الأخشاب في مصر القديمة .. صناعتها وعوامل تلفها
برع المصري القديم في قطع الأحجار الضخمة ونحتها، كما أبدع في التعامل مع الأخشاب لكونها أقل قسوة ووزنًا.
ورغم أن وادي النيل قد جاد على سكانه بأفضل أنواع الأحجار وأجودها، فإنه أمسك عليهم بعض الشيء في توافر الخشب وارتفاع جودته، وهذا يعود إلى الطبيعة المناخية لتلك المنطقة التي يندر فيها سقوط الأمطار وتوافر الغابات التي تعد المصدر الرئيسي لجلب الأخشاب.
استغل المصريون القدماء ثروة الأخشاب الطبيعية المتاحة لديهم منذ أقدم العهود في إقامة منشآتهم وتطور صناعاتهم، وكانوا من أوائل الشعوب الذين أمسكوا بأدوات القطع والنقش على الخشب - مثلما فعلوا مع الحجر - فسقفوا به منازلهم ومقابرهم، واستخدموه في بناء السفن وعمل التوابيت والصناديق والتماثيل والأثاث والعربات، كما صنعوا منه مقابض الأسلحة والمعدات والأدوات المنزلية والجنائزية وحتى الألعاب.
تعريف الخشب
الخشب هو أحد الموارد الطبيعية الرئيسة التي اعتمدت عليها الحضارة البشرية منذ مهدها في أغراض البناء والصناعة والوقود، وذلك لما يمتاز من صلابة مادته وسهولة تشكيلها، وجمال أشكاله وتنوعها، وخفّة وزنه النسبية، وقابلية اشتعاله، بجانب سهولة الحصول عليه من الطبيعة، مقارنة بالأحجار والمعادن.
ويُعرف الخشب لغويًّا بأنه ما غلظ من العيدان، واصطلاحيًّا: بكونه نسيجًا هيكليًّا مساميًّا من النواتج الأساسية للنمو في النباتات، وتركيبيًّا: فهو يتكون بشكل رئيس من السيليلوز (كربوهيدرات معقّدة) وزيوت ومواد صمغية وملونة، ووظيفيًّا: في عالم النبات له مهمتان أساسيتان: الأولى ميكانيكية؛ هي تدعيم الجسم النباتي، والثانية فسيولوجية هي توصيل الماء - وما يحتويه من عناصر - لسائر أجزاء النبات.
والخشب الطبيعي أنواعه متعددة بتعدّد مواطنه واختلاف أشكاله وصفاته، كالكثافة واللون ونمط الألياف وحجم المسام، غير أن الصفة الظاهرية الأساسية والمطلوبة به صناعيًّا وتجاريًّا هي الصلابة، وعليها يصنف عادة لنوعين أساسيين: خشب صلب وخشب ليّن، وتتنوع صلابة الأخشاب وتتفاوت بين النوعين ويطول مقياس تدرجها.
أنواع الأخشاب في مصر القديمة
استخدم المصري القديم أنواعًا متعددة من الأخشاب في كثير من أغراضه، لما به من تنوع الخصائص والمصادر، وحوَت أرض وادي النيل العديد من الأخشاب المحلية، مثل خشب السنط، وكان يستخدم في عمل القوارب الخاصة بالنقل، لصلابته المرتفعة، وقد ورد ذكره في نقوش من عهد الدولة القديمة، وكذلك في أقوال المؤرخ هيرودوت، كما أن له مكتشفات من عصور ما قبل التاريخ، وكان يُجلب من منطقة حتنوب بمصر الوسطى والنوبة جنوبًا.
وخشب نخيل البلح، ويزرع في كثير من أرجاء مصر منذ أقدم العهود، حيث عُثر على بقايا منه في منطقة الواحات الخارجة تعود إلى العصر الحجري القديم، واستخدمت فلوق جذوعه في عمل دعامات وعوارض لتسقيف الغرف بالمنازل والمعابد والمقابر، ولم يستخدم خشبه غالبًا في أغراض أخرى قديمًا لصعوبة تشكيله وتشغيله، بسبب نسيجه الليفي الخشن.
وخشب الجميز، وتزرع شجرته في مصر منذ عصر ما قبل الأسرات، واعتبرها المصري القديم من الأشجار المقدسة، حيث كان يتم رسمها في النقوش والمعبودة «حتحور» تطل من أغصانها، للاعتقاد بأنها قد تقمصت هذه الشجرة لإطعام وسقيا المارة والموتى بالمقابر والعالم الآخر.
كما رُسمت شجرة الجميز في النقوش والقرابين تقدّم لها، واعتقد المصري القديم بأن تابوت المعبود «أوزوريس» قد صُنع من خشبها، واستخدم هذا الخشب بكثرة في صنع التماثيل والأثاث والتوابيت لسهولة تشكيله وكبر حجم قطاعاته. كما استُخدمت أنواع أخرى من الأخشاب المحلية، مثل خشب اللبخ والصفصاف والأثل ونخيل الدوم.
ضرورة استيراد الأخشاب
وعلى الرغم من صناعة الأخشاب المحلية، فقد ظلت مصر منذ أقدم عهودها - حتى الآن - في حاجة إلى جودة أعلى وكمية أكبر من الخشب، فقامت باستيراد الجيد منه من البلاد المجاورة، مثل بلاد ما بين النهرين (العراق) والشام (سورية ولبنان) وبلاد بونت (القرن الإفريقي).
ومن أكثر أنواع الأخشاب شيوعًا، والتي جلبتها مصر من الخارج، خشب الأرز، وذكره المصري القديم في نقوشه تحت اسم «عِش»، خاصة في متون الأهرام عهد الدولة القديمة، واعتبر شجرته مقدسةً لارتباطها أيضًا بالمعبود أوزوريس، حيث تذكر الأساطير أنه كان مختبئًا داخلها بجبال ببلوص (جبيل) في لبنان.
وصنع من هذا الخشب - الذي يتميز بالمتانة ومقاومة عوامل التلف - الأبواب والسفن وأثاث المعابد والقصور، وصنع منه أيضًا المقاصير التي احتوت التماثيل والتوابيت لتوافره بأطوال وقطاعات ضخمة.
كما جلب المصري القديم أنواعًا أخرى، مثل خشب البلوط والعرعر والسرو والصنوبر والسدر الجبلي والدردار.
أما خشب الأبنوس فقد كان يُجلب من جنوب مصر عن طريق النوبة والممالك الجنوبية، لكن زراعته المرجحة وقتها في دول أبعد ذات مناخ حار ربما في غرب إفريقيا أو جنوب الهند.
ويمتاز خشب الأبنوس بكثافة عالية، مما يعطيه صلابة مرتفعة بجانب الملمس الأسود الناعم عند الصقل، فحظي بالصناعات الخشبية الفخمة من التوابيت والصناديق والتماثيل والعصيّ، واستخدم كقشرة فاخرة لكسوة المنتجات الثمينة وترصيعها.
صناعة الأخشاب في مصر القديمة
لم تتطور صناعة الأخشاب في مصر القديمة وتصل إلى تقدمها الملموس إلا مع اكتشاف النحاس، وبعد ذلك البرونز، اللذين صنعت منهما أدوات النجارة، ورسمها المصري القديم على جدران مقابره ومعابده، أو وضع بعض النماذج الحقيقية والمصغرة منها في الدفنات، ومن هذه الأدوات البلطة والإزميل والمنشار والمثقاب والمخراز والمطرقة.
ويتضح التطور في فن التعامل مع الأخشاب بمصر القديمة منذ بداية عهد الأسرات برؤية الفارق بين أجزاء لوحة محفوظة بالمتحف البريطاني، مصنوعة من خشب الأبنوس تعود إلى عهد الملك «حور عحا» من الأسرة الأولى (حوالي عام 3100 قبل الميلاد)، ويظهر بها النقش الغائر بصورة بسيطة وخشنة، في حين نرى أجمل ما وصل إليه النقش البارز على الأخشاب في لوحات بديعة من خشب الأرز محفوظة بالمتحف المصري بالقاهرة، وجدت بمقبرة نبيل طبيب يدعى «حسي رع» من الأسرة الثالثة (حوالي عام 2650 قبل الميلاد).
ومن أجمل الكنوز الأثرية التي تُظهر إمكانات وهيئة هذه الصناعة في ذلك الوقت ما نراه بنموذج ورشة النجارة المكتشف في عشرينيات القرن الماضي بمقبرة الأمير «مكت رع»، عند الدير البحري بمحافظة الأقصر من عهد الدولة الوسطى - محفوظ بالمتحف المصري بالقاهرة - حيث نرى ردهة نصف مسقوفة، بها صندوق يضم نماذج صغيرة متنوعة من أدوات النجارة، ونرى نجارين يقطعون الأخشاب ويصقلونها بالحجارة، كما نرى نجارًا يثقب لوحًا وآخر يربط قطعة خشبية بعمود لينشرها إلى ألواح.
وقد برع النجار المصري القديم في فنون نحت وتعشيق الأخشاب وعمل الوصلات ذات الألسنة المثبتة بأوتاد تثبيت (دسرات) منذ عهد الدولة القديمة.
كما وصل إلى مراحل متقدمة وراقية في تلوين منتجاته الخشبية، إضافة إلى تطعيمها وترصيعها بالمعادن والأحجار الكريمة والزجاج الملون والعاج، وكذا تذهيبها وتصفيحها بالذهب والفضة. وتعد تلك الفنون من الأعمال مزدوجة الغرض؛ عزل الخشب لحفظه ومقاومته عوامل البلى، ورفع قيمته وتحويل منتجاته المصنوعة من مادة متواضعة إلى مقتنيات نفيسة.
أسباب تلف المنتجات الخشبية
تم اكتشاف العديد من الأعمال الخشبية التي صنعت بأيدي المصريين القدماء ومحفوظة حتى يومنا هذا، رغم مرور القرون وهشاشة المادة الخشبية، حيث تعد عوامل التلف الفيزيوكيميائية (مثل الحرارة والرطوبة والتعرض للضوء، إضافة إلى الأملاح والحمضيات والقلويات) من الأسباب الرئيسة في فساد الخشب أو اندثاره على المدى الزمني الطويل، بجانب عوامل التلف البشرية أو البيولوجية (كالحشرات والبكتيريا والفطريات)، ومن مظاهر التشوه التي نراها على المنتجات الخشبية ظهور الشقوق والتقوسات، أو انفصال القشرة والوصلات بعضها عن بعض، كما يحدث الانكماش وتشقق الدهانات والتكسيات.
وقد قام المصري القديم بحفظ وعزل الأعمال الخشبية بقدر إمكاناته في ذلك الوقت، تحسبًا لأي عوامل قد تؤدي إلى التلف، لكن مع مرور الأزمنة، تعرضت تلك الكنوز لظروف قاسية من تغيّر معدلات درجات الحرارة ونسب الرطوبة والتلوث، سواء في أماكن دفنها الأصلية، أو في أثناء اكتشافها واستخراجها، خاصة لو كانت بطرق غير علمية، أو عرضها بعد ذلك في أماكن غير مدروسة من حيث عوامل الحفظ المثالية، فحدثت التشوهات التي نراها في المكتشفات الخشبية الثمينة.
لكن يبدو أن بعض تلك التلفيات كانت تحدث بعد فترة قصيرة من صناعة تلك المنتجات، خاصة التماثيل، ولاحظها المصري القديم، فاستبدل بها التماثيل الحجرية، التي لا تتأثر بعوامل الزمن، بجانب إمكان صنعها بأحجام ضخمة من كتلة واحدة دون وصلات، عكس الخشبي منها، والتي تظهر بها سريعًا آثار التلف وعيوب الخشب الأخرى؛ مثل صغر الحجم وتعدد الأجزاء وسهولة التحطم، حيث إن العقيدة المصرية القديمة كانت تفرض ضمان بعث الشخص في العالم الآخر من سلامة موميائه ودقة تفاصيل تماثيله الموجودة في القبر.
أما في أعمال الأثاث وإنشاء القوارب والسفن خاصة، فقد نجح المصري القديم بامتياز في هذه الصناعات الخشبية على مر عصوره، فنرى أعماله المتبقية والمكتشفة غالبًا في أبهى هيئة، والأخطاء والتشوهات تكاد تكون نادرة، مثل الأثاث الجنائزي للملكة حتب حرس والدة الملك خوفو من الدولة القديمة (المتحف المصري بالقاهرة)، والمركب الجنائزي الضخم للملك خوفو (محفوظ بمتحف مستقل بجوار الهرم الأكبر بالجيزة)، والنماذج الخشبية النادرة بمقبرة «مكت رع» من الدولة الوسطى (مقسمة بين المتحف المصري بالقاهرة ومتحف متروبوليتان الأمريكي)، والأعمال الخشبية المتنوعة الفريدة والمكتشفة بمقبرة الملك توت عنخ آمون من الدولة الحديثة (المتحف المصري بالقاهرة)، وغيرها من المقتنيات الخشبية العتيقة التي تزخر بها الكثير من متاحف العالم.
لماذا تتلف التماثيل الخشبية دون غيرها؟
بملاحظة أسلوب صناعة التماثيل الخشبية نرى أن معظم المكتشفات تُصنع من قطعة خشبية واحدة يتم نحتها، تتضمن الجذع والرأس بصورة أساسية والأرجل إن أمكن - حسب مهارة الصانع وحجم القطعة المتاحة - أما الأذرع فيتم تثبيتها غالبًا بصورة منفصلة لعمل الفراغ المطلوب بينها وبين جذع التمثال، وهي من المميزات التي لم تتوافر في صناعة التماثيل الحجرية.
ومع وجود كتلة خشبية كبيرة صماء ذات سُمك دون تجاويف في العمل، تصبح أكثر عرضة وتأثرًا بعوامل التلف الطبيعية، وأكثرها شيوعًا ارتفاع معدلات التمدد والانكماش بسبب امتصاص الرطوبة أو الجفاف على الترتيب، وبالتالي تظهر الشقوق وتتفكك الوصلات، ونراها كثيرًا في التماثيل التي تم تلوينها، حيث إن طبقة الألوان بها بعض النفاذية التي تسمح بمرور مسببات التلف للكتلة الخشبية بقلب التمثال، خاصة مع تفتت طبقة الجص العازلة أسفلها، وهذا لا يحدث على سبيل المثال للتماثيل والمنتجات الخشبية المذهّبة، حيث إن الذهب مادة عزل مثالية غير قابلة للتآكل والنفاذية من أغلب عوامل التلف الطبيعية.
أما في حالة المصنوعات التي يتم تجميع أجزائها من قطع عدة، كما في الأثاث والقوارب، فتكون الكتل أقل ومسطحات المعالجة والعزل أكبر، مما يخفض من نسب التلف ومعدلات ظهوره.
تماثيل خشبية شهيرة طالتها عوامل التلف
بالمتحف المصري بالقاهرة يقبع تمثال شهير يعود إلى الأسرة الخامسة من عهد الدولة القديمة (حوالي عام 2500 قبل الميلاد) ويعرف باسم «شيخ البلد» أو «كا عبر»، وهو تمثال خشبي لكاهن ارتفاعه 112 سم، وتم اكتشافه في منطقة سقارة عام 1860، ويعد من أجمل تماثيل الأفراد التي أبدعها المصري القديم، والتي نرى بها فن التعشيق في تركيب الأذرع التي تم عملها منفصلة عن كتلة الجسم، وأعمال تطعيم العينين بالحجر والنحاس، فظهرت كأنها طبيعية.
وتم صنع التمثال من خشب الجميز، وحيث إنه من الأخشاب متوسطة الصلابة التي ترتفع بها نسبة الرطوبة، مما عرّضه لبعض عوامل التلف التي من مظاهرها انتشار العديد من التشققات، بعضها غائر كما في الجبهة، إضافة إلى فقدان طبقة الجص والطلاء التي كانت تكسوه، وظهور الفواصل والدسرات الخاصة بتثبيت الذراعين عند كتفي التمثال.
وقد تمت عملية ترميم شاملة لتمثال الكاهن واستُحدثت أجزاء وجدت محطمة أو مفقودة، مثل الأقدام والساعد الأيسر واليد بالعصا الممسكة بها.
كما يقبع بالمتحف ذاته تمثال خشبي بديع ارتفاعه 30 سم من ضمن كنوز توت عنخ آمون، يمثّل رأس الملك وكأنه يخرج من زهرة لوتس، ويلاحظ به شق طولي يبدأ من أعلى الجبهة مرورًا بالحاجب والعين اليسرى وحتى أسفل ذقنه، كما نرى به تشققًا وتساقط أجزاء من طبقة الملاط الملون وظهور السطح الخشبي أسفله، مثله كمثل كثير من التماثيل الخشبية الملونة التي ظهرت بها تشوهات وعيوب، بسبب تأثر مادة الخشب بعوامل التلف المختلفة على مدى زمني طويل.