مسجد عليشاه في تبريز.. من عمائر المغول التي استلهم المماليك تفاصيلها في عمائرهم

مسجد عليشاه في تبريز..  من عمائر المغول التي استلهم المماليك  تفاصيلها في عمائرهم

على‭ ‬خطى‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة،‭ ‬وأيتمش‭ ‬المحمدي‭ ‬مبعوث‭ ‬السلطان‭ ‬الناصر‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬قلاوون‭ (‬سلطان‭ ‬مصر‭) ‬إلى‭ ‬بلاط‭ ‬المغول‭ ‬ببلاد‭ ‬فارس،‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬سبقهم‭ ‬أو‭ ‬جاء‭ ‬بعدهم؛‭ ‬كانت‭ ‬خطواتي‭ ‬تأخذني‭ ‬نحو‭ ‬المكان‭ ‬ذاته،‭ ‬في‭ ‬زمان‭ ‬غير‭ ‬الزمان،‭ ‬وبصحبة‭ ‬أُناس‭ ‬غير‭ ‬الناس،‭ ‬كادت‭ ‬أنفاسي‭ ‬تتوقف‭ ‬أمام‭ ‬بقايا‭ ‬صرح‭ ‬معماري‭ ‬ضخم،‭ ‬شاردة‭ ‬بذهني‭ ‬أسترجع‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬مبعوث‭ ‬السلطان‭ ‬المملوكي‭ ‬عن‭ ‬عظمة‭ ‬المكان‭ ‬وثرائه‭ ‬الفني‭ ‬والمعماري‭.‬

 

هنا‭ ‬كانت‭ ‬بحيرة‭ ‬ضخمة‭ ‬تسير‭ ‬فيها‭ ‬المراكب،‭ ‬أشجار‭ ‬كثيرة‭ ‬غُرست‭ ‬في‭ ‬صحن‭ ‬فسيح،‭ ‬وفوارة‭ ‬ماء‭ ‬تشبه‭ ‬تلك‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬بهو‭ ‬السباع‭ ‬بغرناطة،‭ ‬مشايخ‭ ‬وطلاب‭ ‬علم،‭ ‬فقراء‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬وجبة‭ ‬غداء،‭ ‬وأطفال‭ ‬في‭ ‬كُتّاب‭ ‬يتلقون‭ ‬أساسيات‭ ‬قراءة‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬مسجد‭ ‬ضخم‭ ‬تكسوه‭ ‬بلاطات‭ ‬خزفية‭ ‬يضوي‭ ‬بريقها‭ ‬كالذهب‭ ‬عندما‭ ‬تلامس‭ ‬أشعة‭ ‬الشمس‭ ‬سطحها،‭ ‬محراب‭ ‬ضخم‭ ‬بعمودين‭ ‬من‭ ‬النحاس،‭ ‬آيات‭ ‬من‭ ‬سورة‭ ‬يس‭ ‬عقب‭ ‬صلاة‭ ‬العصر،‭ ‬وكأنها‭ ‬تُرتل‭ ‬في‭ ‬أذني‭ ‬بصوت‭ ‬مشايخ‭ ‬بلاد‭ ‬فارس‭ ‬ولكنتهم‭ ‬العربية‭ ‬المصحوبة‭ ‬بإعجام‭ ‬فارسي‭. ‬إنها‭ ‬بقايا‭ ‬مسجد‭ ‬عليشاه‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬تبريز،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬أرگ‭ ‬عليشاه‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يسميها‭ ‬أهل‭ ‬تبريز‭ ‬وفارس‭ ‬عامة،‭ ‬والتي‭ ‬تعني‭ ‬بالفارسية‭ ‬‮«‬قلعة‭ ‬عليشاه‮»‬،‭ ‬دلالة‭ ‬على‭ ‬ضخامة‭ ‬المبنى‭ ‬وسُمك‭ ‬جدرانه‭ ‬وضخامة‭ ‬قياساته‭.‬

تاج‭ ‬الدين‭ ‬عليشاه‭ ‬التبريزي؛‭ ‬هو‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬صاحب‭ ‬الديوان‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬البلاط‭ ‬المغولي،‭ ‬الذي‭ ‬تشارك‭ ‬في‭ ‬الوزارة‭ ‬بعض‭ ‬الوقت‭ ‬مع‭ ‬مؤرخ‭ ‬المغول‭ ‬الأول‭ ‬رشيد‭ ‬الدين‭ ‬الهمداني‭ ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬جامع‭ ‬التواريخ‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬السلطان‭ ‬أولجايتو‭ ‬خدابنده‭ ‬وابنه‭ ‬أبي‭ ‬سعيد‭ ‬بهادرخان‭.‬

 

لوحة‭ ‬رائعة

كان‭ ‬عليشاه‭ ‬صاحب‭ ‬ذلك‭ ‬المجمع‭ ‬المعماري‭ ‬الديني‭ ‬التعليمي‭ ‬والخدمي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬محطّ‭ ‬الترحال‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬رحالة‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى،‭ ‬والمبعوثين‭ ‬الرسميين‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬المجاورة،‭ ‬وإعجاب‭ ‬ودهشة‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬زاره،‭ ‬ومنهم‭ ‬باسكال‭ ‬كوست‭ ‬الذي‭ ‬ترك‭ ‬لنا‭ ‬لوحة‭ ‬رائعة‭ ‬رسمها‭ ‬في‭ ‬البقعة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تقف‭ ‬فيها‭ ‬قدماي‭ ‬اليوم‭. ‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬هذه‭ ‬الزيارات‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬722هـ‭/ ‬1322م‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬سلطنة‭ ‬الملك‭ ‬الناصر‭ ‬محمد‭ (‬سلطان‭ ‬مصر‭) ‬الثالثة،‭ ‬عندما‭ ‬أوفد‭ ‬الأمير‭ ‬سيف‭ ‬الدين‭ ‬أيتمش‭ ‬المحمدي‭ ‬إلى‭ ‬بلاط‭ ‬السلطان‭ ‬الإيلخاني‭ ‬المغولي‭ ‬أبي‭ ‬سعيد‭ ‬بهادرخان‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬فارس‭: ‬والتي‭ ‬يقول‭ ‬عنها‭ ‬النويري‭:‬

‮«‬في‭ ‬يوم‭ ‬الخميس‭ ‬سابع‭ ‬جمادى‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬السنة‭ ‬جهّز‭ ‬السلطان‭ ‬الأمير‭ ‬سيف‭ ‬الدين‭ ‬أيتمش‭ ‬المحمدي‭ ‬الناصري‭ ‬أحد‭ ‬الأمراء‭ ‬مقدّمي‭ ‬الألوف‭ ‬برسالة‭ ‬وهدية‭ ‬جليلة‭ ‬إلى‭ ‬الملك‭ ‬أبي‭ ‬سعيد‭ ‬صاحب‭ ‬العراقيين‭ ‬وخراسان‭ ‬وما‭ ‬مع‭ ‬ذلك،‭ ‬فتوجّه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬وأقام‭ ‬بحلب‭ ‬مدة،‭ ‬ثم‭ ‬رسم‭ ‬بتوجهه‭ ‬فتوجه،‭ ‬وكان‭ ‬عودة‭ ‬إلى‭ ‬الأبواب‭ ‬السلطانية‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬الثلاثاء‭ ‬الثامن‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬شعبان‭ ‬من‭ ‬السنة‭ ‬المذكورة‮»‬‭. ‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬للصور‭ ‬الفوتوغرافية‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬إيقاف‭ ‬الزمن،‭ ‬وتسجيل‭ ‬أحداث‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬أجزاء‭ ‬من‭ ‬الدقيقة؛‭ ‬فالكتابات‭ ‬التاريخية‭ ‬لها‭ ‬القدرة‭ ‬ذاتها،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬لم‭ ‬تُخترع‭ ‬فيه‭ ‬آلات‭ ‬التصوير‭ ‬بعد‭. ‬

 

تسجيل‭ ‬دقيق

في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬المبعوث‭ ‬المملوكي‭ ‬أيتمش‭ ‬المحمدي‭ ‬يحمل‭ ‬آلة‭ ‬تصوير‭ ‬حديثة‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بين‭ ‬يدي،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يملك‭ ‬ملكة‭ ‬التسجيل‭ ‬الدقيق‭ ‬والوصف‭ ‬الفني‭ ‬والمعماري‭ ‬الذي‭ ‬رسم‭ ‬صورة‭ ‬حيّة‭ ‬للمكان‭ ‬نفسه‭. ‬ذلك‭ ‬التسجيل‭ ‬الحي‭ ‬الذي‭ ‬نقله‭ ‬بدرالدين‭ ‬العيني‭ ‬في‭ ‬‮«‬عقد‭ ‬الجمان‮»‬‭ ‬844‭ ‬هـ‭/ ‬1451م‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬أيتمش‭ ‬المحمدي‭ ‬قائلاً‭: ‬

‮«‬بنى‭ ‬عليشاه‭ ‬مسجد‭ ‬جامع‭ ‬في‭ ‬تبريز‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬مثيل،‭ ‬بناه‭ ‬بجوار‭ ‬حمامين‭ ‬عموميين‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬رائعين‭ ‬وليس‭ ‬لهما‭ ‬مثيل‭. ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬722هـ‭/ ‬1322م‭ ‬زاره‭ ‬الأمير‭ ‬أيتمش‭ ‬المحمدي‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬زيارته‭ ‬للسلطان‭ ‬أبي‭ ‬سعيد‭ ‬الذي‭ ‬اتخذه‭ ‬كدويدار،‭ ‬وكان‭ ‬يتمتع‭ ‬بذكاء‭ ‬استثنائي‭ ‬وخطاط‭ ‬ماهر،‭ ‬وكتب‭ ‬خطابًا‭ ‬أرسله‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬وصف‭ ‬فيه‭ ‬مسجد‭ ‬عليشاه‭ ‬قائلاً‭:‬

عزم‭ ‬عليشاه‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬مسجده،‭ ‬فامتطى‭ ‬جواده‭ ‬بصحبة‭ ‬المهندسين‭ ‬الخاصين‭ ‬به،‭ ‬وذهبوا‭ ‬إلى‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬بوابات‭ ‬تبريز‭ ‬تسمى‭ ‬‮«‬خرابنده‮»‬،‭ ‬وأمر‭ ‬ببناء‭ ‬مسجده‭ ‬وفقًا‭ ‬لتخطيط‭ ‬إيوان‭ ‬كسرى،‭ ‬بنفس‭ ‬قياساته‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الارتفاع‭ ‬والعرض‭ (‬10‭ ‬أذرع‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬وسط‭ ‬المسجد‭ (‬الصحن‭) ‬يوجد‭ ‬حوض‭ ‬كبير‭ ‬150‭ ‬ذراعًا،‭ ‬مبنيّ‭ ‬بأربعة‭ ‬أعمدة‭ ‬تدعم‭ ‬بناء‭ ‬مثمّنًا‭. ‬على‭ ‬كل‭ ‬جانب‭ ‬منه‭ ‬يوجد‭ ‬حيوان،‭ ‬منها‭ ‬أسد‭ ‬يُخرج‭ ‬الماء‭ ‬من‭ ‬فمه‭ ‬إلى‭ ‬الحوض‭. ‬وفي‭ ‬المنتصف‭ ‬يوجد‭ ‬صنبوران‭ ‬يقذفان‭ ‬المياه‭ ‬بغزارة‭ ‬للحوض‭ ‬من‭ ‬مياه‭ ‬بحيرة‭ ‬في‭ ‬تبريز،‭ ‬وبالحوض‭ ‬يوجد‭ ‬أربعة‭ ‬قوارب‭. ‬ويقول‭ ‬الجميع‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الحوض‭ ‬مزيّن‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬الرخام‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬الموت‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬أمر‭ ‬عليشاه‭ ‬المهندس‭ ‬المعماري‭ ‬أن‭ ‬يبني‭ ‬بائكة‭ ‬في‭ ‬الأركان‭ ‬الأربعة‭ ‬للصحن‭.‬

أما‭ ‬محراب‭ ‬المسجد‭ ‬فله‭ ‬قبّة‭ ‬وعمودان‭ ‬من‭ ‬النحاس‭ ‬الإسباني‭ ‬مزخرف‭ ‬بالذهب‭ ‬والفضة‭. ‬وللمسجد‭ ‬أربعة‭ ‬أبواب‭ ‬خارج‭ ‬كل‭ ‬باب‭ ‬يوجد‭ ‬بازار‭ ‬بناه‭ ‬عليشاه‭. ‬وللمسجد‭ ‬مشكاوات‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬النحاس‭ ‬الجميل‭ ‬مزخرفة‭ ‬أيضًا‭ ‬بالذهب‭ ‬والفضة‮»‬‭.‬

 

صورة‭ ‬واضحة

مع‭ ‬الأسف،‭ ‬ما‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الصرح‭ ‬المعماري‭ ‬لا‭ ‬يفي‭ ‬برسم‭ ‬صورة‭ ‬واضحة‭ ‬عن‭ ‬تخطيطه‭ ‬وأبعاده‭ ‬بشكل‭ ‬تقريبي‭ ‬على‭ ‬الأقل‭. ‬لكن‭ ‬لحُسن‭ ‬الحظ،‭ ‬فقد‭ ‬احتفظت‭ ‬لنا‭ ‬كتابات‭ ‬بعض‭ ‬المؤرخين‭ ‬والرحّالة‭ ‬والجغرافيين‭ ‬الذين‭ ‬زاروا‭ ‬مسجد‭ ‬عليشاه‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬زمنية‭ ‬متباينة‭ ‬عقب‭ ‬زيارة‭ ‬أيتمش‭ ‬المحمدي،‭ ‬سجلت‭ ‬لنا‭ ‬بعض‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬صورة‭ ‬أكثر‭ ‬وضوحًا‭ ‬للمسجد‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬الوضع‭ ‬الراهن‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬عليه‭ ‬الآن‭. ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬أيضًا‭ ‬لن‭ ‬تقدّم‭ ‬الشكل‭ ‬الدقيق‭ ‬للمسجد،‭ ‬لكنها‭ ‬ربما‭ ‬تفي‭ ‬بالغرض‭. ‬فقد‭ ‬زار‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة‭ ‬مدينة‭ ‬تبريز‭ ‬ومسجد‭ ‬عليشاه‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬أبي‭ ‬سعيد‭ ‬بهادرخان،‭ ‬وذكر‭:‬

‮«‬ودخلنا‭ ‬سوق‭ ‬العنبر‭ ‬والمسك،‭ ‬فرأينا‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬أو‭ ‬أعظم،‭ ‬ثم‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬المسجد‭ ‬الجامع‭ ‬الذي‭ ‬عمّره‭ ‬الوزير‭ ‬عليشاه‭ ‬المعروف‭ ‬بجيلان،‭ ‬وبخارجه‭ ‬عن‭ ‬يمين‭ ‬مستقبل‭ ‬القبلة‭ ‬مدرسة،‭ ‬وعن‭ ‬يساره‭ ‬زاوية،‭ ‬وصحنه‭ ‬مفروش‭ ‬بالمرمر‭ ‬وحيطانه‭ ‬بالقاشاني،‭ ‬وهو‭ ‬شبه‭ ‬الزليج،‭ ‬ويشقه‭ ‬نهر‭ ‬ماء،‭ ‬وبه‭ ‬أنواع‭ ‬الأشجار‭ ‬ودوالي‭ ‬العنب‭ ‬وشجر‭ ‬الياسمين،‭ ‬ومن‭ ‬عاداتهم‭ ‬أن‭ ‬يقرأوا‭ ‬به‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬سورة‭ ‬يس‭ ‬وسورة‭ ‬الفتح‭ ‬وسورة‭ ‬عمَّ‭ ‬بعد‭ ‬صلاة‭ ‬العصر‭ ‬في‭ ‬صحن‭ ‬المسجد،‭ ‬ويجتمع‭ ‬لذلك‭ ‬أهل‭ ‬المدينة‮»‬‭.‬

وكذلك‭ ‬كتب‭ ‬جيمس‭ ‬مويير‭ ‬في‭ ‬زيارته‭ ‬الأولى‭ ‬لتبريز‭ (‬1808‭ - ‬1809م‭) ‬عن‭ ‬مسجد‭ ‬عليشاه‭ ‬قائلاً‭: ‬‮«‬مسجد‭ ‬عليشاه‭ ‬جنوب‭ ‬غرب‭ ‬المدينة‭ ‬ضمن‭ ‬قلعة‭ ‬أو‭ ‬حصن‭ ‬أرگ‭ ‬عليشاه،‭ ‬المشتمل‭ ‬على‭ ‬ثكنات‭ ‬ومخزن‭ ‬وذخائر‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬زيارة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ (‬1810‭ ‬‭- ‬1816م‭) ‬وصفًا‭ ‬أكثر‭ ‬عمقًا‭ ‬وتفصيلاً،‭ ‬ذكر‭ ‬فيه‭: ‬‮«‬أرگ‭ ‬عليشاه‭ ‬هو‭ ‬المبنى‭ ‬الأكثر‭ ‬جمالاً‭ ‬وإثارة‭ ‬في‭ ‬تبريز‭ ‬الآن،‭ ‬فبقايا‭ ‬المبنى‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬كتل‭ ‬الآجر‭ ‬الجميلة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬فارس،‭ ‬وربما‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كله،‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬جمال‭ ‬المبنى‭. ‬وارتفاعها‭ ‬8‭ ‬أقدام‭ ‬كان‭ ‬مقررًا‭ ‬أن‭ ‬يتخذه‭ ‬الأمير‭ ‬مكانًا‭ ‬يسكن‭ ‬فيه،‭ ‬ولكن‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬فضّل‭ ‬أن‭ ‬يجعله‭ ‬ترسانة‭ (‬دار‭ ‬صناعة‭)‬،‭ ‬وكنت‭ ‬مسرورًا‭ ‬جدًّا‭ ‬عندما‭ ‬وجدتُ‭ ‬بضائع‭ ‬أوربية‭ ‬وتبادلًا‭ ‬تجاريًّا‭ ‬نشيطًا،‭ ‬وبعض‭ ‬السجناء‭ ‬الروس‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬احتجازهم‭ ‬هناك‮»‬‭.‬

 

مجموعة‭ ‬معمارية

إذًا،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كتابات‭ ‬بعض‭ ‬الرّحالة‭ ‬الذين‭ ‬زاروا‭ ‬مسجد‭ ‬عليشاه‭ ‬في‭ ‬تبريز؛‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نرسم‭ ‬صورة‭ ‬مفصلة‭ ‬للمسجد‭ ‬حتى‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي؛‭ ‬فوفقًا‭ ‬للنص‭ ‬الذي‭ ‬أورده‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة؛‭ ‬فمسجد‭ ‬عليشاه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مسجدًا‭ ‬جامعًا‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬مجموعة‭ ‬معمارية‭ ‬تضم‭ ‬مدرسة‭ ‬كان‭ ‬موقعها‭ ‬على‭ ‬يمين‭ ‬إيوان‭ ‬المسجد‭ ‬وخانقاه‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬يساره،‭ ‬والتي‭ ‬عبّر‭ ‬عنها‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة‭ ‬بمصطلح‭ ‬أهل‭ ‬المغرب‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬زاوية‮»‬‭. ‬

ووفقًا‭ ‬لنص‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة،‭ ‬فمسجد‭ ‬عليشاه‭ ‬يشبه‭ ‬إيوان‭ ‬كسرى،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يتقدم‭ ‬الإيوان‭ ‬الرئيسي‭ ‬قبّة‭. ‬وللمسجد‭ ‬صحن‭ ‬كبير‭ ‬مفروش‭ ‬بالرخام‭ ‬وجدرانه‭ ‬من‭ ‬‮«‬القيشاني‭ ‬وهو‭ ‬شبه‭ ‬الزليج‮»‬‭ - ‬والزليج‭ ‬هو‭ ‬مرادف‭ ‬للبلاطات‭ ‬الخزفية‭ ‬في‭ ‬مصطلحات‭ ‬أهل‭ ‬المغرب‭ ‬الإسلامي‭ - ‬إذًا‭ ‬كانت‭ ‬جدران‭ ‬المسجد‭ ‬تزخر‭ ‬بتكسية‭ ‬من‭ ‬البلاطات‭ ‬الخزفية‭.‬

وتبلغ‭ ‬أبعاد‭ ‬الصحن‭ ‬285×228م‭. ‬ووفقًا‭ ‬أيضًا‭ ‬لنص‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة،‭ ‬فمسجد‭ ‬عليشاه‭ ‬كان‭ ‬يتوسطه‭ ‬بحيرة‭ ‬مياه،‭ ‬وأن‭ ‬الصحن‭ ‬كان‭ ‬مزروعًا‭ ‬به‭ ‬أشجار‭ ‬الياسمين‭ ‬وأنواع‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الأشجار‭ ‬ودوالي‭ ‬العنب‭. ‬أما‭ ‬النص‭ ‬الذي‭ ‬أورده‭ ‬أيتمش‭ ‬المحمدي،‭ ‬فيؤكد‭ ‬أن‭ ‬للمسجد‭ ‬فوارة‭ ‬ماء‭ ‬بها‭ ‬تماثيل‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬سباع‭ ‬تضخ‭ ‬المياه‭ ‬من‭ ‬أفواهها‭. ‬وجاءت‭ ‬إشارات‭ ‬جيمس‭ ‬مويير‭ ‬لتوضح‭ ‬حال‭ ‬المسجد‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬فقد‭ ‬استُخدم‭ ‬لأغراض‭ ‬أخرى،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬وضعه،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تتم‭ ‬فيه‭ ‬أي‭ ‬إضافات‭ ‬معمارية‭ ‬جديدة‭.‬

كثيرة‭ ‬هي‭ ‬الروايات‭ ‬الكاشفة‭ ‬التي‭ ‬أوضحت‭ ‬لنا‭ ‬سير‭ ‬العمل‭ ‬والبناء‭ ‬وتفاصيل‭ ‬معمارية‭ ‬وفنية‭ ‬مهمة؛‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الأدلة‭ ‬المادية‭ ‬جاءت‭ ‬لتعزز‭ ‬وتُثري‭ ‬ما‭ ‬نقله‭ ‬المبعوث‭ ‬المملوكي‭ ‬أيتمش‭ ‬المحمدي‭ (‬مبعوث‭ ‬الناصر‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬قلاوون‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬أظهرت‭ ‬الحفائر‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬المسجد‭ - ‬والتي‭ ‬جاءت‭ ‬مؤكدة‭ ‬لروايات‭ ‬الرحالة‭ ‬والسفراء‭ ‬الذين‭ ‬زاروا‭ ‬المسجد‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬زمنية‭ ‬مختلفة،‭ ‬وذلك‭ ‬بالعثور‭ ‬على‭ ‬بقايا‭ ‬أعمدة‭ ‬جرانيتية‭ ‬مزخرفة‭ ‬بأشكال‭ ‬هندسية‭ ‬تضم‭ ‬أطباقًا‭ ‬نجمية‭ - ‬غير‭ ‬أن‭ ‬أهمّ‭ ‬ما‭ ‬عُثر‭ ‬عليه،‭ ‬والذي‭ ‬انفرد‭ ‬بذكره‭ ‬أيتمش‭ ‬المحمدي،‭ ‬هو‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬السباع‭ ‬التي‭ ‬توسطت‭ ‬صحن‭ ‬المسجد،‭ ‬وجاء‭ ‬وصفها‭ ‬في‭ ‬كتاباته‭. ‬

 

نقطة‭ ‬اتصال

في‭ ‬أثناء‭ ‬جولة‭ ‬واسعة‭ ‬بمدينة‭ ‬تبريز‭ ‬سيرًا‭ ‬على‭ ‬الأقدام،‭ ‬وعقب‭ ‬زيارة‭ ‬بقايا‭ ‬مسجد‭ ‬عليشاه،‭ ‬كانت‭ ‬زيارتي‭ ‬لمتحف‭ ‬أذربيجان،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬بالباحة‭ ‬الخارجية‭ ‬للمتحف،‭ ‬التي‭ ‬احتفظت‭ ‬بجميع‭ ‬المنقولات‭ ‬والأجزاء‭ ‬التي‭ ‬عُثر‭ ‬عليها،‭ ‬وكشفت‭ ‬عنها‭ ‬الحفائر‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬مسجد‭ ‬عليشاه؛‭ ‬كان‭ ‬لقائي‭ ‬بأحد‭ ‬السباع‭ ‬التي‭ ‬ذكرها‭ ‬أيتمش‭ ‬المحمدي،‭ ‬وحيدًا‭ ‬قابعًا‭ ‬بمفرده‭ ‬يطوي‭ ‬تاريخ‭ ‬المسجد‭ ‬وتفاصيل‭ ‬كثيرة‭ ‬كان‭ ‬شاهدًا‭ ‬عليها‭. ‬ألقيتُ‭ ‬عليه‭ ‬التحية‭ ‬وذكّرته‭ ‬بما‭ ‬كتبه‭ ‬عنه‭ ‬وانفرد‭ ‬بذكره‭ ‬أيتمش‭ ‬ومدى‭ ‬انبهاره‭ ‬به،‭ ‬ووعدته‭ ‬بأن‭ ‬يومًا‭ ‬ما‭ ‬سوف‭ ‬أقصّ‭ ‬حكايتهما‭ ‬معًا‭ ‬هو‭ ‬وأيتمش،‭ ‬وها‭ ‬أنا‭ ‬اليوم‭ ‬أفي‭ ‬بوعدي‭.‬

لكن‭ ‬حكاية‭ ‬مسجد‭ ‬عليشاه‭ ‬لم‭ ‬تنته‭ ‬بعد؛‭ ‬حيث‭ ‬يعد‭ ‬هذا‭ ‬المسجد‭ ‬نقطة‭ ‬اتصال‭ ‬بين‭ ‬مماليك‭ ‬مصر‭ ‬وبلاد‭ ‬فارس،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬بين‭ ‬مسجد‭ ‬عليشاه‭ ‬في‭ ‬تبريز‭ ‬ومسجد‭ ‬قوصون‭ ‬بالقاهرة،‭ ‬الذي‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬المماليك‭.‬

فقد‭ ‬ذكر‭ ‬المقريزي‭ ‬في‭ ‬‮«‬المواعظ‭ ‬والاعتبار‮»‬،‭ ‬أثناء‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬مسجد‭ ‬قوصون‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬الجامع‭ ‬بالشارع‭ ‬خارج‭ ‬باب‭ ‬زويلة،‭ ‬ابتدأ‭ ‬بعمارته‭ ‬الأمير‭ ‬الكبير‭ ‬سيف‭ ‬الدين‭ ‬قوصون‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬ثلاثين‭ ‬وسبع‭ ‬مئة،‭ ‬وهو‭ ‬خارج‭ ‬باب‭ ‬القوس‭ ‬المجاور‭ ‬لحارة‭ ‬المصامدة‭ ‬من‭ ‬الجانب‭ ‬الغربي،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬حضر‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬توريز‭ ‬بنّاء؛‭ ‬فبنى‭ ‬مئذنتي‭ ‬هذا‭ ‬الجامع‭ ‬على‭ ‬مثال‭ ‬المئذنة‭ ‬التي‭ ‬عملها‭ ‬خواجا‭ ‬علي‭ ‬شاه‭ ‬وزير‭ ‬السلطان‭ ‬أبي‭ ‬سعيد‭ ‬في‭ ‬جامعه‭ ‬بمدينة‭ ‬توريز‮»‬‭. ‬

ويستدل‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬المقريزي‭ ‬أن‭ ‬مئذنتي‭ ‬جامع‭ ‬قوصون‭ ‬قد‭ ‬شُيّدتا‭ ‬بواسطة‭ ‬معماري‭ ‬من‭ ‬تبريز‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬730هـ‭/ ‬1330م‭. ‬وكلا‭ ‬المسجدين‭ ‬تتشابه‭ ‬مئذنتاه‭. ‬ومما‭ ‬يؤسف‭ ‬له‭ ‬حقًا‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬أثر‭ ‬لهاتين‭ ‬المئذنتين،‭ ‬سواء‭ ‬تلك‭ ‬الموجودة‭ ‬بتبريز‭ ‬أو‭ ‬مثيلتها‭ ‬بالقاهرة،‭ ‬فقد‭ ‬ذكر‭ ‬كريزويل‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬له‭ ‬مع‭ ‬أحد‭ ‬الباحثين‭ ‬الأوربيين‭ ‬المهتمين‭ ‬بالبحث‭ ‬وراء‭ ‬هذا‭ ‬المعماري‭ ‬التبريزي‭ ‬خطابًا‭ ‬من‭ ‬القاهرة‭ ‬مؤرخًا‭ ‬بتاريخ‭ ‬11‭ ‬نوفمبر‭ ‬1938م‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬مسجد‭ ‬قوصون‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الراهن،‭ ‬قال‭ ‬فيه‭: ‬‮«‬كان‭ ‬للمسجد‭ ‬مئذنتان؛‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬الجهة‭ ‬الغربية‭ ‬سقطت‭ ‬في‭ ‬يناير‭ ‬1801م‭ ‬الموافق‭ ‬شعبان‭ ‬1251هـ،‭ ‬وفقًا‭ ‬لما‭ ‬ذكره‭ ‬الجبرتي‭. ‬وقد‭ ‬سقطت‭ ‬على‭ ‬المسجد‭ ‬ودمرت‭ ‬جزءًا‭ ‬منه‭. ‬والمئذنة‭ ‬الثانية‭ ‬أعلى‭ ‬المدخل‭ ‬الجنوبي‭ ‬الشرقي،‭ ‬والمدخل‭ ‬مؤرخ‭ ‬بسنة‭ ‬730هـ‭/ ‬1330م‭. ‬وكانت‭ ‬المئذنة‭ ‬تعلو‭ ‬المدخل،‭ ‬لكن‭ ‬قاعدة‭ ‬المئذنة‭ (‬ذات‭ ‬مسقط‭ ‬رباعي‭) ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬موجودة،‭ ‬والمدخل‭ ‬و6‭ ‬درجات‭ ‬منه‭ ‬مازالا‭ ‬موجودين‭. ‬والجزء‭ ‬الجنوبي‭ ‬الغربي‭ ‬من‭ ‬المسجد‭ ‬تمت‭ ‬إزالته‭ ‬عندما‭ ‬تم‭ ‬فتح‭ ‬شارع‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬وجزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الجزء‭ ‬الجنوبي‭ ‬الشرقي‭ ‬دمّر،‭ ‬وبني‭ ‬مكانه‭ ‬مسجد‭ ‬جديد‮»‬‭. ‬

 

مخزن‭ ‬للأسلحة

‭ ‬مما‭ ‬يؤسف‭ ‬له‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬مسجد‭ ‬عليشاه‭ ‬لم‭ ‬يحتفظ‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬تفاصيله‭ ‬وعناصره‭ ‬المعمارية،‭ ‬كما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬ذكرنا؛‭ ‬فقد‭ ‬ذكر‭ ‬حمد‭ ‬الله‭ ‬المستوفي‭ ‬أن‭ ‬القبو‭ ‬البرميلي‭ ‬الذي‭ ‬يغطي‭ ‬الإيوان‭ ‬سقط‭ ‬سريعًا‭ ‬عقب‭ ‬بنائه‭ ‬بفترة‭ ‬قصيرة،‭ ‬نتيجة‭ ‬التعجل‭ ‬في‭ ‬البناء‭. ‬وتعرّض‭ ‬المسجد‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬التخريب‭ ‬والدمار؛‭ ‬ففي‭ ‬عهد‭ ‬الدولة‭ ‬القاجارية‭ ‬استُخدم‭ ‬مخزنًا‭ ‬لحفظ‭ ‬المهمات‭ ‬والأسلحة‭.‬

كما‭ ‬تأثر‭ ‬أيضًا‭ ‬بالزلزال‭ ‬العنيف‭ ‬الذي‭ ‬ضرب‭ ‬مدينة‭ ‬تبريز‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1780م،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬مسجد‭ ‬عليشاه‭ ‬هو‭ ‬الأثر‭ ‬الوحيد‭ ‬المتضرر‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬هذا‭ ‬الزلزال،‭ ‬فقد‭ ‬تأثرت‭ ‬غالبية‭ ‬الآثار‭ ‬المعمارية‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬تبريز‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬ذلك،‭ ‬ومنها‭ ‬الربع‭ ‬الرشيدي‭ ‬وشنب‭ ‬غازان‭/ ‬غازانية‭ ‬أيضًا‭.‬

والجزء‭ ‬المتبقي‭ ‬حاليًّا‭ ‬من‭ ‬مسجد‭ ‬عليشاه‭ ‬هو‭ ‬بقايا‭ ‬جزء‭ ‬بسيط‭ ‬من‭ ‬إيوان‭ ‬القبلة،‭ ‬جزء‭ ‬مكشوف‭ ‬لا‭ ‬تعلوه‭ ‬أي‭ ‬تغطية‭ ‬مما‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬السابق‭ ‬وقت‭ ‬بناء‭ ‬المسجد،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬الجزء‭ ‬المتبقي‭ ‬هو‭ ‬جدار‭ ‬القبلة،‭ ‬وأجزاء‭ ‬من‭ ‬الجدارين‭ ‬عن‭ ‬يمين‭ ‬المحراب‭ ‬ويساره،‭ ‬وهما‭ ‬يمثلان‭ ‬الجدارين‭ ‬اللذين‭ ‬ارتكز‭ ‬عليهما‭ ‬عقد‭ ‬الإيوان‭ ‬فيما‭ ‬سبق‭.‬

ومع‭ ‬الأسف،‭ ‬الوضع‭ ‬الراهن‭ ‬للمسجد‭ ‬لا‭ ‬يعطينا‭ ‬صورة‭ ‬كاملة‭ ‬عما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬وقت‭ ‬تشييده‭. ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬عمليات‭ ‬الترميم‭ ‬المتعددة‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬للمسجد،‭ ‬فإن‭ ‬الحفائر‭ ‬كشفت‭ ‬عن‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬تاريخه‭.‬

ويمكننا‭ ‬أن‭ ‬نختتم‭ ‬حديثنا‭ ‬بإحدى‭ ‬المحادثات‭ ‬التي‭ ‬دارت‭ ‬بين‭ ‬مجد‭ ‬الدين‭ ‬السلامي؛‭ ‬تاجر‭ ‬الخاصة‭ ‬السلطاني،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬تجارة‭ ‬الرقيق،‭ ‬حيث‭ ‬يجلب‭ ‬الرقيق‭ ‬والمماليك‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬المغول‭ ‬للقاهرة،‭ ‬وكان‭ ‬سفيرًا‭ ‬للسلطان‭ ‬المملوكي‭ ‬بمصر‭ ‬الناصر‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬قلاوون،‭ ‬وكانت‭ ‬له‭ ‬مساعٍ‭ ‬مثمرة‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬الصلح‭ ‬بين‭ ‬المغول‭ ‬الإيلخانيين‭ ‬والمماليك‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬السلطان‭ ‬أبي‭ ‬سعيد‭ ‬بهادرخان‭ ‬والسلطان‭ ‬الناصر‭ ‬محمد‭. ‬وقد‭ ‬توفي‭ ‬مجد‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬743هـ‭/ ‬1342م‭.‬

‭ ‬تلك‭ ‬المحادثة‭ ‬التي‭ ‬دارت‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الوزير‭ ‬تاج‭ ‬الدين‭ ‬عليشاه‭ ‬التبريزي‭ ‬صاحب‭ ‬هذا‭ ‬الصرح‭ ‬المعماري‭ ‬المهم،‭ ‬عندما‭ ‬شرع‭ ‬عليشاه‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬المسجد؛‭ ‬فقد‭ ‬قال‭ ‬مجد‭ ‬الدين‭ ‬لعليشاه‭ ‬إن‭ ‬المسجد‭ ‬سيتكلف‭ ‬أموالًا‭ ‬طائلة،‭ ‬فردّ‭ ‬عليشاه‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الحكام‭ ‬المغول‭ ‬اعتادوا‭ ‬أن‭ ‬يأخذوا‭ ‬من‭ ‬وزرائهم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أعطوهم‭ ‬إياه‭ ‬في‭ ‬السابق،‭ ‬وحياتهم‭ ‬أيضًا‭. ‬ولهذا‭ ‬فمن‭ ‬الأفضل‭ ‬إنفاق‭ ‬أموالي‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬الله‭ ‬وطاعته،‭ ‬ويجازيني‭ ‬عنه‭ ‬خيرًا‮»‬‭ .‬