الأمُّ ربيعُ الحياة

الأمُّ ربيعُ الحياة

هذا فصل الربيع قد أتى بالنسيم العليل، والزهر الجميل والحبّ الأصيل، يحمل معه هدوء الجوّ وسكون الأرض وصفاء السماء، فتصفو النفوس والأرواح، ويصدّ الإنسان عن عناد الطبيعة ببردها وحرّها، فيكون على سجيته التي يغشاها النكوص وتلُفّها الذكريات تمتعًا بما وهب الله هذه الأرض وكساها من روعة وجمال، وجعلها سكنًا للإنسان بعد الجنّة. 

 

هنالك،‭ ‬صار‭ ‬‮«‬الربيع‮»‬‭ ‬يجمع‭ ‬أجمل‭ ‬المناسبات‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬الحضارات‭ ‬وعلى‭ ‬مرّ‭ ‬العصور،‭ ‬فهو‭ ‬‮«‬النيروز‮»‬‭ ‬و«شَمّ‭ ‬النسيم‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬صار‭ ‬الاعتدال‭ ‬الربيعي‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬يومًا‭ ‬يُحتفل‭ ‬فيه‭ ‬بالأم،‭ ‬فهي‭ ‬التي‭ ‬تهب‭ ‬الحياة‭ ‬لأبنائها‭ ‬وترعاهم‭ ‬وتربيهم‭ ‬حضنًا‭ ‬وحبًّا‭ ‬وحنانًا‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬حبّ‭ ‬الربيع‭ ‬والاستبشار‭ ‬بقدومه‭ ‬وقفًا‭ ‬على‭ ‬قوم‭ ‬دون‭ ‬قوم،‭ ‬بل‭ ‬حاز‭ ‬الربيع‭ ‬حب‭ ‬كلّ‭ ‬إنسان،‭ ‬حين‭ ‬عرف‭ ‬فيه‭ ‬بهجة‭ ‬الدنيا‭ ‬وجمال‭ ‬طبيعتها‭ ‬الخلابة‭. ‬

وفي‭ ‬الربيع،‭ ‬تتوافق‭ ‬ساعات‭ ‬الليل‭ ‬والنهار،‭ ‬وتتلألأ‭ ‬النجوم‭ ‬سابحات‭ ‬في‭ ‬السماء،‭ ‬ويتنفس‭ ‬الفجر‭ ‬نسيمًا‭ ‬يملأ‭ ‬النفس‭ ‬عبيرًا،‭ ‬ويناديك‭ ‬الندى‭ ‬حبًّا‭ ‬ليدعو‭ ‬لك‭ ‬بيوم‭ ‬صافي‭ ‬الرجاء،‭ ‬ويبتسم‭ ‬الضحى‭ ‬وترقّ‭ ‬الظهيرة،‭ ‬ويمرُّ‭ ‬العصر‭ ‬سهمًا‭ ‬لموعد‭ ‬المغرب‭ ‬والعشاء،‭ ‬ليكون‭ ‬اليوم‭ ‬سعدًا‭ ‬في‭ ‬صباح‭ ‬ومساء‭.‬

هكذا‭ ‬صار‭ ‬الربيع‭ ‬رمزًا‭ ‬للجمال،‭ ‬فمدح‭ ‬الشعراء‭ ‬أيامه‭ ‬ولياليه،‭ ‬التي‭ ‬امتلأت‭ ‬بمشاعر‭ ‬الحب‭ ‬والعواطف‭ ‬الجياشة‭.‬

لم‭ ‬نجد‭ ‬فيما‭ ‬كنّا‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬ذكر‭ ‬الربيع‭ ‬ووصف‭ ‬جماله‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬وينطبق‭ ‬القول‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬صدر‭ ‬الإسلام‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬نستطيع‭ ‬القول‭ ‬بأنّ‭ ‬وصف‭ ‬الربيع‭ ‬وجمال‭ ‬الطبيعة‭ ‬لم‭ ‬يأتِ‭ ‬لهما‭ ‬ذِكر‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬انتشار‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وأعني‭ ‬بذلك‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭. ‬وتبيّن‭ ‬لنا‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬متابعة‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬تاريخ‭ ‬الناس‭ ‬والدول‭. ‬لقد‭ ‬جاء‭ ‬ذكر‭ ‬الربيع‭ ‬متأخرًا‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬الهجري‭/ ‬التاسع‭ ‬الميلادي،‭ ‬فلم‭ ‬نعلم‭ ‬أنّ‭ ‬هناك‭ ‬قصيدة‭ ‬في‭ ‬الربيع‭ ‬قبل‭ ‬قصيدة‭ ‬أبي‭ ‬تمام،‭ ‬حبيب‭ ‬بن‭ ‬أوس‭ ‬الطائي‭ (‬ت‭. ‬231هـ‭/ ‬845م‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬قال‭ ‬فيها‭:‬

 

إنّ‭ ‬الــــــــربـــيـعَ‭ ‬أَثَــــــــــــــــــرُ‭ ‬الــــــــزمـــــــانِ

لــــــــــــو‭ ‬كــــــــان‭ ‬ذا‭ ‬روحٍ‭ ‬وذا‭ ‬جــــثــــــــمــــانِ

مصورًا‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬الإنسان

لكان‭ ‬بسّامًا‭ ‬من‭ ‬الفتيانِ

بوركت‭ ‬من‭ ‬وقتٍ‭ ‬ومن‭ ‬أوانِ

فالأرض‭ ‬نشوى‭ ‬من‭ ‬ثرىً‭ ‬نشوان

تختال‭ ‬في‭ ‬مُفَوَّفِ‭ ‬الألوانِ

في‭ ‬زهرٍ‭ ‬كالحَدَقِ‭ ‬الرواني

من‭ ‬فاقع‭ ‬وناصعٍ‭ ‬وقانِ

 

وصف‭ ‬البُحتري‭ ‬للربيع

ولعل‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬الربيع‮»‬‭ ‬للبحتري،‭ ‬الوليد‭ ‬بن‭ ‬عبيد‭ ‬الطائي‭ (‬ت‭. ‬284هـ‭/‬897م‭)‬،‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬الأشهر‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬ذُكِر‭ ‬الربيع‭ ‬ترددت‭ ‬على‭ ‬الألسن‭ ‬هذه‭ ‬الأبيات‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القصيدة‭:‬

أتاك‭ ‬الربيعُ‭ ‬الطَلْق‭ ‬يختالُ‭ ‬ضاحكًا

من‭ ‬الحُسْنِ‭ ‬حتى‭ ‬كاد‭ ‬أنْ‭ ‬يتكلّما

وقد‭ ‬نبّه‭ ‬النوروزُ‭ ‬في‭ ‬غَلَسِ‭ ‬الدُّجَى

أوائل‭ ‬وَرْدٍ‭ ‬كُنَّ‭ ‬بالأمسِ‭ ‬نُوّما

يَفْتَقُها‭ ‬بَرْدُ‭ ‬النّدى،‭ ‬فكأنّه

يبثّ‭ ‬حديثًا‭ ‬كان‭ ‬قبل‭ ‬مُكَتّما

ومن‭ ‬شجرٍ‭ ‬ردّ‭ ‬الربيع‭ ‬لباسه

عليه،‭ ‬كما‭ ‬نَشّرْت‭ ‬وَشْيًا‭ ‬مُنَمْنَما

وَرَقَّ‭ ‬نسيم‭ ‬الرِّيحِ‭ ‬حتى‭ ‬حسِبْتُهُ

يجيء‭ ‬بأنفاس‭ ‬الأحبّة‭ ‬نُعّما

 

وجاء‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬شعراء‭ ‬كبار‭ ‬تغنّوا‭ ‬بجمال‭ ‬الربيع،‭ ‬فلم‭ ‬يستطع‭ ‬أحد‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬يقارب‭ ‬وصف‭ ‬البحتري‭ ‬له،‭ ‬ومن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشعـــــراء‭ ‬أبوبكر‭ ‬محمد‭ ‬الصــــنوبري‭ (‬ت‭. ‬334هـ‭/ ‬945م‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬أحد‭ ‬شعراء‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬الحمداني،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬وصف‭ ‬فصول‭ ‬العام‭ ‬بما‭ ‬يلي‭:‬

 

إن‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الصيف‭ ‬ريحانٌ‭ ‬وفاكهة

فالأرض‭ ‬مستوقدٌ‭ ‬والجوّ‭ ‬تنورُ

وإن‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬الخريف‭ ‬النخل‭ ‬مخترفًا

فالأرض‭ ‬عريانةٌ‭ ‬والجوّ‭ ‬مقرورُ

وإن‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬الشتاء‭ ‬الغيث‭ ‬متصلًا

فالأرض‭ ‬محصورة‭ ‬والجو‭ ‬مأسورُ

ما‭ ‬الدهر‭ ‬إلا‭ ‬الربيع‭ ‬المستنير‭ ‬إذا

أتاك‭ ‬الربيعُ‭ ‬أتاك‭ ‬النَّوْرُ‭ ‬والنُّورُ

الأرضُ‭ ‬ياقوتةٌ‭ ‬والجوّ‭ ‬لؤلؤةٌ

والنبتُ‭ ‬فيروزٌ‭ ‬والماء‭ ‬بلّورُ

 

الأم‭ ‬ربيع‭ ‬الحياة

وأجمل‭ ‬ما‭ ‬قيل‭ ‬عن‭ ‬الربيع‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬أمير‭ ‬الشعـــراء‭ ‬أحمــــد‭ ‬شــــوقــــي‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬طويلة،‭ ‬نجتزئ‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬يلي‭:‬

 

آذارُ‭ ‬أقبَلَ،‭ ‬قُم‭ ‬بنا‭ ‬يا‭ ‬صاحِ

حيِّ‭ ‬الربيع‭ ‬حديقةَ‭ ‬الأرواحِ

صفوٌ‭ ‬أُتِيحَ‭ ‬فَخُذْ‭ ‬لنفسك‭ ‬قسطَها

فالصفو‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬بمُتاحِ

مَلَكَ‭ ‬النباتَ‭ ‬فكلّ‭ ‬أرض‭ ‬داره

تلقاه‭ ‬بالأعراسِ‭ ‬والأفراحِ

الوَرْدُ‭ ‬في‭ ‬سُرَرِ‭ ‬الغصون‭ ‬مُفَتّحٌ

متقابلٌ‭ ‬يُثني‭ ‬على‭ ‬الفَتّاحِ

مَرَّ‭ ‬النسيم‭ ‬بصفحتيه‭ ‬مقبّلا

مَرَّ‭ ‬الشِّفاه‭ ‬على‭ ‬خدودٍ‭ ‬ملاحِ

هَتَكَ‭ ‬الردى‭ ‬من‭ ‬حُسْنِه‭ ‬وبَهَائِه

بالليل‭ ‬ما‭ ‬نَسَجَت‭ ‬يدُ‭ ‬الإصباحِ

يُنبيك‭ ‬مصرعُه،‭ ‬وكلٌّ

زائــــــــــلٌ،‭ ‬أنَّ‭ ‬الـــحــــيــــاةَ‭ ‬كغـــدْوةٍ‭ ‬ورواحِ

 

ومنذ‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬العشـــرين،‭ ‬ارتبــــط‭ ‬الربــــيع‭ ‬بأجمل‭ ‬معنى‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيا‭ ‬‮«‬الأمّ‮»‬،‭ ‬فالأم‭ ‬ربيع‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان،‭ ‬في‭ ‬حضنها‭ ‬النعيم‭ ‬والأمان،‭ ‬وصحبتها‭ ‬هي‭ ‬الأجمــــل‭ ‬في‭ ‬الزمان‭. ‬

ولا‭ ‬نشكّ‭ ‬فيما‭ ‬للربيع‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬المشاعر‭ ‬الإنسانية‭ ‬وجيـــــشانها،‭ ‬ولا‭ ‬ننكــر‭ ‬أنّ‭ ‬الحبّ‭ ‬فطرة،‭ ‬وأنّ‭ ‬أول‭ ‬وأعظم‭ ‬حب‭ ‬للإنسان‭ ‬هو‭ ‬حبّ‭ ‬الأم‭.‬

من‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭ ‬كانت‭ ‬المناداة‭ ‬بالاحتفال‭ ‬العالمي‭ ‬بالأم،‭ ‬وتخصيص‭ ‬يوم‭ ‬الواحد‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬مارس‭ ‬للاحتفال‭ ‬بها‭. ‬تلك‭ ‬المناسبة‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬طالب‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬سيدة‭ ‬أمريكية‭ ‬تُدعى‭ ‬آنا‭ ‬جارفيس‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬نجاح‭ ‬الاحتفــــال‭ ‬بيوم‭ ‬الأم،‭ ‬فإنّ‭ ‬اختلافًا‭ ‬ظهر‭ ‬عــلى‭ ‬ســطح‭ ‬الفكــــرة‭ ‬والمضمون،‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬بعثرة‭ ‬تاريخ‭ ‬الاحتفال‭ ‬ومسمّاه‭. ‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬احتفال‭ ‬بالأم‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الأخوين‭ ‬علي‭ ‬ومصطفى‭ ‬أمين،‭ ‬صاحبا‭ ‬امتياز‭ ‬جريدة‭ ‬أخبار‭ ‬اليوم‭ ‬المصرية،‭ ‬ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬والعرب‭ ‬تخصّ‭ ‬الأم‭ ‬باحتــــفال‭ ‬مميز‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عام‭. ‬

ومَثل‭ ‬الأم‭ ‬كمثل‭ ‬الربيع،‭ ‬لم‭ ‬يبدأ‭ ‬الشعراء‭ ‬العرب‭ ‬بتخصيص‭ ‬قصائد‭ ‬في‭ ‬حبِّها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العباسي،‭ ‬فأوّل‭ ‬ما‭ ‬وصل‭ ‬إلينا‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬الأمّ‭ ‬كانت‭ ‬قصيدة‭ ‬الشريف‭ ‬الرضي‭ (‬ت‭. ‬406هـ‭ /‬1015م‭)‬،‭ ‬وكانت‭ ‬القصيدة‭ ‬في‭ ‬رثاء‭ ‬أمه،‭ ‬جاء‭ ‬فيها‭:‬

 

أبكيك‭ ‬لو‭ ‬نفع‭ ‬الغليل‭ ‬بكائي

وأقول‭ ‬لو‭ ‬ذهب‭ ‬المقال‭ ‬بدائي

وأعوذ‭ ‬بالصبر‭ ‬الجميل‭ ‬تعزّيًّا

لو‭ ‬كان‭ ‬بالصبر‭ ‬الجميل‭ ‬عزائي

كم‭ ‬زفرة‭ ‬ضعفت‭ ‬فصارت‭ ‬أنّةً

تَمَّمْتها‭ ‬بتنفّس‭ ‬الصعداء

لو‭ ‬كان‭ ‬مثلك‭ ‬كلّ‭ ‬أمٍّ‭ ‬بَرَّةٍ

غَنِيَ‭ ‬البنون‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬الآباءِ

 

ثم‭ ‬جاءنا‭ ‬شعر‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ (‬ت‭. ‬449هـ‭/ ‬1058م‭) ‬في‭ ‬‮«‬اللزوميات‮»‬‭ ‬حين‭ ‬قال‭:‬

 

العيش‭ ‬ماضٍ‭ ‬فأكرم‭ ‬والديك‭ ‬به

والأمّ‭ ‬أولى‭ ‬بإكرامٍ‭ ‬وإحسان‭ ‬

وحسبها‭ ‬الحملُ‭ ‬والإرضاع‭ ‬تُدمنُهُ

أمران‭ ‬بالفضل‭ ‬نالا‭ ‬كلّ‭ ‬إنسانِ

لم‭ ‬نسمع‭ ‬للأم‭ ‬ذكرًا‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬نسمع‭ ‬مثله‭ ‬في‭ ‬صدر‭ ‬الإسلام،‭ ‬ولعل‭ ‬أجمل‭ ‬القصائد‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬تغنّى‭ ‬بها‭ ‬الشعراء‭ ‬في‭ ‬مديح‭ ‬الأم‭ ‬وحبها‭ ‬كانت‭ ‬بداياتها‭ ‬مع‭ ‬شعراء‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭,‬‭ ‬إذ‭ ‬قال‭ ‬الشاعر‭ ‬حافظ‭ ‬إبراهيم‭:‬

 

إنّي‭ ‬لتطربني‭ ‬الخلالُ‭ ‬كريمةً

طربَ‭ ‬الغريب‭ ‬بأوبةٍ‭ ‬وتلاقِ

وتهزّني‭ ‬ذكرى‭ ‬المروءة‭ ‬والنّدى

بين‭ ‬الشمائل‭ ‬هزّة‭ ‬المشتاقِ

فإذا‭ ‬رُزِقتَ‭ ‬خليقةً‭ ‬محمودةً

فقد‭ ‬اصطفاك‭ ‬مقسّم‭ ‬الأرزاقِ

فالنّاسُ‭ ‬هذا‭ ‬حظّه‭ ‬مالٌ‭ ‬وذا

عِلْمٌ،‭ ‬وذاكَ‭ ‬مكارم‭ ‬الأخلاقِ

والمال‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تدّخِرْه‭ ‬مُحصّن

بالعلم‭ ‬كان‭ ‬نهاية‭ ‬الإملاقِ

والعلْم‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكتنفه‭ ‬شمائل

تعليه‭ ‬كان‭ ‬مطيّة‭ ‬الإخفاقِ

لا‭ ‬تحْسبَنّ‭ ‬العلمَ‭ ‬ينفع‭ ‬وحده

ما‭ ‬لم‭ ‬يتوّج‭ ‬ربُّه‭ ‬بخلاقِ

مَن‭ ‬لي‭ ‬بتربية‭ ‬النساء‭ ‬فإنّها

في‭ ‬الشرقِ‭ ‬علّة‭ ‬ذلك‭ ‬الإخفاقِ

الأمّ‭ ‬مدرسة‭ ‬إذا‭ ‬أعددتَها

أعددتَ‭ ‬شعبًا‭ ‬طيّب‭ ‬الأعراقِ

الأمُّ‭ ‬رَوْضٌ‭ ‬إنْ‭ ‬تعهّده‭ ‬الحيا

بالريّ‭ ‬أورقَ‭ ‬أيّما‭ ‬إيراقِ

الأم‭ ‬أستاذُ‭ ‬الأساتذةِ‭ ‬الأُلى

شغلت‭ ‬مآثرهم‭ ‬مدى‭ ‬الآفاقِ

 

رمز‭ ‬الفرح‭ ‬والسعادة‭ ‬

أما‭ ‬الشاعر‭ ‬معروف‭ ‬الرصافي‭ ‬فقد‭ ‬قال‭:‬

أوجب‭ ‬الواجبات‭ ‬إكرامُ‭ ‬أمّي

إنّ‭ ‬أمي‭ ‬أحق‭ ‬بالإكرامِ

حمَلَتْني‭ ‬ثقلًا‭ ‬ومن‭ ‬بعد‭ ‬حَمْلي

أرضعتني‭ ‬إلى‭ ‬أوانِ‭ ‬فطامي

ورعتني‭ ‬في‭ ‬ظُلمة‭ ‬الليل‭ ‬حتى

تَرَكَت‭ ‬نومها‭ ‬لأجل‭ ‬منامي

إنّ‭ ‬أمي‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬خَلَقَتْني

بعد‭ ‬ربي،‭ ‬فصرتُ‭ ‬بعض‭ ‬الأنامِ

فلها‭ ‬الحمد‭ - ‬بعد‭ ‬حمدي‭ ‬إلهي‭ -‬

ولها‭ ‬الشكر‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬الأيام

 

وفي‭ ‬قصيدة‭ ‬أخرى‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭:‬

هي‭ ‬الأخلاق‭ ‬تنبت‭ ‬كالنباتِ

إذا‭ ‬سُقيَت‭ ‬بماءِ‭ ‬المكرمات

تقوم‭ ‬إذا‭ ‬تعهّدها‭ ‬المُرَبّي

على‭ ‬ساقِ‭ ‬الفضيلة‭ ‬مُثمراتِ‭ ‬

ولم‭ ‬أرَ‭ ‬للخلائق‭ ‬من‭ ‬محلٍّ

يُهذّبها‭ ‬كحضن‭ ‬الأمهاتِ

فــحــضـــــــن‭ ‬الأمّ‭ ‬مـــدرســــــــة‭ ‬تــــسامت

بتـــربـــيــــــة‭ ‬الــبـــــنـــيــــن‭ ‬أو‭ ‬الــــبــنـــاتِ

ومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أمر،‭ ‬فإنّ‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬السعادة‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬خِضَم،‭ ‬قلّت‭ ‬فيه‭ ‬الأفراح‭ ‬وغَلَت،‭ ‬لتأتي‭ ‬الأم‭ ‬فتكون‭ ‬رمزًا‭ ‬للسعادة‭ ‬والفرح‭ ‬والأمن‭ ‬والسلام‭ ‬والأسرة‭ ‬والسَكَن‭ ‬والوطن،‭ ‬فهي‭ ‬مجمع‭ ‬الأبناء‭ ‬في‭ ‬وقتٍ‭ ‬صار‭ ‬فيه‭ ‬اللقاء‭ ‬هواءً،‭ ‬عبر‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وشاشات‭ ‬أجهزة‭ ‬الهواتف‭ ‬النقالة‭ ‬والحواسيب‭. ‬

إنّ‭ ‬الأرواح‭ ‬لصيقة‭ ‬بالأبدان،‭ ‬وتلك‭ ‬الأجهزة‭ ‬إن‭ ‬وفرت‭ ‬للناس‭ ‬الصوت‭ ‬والصورة،‭ ‬فستكون‭ ‬تلك‭ ‬الصور‭ ‬والأصوات‭ ‬بلا‭ ‬روح‭ ‬ولا‭ ‬جسد،‭ ‬فتكون‭ ‬الأرواح‭ ‬أشباحًا،‭ ‬كحلم‭ ‬لا‭ ‬طعم‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬رائحة‭. ‬وعندما‭ ‬تجمع‭ ‬الأم‭ ‬أبناءها‭ ‬في‭ ‬محرابها‭ ‬يكونون‭ ‬كالمصلين،‭ ‬أنقياء‭ ‬أحباء،‭ ‬تجمعهم‭ ‬كلمة‭ ‬آمين‭. ‬اسم‭ ‬الأمّ‭ ‬يحلو‭ ‬به‭ ‬الفم،‭ ‬فيفرّج‭ ‬الهمّ‭ ‬ويُبعد‭ ‬الغمّ‭. ‬

كنا‭ ‬ننشد،‭ ‬ونحن‭ ‬صغار،‭ ‬نشـــــيدًا‭ ‬للأم‭ ‬لـــم‭ ‬نكن‭ ‬نعرف‭ ‬كاتبه،‭ ‬وهو‭ ‬علي‭ ‬أحمد‭ ‬باكثير،‭ ‬ونردد‭:‬

 

عيدك‭ ‬يا‭ ‬أمي

أبهج‭ ‬أعيادي

لولاكِ‭ ‬يا‭ ‬أمي

ما‭ ‬كان‭ ‬ميلادي

قلبكِ‭ ‬يرعاني

يا‭ ‬بهجةَ‭ ‬القلبِ

وليس‭ ‬ينساني

في‭ ‬البُعدِ‭ ‬والقُرْبِ

فضلك‭ ‬يا‭ ‬أمي

ما‭ ‬فوقَه‭ ‬فضلُ

فكل‭ ‬خيرٍ‭ ‬لي

أنتِ‭ ‬له‭ ‬أصلُ

كيف‭ ‬أوفّيكِ

شيئًا‭ ‬من‭ ‬الدَّيْنِ؟

أو‭ ‬كيفَ‭ ‬أجزيك

يا‭ ‬قرّة‭ ‬العينِ؟

الله‭ ‬ذو‭ ‬المِنَّةِ

أوْصى‭ ‬بإكرامك

قد‭ ‬جعلَ‭ ‬الجنّة

من‭ ‬تحت‭ ‬أقْدامك

وما‭ ‬الأمم‭ ‬كلها‭ ‬إلا‭ ‬صنيعة‭ ‬أمٍّ‭ ‬حملت‭ ‬وهْنًا‭ ‬على‭ ‬وهنٍ،‭ ‬ووضعت‭ ‬عن‭ ‬كُرهٍ‭ ‬وألَم،‭ ‬وأرضعت‭ ‬وربّت‭ ‬ورَعَت،‭ ‬وتأملت‭ ‬صغارها‭ ‬يكبرون،‭ ‬ثم‭ ‬تألمت‭ ‬على‭ ‬آلامهم،‭ ‬وفرحت‭ ‬على‭ ‬أفراحهم،‭ ‬فاستحقت‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ربيع‭ ‬أعمارهم‭.‬

‭ ‬تحية‭ ‬وسلامًا‭ ‬لكلّ‭ ‬الأمهات،‭ ‬الأحياء‭ ‬منهن‭ ‬والأموات،‭ ‬عدد‭ ‬زهور‭ ‬ونسائم‭ ‬ربيع‭ ‬الدنيا‭ ‬وندى‭ ‬فجره‭ ‬وزخات‭ ‬أمطاره‭ ‬‭.