجة بالأقواس في أعلاها نزوعًا إلى الاتساق، ووفقًا لأروع ما توصل إليه فن العمارة الإسلامية الحديث.
لا أخفي وأنا أشاهد الكثيرين يتنافسون على التصوير بالكاميرات والهواتف الذكية وكاميرات الفيديو والتقاط صور السيلفي، والآخرون يبحلقون وهم مشدوهون وصامتون فاغرو الأفواه غير قادرين على كبح جماح دهشتهم بها، لا أخفي أن هذا كان بالنسبة لي أيضًا مثار اهتمام ومدعاة للتأمل والإعجاب، وحتى الذين لا ينعمون بفضيلة الصمت، أو الذين لا يجيدون الصبر على السكوت طويلًا، فكنت أراهم يتهامسون بلغات أو لهجات مختلفة، لا هي بالإنجليزية ولا هي بالفرنسية، مذهولون ببريق الزخرف والمنمنمات التي طالت الأرض وسقوفات الأروقة، والقباب التي تعلوها وهي تحيط بصحن الجامع، والتي يصل عددها إلى 82 قبّة تغطي الأروقة الخارجية والمداخل الرئيسة والجانبية بأحجامها المختلفة مكسوة بالرخام الأبيض، من بينها أكبر القباب في العالم بقطر يبلغ 32.8 مترًا، وبارتفاع يزيد على ثمانين مترًا، ووزن بلغ 1000 طن، وهي تغطي منتصف القاعة الرئيسة للجامع، ولهذه القباب رمزيتها، ودلالاتها التاريخية، وهي تكشف عن تحولات فريدة في فن العمارة الإسلامية بالنحو الذي يخلب الألباب.
صحن الجامع
أما صحن الجامع فمحروس في كل ركن من أركانه الأربعة بمئذنة أو منارة بارتفاع 106 أمتار، مكسوة بالرخام، ومكونة من طوابق عدة، كل طابق فيها بتصميم يمثّل حقبة من حقب التاريخ الإسلامي.
والصحن الذي يتسع لـ 31 ألف مصلٍ بمساحة 17400 متر مربع ما هو إلا نتاج لشاعرية الفكرة، وثمرة من ثمرات الخيال والذوق الراقي الذي سما بمبتدعه على أن يكون بهذه الروعة الزخرفية من النباتات والزهور التي لم تقع عيناي على مثلها من قبل، وربما فيما بعد، ولا أبالغ إن قلت إنني لم أرَ أبدًا أعين الناس وهي تتفرس في الأرض مثلما رأيتها في هذا المكان ذاهلة بالرسومات المطبوعة على أرضية الصحن الرخامية الغنية بالفسيفساء فيما يعرف بالجدارية الأرضية (رغم الجدل الذي احتدم حول التسمية فهو فن زخرفي انتشر في العصرين الروماني والبيزنطي).
ومهما يكن، فقد استخدم الرسام البريطاني البارع كفين دين - في سمو روحي رهيب - الزهور التي تنمو في النصفين الشمالي والجنوبي من الكرة الأرضية، يتخللها نبات اللبلاب الذي يوجد في منطقة الخليج العربي (كمنطقة في الوسط)، إضافة إلى زهرتي الزنبق والسوسن الخزامي، كأنما أراد أن يضع العالم في ذياك البلاط الأبيض الأنيق.
وكنت أتأملها كما لو كانت باقات من الزهور المتنوعة النادرة معطونة في مستودع من الألبان، موحية بأن العالم بإمكانه أن يتوحد ويكون مزهرًا وبهيًّا إذا ما توافق وتعايش بانسجام وصفاء.
قاعة الجامع الرئيسة
ظللنا نطوف بين الأروقة من عالم جميل إلى عالم أكثر جمالًا وأجلّ إدهاشًا ورهبة، وما بين مشاهداتي وتأملاتي فيما هو كائن، أدركت أن من الجمال ما يجبُّ بعضه بعضًا، وهو الجمال المسكون بالرهبة، والخشوع، والوقار، ويستثير المشاعر ويفضي إلى التأمل والتفكر ويحقق السمو، والذي لا يمكن النظر إليه إلا بصمت. ألم يقل الشاعر العربي نزار قباني:
فإذا وقفت أمام حسنك صامتًا
فالصمت في حرَم الجمال جمالُ
هذه المشاعر والرهبة كانتا تجتاحاني، ونحن نحاول الوصول عبر الأبهاء إلى القاعة الرئيسة في الجامع، لكن قبل الدخول إليها توقفنا كثيرًا نشاهد الصالة المتصلة بها مع الحشود الحاشدة، وهم حريصون على أخذ الصور التذكارية أمام جدرانها المزيّنة بالزخارف النباتية البارزة في كل جوانبها، وينظرون بعيون لا تهدأ من التحديق والتمعّن في السحر الذي سطع في أتمّ سناه، وفي الثريا الزرقاء المتدلية بارتفاع ستة أمتار في الوسط من إحدى القباب، وبقطر يبلغ 4.5 أمتار، ووزن طنيّن، مرصعة بالكريستال، وزجاج المورانو الإيطالي، ومنقوش على حوافها الدائرية آيات مذهّبة من سورة الرحمن، وهي واحدة من أربع مماثلات وموزعات على الصالات الأربع، وحتى البوابة الإلكترونية التي يصل ارتفاعها إلى 12 مترًا، وتؤدي إلى قاعة الصلاة الرئيسة، فهي أيضًا لا تخلو من جاذبية وروعة، لا تهدأ ولا تفتر أمام حركة الناس.
وحال دخول القاعة الرئيسة، سرعان ما تنغرس الأقدام في البساط السميك، والشعور بالأبهة يحبس الأنفاس، ويفرض التأمل بأناة، ولعل ما يجلب الحيرة والمرء يتنقل في هذه القاعة، لا يدري من أين يبدأ المشاهدة!
أفي السجادة التي تعد أكبر سجادة في العالم؟ أم في السقوف التي عليها القباب، وأضواء الشمس الملونة النازلة من خلال نوافذها؟ أم في الأعمدة المنتصبة المنضّدة التي تحملها؟ أم في الثريات التي لا مثيل لها؟ أم في المنبر؟ أم في المحراب؟ أم في الجدران الأربعة؟ أم في البرودة الناعمة التي تداعب الأطراف في نهارات الصيف الحارّ؟ أم في الإصغاء لشرح المرشدين الهامس، وهم يشرحون بأدب جمّ ويجيبون عن أسئلة السائلين؟ أم في الزمن الذي ينقضي بأسرع ما يكون دون أن يرتوي من هذا الفيض الإبداعي العذب؟
مبنى أسطوري
في قمة هذا التنازع الجمالي والزمن الذي يمر بسرعة عالية، طلب مني أحد الزوار، وهو هنديّ كما ذكر لي، صورة تذكارية بجانبي، فكان له ما أراد، وعندما قلت له: لديكم في الهند «تاج محل»، وهو أيضًا عمارة إسلامية قديمة، وهو أحد عجائب الدنيا السبع! فردّ عليّ بلغة عربية تعوزها الطلاقة، «نعم وقد شاهدته مرات عدة، وتاج محل بُني قبل أكثر من ثلاثمئة وخمسين عامًا، وهو يمثّل روح عصره، أما هذا فهو جذاب ومواكب للعصر الذي نعيش فيه، وفي رأيي أن هذا أجمل وأروع في نواحٍ كثيرة، فالقباب الكثيرة تشهد على تفرّده، غير أنه مزود بتقنية حديثة عالية من كاميرات مراقبة، وأنظمة إضاءة وصوت وخلافه، وهذا بلا شك مبنى أسطوري».
ثم فاجأني بسؤال عن رأيي، ولم أشأ الرد عليه إلا بالقول مهما عظُم شأن كل منهما، ففي هذا قيمة روحية أسمى وأجلّ وأبهى في كونه شُيّد خالصًا لوجه الله الكريم، أما تاج محل فقد تم بناؤه لتخليد ذكرى ممتازة.
ثم قال الرجل الهندي: حاليًا لا أدري إلى أين أتجه، ومن أين أبدأ؟ انظر لهذه السجادة المفروشة على الأرضية! وبعدما تبدد شرود الفكر أيقنت أنها ليست من صيحات الموضة التي تظهر وسرعان ما تنتهي، وإنما نتاج خيال وجهد فكري وبدني مضنٍ، تعكس روح النهضة المعاصرة، وهي في مساحتها التي تزيد على 5600 متر مربع تعد أكبر سجادة في العالم، نسجت يدويًّا، من أجود أنواع الصوف والقطن في العالم بنسبة 70/ 30 في المئة، وقد شارك في نسجها 1200 من الفنانين والحرفيين المبدعين الذين تميزوا بالخبرة والمهارة في هذا المجال، واستغرق العمل في نسجها عامين كاملين.
الفخامة في أسمى معانيها
تمتاز هذه السجادة بأنها قطعة واحدة تم تقطيعها إلى بضعة قطع حتى استقرت في قاعة الجامع، وأعيد تجميعها مرة ثانية بالنحو الذي كانت عليه أولًا، وهي تبرز خطوط الصلاة المنسوجة ضمن خيوطها، مما ييسّر تنظيم صفوف المصلين، وخاصة المكفوفين، وقد جاوزت حد الإدهاش والوصف بنقوشها وألوانها التي تصل إلى أكثر من عشرين لونًا يسيطر عليها اللون الأخضر.
أما إذا نظر المرء إلى أعلى قدميه فلن يرى غير الفخامة في أجلّ معانيها، من حيث الأضواء الملونة التي تتساقط متخللة النوافذ الزجاجية الموجودة في قواعد القباب على السقوف، والآيات القرآنية الذهبية اللون، والثريّات الضخمة التي تتدلى من أعلاها، أضخمها الثريا التي تتدلى من القبة الرئيسة، وهي الأكبر في العالم، إذ يبلغ قطرها 10 أمتار، ويقدر وزنها باثني عشر طنًا، في حين يبلغ ارتفاعها 15 مترًا، وبجانبها توجد ثريتان أخريان متدليتان من القبتين الموجودتين في القاعة، قطر كل واحدة 7 أمتار، بينما يبلغ ارتفاعها 12.5 مترًا، بزنة 8 أطنان من قطع الكريستال السواروفسكي، والنحاس الأصفر، والفولاذ المقاوم للصدأ، والمسقي بنحو 40 كيلوجرامًا من الذهب عيار 24 قيراطًا.
وما بين الأرضية والسقوف تنتصب الأعمدة المشيدة؛ 96 عمودًا داخل القاعة كقواعد للقباب، وقد روعي في تصميمها جماليات العمارة من حيث التنضيد، والأقواس والتزويق والمنمنمات، بما لا يستطيع معه المرء أن يتجاوزها دون التمعن فيها. وكذلك الجدران الأربعة، فعلى فرط ضخامتها فهي أيضًا موشّاة بالنقوش والزخارف المُبرِقة كالجداريات، وخاصة جدار القبلة المنقوش عليه بالخط الكوفي أسماء الله الحسنى بطريقة ضوئية براقة ومثيرة للإعجاب.
جاذبية فريدة
أما المحراب الذي يمثّل آية من آيات الجمال التي يحتويها جامع الشيخ زايد الكبير، فينم تصميمه بشكل ربما يماثل وصف أنهار العسل واللبن التي تجري في الجنة، وتعلوه خليّة من النحل، مما يعني أنها منبع لهذا النهر الجاري.
وقد جرى تزيينه بالرقائق الذهبية، وكذلك المنبر الذي يقف عليه الإمام عند الصلوات الجامعة فهو مصنوع من الخشب المطعّم بالأصداف، وعليه نقوش وردية وفسيفساء الزجاج والذهب الأبيض.
وقد أتاحت لي زياراتي المتعددة للجامع أداء بعض الصلوات المفروضة جماعة في مواقيت مختلفة بالصالة الخارجية، وهي تسعُ لحوالي ألفي مصلٍ، ولروعتها، قد لا يجد المرء من الكلمات لوصفها، وكان يختلف لأداء هذه الصلوات اثنان من الأئمة، هما القارئان إدريس أبكر، ويحيى عيشان، وفي قراءتيهما من المتعة والجاذبية ما لا نهاية له، الشيء الذي ينسجم كل الانسجام مع بدائع العمارة، ومما جعلني أستعذب الصلاة الجهرية، أن صلاح حدثني قائلًا «منذ افتتاح الجامع في مارس 2007 كلما اعترتني وحشة، أو حالة من الضجر هرعت إلى هذا المكان، أتلمّس جماله العبقري عبر الخضرة، وتدفّق المياه، والرسومات والزخارف، وعبر أصوات الإمامين القارئين، فأشعر حينئذ بمتعة حقيقية وتجدد الحياة». ثم يضيف: «أما في شهر رمضان فأحرص حرصًا شديدًا على أداء صلاة التراويح خلف إمامَي الجامع مع آلاف المصلين الذين تمتلئ بهم قاعات الصلاة وتفيض عنهم ساحاته».
ويكون الزائر أوفر حظًا إذا تسنّى له أن يشهد غروب الشمس وحلول المساء بباحة الجامع الكبير ومهرجانات الأضواء الباهرة التي تغطي كل أرجائه بانعكاسات خاصة، مما يضفي على المبنى سحرًا وجاذبية فريدة، خاصة أنها تتحرك خفوتًا وشعشعة متزامنة مع منازل القمر، فمن زرقاء خافتة عندما يكون القمر هلالًا، إلى بيضاء ساطعة لما يصير القمر بدرًا كاملاً، مما يشي عن خيال مدهش ومثير يجمع بين الفن والواقع باحترافية عالية غير مطروقة.
الميضأة
لقد فاتني مشهد من مشاهد الصور البديعة، وما كنت أحسب لذلك أهمية، إلى أن نبهني أصدقائي للذهاب ومشاهدة الميضأة الخاصة بالرجال، نزلنا تحت الأرض ناحية المئذنة الجنوبية الشرقية بالسلّم الكهربائي المتحرك مع صنوف عديدة من البشر، وما إن بلغنا آخر الدرجات، حتى تبدت لنا مشاهد أخرى من جماليات العمارة الحديثة، والدرجة القصوى من النظافة برغم كثرة المترددين، والعمال الذين يعملون على قدم وساق على تلميع الموزايكو من كل نقطة ماء شاردة، كما أظهرت لنا المشاهد الرائعة مدى تنافس الشركات والمبدعين على إبداء كل ما لديهم من أخيلة فنية لإضفاء مزيد من الذوق والروحانية في أماكن الوضوء والطهارة المتصلة بأماكن الراحة، من حيث النافورات المعلّقة في الأحواض الرخامية العالية الخضراء التي تنهمر منها المياه في عذوبة، إضافة إلى الزخارف والفسيفساء المشغولة بالأيدي على الجدران، والأضواء القرمزية اللامعة النازلة من خلال القباب الزجاجية القابعة خارج المبنى حول المئذنة، وغير هذه المرافق المفعمة بكل مباعث الدهشة والذهول، توجد ميضأة أخرى خاصة بالنساء تحت المئذنة الشمالية، كما توجد مشربيات عدة للوضوء بين الأروقة، في الهواء الطلق تم تصميمها لتضفي على الجامع من الألق والبهاء ما يكفي لإبـــراز جمال المنظر.
المكتبة
تسنى لي زيارة مكتبة الجامع مرات عدة في الطابق الثالث من المئذنة الشمالية، وقد راقني جميع ما فيها، فهي الأخرى أيقونة من الأيقونات التي جمعت بين البساطة والرقيّ في تكوينها، والقدرة على استقبال أكبر عدد من الزوار في أثناء ساعات الزيارة، التي تبدأ من التاسعة صباحًا خلال أيام الأسبوع عدا الجمعة والسبت، وإمكان الحصول على الكتاب أو المؤلف في زمن وجيز، من خلال الفهارس المحوسبة، لا سيما وهي تحتوي على ما يفوق الثمانية آلاف كتاب ومجلّد.
وقد لمست مدى الاهتمام الذي يوليه القائمون على مركز الجامع بهذه الكنوز الغنية بالمعرفة وعلوم الحضارة والتاريخ الإسلامـي، وبالمـــخـــطــوطات والــــوثائق والدوريات النفيسة النادرة، المكتوبة بأربعة عشرة لغة حيّة، ويولي القائمون على مركز الجامع اهتمامًا كبيرًا بها، بجانب الجهد المبذول من الطاقم الذي يعمل بين جدرانها على تقديم كل ما يحتاج إليه الزائر في أقل زمن ممكن.
ونحن نتنقل بين مواكب الجمال من موكب إلى آخر أسرى المناظر الخلابة، والشاعرية المترفة والخيال الباذخ، حتى وصلنا إلى قبر الشيخ زايد - رحمة الله عليه - في الجزء الشمالي باتجاه الغرب من الجامع، ورغم أنه يتسم بالبساطة، فإن الهيبة والوقار كانا يحرسانه، لا سيما وأنت تسمع طوال ساعات اليوم تلاوة المصحف الشريف بأصوات قوية ممتلئة خشية وعذوبة. فيما وجدنا رهطًا من الزوار يترحمون على روحه كقائد استطاع أن يهدِي إلى العالم والتاريخ أجمل ما يمكن أن يُهدَى.
ثم انتقلنا بعد ذلك إلى الكافيتريا في الجانب الشمالي الشرقي وهي تقدم خدماتها من أطايب الأطعمة والمشروبات، بما يعكس الشعور بالراحة، ويليق بأذواق الحاضرين على كثرتهم.
3 ملايين زائر
والجامع بهذا الإتقان والروعة كل شيء فيه يجلّ عن الوصف، ومن أعظم تجلياته أنه جعل للجمال جواذب دينية، مثلما جعل من فن العمارة الإسلامية جاذبًا سياحيًّا، خاصة أن عدد الذين يقصدون زيارته في كل عام لا يقل عن 3 ملايين زائر، بمعدل يزيد على 9 آلاف في اليوم.
وقد لاحظت أمارات الاهتمام بمكوناته من حيث النظافة والنظام، وتنظيم سير العمل فيه، بما يجعل كل شيء محفزًا على التأمل ومثيرًا للإعجاب، لاسيما أنه يضم مركزًا له دور كبير في ترسيخ أبعاد الحضارة والمعرفة والثقافة الإسلامية تحت إدارة شؤون الجامع والإشراف على مرافقه، وأنشطته وبرامجه المتنوعة من خلال الهيكل التنظيمي الذي يضم مجلس الأمناء، ومدير المركز وبقية الوحدات والأقسام المتخصصة في كثير من الأنشطة.
وكل هذه الفئات تعمل في منظومة متناسقة لإنجاح البرامج والخطط والأهداف التي من أجلها أنشئ الجامع، حتى أضحى أحد أهم وأشهر معالم السياحة الإسلامية في العالم.
إن ما شاهدته بأم عيني في أرض الظباء، وهو الاسم الذي كان يُطلق على أبوظبي قديمًا، لأنها كانت تعد موطنًا للظباء، بعد أن كانت تعرف بــ «أم النار» ما شاهدته بعض ما كنت أتمنى، وإن غمرني سعادة، في كونها أيقونة باهرة جمعت بين الفكر والخيال الهندسي البديع، كما ازداد يقيني بأن كثيرًا من حكام العالم على مدى التاريخ الإنساني لو كانوا بقدر من الشاعرية العبقرية والخيال الواسع لما أوردوا شعوبهم موارد الهلاك والدمار، ولتحوّلت بلدانهم إلى أيقونات ساحرة .
قاعة الجامع الرئيسية